التبشير بالرسول من طفولته إلى نبوته

كانت الأخبار والبشائر عن نبي المستقبل تصدر عن أحبار اليهود ورهبان النصارى وكهان العرب. وقد قيل إن أخبار الأحبار والرهبان عن صفته وزمانه كانت في كتبهم، وأما الكهان من العرب فجاءتهم به الشياطين فيما استرَقَته من السمع من السماء، أما أحبار اليهود فمنهم يوسف الذي ذكرته السير، وهو الذي أغمي عليه لدى رؤية خاتم النبوة! ومنهم يهودي من بني الأشهل، وثالث من أهل تيماء — وهي قرية بين المدينة والشام — ومنهم يهودي من أهل الشام اسمه ابن الهيبان قال: «إنه يُبعث بسفك الدماء وبسبي الذراري والنساء ممن خالفه فلا يمنعكم ذلك منه.» وإذنْ كان بعض اليهود يحذرونه ويخشَوْن بعثته، وبعضهم يحسده ويندب حظ إسرائيل لفقْد النبوة منهم، وفريق ثالث يبشر به ويحب أن يتبعه ويوصي به، ومنهم يهودي من اليمن غير الذي تنبأ لعبد المطلب بالملك والنبوة، فكان ذلك سببًا في مصاهرته بني زهرة، ومعظم الأحبار والرهبان نكرات، لم تُذكر أسماؤهم أو ذُكرت في صيغة الشك والتردد، وقد تُذكر مواطنهم أو جيرتهم.

وللمرة الأولى يُذكر أمية بن أبي الصلت الذي كان من المنافسين في النبوة؛ لأنه كان يترقبها لنفسه؛ فقد قيل إنه روى لأبي سفيان ما يأتي:

إني لأجد في الكتب صفة نبي يُبعث في بلادنا، فكنت أظن أني هو، وكنت أتحدث بذلك، ثم ظهر لي أنه من بني عبد مناف، فنظرت فلم أجد فيهم من هو متصف بأخلاقه سوى عتبة بن ربيعة إلا أنه قد جاوز الأربعين ولم يوحَ إليه، فعرفت أنه غيره.

قال أبو سفيان: «فلما بُعث محمد قلت لأمية، فقال أمية: أما إنه حق فاتَّبِعه. فقلت له: وأنت؛ ما يمنعك؟ قال: الحياء من نساء ثقيف؛ لأني كنت أخبرهن أني هو، ثم أصير تبعًا لفتًى من بني عبد مناف!» والمأثور أن هذا الشاعر المتنسك الذي لم يَشُبْهُ سوى الحسد والكبرياء هاجر وانزوى إلى أن قضى.

ثم ذكروا ملك الروم (؟) في الشام في رواية حكيم بن حزام؛ فقد زعم حكيم أن ملك الروم (ولعله حاكم روماني على الشام من قِبل رومة) أمر بكشف ستور في قصره، فإذا صور رجال كثيرة بينها صورة رجل قال ملك الروم لحكيم ومن معه من العرب: «أتعرفون من هذه صورته؟» فقالوا (أي حكيم بن حزام ومن معه): هذه صورة محمد بن عبد الله صاحبنا. فقال لهم: «إنها مصورة منذ أكثر من ١٠٠٠ سنة (أي قبل المسيح بأربعة قرون!) وإن صاحبكم لنبي مرسل فاتبعوه، ولوددت أني عبده، فأشرب ما يغسل من قدميه.» وهذا الخبر على أهميته؛ لوروده على لسان حاكم أجنبي، ولأنه معزز بدليل مادي وهو صورة النبي وصور غيره من مشاهير العالم، إلا أننا لم نرَ هذه الرواية في غير السيرة الحلبية، ولم يذكرها أحد ممن كانوا مع حكيم في الشام. وكان حكيم هذا ابن أخي خديجة بنت خويلد؛ فهو صهر محمد وقد وُلد في الكعبة، وكان من أشراف قريش في الجاهلية والإسلام، ولم يُسلم إلا بعد الفتح، وشهد بدرًا مع أعداء محمد، ونجا منهزمًا، فكان إذا اجتهد في اليمين قال: «والذي نجاني يوم بدر.» وكانت بيده دار الندوة، فباعها من معاوية بمائة ألف درهم، فقال له الزبير وهو ابن عمه: بعتَ مكرمة قريش؟!

فقال حكيم: ذهبت المكارم إلا التقوى. وتصدق بثمنها. وظاهر من رواية ابن الأثير في أسد الغابة أن الرجل كان ثقة وكان تقيًّا، ولكن ابن الأثير الذي ترجم له بإسهاب لم يذكر حديث الصورة التي ما رويناها إلا لغرابتها (انظر ترجمة حكيم في ج٢، أسد الغابة).

ونسبوا إلى سلمان الفارسي أنه سمع أحد رهبان النصارى يقول: «يا سلمان، إن الله سوف يبعث رسولًا اسمه أحمد يخرج من جبال تهامة، علامته أن يَقبلَ الهدية ولا يأكل الصدقة، بين كتفيه خاتم النبوة، وهذا زمانه، فصدِّقه واتبِعه، وإن أمرك بترك دينك (النصرانية) فاتركه!» وهو الخاتم الذي رآه حبر اليهود فأغمي عليه!

وهذا الخبر غريب على لسان سلمان — المصدر ثقة — والخبر ضعيف مثل خبر حكيم بن حزام. أما المصدر الثاني للبشريات فهو الكهان، وسوف نذكر معظم أخبارهم، ولكنَّ هناك رجلًا ذكر العربُ أنه كان حكيمًا وتقيًّا في الطليعة، رآه النبي وسمع مواعظه وخُطبه في سوق عكاظ، وهو قس بن ساعدة الإيادي؛ (نسبة إلى قبيلة إياد)، كان يمتطي جملًا أحمرَ، جعل منه منبرًا متنقلًا، وحفظ بعض الصحابة خطبته، وروى النبي كليمات منها، وفي رواية أن محمدًا قال لجارود وهو يروي بعض أخبار قس: «على رسلك يا جارود، فلست أنساه بسوق عكاظ على جمل أورق وهو يتكلم بكلامٍ ما أظن أني أحفظه الآن.» أما الخطبة فهي الشهيرة، وهي التي براعة استهلالها: «أيها الناس، اسمعوا وَعُوا، وإذا وعيتم فانتفعوا!» ومنها مما نُسب إليه: «إن لله دينًا هو أحب إليه من دينكم الذي أنتم عليه، ونبيًّا قد حان حينه وأظلكم زمانه، فطوبى لمن آمن به فهداه، وويل لمن خالفه فعصاه.» كما نُسب إليه: «كلا، بل هو الواحد المعبود ليس بوالد ولا مولود.» وهو كلام غريب على لسان أسقف نجران!

وفي بعض كلامه ما يشبه نظم القرآن، تعالى الله علوًّا كبيرًا عن التقليد «أين من بغى وطغى، وجمع فادعى، وقال أنا ربكم الأعلى؟!»

ونحن نقبل كلام قس في الوعظ، ونتردد في تبشيره بنبي جديد؛ لأن المنسوب إليه كان واضحًا وضوحًا يدعو إلى الدهش؛ كقوله: «سيأتيكم حق من هذا الوجه (وأشار بيده نحو مكة) رجل أبلج أحور من ولد لؤي بن غالب يدعوكم إلى كلمة الإخلاص وعيش ونعيم لا ينفدان، فإذا دعاكم فأجيبوه، ولو علمت أني أعيش إلى مبعثه لكنت أول من يسعى إليه.» ولكن قسًّا لم يدركه.

ومن قبيل قس، سواد بن قارب الذي كان يتكهن في الجاهلية، وكان شاعرًا، ثم أسلم؛ فقد رآه عمر بن الخطاب وقال له: «أنت الذي أتاك رئيك (رائيك) بظهور النبي؟» قال: نعم. قال عمر: فأنت على ما كنت عليه من كهانتك؟

سواد (غاضبًا): ما استقبلني بهذا أحد منذ أسلمت يا أمير المؤمنين!

فقال عمر محتدًّا: سبحان الله! ما كنا عليه من الشرك أعظم مما كنت عليه من كهانتك! وعمر بصراحته وحدته في هذه الكلمة!

ومن الكاهنات غير من ذكرنا حطيمة، وكانت كاهنة بالمدينة، جاءها تابعها من الجن فوقف على جدارها فقالت له: ما لك لا تدخل تحدثنا ونحدثك؟! فأجابها عفريتها: إنه بُعث بمكة نبي يحرم الزنا!

ولا ندري العلاقة بين الكاهنة والتابع، فهل كانت بينهما مخادنة؟!١

ثم بالغ بعض المؤرخين فذكروا أن الدواب والأشجار تكلمت وبشرت بالنبي، حتى الأصنام نظمت شعرًا ينبئ بظهور محمد !

ويستوقفنا بعض ما ورد على لسان حبر أو راهب؛ لأننا نجد في القرآن نصًّا يؤيد فكرة التبشير بنبي جديد يأتي بكتاب منزَّل. كان أهل الكتاب يتحدثون بها وينتظرون ظهور نبي لينقذهم، فلما جاءهم كذَّبوه وأعرضوا عنه وحاربوه. وإليك النص الكريم: وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِّنْ عِندِ اللهِ مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُم مَّا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ ۚ فَلَعْنَةُ اللهِ عَلَى الْكَافِرِينَ (سورة البقرة الآية ٨٩).

وتؤيد هذه الآية آية أخرى في سورة الأعراف: الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ ۚ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ ۙ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ.٢

وهاتان الآيتان تدلان على أن أهل الكتاب — ولا سيما اليهود منهم — كانوا إذا نال منهم العرب في وثنيتهم قالوا لهم: «قد تقارب زمان نبي يُبعث الآن! يقتلكم قتل استئصال.» وهم يظنون أن هذا النبي يظهر في إسرائيل، فلا يحتاجون إلى تغيير عقيدتهم في اتباعه! وكذلك رهبان النصارى كانوا ينتظرون مخلِّصًا وبشيرًا اسمه المواسي البيراقليط أو كثير الحمد «إيفادوكيا» واسم النبي «محمد وأحمد ومحمود» ويظنون أن النبي الجديد يظهر فيهم وعلى عقيدتهم فلا يحتاجون في طاعته إلى تغيير حياتهم!

فكل قوم في جزيرة العرب كانوا ينتظرون منقذًا ومخلِّصًا ما عدا عرب قريش وأهل مكة المشركين الوثنيين! فظهر النبي الجديد، ولكنه ظهر في هؤلاء الذين لا يرغبون فيه ولا يريدونه ولا يشعرون بحاجة إليه! وجاء بشريعة جديدة تحرِّم كثيرًا مما كان أهل الكتاب وعبَّاد الأصنام يستبيحونه لأنفسهم، فنظرت تلك الطوائف إليه بعين القلق والبغضاء؛ كالجيش الذي يترقب معينًا، فيبرز له جيش الأعداء! إنه لجيش حقًّا، ولكنه خصم لدود! هذا الرأي أساس البشريات ومصدر القصص، وتفسيرها في الآيتين الكريمتين اللتين اقتبسناهما.

١  هذه القصة أعمق مما يبدو من ظاهرها؛ فما زال العرب يزعمون حدوث الزواج والمخالطة بين الإنس والجن، ويطلقون على الجن صفة القرين والقرينة.
٢  تنطبق هذه الصفات على ما ورد في التوراة والإنجيل عن محمد كما سيرى القارئ في مناقب المواسي وأحمد.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤