جلاء بني النضير عن المدينة

عاد أبو سفيان إلى مكة بعد هزيمة أحد في غاية السرور، فقصد الكعبة قبل أن يدخل بيته ورفع إلى هبل آيَ الثناء والحمد، ثم حلق لمته ورجع إلى داره موفيًا نذره ألا يقترب من زوجته هند حتى ينتصر على محمد.

وكان زفافًا بالدماء بينه وبين هند، ولا يعلمان ما يضمر لهما الله عما قليل! وقد طمع حقراء العرب في المسلمين؛ فسار طليحة وسلمة ابنا خويلد في قومها لمهاجمة المدينة فهزمهما أبو سلمة بن عبد الأسد ومعه ابن الجراح وابن أبي وقاص، كما حاول خالد بن سفيان الهذلي غزو المدينة فقتله غيلةً عبدُ الله بن أنيس.

وإن ضعف شوكة المسلمين بعد أحد شيء طبيعي؛ فهو رد فعل بعد هزيمة قريش في بدر، فطمع الناس في المسلمين، غير أن المهم أن النبي لم يكن يتردد في إرسال المسلمين للدعوة؛ فإنه بعد مقتل الستة الصالحين يوم الرجيع (سنة ٦٢٥م) أرسل أربعين مع أبي براء لدعوة أهل نجد إلى الإسلام فقُتلوا، فحرض أبو براء ابنه ربيعة على قتل عامر بن الطفيل الذي أخفر أباه، فطعنه برمح، واستمر النبي يدعو الله على قتلة الأربعين شهرًا لينتقم لهم.

أما اليهود والمشركون في المدينة فقد تشجعوا بما أصاب المسلمين يومي الرجيع وبئر معونة، وضعفت هيبة النبي في نفوسهم، وطمع العرب الحقراء في المسلمين، وتربص اليهود والمنافقون بهم الدوائر، فأعمل النبي فكره في هذا الموقف وفكَّر تفكيرًا سياسيًّا عظيمًا، فأراد أن يقف على نيات اليهود، فقصد منهم بني النضير وهم حلفاء بني عامر، وذهب إليهم على مقربة من قباء في عشرة من كبار المسلمين، فتآمر اليهود على اغتياله ؛ إذ دخل عمرو بن جحاش بن كعب وأراد أن يرمي عليه حجر طاحون؛ انتقامًا لكعب بن الأشرف، ولكن النبي نجا بوحي من الله وترك أصحابه وذهب إلى المدينة ودخل المسجد، وخشي اليهود أن يوقعوا بأصحابه العشرة وفيهم أبو بكر وعمر وعلي فتركوهم.

فأرسل الرسول إلى بني النضير محمد بن مسلمة الأوسي فقال لهم: إن رسول الله أرسلني إليكم أن اخرجوا من بلادي؛ لقد نقضتم العهد الذي جعلت لكم بما هممتم به من الغدر بي، لقد أجَّلتكم عشرًا؛ فمن رؤي بعد ذلك ضربت عنقه.

فلم يتكلموا، وعاتبوا رسول النبي وقالوا: ما كنا نرى أن يأتي بهذا رجل من الأوس!

فقال لهم: تغيرت القلوب!

أما عبد الله بن أُبَيٍّ رأس المنافقين في المدينة؛ فقد أرسل إليهم يوعز لهم بالبقاء وعدم الخروج؛ لأنه رأى أنصاره اليهود يبعدون عن المدينة بالتدريج، وأمرهم بالتحصن ومعه ألفا رجل، فكان عبد الله بن أُبَيٍّ مثل فرديناند دلسبس مع المصريين، وعد بني قينقاع بالمعونة والمساعدة ثم أرغموا على الجلاء، فلم يثق به بنو النضير؛ لأنه تخلى عن إخوانهم من قبل، وعملوا برأي حيي بن أخطب ودخلوا الحصون ولم يخرجوا.

فجاء المسلمون ونشبت حروب في شوارع المدينة والديار، وصار النبي يهدم ديارهم ويحرق نخلهم، فاحتجوا عليه فنزلت آية: مَا قَطَعْتُم مِّن لِّينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَىٰ أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللهِ.

ولم ينقذهم عبد الله بن أُبَيٍّ كوعده، فخرجوا بعد أن سلموا وأخذوا بعض مالهم وأخذ النبي بقية أسلابهم وكل أرضهم وقسمها بين المهاجرين؛ لتحسين حالتهم؛ ليستغنوا عن معونة الأنصار، ولم يسلم من بني النضير إلا اثنان أحرزا أموالهما.

وهكذا جلا بنو النضير عن المدينة، وفي جلائهم جاءت سورة «الحشر» وأمن محمد الفتنة والتحريض.

هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِن دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ ۚ مَا ظَنَنتُمْ أَن يَخْرُجُوا ۖ وَظَنُّوا أَنَّهُم مَّانِعَتُهُمْ حُصُونُهُم مِّنَ اللهِ فَأَتَاهُمُ اللهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا ۖ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ ۚ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُم بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ * وَلَوْلَا أَن كَتَبَ اللهُ عَلَيْهِمُ الْجَلَاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا ۖ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابُ النَّارِ * ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللهَ وَرَسُولَهُ ۖ وَمَن يُشَاقِّ اللهَ فَإِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ.

أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلَا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِن قُوتِلْتُمْ لَنَنصُرَنَّكُمْ وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ * لَئِنْ أُخْرِجُوا لَا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِن قُوتِلُوا لَا يَنصُرُونَهُمْ وَلَئِن نَّصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنصَرُونَ.

•••

كان كاتب سر النبي إلى حين إجلاء بني النضير عن المدينة من اليهود؛ ليتسنى له أن يبعث من الرسائل بالعبرية والسريانية ما يريد، فلما جلا اليهود خاف النبي أن يستعمل في أسراره غير مسلم، فأمر زيد بن ثابت بتعلم هاتين اللغتين، وأصبح زيد كاتب سر النبي في كل شئونه، وقد أدى زيد إلى الإسلام خدمة جليلة جزيلة بجمع القرآن.

وقد قوت حرب النبي لليهود المسلمين وأراحت الأنصار والمهاجرين وأعادت الهدوء إلى المدينة ونظفتها من اليهود ودسائسهم.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤