قانون الصحراء يخضع البدو مدى الأجيال

ليست جزيرة العرب كلها صحراء قحلاء، بل إن فيها سهولًا ذات خصب دائم وأنهارًا متدفقة وآبارًا عميقة ومياهًا عذبة ونخيلًا وأعنابًا وأحراجًا وأدغالًا وبساتينَ وجناتٍ وسواقيَ وغدرانًا وأشجارًا باسقة ذات أغصان وأفنان، ولكن هذه الخضرة اليانعة جد نادرة؛ فهي كالحلي تزين نحر المرأة ومعصمها، وما الواحات النادرة١ إلا كالخضاب في يديها والكحل في عينيها، وإلى جانب ذلك الجدب وتلك البقاع الخصيبة، بل في أحضان الرخاء المشوب بالعسر وبين يدي الشح المخفف أحيانًا باليسر والجود، نشأت مدن وقرى معدودة، كان لكلٍّ منها في تاريخ العالم ذِكر عظيم وشأن بالغ؛ فهذه مكة أشبه الأشياء برومة القديمة، بل إن مكة في شبه جزيرة العرب كرومة في شبه جزيرة إيطاليا، وقد أوت إليها بضع قبائل بعد أن تعبت من عيشة التنقل والارتحال وتطلعت إلى السكون والاستقرار، فلجأت إلى تلك البقعة المقدسة من الأرض التي كانت وسطًا بين الجدب والخصوبة ووسطًا بين السهل والوعر وبين البر والبحر، ولم تستطع تلك القبائل أن تأويَ إلى مكة أو بكة في أكثر من فصلين من العام هما الربيع والخريف، أما الشتاء فكانت تلك القبائل الحديثة العهد بسكنى «الجدار» تقضيه في جدة على شاطئ البحر كما كانت تقضي فصل الصيف في واحة الطائف، ولم تختر تلك القبائل الإقامة في مكة إلا لأنها كانت مدينة عريقة في قدسيتها ببناء الكعبة التي رفع دعائمها إبراهيم وإسماعيل، وسوقًا زاخرة بالبضائع التي تفد عليها من أنحاء العالم كالهند وفارس والصين والشام ومصر، وبعد أن حامت القبائل حول الكعبة وطافت بذلك البيت العتيق بدأ سراتهم يبنون بيوتًا بالحجارة والآجر، وقد استعمروا ذلك الواديَ وهم يعلمون أنه غير ذي زرع وأنهم لن يستثمروا فيه مرعًى أو زرعًا يقوم بأودهم أو يغذي أبدانهم، وأن ماءه نادر وليس بالعذب، ولا اعتماد لهم إلا على ماء المطر، ولكنهم أنِسُوا من أنفسهم القدرة على الكسب من غير الزرع والضرع وتدربوا في الأسواق على مبادئ التجارة وهي آخر درجة في سلم الحياة الاقتصادية. ومن الغريب أن تظهر التجارة في بلد لم يتقن الزراعة ولا الصناعة وهما الخطوتان السابقتان للتجارة، ولا شك عند العلماء الآن في صدق التاريخ الذي يروي نزوح إبراهيم وزوجته هاجر وابنهما إسماعيل؛ لأن هذا العصر الدخيل على الجزيرة ساعد على نمو التجارة بعد أن أسس الكعبة وجعلها محط رحال الحجيج والزائرين من سائر الأقطار، وهو الذي يجري في عروقه حب الترف والرفاه وحب الكسب بوسائل الثبات والاستقرار والاستعمار والاستثمار لا بالارتحال والغزو. وهؤلاء العرب المتعربة هم — بلا ريب — بنو إسماعيل بن إبراهيم، وكانت لغتهم الأولى العبرانية، فلما اختلطت بالقبائل القحطانية كجرهم تعلمت العربية وسُميت «مستعربة». وعندنا أن عهد إسماعيل وأمه كان عهد أمومة؛ أي سيادة المرأة في القبيلة (ماترياركا؛ أي الكفالة)، والدليل على ذلك في أخبارهم نفسها؛ فقد قيل إن «جرهم من القحطانية نزل على إسماعيل وعلى أمه بمكة المشرفة فتزوج إسماعيل منهم.» وإن اسم هذه الأم هاجر، وفيه إشارة إلى الهجرة والنزوح والارتحال، بل إن إبراهيم الخليل بعد أن غرس زرعه في وادي الحجاز عاد بعد بضع سنين يزور ابنه فلم يجده ولقي زوجته وهي إذ ذاك ذات الحول والطول، وهي التي تستطيع أن تكرم وفادة حميها المتنكر أو تضن عليه بشربة ماء، فلما سألها عن حالهما تبرمت بالحياة وأنكرت الخير وشكت له عسرها؛ فنصح لابنه في غيبته بلحن — وهو لغة رمزية يفهمها الوالد والولد — أن يبدل عتبة داره فطلقها إسماعيل أو أقصاها عن تدبير بيته في غيبته، فلما أعاد أبوه الكَرَّةَ وجد وجهًا أقل عبوسًا ورغيفًا أقل يبوسًا وقدحًا مملوءًا ماءً وإناءً يتدفق لبنًا؛ فاستبشر بلقائها ونصح لابنه أن يثبِّت عتبة بيته، ودعا لهما بالبركة في الماء واللحم.
كانت حياة العرب من البدو في البادية من الجزيرة القحلاء حياة جهاد ومغامرة في سبيل الكسب، وكفاح لأجل القوت والتناسل، كانت حياة حرمان وجوع وترصد وتربص واقتناص وسلب ونهب لسد الرمق وإطفاء نار الشهوة؛٢ وهكذا تكون حياة كل بدوي رحال يتبع الماء والزرع ويجري وراء الخضرة والكلأ ويطارد المرعى وراء إبله وغنمه، وما يزال العربي كذلك يطارد الحياة في سبيل الحياة حتى يبغته الموت وما شعر يومًا قط منذ مولده إلى ساعة موته بميل إلى العمل العقلي أو البحث العلمي الذي يقتضي حياة الجلوس والاستقرار. وإذا اتجهنا نحو الجانب العملي من حياة البدوي لا نجد شيئًا يحركه سوى حب المرأة والحرب والشعر الغنائي، واعتلاء صهوة الجياد وتصويب السهام إلى صدور الأعداء، وحبك أطراف الشباك والحبائل لاصطياد الوحوش الضارية واتقاء أضرارها وأخطارها ودرء الطوارئ عن حريمه وعياله … حياة معظمها مغامرة ومجازفة، والقليل منها هناءة طارئة وفرصة بالسعادة سانحة. وقد لا ينام البدوي في جو خيمته القاتم إلا ريثما تغمض عينه ويأخذ الكرى بمعاقد أجفانه، فإذا بخطرٍ مداهم يحفزه للنهوض والدفاع عن نفسه وذويه أو دسيسة سوداء تحاك خيوطها حوله من أقرب الناس إليه (راجع تاريخ سلمى بنت عامر وزوجها أحيحة بن الجلاح في الأغاني وغيره). وإن كثيرًا من الشعر العربي القديم — مثل المعلقات وديوان الحماسة — لَشاهد عدل بصدق هذه الصورة التي كررنا وصفها لنظهر عظيم دهشتنا من نهضة الإسلام، الذي ظهر في هذا الجو القاتم الملبد بالأحقاد والشهوات وحب الحياة والخوف من الموت والكفاح في سبيل القوت للحيوان والإنسان والأثرة، والقوة التي بلغت حد الجنون في وأد البنات ودفن الأحياء.
ولكن المهم في كل هذا أن البدوي حافظ على نظام تلك الحياة طوال القرون من عصور قبل التاريخ إلى وقتنا هذا؛ فهو إلى اليوم يعيش في الصحراء وفي الخيام وفي سبيل الماء والمرعى كما كان يعيش آباؤه وأجداده منذ عشرات ألوف السنين؛ لأن الأحوال الجغرافية والجوية والطبيعية والبيئة الطقسية لم تتحول عما كانت عليه منذ العصور القديمة، وإن العرب الذين كانوا يعيشون في عصور بابل وآشور لا يختلف عنهم العرب الذين عاشوا في عهد محمد بقليل أو كثير؛ فالصحراء هي الصحراء والبادية هي البادية برمالها وأعاصيرها وحرها وقرها وقيظ شمسها وجمال سمائها وتلألؤ كواكبها؛ فعلى كلِّ من يعيش فيها أن يخضع لقانونها ويشكل نفسه بحسبان طقسها، وإلا فيهلك لعدم صلاحيته؛ لأن الذي لا يطيع قانون الصحراء يعاقب بالموت على عصيانه، والذي يحاول الطاعة ويعجز عنها يدفع حياته ثمنًا لعجزه عن الطاعة … الصحراء محافظة كل المحافظة على القديم، لا تعرف التجديد ولا تألفه ولا تتبع قانون التطور والارتقاء، بل هي باقية على ما كانت عليه منذ تحولت خصوبتها جدبًا وأراضيها المنزرعة آكامًا وهضابًا، ومنذ جفت أنهارها ونضبت عيونها ويبس أخضرها. إن خمسين قرنًا في الصحراء تمر كيومٍ واحد، وإن الذي يريد أن يدرس حياة العرب في الجاهلية، وحياة العرب البائدة ليس في حاجة إلى النقوش والرسوم، ولا إلى الآثار المثبتة في الأحجار، إنما يكفيه أن ينظر إلى عرب هذه الأيام؛ فهم هم في مادياتهم ومعنوياتهم لم يتغيروا ولم يتبدلوا ولم يخضعوا إلا لدورة الزمن، ولا فرق بين أبناء اليوم وأجداد أمس إلا تلك الهوة السحيقة من القرون التي٣ كرت ومرت تارةً بسرعة البرق، وطورًا ببطءٍ شديد، أجيال تروح وتغدو وأعمار تبدأ وأخرى تنتهي، الزمان يجري والأماكن ثابتة، وحتى الزمان نفسه يتشابه حتى يكاد الحاضر يندمج في الماضي لشدة الشبه بينهما … وغير خافٍ ما فُطر عليه الشرقي من حب التمسك بالقديم والمحافظة عليه، سواء أكان في البدو أو الحضر؛ فقد ضُربت الأمثال بما شهده الإفرنج في بلادنا المصرية من استمرارنا على حالٍ واحدة في استخدام أدوات الزراعة ووسائل الري التي كان يستعملها المصريون القدماء منذ ثلاثين أو أربعين قرنًا! مع أن مصر في أثناء تاريخها الطويل شهدت من التطور والتحول في الحياة الاجتماعية والسياسية والمعتقدات الدينية ما لا يكاد يحصى ولكنها لم تتحول عن المحراث والشادوف والساقية والنورج والفأس والمذراة.
١  ما عدا بلاد اليمن أو العرب السعيدة التي نشأت فيها حضارة السبئيين.
٢  كانت قبيلة هوازن تطلب الدقيق المخلوط بالشعر، ويغتصب رجالها النساء في الفلاة.
٣  انظر كتاب جوسين Taussin على قبيلة موآب في شرق الأردن.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤