زوجات النبي

(١) أم سلمة

هي أم المؤمنين هند بنت سهيل القرشية المخزومية بنت أبي أمية بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم، وكان يُعرف بزاد الركب، تزوجت أول الأمر من ابن عمها أبي سلمة بن عبد الأسد المخزومي، فلما مات عنها تزوجت رسول الله في جمادى الآخرة سنة ٤ هجرية، وكانت ممن أسلم قديمًا. وكان لأم سلمة من زوجها الأول سلمة وعمر ودرة وزينب، ولما تُوفِّي زوجها خلف عليها رسول الله لأنها كانت من المهاجرات إلى الحبشة وإلى المدينة.

وتزوجها رسول الله تكريمًا لها، وتعويضًا عما أصابها في سبيل الدين. قالت: «ما أعلم أهل بيت أصابهم في الإسلام ما أصاب آل أبي سلمة.» فإنه لما عزم زوجها على الهجرة إلى المدينة بعد عودته من هجرة الحبشة خرج يقود بعيره وعليه زوجته وابنه، فاعترضهم رجال من بين المغيرة أهل زوجته فقالوا له: «لقد غلبتنا على نفسك فسكتنا وصبرنا ولكن زوجتك هذه وهي من لحمنا ودمنا كيف نتركك تسير بها في البلاد؟»

ونزعوا خطام الجمل من يده وأخذوا السيدة؛ فجاء بنو عبد الأسد وهم أهل الزوج وقالوا: والله لا نترك ابننا عندها إذا نزعتموها من قريبنا. وتجاذبوا الصبي سلمة حتى خلعوا يده وانطلق به عمومته من بني عبد الأسد، وحبسها بنو المغيرة عندهم وانطلق الرجل حتى لحق بالمدينة.

في طرْفة عين شتت القرشيون شمل أسرة؛ فتركوا الرجل في سبيله إلى المدينة، وأخذ المرأةَ أهلُها، وأخذ الولدَ أهلُ أبيه، واستمر حبسها سنة كانت تخرج أثناءها كل غداة تجلس بالأبطح فتبكي حتى تُمسيَ. وفي ختام السنة تعطف عليها رجل من أهل الخير فتوسط لدى أهلها أن يطلقوا سراحها تلحق بزوجها، ورد عليها أهل زوجها ولدها، فرحلت وابنها في حجرها وخرجت تريد زوجها في المدينة.

وهذه القصة تشبه ما يُحكى عن تجار الرقيق وتفريقهم أفراد الأسرة الواحدة بالبيع لسادة مختلفين، ولكن أهل مكة تصرفوا في الأحرار هذا التصرف الأليم، ولم تكن هذه القسوة لتُضعف من مقاومة المسلمين، ولم تفتَّ في عضدهم، ولو ضعفوا لفضَّل الرجل زوجته وابنه على دينه الجديد، غير أن أبا سلمة وزوجته كانا مجربين وقد هاجرا من قبلُ وخرجا من دارهما في سبيل الله إلى بلدٍ ليس فيه مسلمون وليس فيه رسول الله، أما هذه المرة فهما إلى المدينة، وهي حاضرة حجازية لا تقل عن مكة، وفيها رسول الله وبقية المهاجرين. وكأن أقارب الزوجين قد توافقوا على التفريق، فلو تُرك الولد لأحدهما كان أشفق وأرحم، ولكنهم وإن اختلفوا في القرابة فقد اتفقوا في التنكيل بالوالد والوالدة والولد. وكان غيظ قريش أقوى من تحمُّل النفقة على الولد وأمه، بَيْدَ أن المشاهَد أن أهل مكة كانوا دائمًا يضعفون في النهاية كلما رأَوْا تشدُّد المسلم وصحة عزمه على الثبات في رأيه. ولم يكن إهراق الدماء في خطتهم وإلا لقتلوا هؤلاء الثلاثة، وإن يكن الطفل لم ينجُ بغير ذراعٍ مخلوعة. وأمرُّ وأدهى من تقييد الحرية أنهم تركوا المرأة وحيدة! فلم يصحبها أحد من أهلها ولا من أهل زوجها! وهذا الذي يقوِّي في نظرنا تواطؤ الفريقين على تعذيب هذه الأسرة، وإلا فإن أهل الزوج كانوا خليقين بأن يصحب أحدُهم الوالدة والولد إلى المدينة؛ فهو آمن على عرضها، وأشفق على ولدها، ولكن عقيدتهم كانت أقوى من مروءتهم، فلما بلغت السيدة هند أم المؤمنين (بحسب ما ستكون) التنعيمَ، وهو مكان قريب من مكة، فلقيها عثمان بن طلحة بن أبي طلحة أخو بني عبد الدار وهو يمتُّ إليها ببعض الصلة ويعرفها قديمًا فقال: أين يا ابنة أبي أمية؟

قالت: أريد زوجي بالمدينة.

قال: هل معكِ أحد؟

قالت: لا والله إلا الله وابني هذا.

قال: والله ما لكِ من منزل!

وأخذ بخطام البعير فانطلق معها يقودها.

قالت أم سلمة تصف خلقه وعفته وكرمه ونجدته: فوالله ما صحبتُ رجلًا من العرب أراه كان أكرم منه؛ إذا بلغ المنزل (أي محل النزول أثناء الطريق للطعام والراحة) أناخ بي ثم تنحى إلى شجرة فاضطجع تحتها، فإذا دنا الرواح قام إلى بعيري فقدمه فرحله ثم استأخر عني وقال اركبي، فإذا ركبت واستويت على بعيري أتى فأخذ بخطامه فقادني حتى نزل، فلم يزل يصنع ذلك حتى قدم بي إلى المدينة، فلما نظر إلى قرية بني عمرو بن عوف بقباء قال: زوجكِ في هذه القرية. وكان أبو سلمة نازلًا بها فدخلتها على بركة الله — تعالى — ثم انصرف عثمان بن طلحة راجعًا إلى مكة.

ها نحن نجد رجلًا من نوع الجنتلمان الحديث، واصطحابه السيدة في هذا السفر الطويل الذي يستغرق أسبوعين في صحراء مخيفة بين مكة والمدينة يلقي شعاعًا هاديًا على حديث الإفك؛ فإن لكرام الرجال سوابقَ في مصاحبة شريفات النساء في المخاطر ولو لم تكن بينهم وبينهن قرابة. وإن لم نكن بحاجة إلى التدليل بعد نزول القرآن ببراءة أم المؤمنين عائشة — رضي الله عنها.

كانت أم سلمة أول ظعينة تركت بيتها وخرجت إلى المدينة وتكبدت في الهجرتين ما تكبدت؛ مما دل على قوة إيمانها وإرادتها، وقد ولدت من زوجها المُتوفَّى خمسة بطون، ولم تكن ذات جمال ولا مال ولا شباب، ولكن الرسول عقد عليها إعزازًا لمبدئها وتشريفًا لقدرها، وليس بدافع شهوة أو تكاثر في النساء كما زعم الذين لم يُلموا بتاريخ الواقعات إلمامًا كافيًا! وقد اعتذرتْ لأبي بكر عندما خطبها لنفسه وكان له نفس الدافع للرسول فيما بعدُ؛ وهو تقديرها والاعتراف بجميلها؛ فإن خير ما يُصنع لامرأة أن تدخل في عصمة رجل بعد وفاة زوجها؛ لأن في هذا الزواج الثاني اعترافًا بصلاحيتها وصلاحها، وتخفيفًا لأعباء الحياة عنها لكثرة أولادها، وهي وزوجها ما هاجرا إلا في سبيل الإسلام، وما خرجا من دارهما وضحَّيا بأهلهما ومالهما إلا في سبيل الإسلام؛ فوجب على المسلمين أن يتقدم أحدهم لإيوائها وإشعارها بكرامتها؛ فتقدم أبو بكر إليها، فلما اعتذرت أرسل النبي عمر بن الخطاب يخطبها عليه، فقالت: أخبر رسول الله أني امرأة غَيْرَى، وكبيرة السن، وليس أحد من أوليائي شاهدًا، ومصبية (أي ذات صبيان)، فأجاب الرسول على لسان عمر: فأنا أكبر منكِ سنًّا وسأدعو الله فيُذهب غيرتك وستكفين صبيانك، وليس أحد من أوليائك (أي أهلها) يكره ذلك (أي زواجها من رسول الله). فقالت لابنها عمر: قم فزوِّج رسول الله مني فزوَّجها (مختصرًا). وقد كان لها شأن عظيم في صلح الحديبية أنقذت به موقف المسلمين وحمت الإسلام من فتنة كانت تزمجر سيأتي الكلام عليها في مكانها، وقد وُصفت بأنها صاحبة المشورة المباركة في الحديبية، وفي بيتها نزلت: إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ، فأرسل النبي إلى علي وزوجته وولدَيها فقال: هؤلاء أهل بيتي. وقيل إنه طرح عليهم ثوبه فأطلت أم سلمة من فتحت الباب وقالت: يا رسول الله، أنا من أهل البيت؟

قال: بلى، إن شاء الله.

ويظهر أن أم سلمة كانت شديدة الغيرة حقًّا؛ فهي التي قالت: «أتُكلم ابنة اليهودي في يومي وأنت رسول الله؟!»

إن في مواقف المسلمين — ولا سيما في أول عهدهم — ما يثير الشعر في النفوس ويحفز أرباب المواهب في النظْم على أن ينظموا، ولو تعرض الشعراء لصنعوا ملاحمَ إن لم تَفُقْ ملاحم الإغريق فلا تقل عنها، ولكن القرآن قتل الشعر في جزيرة العرب، ونِعْمَ العوض.

ومن أدق المواقف اجتماع الأم بولدها بعد الإذن لهما بالسفر إلى المدينة:

حبيبي أحقًّا عدتَ لي اليوم بعدما
فقدتُك عامًا ما عرفتُ به البِشرا
أُسائل عنكَ الريح عند هبوبها
وأستنطق الأفلاك والسُّحْب والبدرا
وكم كنتُ أخشى أن تمد يدُ الردى
إليكَ شباكًا تقنص الليثَ والنسرا
فسل مُقلتي هل داعبَ النومُ جفنَها
وسل قلبيَ الولهان هل نسيَ الذكرى
أحقًّا تراك العينُ يا من سلبتها
لذيذ الكرى أم ذاك وهْم بها قرَّا
لقد خُلعت يُمناكَ سُلَّتْ يُمينُهم
فيا ليتها اليُمنى بجسميَ واليُسرى
قضى اللهُ أنْ نشقى فكان الذي قضى
فهل كتب اللهُ السعادةَ واليُسرا
وقد استجاب الله دعاءها، ولكن يد الموت امتدت إلى زوجها بما قاساه وكابده بعد إسلامه من وقائع الحرب؛ فشهد بدرًا وأُحدًا وراح بجرح أصابه فيها. وكان أبو سلمة من السابقين إلى الإسلام؛ فكان ترتيبه الحادي عشر وهو أخو النبي من الرضاعة وابن إحدى عماته، وكان له أخ هو سفيان بن عبد الأسد من أشر المشركين وأشدهم على المسلمين، وقد تُوفِّي أبو سلمة سنة أربع من الهجرة بعد أُحد، وقيل إن أم سلمة تُوفِّيت في آخر العقد السادس بعد الهجرة. وقيل إنها آخر أمهات المؤمنين موتًا. فلو نظرنا إلى زواج الرسول من أم سلمة لعللناه تعليلًا منطقيًّا ونفسانيًّا بالأسباب الآتية:
  • أولًا: كان زوجها أخًا لرسول الله في الرضاع، وقد جرت عادة العرب بأن يأخذ الرجل أرملة أخيه صيانةً لها، وحفظًا ورعيًا للود.
  • ثانيًا: كانت وزوجها مِن أول مَن أسلم وأول من هاجر الهجرتين.
  • ثالثًا: كان زوجها من أبطال بدر وأُحد ومات في الجهاد؛ فحق على الأمة أن تعوِّض زوجته، ولا عوض أكرم وأسخى من زواج رسول الله.
  • رابعًا: كانت ذات عيال وهم في حاجة إلى نفقة وعناية وتربية.
  • خامسًا: أوصى زوجها عليها رسول الله وهو يجود بنفسه.
  • سادسًا: أظهرت الحوادث أن الرسول كان صادق الفراسة فيها؛ فقد أبدت مشورة منقذة في الحديبية، سيأتي الكلام عليها.
  • سابعًا: كانت لها مكانة بين المهاجرين إلى الحبشة، واتصلت ببيت النجاشي، وأثرت أخلاقها الكريمة وعقلها الراجح في نشأته، وقد كانت سجلًّا ناطقًا احتفظت بكل حوادث الهجرة إلى الحبشة ومرجعًا لرسول الله يسألها عن تاريخ تلك الفترة.
  • ثامنًا: لقيت أشد مما لقي سواها في سبيل الإسلام.

فأي مبرر أقوى من هذه المبررات لزواج النبي منها؟

وأي جاهل بالتاريخ وعلم النفس يزعم أن الرسول «ضمها إلى حريمه» ليمتع نفسه بها، مع أنه كان قد أربى على السابعة والخمسين من عمره؟!

(٢) سودة بنت زمعة

لا نعلم سببًا لزواج الرسول من سودة بنت زمعة — رضي الله عنها — إلا أنها كانت أرملة ابن عمها السكران بن عمرو من بني عامر بن لؤي وكان مسلمًا، فلما تُوفِّي عنها تزوجها رسول الله بعد وفاة خديجة.

وكانت هذه المرأة ثقيلة ثبطة، وقد أسنت عند رسول الله ولم تصب منه ولدًا إلى أن مات.

ولم يكن لها فضيلة أو خلة تُحمد عليها أو تجذب حب رجل غير أنها أرمل مسلمة. وكان الإسلام في أول شأنه، وقد عقد عليها في عام الحزن الذي تُوفِّي فيه أبو طالب وخديجة، وهو العاشر من البعثة، فجاءت أرملة حزينة، لا فرحة ولا مرحة، ولا جميلة ولا سرية. وإن تكن قرشية أبًا وأنصارية أمًّا؛ فأمها الشموس بنت قيس بن النجار؛ فهي من وسط العرب ولكنها لم تكن على شيء، لعل الرسول تزوجها في ساعة غم وحزن وحاجة إلى خدمة البيت، فتقربت إليها امرأة بخطبتها، وهي من النساء (رضي الله عنها) اللواتي يندم الرجل على العقد عليها بعد الوقوع معها! وقد يكون لها يد في بعض أكدار النبي في بيته، ولكنه صبر عليها ومات وهي في عصمته، وأراد النبي أن يطلقها فبكت وتوسلت وكادت تقضي نكدًا وقالت: «لا تطلقني يا رسول الله ناشدتك ربك، وأمسكني رحمةً ولا تتركني عرضةً للضياع بعد أن دخلت بيتك.» فأشفق عليها وأمسكها فقالت له: «أجعل يومي لعائشة.» تريد بذلك أن تعفيَه من عشرتها، فنزلت آية: فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَن يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا.

وروت بعض الأحاديث ومثلت دورًا غير محمود في تحريض بعض السيدات على الفتنة! وعمرت إلى آخر خلافة عمر.

(٣) صفية بنت ثابت

هذه السيدة الإسرائيلية أصلًا وأهلًا ونسبًا بنت حيي بن أخطب، وهي من بني النضير من سبط ليفي وأمها برة بنت صمويل. أما نسبتها إلى هارون وموسى فنسبة تابع إلى نبي، ورعية إلى ملك؛ لأن إحدى زوجات النبي قالت لها: أنا بنت فلان الصحابي، وأنتِ بنت من؟ فبكت فقال لها الرسول أجيبي أنك بنت هارون وموسى؛ تطييبًا لخاطرها، ولا يعلم لها صلة ببيت آل عمران.

وكانت صفية زوجًا لشاعرين من بني إسرائيل متعاقبين؛ وهما سلام بن مشكايم، ثم كنانة بن أبي الحقيق. فوقع كنانة في معركة خيبر قتيلًا فلما افتتح الرسول خيبر وجمع السبايا تقدم إليه دحية بن خليفة في طلب إحداهن فأذن له الرسول في واحدة منهن، فأخذ صفية فقيل للنبي: يا رسول الله، إنها سيدة قريظة والنضير، ما تصلح إلا لك. فقال الرسول لدحية: خذ جارية غيرها يا دحية. ففعل.

وأُعجب رسول الله بعقل صفية وحديثها وحيلتها؛ فقد أدخلت السرور على قلبه بقولها: إنها رأت قمرًا وقع في حجرها. فذكرت ذلك لأبيها فضرب وجهها ضربةً أثَّرت فيه، وقال: إنك لتمدين عنقك إلى أن تكوني عند ملك العرب! فلم يزل الأثر في وجهها.

واللطيف في هذا الخبر أن بني إسرائيل يرَوْن دائمًا أحلامًا تصدق وتصح كفلق الصبح، كما وقع ليوسف بن يعقوب. وفي عبارة أبيها الذي كان ماهرًا في التفسير مهارة سيجموند فرويد: «إنك لتمدين عنقك إلى أن تكوني عند ملك العرب» ما يدل على أنه كان يفهم أن الحلم يعبر عن رغبة مكبوتة، وأنها تتمنى أن تكون عند ملك العرب، فضربها عقابًا لها على رغبتها وطمعها في ترك ملتها وقومها لتدخل في حيازة الرسول؛ والدليل قوله: «تمدين عنقك»؛ أي تتطلعين، وليس المقصود به يطول عمرك، ولو علم أن الرؤيا أتتها بغير رغبة منها لما عاقبها ولا ضربها ضربةً تترك أثرًا؛ فكأنه جعلها مسئولة عن رغبتها ولم يفرح بذلك. ويدل قوله أيضًا على أنهم كانوا يعتبرون الرسول ملك العرب؛ لأن النبوة عندهم اقترنت دائمًا بالملك؛ فكان داود وسليمان وشاول وغيرهم ملوكًا.

وهكذا كانت نظرة أبي سفيان إلى الرسالة حتى الساعة الأخيرة، فقال للعباس: «لقد صار لابن أخيك مُلك كبير.» فقال له: «بل هي النبوة يا أبا سفيان.» فلم يدخل في ذهن أبي سفيان تفريق بين الاثنين؛ رسالة الله وسلطة الملك. وهكذا كان ثابت بن الفاكه والد صفية وصهر رسول الله رغم أنفه، كان يكره أن تكون ابنته للنبي العربي زوجًا.

وقد يكون الرسول قد تذكَّر عذر زينب تلك اليهودية الأخرى التي دست السم للرسول وصحبه في زند ذبيحة، وتذكَّر قسوة قلبها وجفاء طبعها وشدة عنادها وإصرارها على الجريمة وتطوُّعها في قتله كما تطوعت يهوديت في قتل هولفرن الفاتح؛ فَلَانَ قلبُه لصفية لَمَّا رأى الفرق بين تلك التي كانت تصبو إليه من صغرها وهي أصيلة نبيلة في قومها، وبين تلك الأخرى التي فُطرت على الجريمة، فنظر إلى صفية بعد حديثها فحجبها وأعتقها وتزوجها وقسم لها. وقد كان زوجها القتيل من أصحاب الآطام والحصون، واسم حصنه القموص. ولم تكن صفية يوم سبيها كاسفة البال حزينة على فقْد أهلها وسقوط مجد زوجها وتهدُّم آطامهم، بل روعت روعة لا يغفرها قلب رحيم وإن غفرها الرسول لبلال لمكانته وحبشيته؛ فإن للأحباش نزواتٍ سببها النشأة الأفريقية وإن كانوا من الجنس السامي؛ فقد مر بلال بصفية وبنت عمها على قتلى اليهود مجندلين في الميدان، فلما رأتهم بنت عمها صكت وجهها ولطمت خدَّيها وصاحت وحثت التراب على رأسها، وهي علامة حزن ورثها اليهود من جنسهم وعلموها المصريين في الحداد على موتاهم، وبئس ما ورثوا وأورثوا؛ فغضب رسول الله وتأثر، فإنه لا يوجد منظر يهيج عواطف الرجل الكريم كمنظر امرأة تندب قتلاها، فقال: «أغربوا هذه الشيطانة عني.» وقد رأى صفية لم تفعل شيئًا من الذي فعلت بنت عمها فأعجبه ثبات قلبها وصبرها وعقلها؛ فحازها خلفه وغطى عليها ثوبه فعرف الناس أنه اصطفاها؛ فكان لها من اسمها نصيب في حب محمد . ولكن الرسول لم يغفل شكوى الباكية الناعية النادية، وإن أمر بإقصائها فقد حاسب بلالًا على فعله حسابًا عسيرًا وقال له: أنُزعت منك الرحمة حتى تمر بامرأتين على قتلاهما؟!

وعجيب أن يقع هذا الأمر من بلال وهو الذي تعذَّب وتألم معظم حياته؛ فخُطف من أهله في الحبشة وكان من بيت كريم، وبِيع رقيقًا كما بِيع سلمان، وبقي في الخدمة والعبودية وذُل الرق إلى أن أسلم، فتولى سادته تعذيبه عذابًا يفوق الوصف؛ فكانوا يطرحونه على ظهره في بطحاء مكة في وجه الشمس ويضعون على صدره حجرًا، ويُغرون الصغار به فيرجمونه ويسبونه وهو لا يفتر عن الذكر «أَحد! أَحد! أَحد!» إلى أن اشتراه أبو بكر بماله وأعتقه؛ فانضم إلى دار الأرقم ولزم النبي في غدواته وروحاته.

فهل قسا قلبه من شدة ما ذاق، أم صار المرور بفتيات على قتلاهن في نظره أمرًا هينًا في جانب ما رأى في نفسه؟ نحن نربأ به عن أن يكون قد تخلفت لديه رغبة في رؤية تعذيب الآخرين، ونعتبر أنه فعل ما حاسبه عليه الرسول هفوةً وسهوًا؛ فقد دل تاريخ حياته على الخير، ولكن هذه القصة تبرز ناحية من حنان الرسول ودقة إحساسه؛ فهو إن غضب على اليهودية النواحة الندابة فلم يقصِّر في محاسبة بلال حتى نسب فعله إلى قلب نُزعت منه الرحمة.

أما صفية فقد كانت من الجمال بمكان عظيم؛ فأحدث زواجها بعض الغيرة؛ فذهبت عائشة متنقبة إلى باب المدينة لتراها بعد أن سمعت عن جمالها ما سمعت، فعرفها الرسول.

وكانت حفصة وعائشة تتفاخران عليها وتتساميان بأنهما بنتا عم الرسول وبنتا صاحبيه، وامتعضت أم سلمة يومًا من تحدُّث الرسول إلى صفية في يومها وما زالت تسميها اليهودية مع أنها أسلمت وحسن إسلامها وصارت من أمهات المؤمنين! حتى زينب بنت جحش طلب إليها الرسول أن تقفر صفية جملًا من جمالها؛ لأن جمل صفية برك في بعض الطريق أثناء العودة من الحج، وكانت بنت جحش من أكثر الناس جِمالًا في هذه الرحلة، فقالت: «أنا أقفر يهوديتك؟!» وهو جواب جاف غير كريم، فغضب رسول الله وهجر بنت جحش ثلاثة أشهر، وروت صفية أنه صحبها مرة من المسجد إلى بيتها فرأى رجلين من الأنصار، فلما رأياه مع سيدة رجعا فقال: تعاليا فإنها صفية. فخشي أن يكونا ظنَّا به سوء الظن فعرَّفهما بأنها زوجته، فقالا: نعوذ بالله! سبحان الله يا رسول الله! فقال: إن الشيطان ليجري من ابن آدم مجرى الدم. هذا هو النبي المعصوم الذي رأى أن يبرئ نفسه أمام رجلين من أهل المدينة عرفاه ورأياه في صحبة امرأة فأراد أن ينفيَ عن نفسه اصطحاب امرأة في الطريق دون أن يصرِّح باسمها؛ ليكون فوق الشبهات، وهو فوقها فعلًا.

وقد تُوفِّيت صفية عن غير عقب في العقد الرابع للهجرة.

(٤) رملة أم حبيبة

وهي أخت معاوية وبنت أبي سفيان صخر بن حرب، قرشية أموية بنت أعدى أعداء رسول الله وقائد المشركين في المواقع، وكانت في الجاهلية زوجة عبيد الله بن جحش، وأمها صفية بنت أبي العاص عمة عثمان بن عفان، ولما بلغ الخبر إلى أبي سفيان قال: ذلك الفحل لا يقدع أنفه! وهي العبارة التي نُسبت إلى ورقة بن نوفل عند زواج الرسول من خديجة، ويظهر أنها عبارة اصطلاحية كانت تقولها الأصهار في مدح الزوج كما تقال الآن عبارات مشابهة «بالرفاء والبنين» أو «على الطائر الميمون»، وهي تلقي شعاعًا على آداب الاجتماع العربي. ولا نظن أن مصاهرة الرسول ألانت من قلب أبي سفيان؛ فقد هدر الجاهليون دماء أقاربهم الذين أسلموا، وفرَّق الدين الجديد بين الآباء والأولاد والبنات والإخوة. أما عبد الله بن جحش زوجها الذي هاجر بها إلى الحبشة فقد ضاق ذرعًا بالهجرة والحرمان من الخمر وفاقة البعيد عن وطنه فحسَّن لرملة عليها الرضا أن تتنصر فأبت وثبتت على إسلامها، فتنصر وسكر وعربد وهلك، فأرسل الرسول يخطبها وطلب من النجاشي أن يجهزها، فدفع صداقها لخالد بن سعيد بن العاص أربعماية دينار من الذهب الحبشي وأولم النجاشي للحاضرين وليمة، وكلف شرحبيل بن حسنة أن يصحبها إلى المدينة؛ فركب بها البحر من إحدى موانئ الحبشة إلى ينبع أقرب الطرق إلى يثرب، فوجدت أخاها معاوية في صحبة الرسول. وتُوفِّيت سنة ٤٤ﻫ.

وكانت أم حبيبة على جمال ونسب، وقد ظن الأغيار أنه زواج سياسي أراد به الرسول أن يتألف قلب أبي سفيان، ولكن الرسول أراد أن يُرضي أم حبيبة ويكافئها على أنها خذلت زوجها الذي كفر بعد أن آمن، ولم يفكر في أبي سفيان لأنه يعرفه معرفة جيدة فلم يكن بالذي يلين ما دامت وراءه هند، ولو كانت صحبة الأقارب تُلين قلوب الطغاة لكان اتصال معاوية بالرسول وأنه كاتب الوحي كافيًا لهداية أبيه وأمه.

وكانت أم حبيبة ذات خلق قوي؛ فلما جاء أبوها إلى المدينة قبل الفتح لما أوقعت قريش بخزاعة ونقضوا عهد رسول الله فخاف، فجاء ليجدد العهد خداعًا منه وخنوعًا، فدخل على ابنته أم حبيبة فلم تتركه يجلس على فراش رسول الله وقالت له: أنت مشرك وبك نجاسة فلا أحب أن تدنس فراش رسول الله. فقال: لقد تغيرتِ عليَّ يا بنية!

وقد يَعجب القارئ من مسلك البنت حيال أبيها، ولكن ما قاساه المسلمون على أيدي هؤلاء المشركين كان مما لا يُطاق ولا يُغتفر. وكفى أبا سفيان نجاةً بنفسه أنه دخل المدينة وأقام فيها ما أقام وخرج منها سالمًا، ولو دخل مكة كبير من المسلمين لذاق العذاب ألوانًا إن لم يقطعوه بالسيوف.

(٥) حفصة بنت عمر

أبوها ابن الخطاب، وأمها زينب بنت مظعون أخت عثمان بن مظعون، من أوائل المسلمين، وشقيقها عبد الله بن عمر، وكانت من المهاجرات، وزوجها الأول خنيس بن حذافة السهيمي ممن شهد بدرًا وتُوفِّي في المدينة، فلما تأيَّمت ذكرها عمر لأبي بكر وعرضها عليه فلم يرد عليه كلمة فغضب عمر، فعرضها على عثمان حين ماتت رقية بنت رسول الله، فقال عثمان: ما أريد أن أتزوج اليوم بعد رقية. فانطلق عمر إلى رسول الله فشكا إليه عثمان فقال رسول الله: يتزوج حفصةَ من هو خير من عثمان، ويتزوج عثمانُ من هي خير من حفصة.

فخطبها الرسول لنفسه وزوَّج عثمان من أم كلثوم بنته من خديجة، ولقي أبو بكر عمرَ فقال: لا تجد عليَّ في نفسك؛ فإن رسول الله ذكر حفصة لنفسه فلم أكن لأُفشيَ سرَّه، فلو تركها لتزوجتها.

وكانت حفصة شديدةً كأبيها، قال عمر: راجعتني امرأتي في شأنٍ من الشئون فانتهرتها فقالت: عجبًا لك يا ابن الخطاب، ما تريد أن أراجعك في أمرٍ وإن ابنتك لتراجع رسول الله حتى يظل يومه غضبان!

وطلقها الرسول تطليقة، ثم ارتجعها لأنها صوَّامة قوَّامة، ولكن لما طلقها الرسول حزن عمر وقال: «ما يعبأ الله بعمر وابنته بعدها!»

ودخل عليها بعد ذلك فوجدها تبكي فقال: إن طلقك رسول الله مرة أخرى لا أكلمك أبدًا! وماتت في سنة أربعين للهجرة.

(٦) عائشة

هي أشهر نساء الرسول وأكرمهن عند الله وأظهرهن أثرًا وأعطفهن على الرسول وأقربهن إلى قلوب المؤمنين بعد خديجة بنت خويلد.

ولكن لا نغمط حق عائشة ونشيد بفضلها وعِلمها ونحمد لها حبها لرسول الله وحبه إياها. وإن يكن عدل بينها وبين بقية أزواجه شرَّفها أنها بنت أبي بكر الصديق وأمها أم رومان بنت عامر الكنانية، تزوجها الرسول قبل الهجرة بسنتين بعد وفاة خديجة بأشهر، خطبتها له خولة بنت حكيم بن الأوقص امرأة عثمان بن مظعون، وخطبت في الوقت نفسه سودة بنت زمعة لأنها آمنت به واتبعته على ما هو عليه، فأرسلها الرسول إلى أم رومان فدُهشت وقالت: وهل تصلح له وهي بنت أخيه؟! وهكذا قال أبو بكر عندما سمع، ولكن الوالد والوالدة فرحا بما أدخل الله عليهما من الخير والبركة.

وها قد رأينا الرسول نفسه يزوِّج ابنتيه رقية وأم كلثوم من عثمان، وعمرَ يعرض ابنته حفصة على أبي بكر ثم على عثمان، فلم ندهش لأن هذه عادة العرب، ولم يكن يُحسب للفرق في السن حساب بين الرجال والنساء، وكل ما قيل في هذا الباب يُعذر صاحبه؛ لأنه يقيس على أحوال هذا الزمان، وكان الكبراء يتقدمون إلى أصدقائهم بخطوبة بناتهم جريًا على هذه العادة، ولكن عائشة حازت محبة رسول الله ففضَّلها على بعض نسائه دون أن يجاوز العدل بينهن، ولكن غيرة النساء لا تعرف حدًّا ولا قاعدةً ولا رحمةً، وقد سرى بغض النساء إلى الرجال فأخذوا يتقوَّلون ويتوهمون ويخلطون ويغلطون. نال رجل من عائشة عند عمار بن ياسر فقال له: اغرب مقبوحًا منبوحًا، أتؤذي حبيبة رسول الله؟! وكان إذا روى عنها أحد الصحابة يقول حدثتني الصِّدِّيقة بنت الصِّدِّيق البريئة المبرأة. وكانت من أفقه الناس وأحسن الناس رأيًا في المسائل العامة، وقد نزل فيها من القرآن ما يُتلى إلى يوم القيامة، وروى عنها عمر بن الخطاب وكثير من الصحابة، ولم تُرزق من الرسول ولدًا، وتُوفِّيت في آخر العقد السادس الهجري.

ومن أشهر حوادثها بعد وفاة الرسول وقعة الجمل، ومما أضامها في حياتها حديث الإفك، وهو طويل، ووفاة أخيها محمد بن أبي بكر بعد فتنة عثمان. وكانت شديدة الذكاء قوية الذاكرة تروي الحديث والفقه والشعر وتاريخ الرسول. وكان في زواجه منها نعمة؛ لأنها كانت بشبابها وفطنتها ونسبها أقدر على مراقبة حياة الرسول ووصف أعماله وادِّخار سنته والحرص عليها، وكانت أبعد النساء عن الشُّبه؛ فقد كان لها من شرف والدَيها وعفة أمها ومجد الرسول وعظم شأنه وتعلُّقها به ما يصونها عن كل سوءٍ ويجعلها بأرفع مكان من العفة والجلال. وكانت عائشة ذات كبرياء وكرامة تأبيان عليها التدنِّي، ولو علم أحد عليها من سوء ما تجرَّأت أن تخاطب أحدًا من الصحابة بالشدة التي كانت تخاطبهم بها بعد وفاة الرسول بأعوام كثيرة.

(٧) زينب بنت جحش

وهي أخت عبد الله بن جحش زوج أم حبيبة الذي هلك في الحبشة بعد أن تنصَّر وأدمن الخمر، أبوها من أسد بن خزيمة وأمها أميمة بنت عبد المطلب عمة النبي ، وكانت قديمة الإسلام ومن المهاجرات، وتزوجها زيد بن حارثة مولى النبي ليعلمها كتاب الله وسنة رسوله، ثم إن الله زوجها النبي من السماء وأنزل: وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَاهُ ۖ فَلَمَّا قَضَىٰ زَيْدٌ مِّنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا (الآية).

فتزوجها الرسول سنة ٣ من الهجرة، وقيل بعد أم سلمة. وكانت كثيرة الخير والصدقة، وكان اسمها قبل زواجه برة فسماها زينب.

وتكلم المنافقون وقالوا إن محمدًا يحرِّم نكاح نساء الأولاد وقد تزوج امرأة ابنه زيد؛ لأنه كان يقال له زيد بن محمد؟! قال الله تعالى: مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ، وقال: ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِندَ اللهِ؛ فكان يُدعى زيد بن حارثة.

وهجرها رسول الله لما قالت لصفية بنت حيي تلك اليهودية.

قالت عائشة: لم يكن أحد من نساء النبي تساميني في حسن المنزلة عنده إلا زينب بنت جحش. وبسببها نزل الحجاب. وكانت صناع اليد تعمل بيدها وتتصدق به في سبيل الله. وكان نساء النبي كلهن يحججن إلا سودة وزينب؛ فإنهما كانتا تقولان: والله لا تحركنا دابة بعد إذ سمعنا من رسول الله: أسرعكن لحوقًا بي أطولكن يدًا. فتُوفِّيت سنة ٢٠ﻫ قبل سواها. أرسل إليها عمر بن الخطاب ١٢٠٠٠ درهم كما فرض لنساء النبي، فأخذتها وفرَّقتها في ذوي قرباها وأيتامها وقالت: اللهم لا يدركني عطاء عمر بن الخطاب بعد هذا.

وشهدت فيها عائشة بأنه لم يكن خيرًا في الدين وأتقى لله وأصدق حديثًا وأوصل للرحم وأعظم أمانةً وصدقة من زينب. وكانت أوَّاهة متخشعة متضرعة، وقد وُصف بهذا الوصف في القرآن إبراهيم الخليل، وصلى عليها عمر بن الخطاب ودُفنت بالبقيع. وأول من صُنع لها نعش، ودخل قبرها أسامة بن زيد ومحمد بن عبد الله بن جحش وعبد الله بن أبي أحمد بن جحش.

وماتت راضية مرضية بعد أن اشتُهرت بجمالها وعفتها ورغبة الله في زواجها من رسوله.

(٨) ميمونة

بنت الحارث بن حزن الهلالية. وكانت قبل الرسول عند أبي رِهم بن عبد العزى، تزوجها الرسول بعد صفية في عمرة القضاء في ذي القعدة سنة ٧ﻫ، وقد عرضها عليه العباس بن عبد المطلب وهو حلال بعد العمرة، وطهر زواجها وهو محرم، وبنى بها الرسول وهو حلال بسرف بطريق مكة، وماتت بسرف حيث بنى بها الرسول ودُفنت هناك. وقد حدث الزواج أثناء الأيام التي سمح بها أهل مكة للمسلمين أن يدخلوا مكة للطواف بعد صلح الحديبية. فلما فرغ الرسول من عمرته أتاه سهيل بن عمرو في نفر من أهل مكة فقالوا: يا محمد، اخرج عنا؛ فاليوم آخر شرطك. وكان شرط في الحديبية أن يعتمر من قابل ويقيم بمكة ثلاثًا، فقال: دعوني أبتني بأهلي وأصنع لكم طعامًا. فقالوا: لا حاجة لنا بطعامك! فخرج فبنى بها بسرف قريب مكة.

(٩) جويرية

جويرية الخزاعية بنت الحارث بن أبي ضرار … بن جذعة وهو المصطلق من نسل الملوك، سباها رسول الله في يوم المريسيع من غزوة بني المصطلق سنة ٥ هجرية، وكانت زوج مسافع بن صفوان، فوقعت في سهم ثابت بن قيس فكاتبته على نفسها لتسترد حريتها بمال رضيه ثابت، وكانت سيدة حلوة ملاحة لا يراها أحد إلا أخذت بنفسه، فأتت رسول الله تستعينه في كتابتها أي تطلب منه مددًا لتسد لثابت ما اشترطته على نفسها ليخرج عنها ويتركها طليقة.

قالت عائشة: فوالله ما هو إلا أن رأيتها فكرهتها وقلت سوف يرى الرسول من حسنها ما قد رأيت! فلما دخلت عليه قالت: يا رسول الله، أنا جويرية (تصغير جارية وجويرة تدليل) بنت الحارث سيد قومه، وقد أصابني من البلاء ما لا يخفى عليك، وقد كاتبت على نفسي فأعني على كتابتي. فقال الرسول: أوَخير من ذلك؟ أؤدي عنكِ كتابتكِ وأتزوجكِ؟ فقالت: نعم. ففعل وعلم الناس بذلك فأطلقوا بني المصطلق؛ فقد صاروا أصهار رسول الله فأعتق الله بها مائة أهل بيت من بني قومها؛ فكانت عظيمة البركة عليهم لحبها الحرية وجرأتها، وكان زواجها بعد زينب بنت جحش، وكانت كثيرة العبادة والتسبيح، ومات الرسول ولم يعقب منها ولدًا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤