تفسير نزول الوحي

فكيف نفسر نزول الوحي على طريقة علمية مقنعة؟!

لقد حاول علماء المسلمين هذا التفسير، فقال الزركشي في البرهان: «إن رسول الله انخلع من صورة البشرية إلى صورة الملكية وتلقى القرآن من جبريل»؛ لأنه كان مستعدًّا بفطرته السامية ونفسه الصافية وفؤاده اليقظ وعقله الباطن للانسلاخ من البشرية إلى الملكية، وهي حالة نفسية أعلى من حالة الإنسان، يدل على وجودها التفاوت المُشاهَد بين طبقات البشر في عقولهم وإدراكهم، فيكون النبي قد ترقَّى بروحه حتى وصل إلى درجة الروح الأمين، أو أن الملك انخلع من الملكية إلى البشرية حتى أخذه رسول الله.

وأن جبريل تلقف من الله تلقفًا روحانيًّا، وأن الله خلق الأصوات الدالة على الألفاظ في الجو وأسمعها جبريل، وخلق فيه علمًا ضروريًّا بأنها دالة على ذلك المعنى القديم القائم بذاته تعالى وأوحاه إلى محمد كذلك، وكان الأثر المادي الذي يشعر به محمد فوصفه بقوله: «إن روح القدس نفث في روعي.»

والنفث: النفخ اللطيف الذي لا ريق معه.

وفي كلام محيي الدين بن عربي محاولة تعليل للظواهر البدنية التي كانت تبدو عند الوحي، قال في لغته الصوفية الجميلة: «سبب اضطجاع الأنبياء على ظهورهم عند نزول الوحي أن الوارد الإلهي الذي هو صفة القَيُّوميَّة إذا جاءهم اشتغل الروح الإنساني عن تدبيره فلم يبقَ للجسم من يحفظ عليه قيامه ولا قعوده فرجع إلى أصله؛ وهو لصوقه بالأرض!»

أما فلاسفة العرب فقد علَّلوا الوحي تعليلًا علميًّا بقدر ما كانت تسمح درجة تفكيرهم وما وصل إليه العلم في زمانهم، وهو في الغالب تعليل منقول عن فلاسفة اليونان، وكان أقربهم إلى الحقيقة من حيث التعليل الروحاني الأستاذ المعلم الفارابي؛ فقد كتب في باب القول في الوحي ورؤية الملك:

إن القوة المتخيلة إذا كانت في إنسان ما قوية كاملة، وكانت المحسوسات الواردة عليها من خارج لا تستولي عليها استيلاءً يستغرقها بأسرها، ولا أخدمتها للقوة الناطقة، بل كان فيها مع اشتغالها بهذين فضل كثير تفعل به أيضًا أفعالها التي تخصها، وكانت حالها عند اشتغالها بهذين في وقت اليقظة مثل حالها عند تحللها منهما في وقت النوم، وكثير من هذه التي يعطيها العقل الفعال فتتخيلها القوة المتخيلة بما تحاكيها من المحسوسات المرئية، فإن تلك المتخيلة تعود فترتسم في القوة الحاسة، فإذا حصلت رسومها في الحاسة المشتركة انفعلت عن تلك الرسوم القوة الباصرة فارتسمت فيها تلك، فيحصل عما في القوة الباصرة منها رسوم تلك في الهواء المضيء المواصل للبصر المنحاز لشعاع البصر، فإذا حصلت تلك الرسوم في الهواء عاد في الهواء فيرتسم من رأس في القوة الباصرة التي في العين، وينعكس ذلك إلى الحاس المشترك وإلى القوة المتخيلة، ولأن هذه كلها متصلة بعضها ببعض فيصير ما أعطاه العقل الفعال من ذلك مرئيًّا لهذا الإنسان، فإذا اتفقت المحاكيات التي حاكت بها القوة المتخيلة تلك الأشياء مع محسوسات في نهاية الجمال والكمال قال الذي يرى ذلك إن لله عظمة جليلة عجيبة، ورأى أشياء عجيبة لا يمكن وجود شيء منها في سائر الموجودات أصلًا، ولا يمتنع أن يكون الإنسان إذا بلغت قوته المتخيلة نهاية الكمال فيقبل في يقظته عن العقل الفعال الجزئيات الحاضرة والمستقبلة أو محاكياتها من المحسوسات، ويقبل محاكيات المعقولات المفارقة وسائر الموجودات الشريفة ويراها فيكون له بما قبله من المعقولات نبوة بالأشياء الإلهية.

فهذا هو أكمل المراتب التي تنتهي إليها القوة المتخيلة وأكمل المراتب التي يبلغها الإنسان بقوته المتخيلة، ودون هذا من يرى جميع هذه بعضها في يقظته وبعضها في نومه، ومن يتخيل في نفسه هذه الأشياء كلها ولكن لا يراها ببصره، ودون هذا من يرى جميع هذه في نومه فقط، وهؤلاء تكون أقاويلهم التي يعبرون بها أقاويل محاكية ورموزًا وألغازًا وإبدالات وتشبيهات، ثم يتفاوت هؤلاء تفاوتًا كثيرًا، فمنهم من يقبل الجزئيات ويراها في يقظته فقط ولا يقبل المعقولات، ومنهم من يقبل المعقولات ويراها في اليقظة ولا يقبل الجزئيات، ومنهم من يقبل بعضها ويراها دون بعض، ومنهم من يرى شيئًا في يقظته ولا يقبل في نومه فقط، فيقبل في نومه الجزئيات ولا يقبل المعقولات، ومنهم من يقبل شيئًا من هذه وشيئًا من هذه، ومنهم من يقبل شيئًا من الجزئيات فقط، وعلى هذا يوجد الأكثر.

والناس أيضًا يتفاضلون في هذا، وكل هذه معاونة للقوة الناطقة، وقد تعرض عوارض يتغير بها مزاج الإنسان فيصير بذلك معدًّا لأنْ يقبل عن العقل الفعال بعض هذه في اليقظة أحيانًا وفي النوم أحيانًا؛ فبعضهم يبقى ذلك فيهم زمنًا إلى وقتٍ ما ثم يزول، وقد تعرض أيضًا للإنسان عوارض فيفسد بها مزاجه وتفسد تخيله فيرى أشياء مما تركبه القوة المتخيلة على تلك الوجوه بما ليس لها وجود ولا هي محاكيات لوجود، وهؤلاء الممرورون والمجانين وأشباههم.١
١  من كتاب فلاسفة الإسلام، ص٤٢ وما بعدها، للمؤلف.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤