مكة المكرمة قبل الإسلام

مكة أكبر مدن الحجاز، تبعد عن جدة مسيرة خمسة وأربعين ميلًا شرقًا، كانت تقطعها الإبل قبل السيارات في مرحلتين، وتستريح براكبيها في بحرا أو جدة في «بطن مر». أما بعد ذيوع السيارات فساعتان كافيتان لبلوغ مكة، ويمكن تحديد موضعها جغرافيًّا بالدرجة ٢١ من خطوط العرض شمالًا، و٤٠ من خطوط الطول شرقًا.

والمدينة تدهش زائرها بجدبها وجفافها، فإنها وحرمها تكاد تكون أعقم بقعة يقع عليها البصر؛ فهي جدُّ قحلاء، جرداء، لا تطمئن العين فيها إلى خضرةٍ يانعة، أو عينِ ماءٍ جارية، فلا حديقة ولا بستان ولا شجرة ولا نخيل ولا أعناب، كأن جدبها وتحجُّر أرضها وشُحَّ الطبيعة عليها بما يطفئ الظمأ ويغذي الجسم ويبهج النفس؛ مقصود بالذات. وسنثبت أن حالة هذا الوادي من أكبر الأدلة المستفادة من علوم الاقتصاد والحياة والنفس على صدق النبي في دعوته ووحيه ووعود القرآن ووعيده. أما الجدب والعقم فقد جاء وصفهما في القرآن على لسان إبراهيم وهو يودع زوجته وولده: رَّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ (سورة إبراهيم).

ولو كُلِّف إبراهيم باختيار أقسى أرض الجزيرة قلبًا وأصلدِها صخرًا، وأشدِّها قيظًا وأحرقِها شمسًا ليودع رفيقة فراشه وفلذة كبده لم يكن ليختارَ بقعة غير هذه البقعة الواقعة وسط تلالٍ وهضابٍ خشنة تقطعها وتخترقها «محيرة»١ من الأودية الضيقة والمعابر المختنقة بين الصخور، كأنها حصنٌ طبيعي أحاطه الجبار الذي شاده بالمهاوي والمفاوز، وحمى ذماره بجبالٍ ووهادٍ ومصاعدَ ومهابطَ أقوى على صد الهجمات من جدران القلال وسنان الأسلاك الشائكة، ثم تنساب أرض ذلك الوادي، وتبرز بروزًا ظاهرًا في تهامة المنخفضة حيال شواطئ البحر الأحمر، ولكن تعود تلك الأرض فتحتجب بالجبال التي تعوق مسيرها وتقف خاشعة في انخفاضها حيال الجبال التي تحد من الغرب واديَ «مر»، وإذا افترضنا طائرةً تعلو سماء مكة، وقد علتها طائرات أثناء الحرب (كتاب الأعمدة السبعة أو ثورة العرب، تأليف لورنس) وألقى ذاك الذي امتطى صهوتها ليسبح في الفضاء نظرة، لَرأى مكة أشبه الأشياء بسلحفاة رأسها إلى الجنوب وذيلها إلى الشمال، وقد تحلى ظهرها المبرقش بالكعبة ودار الندوة في الوسط، والصفا والمروة والمسعى ومولد فاطمة عن الشمال، وشعب المولد والخندمة والمدعى وأجياد عن اليمين، وانتثرت تحت ناظريه في شتى الأجزاء من ظهر تلك السلحفاة الضخمة (التي تحركت ببطء من ملة إبراهيم إلى عبادة الأوثان، ومن أصنام عمرو بن لحي إلى عقيدة التوحيد ودين الإسلام) سوق الليل وأبو قبيس والمعلاة وقيقعان وسوق الصغير والمسفلة والجبل الأحمر والماجن وجبل عمر.

وما تزال تلك السلحفاة رابضة منبطحة يحرسها الأخشبان، وقد أعدت لها الطبيعة شبكة من السبل في السهل والجبل على مقربة من «شبيكة» فمن درب إلى وادي مر ومن زيمة إلى وادي فاطمة، ومنها تسير القوافل إلى جدة والشام والحبشة واليمن وتصعد إلى نجد وعمان يطل عليها جبل النور، ووراء السلحفاة إلى الجنوب ترى طريق الفرسان والمشاة إلى الطايف وجبل كرا ووادي نعمان ووادي هذيل، وفي أقصى الشرق ترى مِنًى والمزدلفة وجبل عرفة وجبل الثور.

وعندما يتأمل الطائر المعجب بهذه السلحفاة وما حولها من جبال ووديان ودروب وطرق ومضايق ومداخل ومخارج وسهول وهضاب، يدرك للوهلة الأولى أن تلك السلحفاة المنبطحة قد اختارت لمرقدها أو اختار لها مروضها مركز المواصلات بين تهامة ونجد؛ أي بين الأرض المنخفضة على الشاطئ وبين قلب الجزيرة ووسطها، وبذا قد بزت جارتها وضرتها «الطائف» التي كانت تزاحمها في القبض على زمام النقل والتجارة، ثم انهزمت أمامها على الرغم من خصبها وبساتينها وحدائقها وأعنابها وكرومها وخضرتها ومائها، فسلمت لها القياد وأمست جاريتها وخادمتها.

وطالما خدمت الفتاةُ ذات الجمال مولاةً تقل عنها حسنًا وفتنةً! وكم في العرس أبهى من عروس! وقد كرت الأجيال والطائف في مكانها على طريق اليمن ونجد ولكنها غير متصلة بتهامة؛ فهي تربط بين الشمال والجنوب من وراء حجاب ولا تتصل بشاطئ البحر الذي يربط مكة بالشرق الأدنى والأقصى.

وإذنْ قد اختارت العناية لهذا البلد أن يكون بلدَ تجارةٍ وأخذٍ وعطاءٍ، ومركزَ أسفارٍ ورحلاتٍ، ومستقرَّ قوافل رائحة غادية بين الشام والحبشة، فرحلة الصيف هي رحلة القوافل إلى غزة، ورحلة الشتاء هي رحلتها إلى الجنوب، ولا حياة للبلد بغير هاتين الرحلتين. وإن القارئ ليعجب أن هذه المدينة المحصنة بالجبال كانت في قديم الزمان محصنة بالأسوار العالية والأبواب الضخمة، وقد رأى ابن جبير بقايا إحدى البوابات، ورأى أحجار أحد الأسوار، وقد زالت الأسوار والأبواب ولم يبقَ منها سوى أسمائها؛ كباب المعلاة والمسفلة والشبيكة. والمعلاة تؤدي إلى مِنًى وعرفة — وهي الطريق التي يسلكها كل حاج — وإلى زيمة ونجد لمن يريد أن تشط به الأسفار، ووراء هذا الباب، كما تجد المقابر في مصر وراء باب الفتوح أو باب النصر، كذلك وراء باب المعلاة تجد مقبرة الحجون التي ورد ذكرها في الشعر الجاهلي على لسان مضاض، ويقال إنها مقبرة الصحابة لكثرة من دُفن فيها منهم — عليهم رضوان الله.

ومن الحجون درب معترض، يؤدي بالسائر وراء الأكمة إلى سكة المدينة، وإذا اتجهت منه نحو الغرب بلغت عقبة القضاء التي دخلت منها جيوش النبي يوم الفتح الذي ظنته قريش يوم الملحمة فكان يوم المرحمة. وفي هذا المكان نفسه صلب الحجاجُ ابنَ الزبير وتركه معلقًا على عود من الخشب، ولم يكن له من ذنب سوى المطالبة بما يعتقده حقًّا لأهل مكة، ولكن الحجاج خشي الفتنة وتفريق الكلمة. أما المسفلة فهي التي تؤدي إلى طريق اليمن وتفتح للسيول المنهمرة في وادي مكة طريقًا إلى تهامة؛ لترويَ ظمأ الرمال العطشانة، وتنبت كلأً ترعاه الإبل. وإن كانت مكة قد حصنتها الطبيعة بالجبال والمفاوز إلا أن أهلها لم يهملوا تحصينها بالقلاع؛ فشادوا «القصر» أو الحصن العظيم؛ ليحميَ رأس السلحفاة من ناحية الشرق، وهي أضعف الناحيات التي قد يأتي منها العدو المهاجم، وإنه لحصنٌ رهيب لا يقدر العدو على أخذه مهما بلغت قوته، وإن تحصن فيه المكيون، فهم بلا شك يخرجون من ديارهم أقوى الجيوش. أما باب العمرة أو باب الزاهر فيؤدي إلى وادي فاطمة والمدينة وجدة، ومنذ كانت بلاد اليمن مزهرة مزدهرة بتجارة العطور والبخور والبهار وعجائب النبات والأعشاب، كانت مكة محط رحال القوافل التي كانت تعود من تلك الناحيات محملةً بما خف وزنُه وثقل ثمنُه؛ ومن هنا عرفها بطليموس ووصفها في كتابه وسماها «مكورابا»، وهو اسم في ذاته غريب؛ فهو تركيب مزجي من اسم مكة واسم العرب؛ فهو يقصد إلى أنها «مكة العرب» Makoraba. وقديمًا قبل البعث بمئات السنين اشتُهرت مكة بتجارتها وبكعبتها المقدسة المحاطة بالحرم، وهي البقعة التي يكون الداخل إليها آمنًا على نفسه وماله وحريته، حتى لو كان وحشًا كاسرًا أو طيرًا جارحًا أو مجرمًا سفاحًا، أو قاتلًا فارًّا من وجه العدل.

وذكر مؤرخٌ أن هذه البقعة كانت محرمة من قبل مجيء إبراهيم إليها؛ بدليل قول الله في القرآن: عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ، ولم يكن هذا البيت محرمًا وذاك المعبد مقدسًا في نظر قبيلةٍ واحدة، بل في نظر مئات القبائل والعشائر والفصائل، وكانت هذه القداسة تتجلى كل عام في سلسلةٍ من الحفلات والأعياد والموالد والأسواق تقام كلها حول مكة في بطحائها وظواهرها، وفيها تمتزج المواسم الدينية ذات الشعائر والرسوم، بالتجارة والمساومة والبيع والشراء والسلع. وكان للأدب عند العرب جانب لا يضيعونه؛ فطالما خطب الخطباء وأنشد الشعراء ونطق الحكماء في تلك الأسواق التي كانت فيها أركانٌ ومواقفُ أشبه بمجامع العلم والأدب في عصورنا الحديثة، وكان أهمَّها عكاظ والمجنة وذو المجاز، ولكنها كانت مظاهر فطرية.

وأراد المكيون أن تقع مواسم الحج والأعياد والأسواق في فصل الشتاء، وطرف من الربيع، وآخر من الخريف؛ فوضع بعض الحاسبين فيهم نظام النسيء ليجعلوا من السنة القمرية والتاريخ الهلالي سنة شمسية؛ ليحتفظوا بحلول المواسم في الوقت الذي يرغبونه، ولم يختر المكيون هذا الوقت من العام عبثًا، ولم يفضلوه على غيره لطراوة الهواء أو هبوط حرارة القيظ على القادمين والذاهبين، إنما اختاروه لأنه الوقت الذي يكون فيه الأدم والثمرات وغيرها من البضائع والعروض معدة للعرض في الأسواق، وكانت تلك البضائع والثمرات كل ما يملكه البدو ويأتون به ليبيعوه في أسواق مكة. وكان المكيون أهل حذق وحرص ولباقة، فيكرمون ضيوفهم وعملاءهم، ويقيمون لهم الولائم، وينصبون لهم الجفان، ويذبحون الذبائح؛ فيتمكنون بذلك من شراء بضائع البدو بثمنٍ بخس، ويبيعونهم ما تجلبه القوافل المكية من الشام والحبشة واليمن بأغلى سعر، وبعبارة حديثة: «يأخذون الوارد ويعطون الصادر»، فصاروا سادة التجارة في الجزيرة؛ وهذا الاستغلال ميزتهم الوحيدة.

وأخذت قوافلهم تقطع الجزيرة من الشمال إلى الجنوب ومن الشرق إلى الغرب، تحمل بضائع بأموالٍ باهظة؛ فإن قافلة قريش التي أوقع بها جيش المهاجرين والأنصار بقيادة النبي في موقعة بدر، قُدرت بعشرين ألف جنيه ذهبًا؛ أي ما يزيد على أربعين ألف دينار بتقدير النقد الحديث. فتأمل كيف أطغاهم المال وأبطرتهم النعمة حتى خشوا الإملاق إن اتبعوا هدي الإسلام.

١  لابرنته.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤