السيرة المحمدية واختلاف عناصرها وطرائقها

شُغِلَ كاتب هذه السطور منذ عشرات السنين بدراسة التاريخ الإسلامي، ولا سيما تاريخ رجل الإسلام الأعظم، وبطل الأنبياء الأكرم، أبي القاسم محمد بن عبد الله فلم يقصر في درس كل ما كُتب عنه في اللسان العربي وفي معظم اللغات الأوروبية، وقد واصل هذه البحوث العزيزة على نفسه المغذية لروحه في دور الكتب الغربية، واستعان بجميع المصادر والمراجع التي وضعها كبار المؤرخين ونظموها حتى أصبحت سهلة المأخذ على كل دارس، قريبة المنال من كل راغب. وخرج من الدرس الطويل بعد استقصاء المواد وتحرِّي الدقائق بثمرة المقارنة والمعارضة حتى تمكَّن من الإحاطة بكل ناحية من نواحي التاريخ المحمدي مما أقنعه إجمالًا وتفصيلًا بعظم شأن الرسول وكانت غايته منذ بداية العمل وأمنيته المحببة، وأمله الغالي، وهدفه السامي، أن يعثر على ترجمةٍ لرسول الإسلام تملأ فراغًا وتسد ثغرةً، وتغني الشباب المثقف وجمهرة أبناء البلاد العربية وتشبع رغبات جمهور القراء في مصر، وفي العالم الإسلامي، ذلك المحيط الذي شعر منذ ثلاثين عامًا بالحاجة إلى الإلمام بحياة النبي بأسلوبٍ جديد يتفق والعقلية الحديثة، ونسق يلتئم وحاجة العصر. ولم تتولد تلك الغاية في نفسه إلا لاعتقاده أن لكل زمان تفكيرًا خاصًّا، ولكل عهد ثقافةً تمثله وتغذيه، تأخذ منه خططه التي اهتدى إليها وألفها ثم تعطيه ثمرتها المنشودة.١

وإن شخصية عظمى كشخصية محمد لجديرة بهذا الاهتمام؛ لأنها أجل الشخصيات وأبرزها، وأكملها وأجملها وأسماها وأعلاها وأنبهها ذكرًا، وأحفلها مجدًا، وأقواها أثرًا، وأوضحها نورًا، وأخطرها شأنًا، وأعمقها روحًا، وأنفذها عملًا، وأوسعها عِلمًا، وأرقها جانبًا، وأشدها جاذبيةً، وأحلاها ذوقًا، وألذها طعمًا.

اقتنع كاتب هذه السطور واعتقد أن مثل هذه الشخصية المنفردة التي حيرت في تحليلها أكثر العقول وأوسع المدارك وأرسخ الأقدام في الدرس والبحث شرقًا وغربًا، لا بد أن تختلف الوسائل في دراستها وتلمُّس الحقائق المحيطة بها وإزالة الأوهام التي تراكمت حواليها، لا عليها؛ باختلاف الأزمان والأماكن والمعقوليات التي تدنو منها سواء في ذلك أرباب العبقريات والنوابغ والموهوبون، وسواء كذلك المؤرخ المؤمن والمفكر الحر، والكاتب المتحيز المغرض والآخر المنصف العادل، وإذنْ يكون قد آن الأوان لإظهار تلك الصورة المحمدية الكاملة على طريقةٍ أقرب إلى الكمال، كما تمثله كاتب هذه السطور وعلى صورةٍ أقرب إلى أذهان المتعلمين في الأوساط الراقية الذين عليهم المعول في الفهم والإدراك، وتوصيل الحقائق إلى من دونهم.٢
ولما كانت اللغة العربية على غناها في مناحي العلم والأدب أفقرَ اللغات في تنظيم المراجع والمصادر؛ فقد ترك حبل القراء على غاربهم في كل العصور الماضية وفي عصرنا الحاضر حتى سار قولهم: «أيَّ كتاب تقرأ تستفد.» مسيرَ المثل، وغدا من جوامع الكلم مع مخالفته للواقع والحقيقة؛ فقد تمكَّن أحد علماء اللغة العربية من أصدقاء كاتب هذه السطور من تقسيم الكتب القديمة والحديثة التي تشرف أصحابها، بادئًا بما احتوى منها على سيرة الرسول أو ترجمته أو تاريخ حياته، وما هي في الواقع إلا نسخ طبق الأصل من القديم البالي أو صورة مزيفة من الكتب الإفرنجية. وفي كثيرٍ منها تشويه للحقائق، وجري وراء الإكثار من المطبوعات، وتقليد غير بصير لما دوَّنَه علماء المشرقيات عن علمٍ محدود في النادر، أو عن إعجاب ومحاولة النصفة في الأقل، وعن تعصُّب وجهل وتعمُّد للانتقاص والاستهتار والانتقام من نبي الإسلام ومن المسلمين أنفسهم في الغالب. وإن لدينا أدلة علمية وأدبية تثبت رأينا، وتؤيدها أسماء الكتب والمؤلفين ومواضع الخطأ والسهو والغلط المقصود بالسطر والصفحة، ولكن مجال سردها في المقدمة يطول، وقد ورد ذكرها بنصوصها في صُلب البيان العلمي٣ ومتنه وشروحه بشكل جامع حتى لا يطمع طالب في الاستزادة.

هل كانت حملة بل حملات مدبرة على رسالة نبي الإسلام أم مؤامرة محبوكة الأطراف على ذاته الفذة المقدسة، وحياته المنفردة في سجل التاريخ … أم كانت فاكهة مرة لشجرةٍ مسمومة، زرعها الجهل وسقاها الغرور، وغذتها الدعاية الظالمة، ونمَّتها الأحقاد؟! لقد حاول كاتب هذه السطور في العهد الذي أشرنا إليه أن يجيب على هذه السؤالات ليستنير أولًا وحتى يرضى بالجواب المقنع، وقد علم بالاختبار أن من أشد العبث ضررًا وأعمق الغرور غورًا أن يحاول المرء تعليم الغير أو إقناع السوى دون تعليم النفس وإقناعها بالرأي الصائب والفكرة الحق، حتى بدأنا تلك السلسلة الجديدة التي ننشرها إحياءً للثقافة العامة بادئين بسيرة الرسول ومنتهين بتاريخ الأمم الإسلامية. ومن أغنى الأمور عن البيان وأبعدها عن الحاجة إلى برهان أن الباحث لا يحاول الانتقاص بحالٍ من الأحوال من قدر ما سبق نشره من التآليف والتراجم في أية لغة وبقلم أي كاتب؛ لأن هذه الفكرة بعيدة كل البعد عن مبدأ العلماء وخططهم، بل بعيدة البعد كله عن مبدأ البحث العلمي الذي أساسه احترام الآراء، وتقديس الحرية وتقدير الأعمال؛ فإن أخبث الناس من يبخس الناس أشياءهم، أو يقلل من قيمة جهود الغير ليعظم من جهده، بل يجب الإقرار بفضل السابقين، ولا سيما المخلصين منهم والأقوياء الذين جمعوا بين مؤهلات الذكاء وخصال الصبر على الدرس لاستخلاص البياض من السواد، والحق من الباطل، والصدق من الكذب، والتاريخ الصحيح من الأساطير.

نقول «ما سبق نشره»، ولا نقولها عبثًا إنما نقصد إلى كل ما تحمله تلك الكلمة من المعاني، وما تحمله من المدلولات؛ فقد كان للكاتب أثر السبق في إعداد أطروحة الدكتوراه في الحقوق، وموضوعها «دستور المدينة»، وهو بحث من أخص بحوث الترجمة النبوية من ناحية التشريع السماوي، والتقنين الأرضي، وإن يكن كُتاب العرب قد مروا به مغمضين لحداثة عهدهم بالبحوث القانونية٤ والاجتماعية حتى ليدهش الناقد الحديث من سلامة نياتهم لدى إسراعهم في التنقل من فترةٍ إلى فترة، في حين أن كل فترة حبلى بالمواقف الكبرى التي هزت العالم هزًّا، وطالما أفاضوا وأسهبوا حتى أملوا في تفصيل خرافة أو سرد أسطورة أو فكرة مدسوسة، وأوجزوا واختصروا وقصروا حتى أخلوا في ذكر أمر ذي بال، فكأنهم فقدوا — وا أسفاه — تصور التناسب الذي لا بد أن يشمل الأعمال الأدبية والفنية لتظهر بمظهرها اللائق بحذق الكاتب أو مهارة الصانع وقوة المفتن؛ فليس الإبداع في الأدب والفن سوى مراعاة وتناسب، والكتاب كالصورة والتمثال واللحن لا يستحق التقدير الذي يورثه الخلود إلا إذا تناسبت أجزاؤه كالجسم الإنساني لا يُحسب على الجمال إلا باستكمال هذه الصفة ما يقرب منها. ولكن لهؤلاء الكُتاب والمؤرخين من السابقين والقدامى أو اللاحقين المتساهلين عذرهم؛ فإن القراءة وسعة الاطلاع، وتكديس المواد شيء، والفحص والغربلة والاختيار والتمييز والتكوين على النسق الأكمل شيء آخر، ولكن بعض كُتاب الإفرنج لم يقعوا فيما وقع فيه كُتاب العرب؛ لاختلاف الزمان والمكان، وتمتُّعهم بالحرية في الكتابة، وامتلاكهم ناصية طريقة الدرس والبحث أو الميتودة Mêthode٥ الشهيرة عند الألمان، والمنقولة عنهم إلى بقية الأمم الناطقة بالثاء كالإنكليز، والراء كالفرنسيين، والخاء كالتيوتون، وأخيرًا الناطقين بالضاد.

لعل بعض الكتب الطيبة في حياة محمد التي نُشرت في هذا العقد لم تكن فكرتها قد ولدت في أذهان أربابها عندما كان «بوله» عالم الدانمارك قد سلخ عشر سنين أو أكثر في دراسته، ولعل بعضها كان وليد حالة نفسية طارئة، ولكنها محمودة الأثر، ولعل بعضها كان ثمرة إيحاءة من كتاب شرقي أو غربي ظهر حديثًا؛ وإنه — لعمرك — من بضاعتنا التي رُدت إلينا، ولكن صنعة الاختصار والتبويب وحسن التقديم وبراعة السبك قد نفت عنه الزغل. ولعل رغبة المنافسة والتسامي قد أوعزتا إلى غير هذا وذاك؛ فلنشكر لهذا وذاك، ولنفرح بهما ونغتبط بكتبهما؛ لأن المورد العذب كثير الزحام، وأي مورد أعذب من مورد ابن مكة، وضيف المدينة، ثم فاتح الأولى، وسيد الثانية، بل سيد العالم كله، ولا نقول سيد الأكوان؛ لأن هذا ليس المقام الذي يقال فيه هذا القول.

وقد كان موقفنا كلما بدا نور أحد الكتب الإسلامية موقف المستبشر بنور الهلال قبيل التمام، حين أن كُتاب الإفرنج لم يقف لهم دولاب؛ فقد أخرج في صيف هذا العام (١٩٣٩) المستشرق العلامة الأستاذ كارل بروكلمان في مطابع مونشن بألمانيا كتابًا ضخمًا عنوانه «تاريخ الشعوب الإسلامية ودولها» في أجزاء عدة:

Der Islamischen Voelker und Staaten Geschichte.
تناول فيه البحوث الآتية:
  • (١)

    العرب والدولة العربية، الجزيرة قبل الإسلام، النبي محمد ، الخلفاء الراشدون، الأمويون.

  • (٢)

    الدولة الإسلامية.

  • (٣)

    العثمانيون والإسلام.

  • (٤)

    الإسلام في القرن التاسع عشر.

  • (٥)

    حال الدول الإسلامية بعد الحرب الكبرى.

والبحث الأول من هذه البحوث الخمسة هو الذي يهمنا، ولكن الكتاب لم يصل بعدُ إلى أيدي الباحثين في مصر، وترجع أهميته إلى أنه أحدث البحوث وأتمها، وإليك ما كتبه إلينا أحدث طلاب العلم من المصريين منذ عشر سنوات:

لفتت حياة النبي محمد نظري منذ صباي؛ إذ كنت أسمع سيرته تُتلى في مولده الشريف ترتيلًا وترنيمًا، فأُعجبت به وعشقته بطلًا وقدَّسته نبيًّا واتبعته رسولًا هاديًا، ولكنني شعرت أنه شخصية محفوفة بالتقديس الذي قد يمنع قراءة تاريخ حياته. عندما بدأت أقرأ تواريخ الرجال العظماء شعرت بأنني على الرغم من حبي إياه وتعلقي به لن أستطيع أن أقف على تفاصيل حياته، وأنني لن أستطيع أن أشفيَ غلتي بالإلمام بكل صغيرةٍ وكبيرةٍ من أقواله وأفعاله، وحوادثه وأعماله خاصةً وعامةً، ذلك الإلمام الذي يصور لعين نفسي كائنًا حيًّا يتكلم ويعمل ويضحك ويبكي ويأمر وينهى ويروح ويغدو، ويكون حكمه في ذلك كله حكم العظماء الذين بدأتُ أقرأ أخبارهم في القصص والتواريخ، غير أن جو القداسة والغموض أرهبني وأوهمني بأنني لن أنال هذه الأمنية، وأقصد بالقداسة والغموض إلى الإرهاصات والعجائب التي سبقت مولده الشريف وصحبت طفولته ونشأته، كالتبشير به ونزول الملائكة وتظليل الغمام، وتهدم قصر كسرى وظهور الأنوار الباهرة في المكان الذي وُلد فيه وانتشار علامات الفرح في السماء والأرض؛ كل تلك كانت تخالف ظروف المواليد الآخرين … حتى الذين صاروا في رجولتهم أبطال العالم أمثال الإسكندر الأكبر ونابوليون بونابرت، أو زعماء العلم والحكمة أمثال سقراط وأفلاطون … وإذنْ أيقنت في نفسي أن لهذا الرجل شأنًا خاصًّا يختلف عن شئون غيره من الرجال، وكنت في هذه الفترة نفسها متعطشًا للتلقي والمعرفة، أسمع القرآن وأدرك بعض معانيه القريبة وأفطن إلى الأعلام وبعض الحوادث الموصوفة بوضوحٍ في السور؛ فأسمع أسماء موسى ويوسف وإبراهيم وعيسى بن مريم ونوح وزكريا ويحيى وهود وصالح، وأفهم من سياق التلاوة أنهم أنبياء ولكلٍّ منهم سيرة طويلة، تتخللها وقائع عجيبة وأخرى عادية.

أما محمد ، أما ذلك البطل الذي سمعت قصته في ليالي مولده فلم يُذكر باسمه إلا مرات معدودة.

مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللهِ ومَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ.

سمعتهما عرضًا بدون تلميح بواقعة ولا تصريح بحادثة من الحوادث العجيبة التي تخللت حياته كما ورد في قصة يوسف ومولد موسى وإلقائه في اليم، ونار إبراهيم وحوت يونس وسفينة نوح ومعجزات عيسى … كل هذه الأحداث الخارقة للعادة مصورة في القرآن تصويرًا ملونًا يترك أثرًا عميقًا في نفس الطفل الذي كنتُه … ولم أكن قد تطلعتْ نفسي لقراءة القرآن وفهمه على حقيقته لإدراك كل ما ورد في حق الرسول من الآيات البينات، اللهم إلا جزء عم وجزء تبارك … فكان علينا أن نحفظهما عن ظهر قلب لنؤديَ فيهما امتحانًا. أما المعاني، أما التفسير، أما الفهم المباشر من النصوص … التي كنا نُلزم بحفظها فمحرمة؛ لأنه لم يَئِنْ أوانُه، ولأن علمنا قاصر، ولأننا لا نملك الأدوات التي يملكها علماء التفسير … هكذا قال لي الشيخ عبد العزيز خليل أول أساتذتي في العربية والقرآن الكريم … والآن تجدني أتحسر أشد الحسرة على أنه لم يشرح لنا على الأقل سورة «اقرأ باسم ربك» التي كانت ضمن محفوظنا، ليقول لنا: إنها أول ما نزل من القرآن، وليست فاتحة الكتاب أوله، وليشير إلى الوحي ومعناه ومرماه ومقصده، ولو من طرفٍ خفي؛ إذنْ كنا ننجو (ولو إلى حين) من الحيرة التي لحقتنا، بَيْدَ أن هذا الحرمان المؤقت لم يكن ليمنعني عن انتهاز الفرصة للاستزادة من تاريخ محمد ، ولكن أين الكتاب الذي يشفي غلتي دون أن يصدم منطق الفتوة الثائرة، ويناقض معقولية اليافع المتطلع؟! فهداني أستاذي إلى سيرة ابن هشام والسيرة الحلبية … ورق نباتي، هوامش وحواشٍ، قطع كبير، ملازم ملصوقة لا تلبث أن تتناولها بيدك حتى تتفكك، غلاف أحمر، لون بعيد عن جلال الموضوع، دليل على غلظة في ذوق الناشر والمجلد، ولكن شوقي إلى لب الكتاب تغلب على حاسة الجمال التي تحتم على أن يكون الكتاب على صورة أخرى غير هذه الصورة السوقية، ولا أقول الحوشية، بعد أن تعودنا أن نقرأ الكتب الأجنبية الأنيقة في حجمها وطبعها وورقها وتجليدها!٦
ولكن ألم أقرأ كتاب العقد الفريد لابن عبد ربه وفصولًا من مقدمة ابن خلدون «لأتقوى في الكتابة» كما قال الأستاذ، إذنْ فلأحاول قراءة «السيرة»؛ لأنها أصبحت عَلمًا على تاريخ محمد ؛ فلا سيرة إلا سيرته، وقد بدأت فعلًا، بقلبٍ متلهف وعقلٍ يتفتح ويزدهر، ولكن وا أسفى! لقد غرقت في بحرٍ من النثر المسجوع والشعر المصنوع لمقتضى الحال، والاستطراد الذي لا يُعرف أوله من آخره، والذي يشتت شمل الذهن، ويقطع سلاسل التفكير، وينقل العقل من وديان الاسترسال والتتبع للحقائق إلى جبال الأخيلة والأوهام، ومن ميادين الحقائق المعقولة إلى مضايق الأساطير المخالفة لكل معقولٍ ومنقول، والتي مُزجت بالحقائق مزجًا يضيع معالم الحقائق ويجعلها أثرًا بعد عين، ويخلط الحابل بالنابل والتاريخ بالخرافة. والعجيب في الأمر أن هؤلاء المؤلفين يحيطون تلك الأساطير بجوٍّ من التقديس؛ بحيث يُخَيَّل إليك أنها من الاحترام بمكان لا يتطاول إليه النقد، ولا يطمع إلى تناوله الفحص والتمحيص؛٧ وهكذا شيئًا فشيئًا وصفحةً فصفحة بل جملةً فجملة يفقد القارئ ثقته في المؤلف، ويشعر بخيبة الرجاء في الكتاب، ويندم على ما قضاه من الوقت في تصفُّحه وتقليب أجفانه في أوراقه الصفراء الباهتة، وأحرفه المضعضعة وهوامشه المكتظة المزدحمة التي كأنها — لكثرة ما حشد فيها من حروفٍ وكلمات — صفوف أقزام متراصة في رتل ضيق العطن يقصد بسيره مائلًا (وهكذا يكون دائمًا وضع الهوامش واتجاهها) إلى ميدان القتال.

انتهى ما كتبه إليَّ أحد طلاب العلم منذ عشر سنوات.

هذه حال القارئ المشوق المتطلع في مقتبل العمر، وهي صورة وفق الحقيقة لا مبالغة فيها ولا إغراق.

لقد حاول المؤرخون من العرب وغيرهم درس سيرة محمد، بسرد حوادث حياته جافة مجردة عن التعليل والتفسير، وكان همُّ المسلمين منهم إثبات الوقائع بالرواية عن شهود الرؤية والسماع على طريقة علم مصطلح الحديث. وكان أولهم وأشهرهم ابن إسحاق الذي فُقدت مخطوطة سيرته بعد أن نقل معظمها ابن هشام، وإن كان بعض الأئمة قد وصفه بالدجل (تعليق الحلبية على ملحوظة الإمام مالك)، وجرى كل كُتاب السير بعده على خطة عقيمة؛ هي قبول كل ما يظنونه مؤيدًا للرسالة وردُّ ما دون بغير تمحيص، وحتى دراسة تراجم الأشخاص الذين عاشروه وأحاطوا به سواء كانوا أهلًا أم أزواجًا أم صحابة، قد اتبع مؤرخو الإسلام فيها تلك الخطة نفسها، واعتبروا الوقائع أمورًا مقدسة لا يجوز مسها إلا في حدود القداسة.٨
ولكن المؤرخ الحديث يعلم أن القارئ المعاصر يحتاج إلى تفهُّم الأشياء على طريقةٍ أخرى، تحتاج إلى درس حياة النبي لا من جهة الوقائع وحدها؛ لأن الوقائع كانت مظاهر لأمور عميقة متغلغلة في نفوس الجماعات والأفراد، نحتاج إلى درس حياته بوصفه رجلًا مجردًا عن مظاهر القداسة المسلَّم بها، رجلًا ذا عقلٍ وقلبٍ وخلق، على طريقة تحليلية تضمن لنا إدراك حقيقته كما كان إنسانًا وفردًا عربيًّا نشأ وترعرع في بيئة معينة وفي زمنٍ معلوم، وعاش عيشةً خاصة طفلًا ويافعًا، ومفكرًا في الدار ومتحنثًا في الغار، ومجاهدًا في ميدان الحرب ومنظمًا في الدولة التي أسسها، نريد أن ندخله في حوزة التاريخ الإنساني إنسانًا شاعرًا بوجوده مفكرًا بعقله منقادًا أولًا بالوحي الإلهي ثم بعواطفه وروحه كما يدرس أبطال التاريخ وعظماء الأمم، نريد أن نتخلص هنيهة من قيود العقيدة الراسخة التي تعيرنا أداة معظِّمة للنظر آنًا وآنًا نستبدل المجهر بها؛ لأن حياته أجدر بالفحص على هذه الطريقة التحقيقية منها بأية طريقة أخرى، ولأن كثيرًا من أعماله وأقواله تُشعر بأنه كان ينقاد إلى عقله وتدبيره وفكره، بل وأفكار غيره على الرغم من إيماننا بنسبة كل أعماله العظمى إلى العناية الربانية والقوة الكبرى المسيطرة على نفسه وعلى العالم. وإننا باتباع تلك الطريقة جهد الطاقة نرى وضوحًا وجلاءً وضوءًا أكثر مما نرى في طريقة التقييد والتعليل بأسبابٍ مستورة أو تقليدية؛ لأن حياة محمد لم تكن غامضة ولم تكن تكتنفها أسرار ولا خفاء، بل كانت حياة بلورية مكشوفة، وقد أراد أن تكون جميع أقواله وأفعاله سننًا يتتبعها أهل عقيدته، ولأنه نجح في تربيته فيلقًا من الرجال والنساء جعلهم مستودع أفكاره وأعماله وأقواله، وأمر قومه بتقليدهم وتوقيرهم والسير على خططهم؛ لأنها خططه التي أرادها والتي رأى أنها أصلح النظم للحياة الإنسانية في كل زمانٍ ومكان.٩

كان محمد رجلًا يروح ويجيء بين قومه وقد انطوى في صدره عالم كبير من المعاني السامية والمثل العليا للحياة ومكارم الأخلاق، لم يفهمها في بداية الأمر قومه الجفاة الغلاظ الأكباد؛ هذا لأن أكثر ما يكون المصلح في أول أمره جهادًا وحيرةً وصبرًا وشفقةً على قومه وعفوًا عن ذنوبهم، حتى تلك الجرائم التي كانوا يقترفونها ضد شخصه كان يغفرها لهم، ويحملها على جهلهم، وفي كثيرٍ من الأحوال كان يدعو لهم بخير، وهو أجدر الناس علمًا بأن الناس أعداء ما جهلوا، وأعداء من يريد خيرهم؛ فكانت غايته الأولى والأخيرة تعليمهم وترشيدهم والخروج بهم من ظلام المادة إلى نور الروح، ومن موت الجهالة إلى حياة المعرفة.

•••

إذا نظرنا إلى الجماعات الفطرية وجدناها تُحس الخوف من الطبيعة فتخشى مظاهرها وظواهرها حينًا، وحينًا تتوهم معاداة الطبيعة فتستعد للحروب في كل لحظة، وتأخذ أهبتها المادية لمقاومة أحداث الحياة، وينشأ في تلك الجماعات زعماء وسادة من أهل العبقرية والنبوغ يكونون أقوى أفراد جماعتهم تمثيلًا لها ولمقوماتها وأشدهم تعبيرًا عن إحساسهم في دور اليقظة المادية فتراهم أشد أفراد هذه الجماعات حذرًا على أنفسهم وعليها، وأقوى انتباهًا للخطر إذا أقبل، وللشدائد إذا ادلهمَّت وللأزمات إذا اشتدت، وأقوى جماعتهم مقاومةً للطوارئ واقتدارًا على قهرها والتغلب عليها، وهم إلى جنب هذا أكثر الأفراد في المجتمع الذي نَشَئوا فيه استكمالًا للمميزات الملحوظة فيه حتى لا يكون الزعيم منهم عرضةً للاعتداء من أحد أفراد شعبه، فإذا كان من مميزات جماعة أحدهم إصابة المرمى وجب على الزعيم أن يكون أحسنهم رماية، وإذا كان من مميزات إحدى الجماعات الفصاحة وجب على الزعيم أن يكون أفصحهم إلى جانب ما امتاز به بقية الأفراد من القوة البدنية والشجاعة والجلد.١٠

فإذا تركنا البيئات الفطرية رأينا هذه النظرية تصدق في كل الحالات بقدر ما تتسع لها هذه البيئات أو تضيق، ونحن بصدر زعامة للجنس البشري كله، وهي زعامة الأنبياء والرسل الذين فاضوا بالهدى على الخلق جميعًا، وهؤلاء تخلد زعامتهم بعد ذهابهم عن هذه الحياة.

وهناك زعامة لجنسٍ من الأجناس البشرية كزعامة إبراهيم خليل الرحمن وموسى — عليهما الصلاة والسلام — للجنس السامي، ولا سيما بني إسرائيل. وزعامة محمد للجنس الإنساني منذ بعثته إلى آخر الدهر!

وعلى هذا كانت أغلى الزعامات وأعلاها هي أندرها. ولا بد أن تكون أشدها مطابقةً لنظم الطبيعة العامة الثابتة ومراعاة تطورها وارتقائها، وهذه الزعامة لم تتحقق على أكمل الوجوه وأشمل الطرائق وأتم الوسائل إلا في حالةٍ واحدة؛ هي زعامة النبي محمد عليه الصلاة والسلام.

١  لقد تفتحت الأذهان الإسلامية في الثلث الأول من هذا القرن تفتحًا عظيمًا.
٢  إن حديثنا في هذه السلسلة الثقافية موجَّه إلى الخاصة والشباب المثقف الذين عليهم ربط الماضي بالمستقبل.
٣  جعلنا لكل فصل من فصول هذا الكتاب ملحقًا وفهارسَ توضح المقارنة بين الكتب.
٤  تعيين هذه الأطروحة Thése كان بموافقة الأستاذ إدوارد لامبير بجامعة ليون سنة ١٩١١.
٥  امتاز المستشرقون المنصفون بالانتباه والصبر وحسن التخريج، وليست هذه بالقليل!
٦  لا يزال شكل الكتاب العربي مناقضًا للجمال والفن، ولا سيما في مصر.
٧  وصف الكاتب الفتى في رسالة إلى المؤلف حالته النفسية في شبابه.
٨  انظر كتاب «الشفا في حقوق المصطفى» للقاضي عياض الأندلسي من أعلام القرن السادس الهجري طبع الأستانة ١٣١٢ﻫ.
٩  أصحابي كالنجوم، بأيهم اقتديتم اهتديتم.
١٠  من أقدم النظريات لتعليل المعجزات كونها من نوع ما تميز به الأمم المبعوث لها. انظر ص٢٢٦، من كتاب الإمام الحافظ أبي الفضل عياض الأندلسي.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤