اليهود في المدينة

لا يقوى أحد على مقاومة اليهود إلا بطرق اليهود أنفسهم، وطرقهم أسلحة منوعة متعددة؛ ولذا جعلنا فصلًا قائمًا بذاته في تاريخهم وتحليل أخلاقهم وأدوارهم التي لعبوها في التاريخ، ونقصر بحثنا هنا على أعمالهم في المدينة أثناء وجود النبي بها إلى أن انتهى أمرهم وأوصى بجلائهم عنها وتحريم أرض الحجاز عليهم.

بدءوا يتقولون في حق الرسول أنه منذ دخل المدينة نقصت ثمارها وغلت أسعارها، فردَّ الله عليهم بقوله: قُلْ كُلٌّ مِّنْ عِندِ اللهِ.

هل صح ما زعموه؟ وهل لديهم أدية مادية حسابية أو إحصاء رسمي يثبت صحة ما زعموا؟ الجواب: كلا، وهذا النوع من التدليل لم يكن معروفًا في زمنهم، ومرجعه إلى الشائعات، وهي أقوال تقال في الهواء، فلنفترض صحتها، أما عن غلاء الأسعار فلعل ورود المهاجرين وتكاثرهم واتجاه الأنظار إلى المدينة رفع الأسعار كما يحدث في كل بلاد يؤمها غرباء أو مهاجرون، وكان المهاجرون يحملون معهم أموالًا، وقد لمسنا الغلاء بنفسنا؛ وهو دليل الرواج وتحسن الحالة الاقتصادية؛ فقد بيع مربد الغلامين اليتيمين بعشرة دنانيرَ دفعها الرسول من مال أبي بكر، واشترى ابن عفان مربدًا آخر ليضمه إلى المسجد بخمسة وعشرين ألف درهم، واشترى نصف بئر رومة من يهودي باثني عشر ألف درهم، فلا بد أن كثرة المال في أيدي المهاجرين وغيرهم في بلد زراعي يرفع أسعار العقار والمنقول، واليهود أنفسهم يحبون هذا الغلاء ويعملون له؛ لأنهم هم أصحاب المصارف والقروض والمضاربات، ولا يوجد غيرهم يتجر في الذهب والفضة دون غيرهما من الأشياء، وهم الذين يصطنعون الغلاء بالاحتكار، فإن كل هذا قد حدث في المدينة منذ دخول الرسول إليها؛ فهو دليل النجاح والرواج؛ لأنه إذا جاء الغلاء صحبته كثرة المال وزيادة الإيراد، أما نقص الثمار وإن لم يدللوا عليه بدليل صادق يقنعنا لابتنائه على الإحصاء والحساب فلا نأخذ به، ولكنا نسلم به جدلًا، ولا نسعى في درس أسبابه تبريرًا لحدوثه، فإن لنقص الثمرات أسبابًا معروفة عند الأمم وعلماء الاقتصاد، بل عند كل زارع وتاجر، فمنها: الآفات السماوية، ومنها: كلل الأرض وضعفها بطول مدة الزرع، ومنها: إهمال الزرع؛ لانصراف الناس عنه لأسباب لا تحصى، فلو فرضنا حدوث بعض هذا أو كله في سنة من السنين؛ فأي ذنب للنبي في ذلك، وما زعم يومًا أنه يُسَيِّر الرياح، أو يُنبت الحَبَّ في الصخر، أو يضاعف نتاج النخيل والأعناب، ولم يكن يملك ذلك، ولو علم الغيب لاستكثر من الخير لنفسه، ولو كان في مقدوره وفي إذن الله له أن ينتصر في كل حروبه أو يهلك كل أعدائه ما تأخر عن ذلك لحظة، بل لو كان كل ما يتناوله مقترنًا بالنجاح، ما أصابه من الفشل في مكة ما أصابه، وما أرغم على الاضطرار إلى الهجرة وتأسيس حضارة وإنشاء جيل، والاستعداد لحرب الأعداء بالطرق البشرية الإنسانية؟! فإن زعموا أنهم تطيروا بحضوره فقد كذبهم التاريخ وما يزال يكذبهم إلى هذه الساعة؛ فقد نجحت المدينة أعظم نجاح ووُفق المسلمون في كل أعمالهم التوفيق الأعلى حتى في موقعة أحد التي أسفرت عن هزيمة في الميدان أعقبها نصر في الأخلاق، فكل الذي زعموه وإن لم يثبت ثبوتًا تاريخيًّا وسلمنا بصحته جدلًا لا علاقة له بالنبي، ولو ثبت ما كان يضره في شيء، ولو كان وجوده في بلد يجلب عليها الويلات لكانت مكة أولى بأن تصاب بالنكبات والإعسار والأزمات فتتعطل قوافلهم وتنضب آبارهم ويجف معين أرزاقهم؛ لأنه أقام فيهم ثلاثًا وخمسين سنة لا سنة واحدة! ومع ذلك فقد غادرها آمنة مطمئنة غنية سابحة في بحبوحة الترف والنعمة ذات جيوش ومتاجر وقصور وآطام وأموال ومغانيَ وملاهيَ وحاناتٍ وملاعبَ، فلم يكن هذا الكلام من اليهود إلا بغضًا وحسدًا ووقيعة ونميمة وتنفيرًا، ولو كانت في زمنهم صحف لحاربوه أشد الحرب بالقلم وريشة المصور والخطب في المحافل، ولكنهم اتبعوا الوسائل المعروفة في زمنهم؛ فقد رأوا كوكبًا ساطعًا صاعدًا في سماء العالم فأرادوا محاربة العبقرية فيه، وقد تعودوا قتل الأنبياء بغير حق والقضاء على كل نافع، ألم يفتخروا أنهم صلبوا عيسى بن مريم؟ وهو نبي نابغ منهم تجري في عروقه دماء بني إسرائيل، فأرادوا أن يجروا دمه في الطريق؛ لأنه أراد بهم خيرًا وأراد تقويم اعوجاجهم وإصلاح حياتهم؟! وقد مضى على صلبهم إياه في وقت النبي سبعماية عام.

الحقيقة أن نفوسهم اشتعلت بالغيرة ونحن لا ننكر عليهم ذكاءهم وصدق فراستهم في مستقبله، ونضرب صفحًا عن كل ما ورد في الأخبار (ما عدا القرآن) من أنهم كانوا ينتظرون نبيًّا وأنهم عرفوا محمدًا، فلما لم يمل إليهم ولم يوافق أهواءهم انقلبوا عليه يسلقونه بألسنة حداد ونصبوا له شراك العداوة.

قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ، إِن تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ الآية.

وقد انشقوا على أنفسهم في أمره كعادتهم فقال أحدهم: «إنه الذي كنتم تنتظرونه.» وقال آخر: «والله لا أزال له عدوًّا!» ثم انطوى أكثرهم إلى الرأي الثاني فعملوا على الدعاية ضده جاهدين أنفسهم.

وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِّن بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِّنْ عِندِ أَنفُسِهِم مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ.

وفي نظرنا أنهم كانوا محقين في كراهيته لأن مصلحتهم تحتم عليهم ذلك، وإلا فكيف يقبلون صابرين شاكرين رجلًا سوف يقلب حياتهم رأسًا على عقب ينقض ما غزلوا أعوامًا وأجيالًا متطاولة؟ وليس عبقريًّا ومصلحًا وقائدًا وحسب، بل فوق ذلك يقول هو وأتباعه: إنه رسول الله ومبعوث رب العالمين يؤيده كتاب فيه شريعة وآداب وتاريخ وسياسة وحكمة، وقد أظهر من الدهاء عند قدومه ومن الصبر والمجاملة والملاينة ما أظهر، وعرف كيف يكون حزبًا داخل المدينة قبل أن يردها وكيف يبعث إليها بفطاحلَ من رجاله يجسون نبض جميع طبقاتها، فلما وصل تلقوه على الرحب والسعة، ثم أوجد نظام المؤاخاة وبنى مسجدًا اتخذه مقرًّا لتعليمه وأصدر قانونًا وعهدًا بالمصالحة وإدماج العناصر كلها في حياة واحدة.

وقد جلس هؤلاء اليهود للنبي بالمرصاد ولا سيما كبارهم؛ وهم أهل ذكاء وفطنة وجدل ومنطق وتاريخ وقدرة على التحليل والتعليل والنقد الجارح المبني على دقة الفهم وتصيد الأهداف، فلما نزلت آية: مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضًا حَسَنًا.

قال حيي بن أخطب: (والد صفية أم المؤمنين وصهر النبي رغم أنفه وبعد قتله): يستقرضنا ربنا! وإنما يستقرض الفقيرُ الغنيَّ! فجاء رد القرآن: لَّقَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ.

وكان كل واحد منهم جريئًا على الحق حتى إن أحدهم (فنحاص) استفز أبا بكر الوَرِعَ الصبور المهاجر المطبوع على دماثة الأخلاق واحتمال المكاره، وكان فنحاص بن عازوراء هذا عالم بني قينقاع وسيدهم بعد إسلام عبد الله بن سلام أحد أحبارهم وزعمائهم، فأرسل الرسول أبا بكر إليه بكتاب فلما قرأه قال: «احتاج ربكم؟! سنمدَّه.» فضرب أبو بكر وجه فنحاص ضربًا شديدًا وَهَمَّ أن يضربه بالسيف لولا أن أوصاه الرسول بالتؤدة والحلم وضبط النفس، نعم؛ لقد أحرجه فنحاص وغاظه وأخرجه عن دائرة حلمه، ولعل أبا بكر استعرض في ذهنه في طرفة عين ثراءه ومكانته في قومه ومكانة النبي ووقاحة فنحاص وفجره ودعارته وسخريته، فلم يعد يتحمل شيئًا فضربه، واليهودي إذا وقفتَ له جَبُنَ وانحلت أواصر همته وفتر عزمه وأدار لك الخد الأيسر، وإلا فلا يعرف عن أبي بكر أنه يعتدي هذا الاعتداء على من يستحقه دون أن يصحب الاستحقاقَ تحريضٌ، فبادر فنحاص إلى الشكوى عند النبي وأنكر ما قال في حق رب المسلمين؛ لأنه نسب الفقر لرب محمد وأبي بكر، أما ربه هو فلا يكون فقيرًا أبدًا! كيف يكون كذلك وما هو إلا عجل الذهب الذي صاغه لهم صائغه من حلي المصريات التي حملوها من زينة أهل مصر قبل خروجهم؟! ولم يجرؤ فنحاص على الاعتراف بما قاله؛ لأن الاعتراف دليل على قوة النفس وبقائها على بعض الحق أو على الرجولة، وفنحاص خلْوٌ من الصفتين؛ فلا هو على بقية من الحق ولا هو برجل.

وكان المدعو أشاس بن قيس اليهودي أمهر من فنحاص، فمر يومًا بالأوس والخزرج، وقد ألَّف الإسلام بين قلوبهم بعد تناحرهم منذ سبع سنين في يوم بعاث فقال: والله ما لنا معهم إذا اجتمعوا من قرار؛ لأن اليهود يعيشون في كل مكان على النفور والفتنة والنميمة، وهم أصحاب القول المشهور «فَرِّقْ تَسُدْ» في كل شيء، فعمد أشاس إلى فتى من اليهود وقال له: جالسهم وارْوِ لهم ما قاله كل فريق في الآخر أيام العداوة؛ ففعل وتنازعوا وتواعدوا للقتال ونادوا: يا لَلأوس! يا لَلخزرج! وأخذوا السلاح ونزعوا للحرب، فأثلج صدر أشاس وانسحب المهيج في نعومة وتركهم يتطاحنون.

فجاء النبي وقال: «يا معشر المسلمين، اللهَ اللهَ! أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم بعد أن هداكم الله إلى الإسلام وألَّفكم به وقطع به عنكم أمر الجاهلية واستنقذكم به من الكفر؟!» فبكوا وتعانقوا واصطلحوا، وجاء القرآن: يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَهَا عِوَجًا.

وتسبب الرسول يومًا في خلع أحد أحبارهم وعزله وتكفيره بحيلة لطيفة؛ فقد كان مالك بن الصيف حبرًا سمينًا مورد الخدين لامع العينين كبير البطن محشوًّا شحمًا ودسمًا مبطن المعى باللحم والسمن، فلما رآه النبي قال له: أنشدك بالذي أنزل التوراة على موسى، هل تجد فيها أن الله يبغض الحبر السمين؟ فأنت الحبر السمين؛ قد سمنت من مالك الذي تطعمك اليهود! فضحك القوم وغضب الحبر السمين غضبًا شديدًا قاده إلى الكفر بدينه؛ لأن القول الذي ذكره الرسول قد ورد في التوراة فعلًا، ولا يمكن إنكاره، فلم يجد الحبر السمين مخرجًا إلا بإنكار التوراة والوحي وتكذيب موسى، فالتفت في ثورة غضبه إلى عمر بن الخطاب الذي كان يقهقه مما وقع فيه الحبر السمين من الغيظ والنكد وقال: ما أنزل الله على بشر من شيء!

يريد أن يضرب طيرين بحجر؛ أن ينكر نبوة موسى وهو أعزُّ عليه وعلى قومه من محمد، فإن كان الوحي باطلًا على موسى فهو كذلك عند محمد، ولا سبيل إلى نكران الجزء إلا بتكذيب الكلِّ، ونسي الحبر السمين أنه إنما حُبِّرَ باسم موسى ووحيه، فلو انحل الوحي عن موسى وعن جميع البشر، انحلت وظيفته ولم يبقَ لها محل، ولم يلزم اليهود بتسمينه وحشو بطنه بالمرققات والمفتقات.

فلما بلغ اليهود هذا القول سألوه، فاعترف الرجل، واعتذر بأن الرسول أخرجه عن حدود العقل بالغضب، فنزعوه من الرياسة وجعلوا مكانه كعب بن الأشرف.

ولما تجرأ اليهود ووجدوا أن عملَ النبي جدٌّ لا هزل، وهو عمل رجل يريد أن يثبت أقدامه ويؤكد عقيدته وينصر إيمانه، ولجوا بابًا آخر؛ وهو باب المواجهة والجدل والامتحان والإحراج في صورة أسئلة وأجوبة.

وكانت حجتهم في ذلك وجيهة وإن لم يصرحوا بها، وهي تتلخص فيما يأتي: أنت تقول إنك نبي مرسل كموسى وتطلب منا أن نقيم أدلة من كتبنا على صحة نبوتك، فهذا لا يكون؛ لأنه لا يلزمنا بأن نقدم إليك أدلة من عندنا، وما زلنا في شك من أمرك، فهات براهينك، فإن أعجزتك المعجزات التي طلبها منك أهل بلدك فأجبنا على أسئلتنا بما يقنعنا فنتبعك أو على الأقل نسكت عنك.

ولم يكن في وسع النبي أن يتردد في قبول هذا التحدي الذي أفرغ في قالب الاستفهام للاستنارة والاستفتاء الذي يصاغ في هيئة سؤال، فإن لكل إنسان أن يسأل حتى المسلمين أنفسهم، وكان أهل مكة يسألون؛ ولكنها أسئلة فطرية لا تدل على ثقافة أو علم، أما أحبار اليهود فعلماء راسخون في دينهم، محافظون على ملتهم، عندهم آثار علوم قديمة وحديثة.

وكان بعض عقلائهم يتحاشون هذه المخاطرة؛ خشية ردِّه عليهم ردًّا يكرهونه أو يقيم لهم دليلًا قويًّا على نبوَّته، ففي الأولى لا يستطيعون الرد عليه؛ لأنهم البادئون، وفي الثانية يجبرون على التسليم بنبوته، ولكن هذا الحذر لم يمنع فريقًا من المشاغبين أن يتعرضوا له بأسئلة وجيهة جدًّا لا تخرج عن اختصاص نبيٍّ في عصره وفي كل عصر.

فسألوه: ما الروح؟ وهو سؤال معجز مغلظ، فجاء جواب الله: وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ ۖ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُم مِّنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا.

وسألوه عن الساعة فقال: إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي الآية.

وسألوه عن آيات موسى التسع فسردها عليهم كما أنزلت في كتابهم.

كان كثير منهم يخشى أن يسلم فيقتله قومه أو ينفوه ويقصوه عن أهله وولده وماله، ولم يكن لهم شجاعة العرب ولا إيمانهم، ولكن بعض أكابرهم أسلم؛ كعبد الله بن سلام، وكان من سادتهم وأحبارهم، وسألوه عن خلق الأرض والسموات فأجابهم بالتفصيل وأغفل ما يزعمون من استراحة الله من الخلق يوم السبت وجاءت آية: وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِن لُّغُوبٍ.

وإنك إذا تعود بذاكرتك تجد هذه الطريقة اليهودية سلاحًا ماضيًا من أسلحتهم؛ فقد استعملوها مع المسيح فأجابهم أجوبة مسكتة أو مخلصة له من حبائلهم كقوله: «دعوا ما لله لله، وما لقيصر لقيصر.»

وكذلك الرسول لم يقع قط في حبائلهم، ولم يخطئ خطأ يتصيدونه به؛ ليحتجوا وينتصروا، ولم تكن في المدينة سلطة رومانية أو حاكم ظالم ينقاد إلى نسائهم ليلفقوا على الرسول تهمة باطلة كالتي لفقوها على غيره من الأنبياء، ولم يعرض نفسه منفردًا ليشرعوا في اغتياله والفتك به وهم يعلمون أنه يكون قرين القضاء عليهم، فلما فعلوا ذلك في آخر الأمر كانت عاقبته ما هو معلوم من أمرهم.

وكان بعض المتفرسين النجباء منهم قد زار الرسول في أول وصوله؛ ليستطلع أمره، قال عبد الله بن سلام: «فلما رأيت وجهه عرفت أنه وجه غير كذاب؛ لأن صورته وهيأته وسمته تدل العقلاء على صدقه وأنه لا يقول الكذب.» فأسلم وكتم إسلامه، وكان قومه يقولون عنه إنه سيدهم وابن سيدهم وحبرهم وابن حبرهم وأعلمهم وابن أعلمهم إلخ، فلما أظهره قالوا له: كذبت، أنت شرنا وابن شرنا! وهي الخطة التي تتبعها الأحزاب السياسية في إسقاط من يعتزلها أو يتحول عن اقتناع، فيصبح خائنًا خادعًا طامعًا إلخ، وكان بالأمس مجمع الفضائل، فلما سمع ابن سلام هذا القول قال: إنهم قوم بهت أهل غدر وكذب وجور.

وفي طرف بحيرة تفيس من ناحية دمياط ضريح عالٍ له قبة ومئذنة وتحته أرض خصبة وبقعته تشرف على الماء وغروب الشمس وحمرة الشفق وجمال الأفق منسوب إلى ابن سلام، فإن صح فلا عجب فيما يروى من أنه أخذ بعنان فرس علي بن أبي طالب بالربذة وقال له: يا أمير المؤمنين، لا تخرج من المدينة، فوالله لئن خرجت منها لا يعود إليها سلطان المسلمين أبدًا. فسبه بعض الناس وهم لا يعرفون شخصه، فقال علي: دعوه فنعم الرجل من أصحاب النبي. وهذا القول رجيح لدينا؛ لأنه لم يُقل لمصلحة أحد، لا لأهل السنة ولا لأهل الشيعة، ويظهر أنه خرج وساح في الآفاق حتى استقر به المقام في إحدى ناحيات مصر، فبقي بها إلى أن مات، ورأيه في إقامة علي بالمدينة مبني على الفراسة وبعد النظر مثل أي رأي سياسي، وإلا فنور بصيرة من صحبته للرسول وإخلاصه، وروى عنه أبو هريرة وابن ماجه، فهو صحابي عظيم لا ريب فيه، ولم يسلم من علماء اليهود وأحبارهم غيره، وفي إسلام ابن صوريا شك، وكذلك خبر إسلام ميمون بنيامين؛ فقد كانوا عصبة كبيرة منهم كعب بن الأشرف وسعيد بن عمرو ومالك بن الصيف (الحبر السمين) وكنانة بن أبي الحقيق وابن صوريا الذي يقطن فدك وأبو ياسر بن أخطب (عم صفية) ووهب بن يهود، وكان مقرهم بيت المدارس وهو معبدهم ومجلس ملتهم ومحكمتهم.

•••

وقد سألوه في الفلك والطبيعة وأحكام الشريعة واستفتوه في قضية زنا لشريفين محصنين، فأفتى بما ورد في التوراة من الرجم، ولم يفْتِ بالجلد؛ تطبيقًا لقانون المتقاضين، فلما رُجِمَ الزانيان كان الرجل يحني على المرأة يقيها الحجارة.

وهذه قضية احتكم فيها اليهود إلى الرسول وكان تنفيذ الحكم أمام المسجد، فقبلوا قضاءه لأنه ينقذهم من حكم التوراة؛ وهو الرجم أيضًا! فاستغلوا المحالفة أو الصحيفة فيما لا يضرهم، ولكنهم كانوا لا يكفون عن أذاه؛ فمرة ينهون الأنصار عن برِّ المهاجرين خشية الفقر: الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمُ اللهُ مِن فَضْلِهِ.

واتخذوا الملاحن لسبِّه في مواجهته بلغتهم وقالوا: «راعنا سمعك واسمع غير مسمع» ويضحكون، و«راعنا» بالعبرية سب قاذع، فهددهم ابن معاذ بالقتل إن عادوا إليها، ونزل القرآن: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انظُرْنَا.

وبالجملة كان مسلك اليهود مع المسلمين من المخزيات، وما علينا إلا أن نتخيل طائفة غنية ذكية متعلمة ذات كتاب منزل قد استولت على بلد زراعي ضعيف واستعلت أهله واستغلتهم وأذلتهم وركبتهم بالدين والرياء وسخرتهم في أعمالها بأبخس الأجور، وأوقعت فيهم الفتنة وحرَّضتهم على القتال؛ لتبيدهم أو لتضعفهم؛ لتسودهم سيادة أبدية، وهي بعدُ متكبرة مستقلة مترفعة تُحدث الغلاء وتحتكر الدواء والغذاء؛ فإذا برجل يهبط من السماء على هذا البلد فينتشله في عام من وهدة الانحطاط والانحلال والخيبة، ويسعى في تكوينه وخلقه خلقًا جديدًا، ويعمل على إحباط أعمال اليهود وتفنيد أقوالهم وإظهار فضائحهم.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤