المفاوضة بين أبرهة الأشرم وعبد المطلب

أرسل أبرهة مفاوضًا يمنيًّا — هو حناطة الحميري — يحمل إلى قريش بمكة الرسالة الآتية:

«إن الملك يقول لكم: إني لم آتِ لحربكم، إنما جئت لهدم هذا البيت، فإن لم تعرضوا لي بقتال فلا حاجة لي بدمائكم!»١

ألم يكن في هدم الكعبة سبب للحرب! ولكنه استضعفهم وظن أن لن يعترضوه حتى ينال بغيته، ثم قال لرسوله: «فإن لم يرد زعيم القوم حربي فأتني به …» ولا نريد مواقف الذل لعبد المطلب بن هاشم الذي ادخرته الأيام، ولكن مؤرخي العرب يقدمون المقدمات ويستهينون بالمبادئ والمقامات ليطلقوا كلمة عبد المطلب الدالة على ثقته برب الكعبة! ويرون في هذه الكلمة — إن صحت الرواية — مبررًا لكل ألوان الخضوع والمذلة. وشيئًا آخر أرادوه؛ أن يكون كبير قريش وسيدها وممثلها لدى الغزاة. كان عبد المطلب من أعقل أهل مكة ومن زعماء دار الندوة، ولعله كان أشبه الناس بشيوخ أثينا أو رومة هيبةً ووقارًا، وهو بعدُ طويل القامة ذو قسامة ووسامة وحسن هندام، فكان لعبد المطلب عند مدخله على أبرهة الأثر المرتقب، فأُعجب به وأحبه وقرَّبه، وكان جواب عبد المطلب لحناطة الحميري الوزير المفوض اليمني:

«والله ما نريد حربه، وما لنا بذلك من طاقة! هذا بيت الله وبيت إبراهيم خليله، فإن يمنعه فهو بيته وحرمه، وإن يخل بين العدو وبينه فوالله ما عندنا دفع عنه …»

هذا الاستسلام والتواكل المطلق وإعلان العجز الحربي والضعف الوطني، هي التي تعجب مؤرخي العرب، فيتحمسون لقوله: «فإن يمنعه فهو بيته … فوالله ما عندنا دفع عنه.» ويرون في هذه الصيغة الخانقة منتهى التوكل على الله والتسليم له وتفويض الأمر إليه! مع أن هؤلاء المؤرخين يعلمون أن أصحاب الكعبة كانوا مشركين والكعبة مخدع الأوثان، وما يلحقون هذا التعظيم بعبد المطلب إلا لأنه جد النبي فينبغي أن يكون كلامه مقدسًا ودعوته مجابة. ولكن هذا الرد لم يكن يرضى به محمد لو سمعه؛ لأن دين الإسلام الذي بُعث به حفيد عبد المطلب لن يكون دين استسلام وتواكل، بل شعاره «أعدوا لهم ما استطعتم من قوة.» وإذنْ دعا حناطة صاحبنا أبا الحارث للقاء أبرهة، فانطلق ومعه بعض بنيه حتى أتوا المعسكر فتركوه يخالط الأسرى ليرى عاقبة الذين يقاومون الفاتح، فاجتمع بذي نفر المجاهد الأول في سبيل الوطن والدين الوثني — وكان حميمًا لعبد المطلب — فدخل عليه في محبسه ودار بينهما الحديث الآتي:

عبد المطلب : يا ذا نفر، هل عندك من غناء فيما نزل بنا؟
ذو نفر : وما غناء رجل أسير في يد ملك ينتظر أن يقتله بكرة أو عشية؟! ما عندي غناء في شيء مما نزل بك إلا أن أنيسًا سائق الفيل صديق لي، فسأرسل إليه فأوصيه بك وأعظم عليه حقك وأسأله أن يستأذن لك على الملك وتكلمه فيما بدا لك ويشفع لك عنده بخير إن قدر على ذلك. وأنيس هذا هو الذي يركب الفيل المعد لمهاجمة الكعبة وهدمها.
عبد المطلب : حسبي ذلك يا ذا نفر.

ويظهر أن الصفة التي كان عبد المطلب مشهورًا بها هي أنه «صاحب عير مكة»؛ أي صاحب الإبل التي تحمل الميرة، كمدير إحدى شركات النقل في العصر الحديث. فقدَّمه أنيس صاحب الفيل إلى مولاه أبرهة فأذن له، فلما رآه أبرهة — وهو على ما وصفنا من الوسامة والعظمة والجلال — نزل عن سريره وجلس على بساطه وأجلس عبد المطلب معه ودار بينهما الحوار الآتي على لسان الترجمان.

أبرهة : ما حاجتك؟
عبد المطلب : حاجتي أن يرد الملك عليَّ مائتي بعير أصابها لي.
أبرهة : قد كنت أعجبتني حين رأيتك، ثم قد زهدت فيك حين كلمتني! تكلمني في مائتي بعير أصبتها لك وتترك بيتًا هو دينك ودين آبائك وقد جئت لهدمه فلا تكلمني فيه؟!
عبد المطلب : إني أنا رب إبلي، وإن للبيت ربًّا سيمنعه. أبرهة: ما كان ليمتنع مني!
عبد المطلب : أنت وذاك (أي أنت وشأنك).

وإذن لم يكن لجواب عبد المطلب الأثر المنتظر في ذهن أبرهة، بل قال: «ما كان ليمتنع مني!» كما قال سنخريب لوفد اليهود مستهزئًا بياهوفا. فكافأ عبد المطلب على جماله ووقاره وفخامة مظهره برد الإبل التي كانت أصابتها طلائع جيشه. وكان عبد المطلب على رأس وفد من زعماء العرب منهم يعمر بن نفاثة بن عدي سيد بني بكر، وخويلد بن وائلة الهذلي سيد هذيل، وإنهم عرضوا عليه ثلث أموال تهامة على أن يرجع عنهم ولا يهدم البيت فأبى عليهم. وعادوا إلى قريش وأخبروهم بحبوط المسعى وأمروهم بالخروج من مكة والتحرز في شعب الجبال خوفًا عليهم من معركة الجيش، مع أن أبرهة قال لهم: إنه لا يقصد محاربة القوم. ودعا أبو طالب بباب الكعبة طالبًا من رب البيت أن يدفع عنه.

١  جعل قانون الاجتماع مسالك الأمم والغزاة متشابهة في كل الأزمان، فما أقرب رسالة أبرهة مما يقال الآن!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤