الفصل الرابع

الإعدام اليومي للطلبة

١

ولأن انشغالنا الفكري يأتي دائمًا محددًا بالأجزاء المتخلِّفة من النظام الرأسمالي المعاصر، وعالمنا العربي، وكما ذكرنا، يحتل مكانة «متميزة!» داخل هذه الأجزاء، فسوف نستعرض أدناه بعض ما يدرس للضحايا في المدارس والجامعات في عالمنا العربي. ولنَكتَفِ هنا بأبسط الأمور؛ أي ﺑ «تعريف العلم!» الذي يتم تدريسه للضحايا في هذه المؤسسات، فهل يعرف أساتذة الاقتصاد حقًّا ما الذي يُدرِّسونه للطلبة؟

٢

مثلٌ أول: جاء في أحد الكتب المقررة لإعدام الطلاب في مصر:

«فمع كونها (يقصد الدراسة م. ع. ز) تحمل وصف الاقتصاد السياسي، فإنها تلتزم بالأصول العلمية السائدة في علم الاقتصاد. لا شك أن النظرة الطموحة في البحث تقتضي إجراء دراستنا في الاقتصاد السياسي من خلال الإحاطة بالتقسيمات المختلفة والمتداخلة التي يعرفها علم الاقتصاد.»١

أولًا، علم الاقتصاد السياسي مصطلحٌ مختلف تمام الاختلاف عن مصطلح الاقتصاد. ثانيًا، الواقع أني لا أدري ما علاقة علم الاقتصاد السياسي كعلمٍ اجتماعي ينشغل بقانون القيمة، بذلك الفن التجريبي المسمَّى بالاقتصاد؟ وما علاقة علم ينشغل بالقيمة كأساس لتجديد الإنتاج الاجتماعي، بفن تسييرٍ همُّه المنفعة؟ وما علاقة علمٍ حقل اهتمامه الإنتاج، بفنِّ تسييرٍ لا شاغل له إلا السوق والتداول؟ وما علاقة علمٍ محور اهتمامه زيادة ثروة الأمم، بالإنتاج، وتحليل توزيع هذا الإنتاج، بفن تسييرٍ يعبد الاستهلاك ويُقدِّس التدمير وسلة المهملات؟ وما علاقة علمٍ اجتماعي، بفن تسييرٍ يُصفِّي العلم من محتواه الاجتماعي؟ وما علاقة علمٍ يُفرِّق، وبوعي، بين قيمة السلعة وثمنها، وبين فن تسييرٍ لا يعي إلا النفعية يخلط، ودون وعي، بين القيمة ومظهرها النقدي؟ وما علاقة علمٍ مجتمعي، بفن تسييرٍ أناني؟ ربما الإجابة عن كل هذه الأسئلة موجودة في عنوان الكتاب نفسه: «أصول الاقتصاد السياسي: مدخل لدراسة أساسيات علم الاقتصاد». (الاقتصاد السياسي/الاقتصاد) إنها التوليفة الخرافية، وبالتالي غير العلمية، التي يتم حشو دماغ الطلاب بها!

مثلٌ ثانٍ، وهو من كتابٍ آخر مقرر أيضًا لإعدام الطلاب في مصر؛ إذ جاء في هذا الكتاب:

«ففي خلال القرن الماضي كان يُطلَق على هذا الفرع الاقتصاد السياسي، ثم أُطلق عليه مع ألفريد مارشال اسم الاقتصاد. ونجد الآن نوعًا من العودة إلى الاسم القديم وخصوصًا مع بروز أهمية الدور الذي يلعبه هذا العلم في التأثير على السياسة الاقتصادية.»٢

الآن عرفنا أن الاقتصاد السياسي أصبح اسمه الجديد الاقتصاد! وهو يستمد وجوده من السياسة الاقتصادية! ولكننا في الحقيقة نعرف أن العبرة في موضوع العلم، أيِّ علم، ليست بما نخلعه نحن عليه، أو بما نريده له؛ إذ العبرة بما صار عليه موضوع العلم نفسه على صعيد الواقع. والواقع التاريخي يقول إن الاقتصاد السياسي هو: علم نمط الإنتاج الرأسمالي المتمفصل حول قانون القيمة، بل هو علم قانون القيمة، وليس العلم المنشغل بالسياسة الاقتصادية (وفقًا لسياسات صندوق النقد!) حقًّا ما ذنب الطلاب الذين يتم إعدامهم فكريًّا كل يوم كي يُقال لهم إن «الاقتصاد» كان قديمًا يُسمَّى الاقتصاد السياسي؟

مثلٌ ثالث، من مصر أيضًا، فبعد أن ذكر المؤلِّف مجموعة من التعريفات التي تنتمي إلى مدارسَ نظرية ومذاهبَ فكريةٍ مختلفة للغاية وربما متنافرة، دونما تفرقةٍ ما بين الاقتصاد السياسي والاقتصاد، كتَبَ للطلاب:

«… الواقع أنه لا يُوجد بين هذه التعريفات تعريف يمكن أن نصفه بأنه جامعٌ مانع بسبب اتساع مفهوم ونطاق هذا العلم؛ فكلٌّ من هذه التعريفات يشمل جانبًا أو أكثر من جوانب علم الاقتصاد، ولكنه أعمُّ منها جميعًا.»٣

أخيرًا تعلَّم الطلاب أنهم يدرُسون علمًا لا تعريف له! والأهم من ذلك أنهم تعلَّموا الآن أن كل المفكِّرين الذين سعَوا لتعريف هذا العلم الواسع الذي يستعصي على التعريف! إنما كانوا جميعهم ينظرون إلى موضوعٍ واحد! على الرغم من أن منهم مَن نظر إلى الثروة، ومنهم مَن نظر إلى الإنتاج، ومنهم مَن نظر إلى التوزيع، ومنهم مَن نظر إلى التداول. بيد أن هذا العلم العجيب والذي لا يُعرَّف، فهو الأمر الذي لم يكن، ولن يكون سوى في الكتاب الذي بين يدَي طلاب جامعة المنصورة فقط!

مثلٌ رابع، ولكن من بيروت، فالطلاب هناك يَدرُسون كتابًا يشرح، بإخلاصٍ شديد، النظرية النيوكلاسيكية، تحت عنوان الاقتصاد السياسي!٤

مثلٌ خامس من ليبيا؛ فاستكمالًا لأسطورة هذا العلم الذي لا يمكن تعريفه، واستخدام طريقةِ اختر أنت ما يناسبك، فالطلاب في ليبيا يَدْرُسون:

«هناك تعريفاتٌ كثيرة للاقتصاد ولكن يصعب في العادة إيجاد تعريفٍ شامل يحتوي على كل شيء، ولكن يمكن مثلًا تعريف الاقتصاد بأنه: (أ) دراسة للثروة. (ب) دراسة للأفراد في حياتهم المعيشية اليومية. (ﺟ) دراسة الاختيار بين البدائل. (ﻫ) دراسة الندرة. (و) دراسة كيفية تخصيص الموارد الاقتصادية النادرة أو المحدودة.»٥
وعلى الرغم من أن كل تعريف من تلك التعريفات هو في جوهره تعبير عن وجهاتِ نظر مختلفةٍ للغاية عَبْر تاريخ الفكر الاقتصادي، وكل تعريف من هذه التعريفات إنما يصدر عن تصورٍ معين لموضوع العلم الذي ينشغل به المفكر؛ فالتعريف الأول مثلًا هو تصورٌ خاص بالكلاسيك بوجهٍ عام، والثاني يعود إلى ألفريد مارشال، الذي يُعَد مَعبَرًا فكريًّا من الكلاسيك إلى الحديين،٦ إلا أن الأساتذة، أساتذة الاقتصاد، يرون أن كل التعريفات صحيحة! بل وجميلة! وكل التعريفات واحدة! هكذا تعلم الطلاب، قادة الغد، أن الاقتصاد علمٌ لا تعريف له، ولو كان من الضروري تعريفه، فيمكن تعريفه بأي تعريف! وربما يكون حال هؤلاء، على الرغم من قتامته، أفضل حالًا من ذلك الأستاذ الذي أعلن مؤخرًا أنه اكتشف، بعد كل هذا العمر، أنه كان يدرِّس للطلبة كلامًا «غير علمي» بالأساس!٧

مثلٌ سادس، من سوريا؛ فطلاب كلية الاقتصاد في دمشق، يُلقَّنون أن:

«علم الاقتصاد السياسي يندرج في نظام العلوم الاجتماعية، كما أصبح واضحًا أن موضوع هذا العلم هو البحث في طبيعة وماهية كل نوعٍ من أنواع العلاقات الاجتماعية التي تنشأ بين البشر في المراحل التاريخية المختلفة أثناء قيامهم بعملية إنتاج وتوزيع الثروة المادية.»٨

ها نحن وصلنا سالمين إلى علم التاريخ! وصلنا إلى علمِ طُرق الإنتاج عَبْر التاريخ! وصلنا إلى اختزال الاقتصاد السياسي في التاريخ بغرض الانتصار للأيديولوجية! وصلنا إلى كراسات التعميم سوفياتية الصنع! حيث الاقتصاد السياسي علمٌ يدرس علاقات الإنتاج والقوانين الكامنة في أساليب الإنتاج المختلفة التي تعاقبت تاريخيًّا. لقد وصلنا إلى نيكيتين وأبالكين ورفاقهما.

٣

وبِغَض النظر عن إشكال التعريف، فما يدرسه الطلاب الآن، بوجهٍ عام، في جُل المؤسسات التعليمية في عالمنا العربي عبارة عن نظرية تُقدَّم على أساس من كونها النظرية النهائية تاريخيًّا! والوحيدة الصحيحة عَبْر تاريخ فكر البشر على صعيد النشاط الاقتصادي! هذه النظرية هي النظرية الحدية/النيوكلاسيكية المنشغلة بالسوق والتداول والاستهلاك، وهي مباحثُ مكدَّسةٌ في كتب التسويق الهزْلية، ومؤلفات الإدارة، وربما علم النفس، على الطريقة الأمريكية، ولا يدرسون الاقتصاد السياسي على الإطلاق! ولا يعلمون منه سوى اسمه! لا يدرسون ما ينبغي أن يدرسوه، لا يدرسون العلم الحقيقي القادر، دون ادعاء امتلاك الحقيقة الاجتماعية، على شرح كيفية عمل النظام. وإن حدث ودرسوه، عرضًا، فإنما يدرسونه باستخفاف على عَجَل في باب «أفكار مهجورة». وعادةً ما تُشرح هذه الأفكار بشكلٍ مُشوَّه. والأمثلة لا حصر لها في كتب الأساتذة؛ أساتذة الاقتصاد في وطني العربي!٩

الاقتصاد السياسي حقًّا بريء من كل الكتابات المبتذَلة التي تستخدم اسمه زيفًا وزورًا؛ فالاقتصاد السياسي هو العلم المنشغل بتحليل ظواهر نمط الإنتاج الرأسمالي (بمعنى خضوع ظواهر الإنتاج والتوزيع في المجتمع لقوانين حركة الرأسمال)، الظواهر المتمفصلة حول قانونٍ عامٍّ هو قانون القيمة. ولأن قانون القيمة يزعج النظام السياسي وبرلمانات الذهب والدم، فكان من الضروري العمل، بلا هوادة، من أجل طمسه في المؤسسة التعليمية، ولكن الأمر أجلُّ؛ فلقد توارى علم الاقتصاد السياسي، وهو العلم القادر، دون ادعاء امتلاك الحقيقة، على شرح كيف يعمل النظام الاقتصادي؛ وبالتالي يتيح التعامل معه بذكاء وفعالية؛ ومن هنا يصبح مُلِحًّا بعثُ علم الاقتصاد السياسي من مرقده كي يكون عونًا لكلِّ مَن يحلُم بمشروعٍ حضاري لمستقبلٍ آمن، وسندًا لكل مَن طمَح إلى أكثر من الوجود، فلنطمح إلى أكثر من الوجود على ظهر كوكب ينتحر بعدما قاد المخبولون العُميان، فلنطمح إلى أكثر من الوجود.

١  انظر: عادل أحمد حشيش، «أصول الاقتصاد السياسي: مدخل لدراسة أساسيات علم الاقتصاد» (الإسكندرية: دار الجامعة الجديدة، ١٩٩٨م)، ص٢٨.
٢  حازم الببلاوي، «أصول الاقتصاد السياسي» (الإسكندرية: منشأة المعارف، ١٩٩٦م)، ص٢٣.
٣  أحمد جمال الدين موسى، «مبادئ الاقتصاد السياسي» (القاهرة: دار النهضة العربية، ٢٠٠٣م)، ص٢٤.
٤  انظر كتاب عزمي رجب، «الاقتصاد السياسي» (بيروت: دار العلم للملايين، ١٩٩٧م).
٥  أبو القاسم عمر الطبولي، وآخرون، «أساسيات الاقتصاد» (مصراتة: الدار الجماهيرية للنشر والتوزيع، ٢٠٠٣م)، ص١٢.
٦  كتب ألفريد مارشال، مُوفِّقًا بين الطلب المعتمد على المنفعة، والعرض المؤسس على نفقة الإنتاج: “We might as reasonably dispute whether it is the upper or the under blade of a pair of scissors that cuts a piece of paper, as whether value is governed by utility or cost of production. It is true that when one blade is held still, and the cutting is effected by moving the other, we may say with careless brevity that the cutting is done by the second; but the statement is not strictly accurate, and is to be excused only so long as it claims to be merely a popular and not a strictly scientific account of what happens” A. Marshall, “Principles of Economics” (London: Macmillan and Co., Ltd. 1920), p. 348.
٧  ولكنهم الآن، هو وتلاميذه: «انطلقوا أحرارًا!» انظر: جلال أمين، «فلسفة علم الاقتصاد: بحث في تحيزات الاقتصاديين وفي الأسس غير العلمية لعلم الاقتصاد» (القاهرة: دار الشروق، ٢٠٠٩م)، ص١٣.
٨  انظر: محمد سعيد نابلسي، «الاقتصاد السياسي» (دمشق: مطبعة جامعة دمشق، ١٩٩٨م)، ص٢٩.
٩  والأمر لا يقتصر على ذلك، بل نجد في بعض الأحوال، وهي في الواقع كثيرة، استخدام المصطلح، مصطلح الاقتصاد السياسي من قبيل «الديكور»! والخلط الفج بين الاقتصاد السياسي والاقتصاد؛ فعلى سبيل المثال رسالة دكتوراه موضوعها ليس له أي علاقة بالاقتصاد السياسي، ولكنها تستخدم المصطلح دون وعيٍ بكونه يُعبِّر عن علم قانون القيمة، القانون الذي يحكم عمل النظام الرأسمالي، بحكم نشأته التاريخية وما تَبلوَر على أرض الواقع المادي بتفاصيله كافة؛ فالرسالة المذكورة موضوعها السياسة المصرية تجاه الولايات المتحدة في الثمانينيات من القرن الماضي. ولأنها تعالج الأطروحة من منظور «الاقتصاد!» فقد قرَّرَت أن تضيف مصطلحًا يُكْسِب غلاف الرسالة بريقًا، فأضافت «السياسي» إلى «الاقتصاد» ما أَبْهَى الثقافوية العربية! انظر: زينب عبد العظيم محمد، «السياسة المصرية تجاه الولايات المتحدة «١٩٨١–١٩٩١م»: دراسة من منظور الاقتصاد السياسي» (بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، ١٩٩٧م). وانظر كذلك، على سبيل المثال أيضًا: عبد الرزاق الفارس، «السلاح والخبز: الإنفاق العسكري في الوطن العربي «١٩٧٠–١٩٩٠م»: دراسة في الاقتصاد السياسي» (بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، ١٩٩٣م)، وعلى الرغم من أصالة الدراسة موضوعيًّا، نجد لديه نفس الفهم الانطباعي/الذاتي للمصطلح، والإمعان في استخدامه من باب الرغبة في تزيين الغلاف!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤