الفصل الخامس

غد بعد أمس

(١) «وليم جيمس» ومعيار النجاح

الانتقال من الفلسفة التقليدية — واقعيةً كانت أو مثالية — إلى الفلسفة البراجماتية هو انتقال من أمس إلى الغد، فبعد أن كان أساس الحكم على قول ما بالصدق أو بالبطلان هو الرجوع إلى الأصل الذي بعث على تقرير ما يقرره القول، أصبح الأساس هو النتائج التي تترتب عليه، فالكلام صواب أو خطأ، والنظرية من نظريات العلوم حق أو باطل، بمقدار ما يعين ذلك الكلام أو هذه النظرية على ترسم طريقنا في الحياة العملية، لا بمقدار تطابقه مع الواقعة التي يصورها، أو اتساقه مع غيره من الأفكار، وفي بيان الفرق بين نظرة الفلسفة التقليدية من جهة، ونظرة الفلسفة البراجماتية من جهةٍ أخرى، لا تمييز في ذلك بين الشعبتين الرئيسيتين اللتين منهما تتكون الفلسفة التقليدية على اختلاف ألوانها، وهما الواقعية أو التجريبية، ثم المثالية، فالقول صادق عند الأولى إذا طابق العالم الخارجي على نحوٍ ما، أي إنه نسخة من أصلٍ موجود خارج الإنسان، وسواء جاءت هذه النسخة طبق أصلها — كما تذهب الواقعية الساذجة — أو أصابها تحوير في العقل — كما تذهب الواقعية النقدية — فأساس الحكم على كل حال هو علاقة بين الفكرة التي نشأت عند الشخص العارف وبين الشيء المعروف الذي هو حقيقة قائمة بذاتها مستقلة بوجودها — سواء صادفه العقل الذي يعرفه أو لم يصادفه — وإذن فتحقيق القول إنما يكون «بالرجوع» إلى ذلك الأصل الخارجي، وأما المثالية على اختلاف مذاهبها، فهي وإن خالفت الواقعية في رأيها بوجود الشيء المعروف خارج الذات العارفة، بأن جعلت وجود الشيء قائمًا في العقل الذي يعرفه، إلا أنها — كالواقعية — تحقق صدق الفكرة المراد تحقيقها «بالرجوع» إلى شيءٍ سابقٍ على وجودها، وهو في هذه الحالة مجموع الأفكار الأخرى، لترى هل هنالك بينها وبين تلك الأفكار اتساق فنقبلها، أو تناقض فنرفضها.

وجاءت البراجماتية لتغير وجهة النظر من أساسها، فبدل الالتفات إلى ما «كان» عند تحقيقنا لفكرةٍ ما، نلتفت إلى ما «سيكون»، بدل الالتفات إلى الماضي السابق على نشأة الفكرة المراد تحقيقها، نلتفت إلى المستقبل الذي سيعقب وجود الفكرة ويتلوها؛ فهي صواب إن كانت نتائجها مما يسعف ظروف حياتنا العملية ويفيدنا في حل مشكلاتنا، وهي خطأ إذا لم يكن لها مثل هذا الأثر، هذه اللفتة الجديدة عنصرٌ مشتركٌ بين البراجماتيين جميعًا، ثم يعودون فيختلفون في تفصيلاتٍ أخرى تميز أحدهم من الآخر، وقد أسلفنا لك القول — في الفصل السابق — عن «بيرس» الذي شق للناس هذا الطريق الجديد في منطق التفكير، وسنحدثك في هذا الفصل عن زعيمين آخرين سارا في هذا الاتجاه مع تعديل هنا وتبديل هناك، وهما «جيمس» و«ديوي».

و«وليم جيمس» بين هؤلاء جميعًا هو الذي ينظر إليه العالم على أنه نموذج الفيلسوف الأمريكي، وعنوان الفلسفة الأمريكية؛ فهو أكثر منهم شيوعًا، وأوسع منهم في سائر أنحاء العالم سيرورة وذيوعًا، ترجمت كتبه — كلها أو بعضها — إلى كل لغات العالم المتحضر، ويرجع ذلك إلى عوامل عدة؛ فقد جاءت حياته (١٨٤٢–١٩١٠م) في الفترة التي استكملت فيها الولايات المتحدة استقلالها الفكري، ولم تعد تابعة من توابع الفكر الأوروبي، أضف إلى ذلك ما أتيح له من إلمامٍ بكثيرٍ من اللغات الأوروبية، ومن ثراء يمكنه من التجوال والسفر، فلبث يتنقل في ربوع أوروبا يحاضر، ويخالط الناس فيجذبهم بحديثه وخفة روحه، ولا شك أن شيوع الفكرة الجديدة مرهون إلى حدٍّ كبيرٍ بشخصية قائلها، فها هو ذا زميله «بيرس» يدعو إلى الفكرة ذاتها، فلا يكاد يلتفت إليه أحد من أبناء وطنه أنفسهم، لطريقة اختياره لألفاظه وعباراته التي كان يتعمَّد فيها ألا تجري مع مألوف الناس في حديثهم اليومي، ولصرامة شخصيته التي لم تجعل طريق الاتصال بينه وبين غيره سهلًا ميسرًا، فإذا أضفت إلى ذلك في «جيمس» أن فكرة «البراجماتية» التي كان يتحدث فيها ويكتب ويحاضر، كانت في ذاتها جديرة بالاهتمام لخطورتها، أدركت كم صادف عند أصحاب الفكر في العالم كله من نجاحٍ وتوفيق.

وقد عرف «جيمس» أول ما عرف باشتغاله بعلم النفس، وقد أخرج فيه كتابه العظيم «أصول علم النفس» من جزءين كبيرين، فكان نقطة تحول وانتقال في هذا العلم من عصرٍ إلى عصر، فعلم النفس قبل كتابه كان محوره ترابط الإحساسات والأفكار ترابطًا آليًّا، قائمًا على أساسٍ من فلسفة التجريبيين الإنجليز، وعلى رأسهم «لوك» و«هيوم»، فالفكر عند هؤلاء مصدره الانطباعات الحسية، وهذه الانطباعات تأتي أشتاتًا فرادى، ثم تتلاقى في الداخل أفكارًا، لكن كيف تتلاقى؟ تتلاقى بالتداعي بعضها مع بعض، فهذه الفكرة أو هذا الانطباع الحسي يدعو زميله لما بينهما من شبه أو تضاد أو غير ذلك من قوانين الترابط التي فصلوا القول فيها، والتداعي أو الترابط يحدث من تلقاء نفسه، كما يحدث التجاذب بين الذرات المادية مثلًا، فكأنما العقل قابل لا فاعلية فيه، ساكن بغير حركة، أو كأنه «لوحة بيضاء» — كما قال «لوك» — ترتسم عليه الانطباعات وتتجاذب، ولا حيلة له فيما يتلقاه إلا أن يسجله على صفحته تلك، أما بعد كتاب «جيمس» فقد بدأ علم النفس عهدًا جديدًا؛ لأنه جعل العقل أداة فعالة نشيطة، ومهمته هي كمهمة أي عضوٍ آخر من أعضاء الكائن العضوي الحي، وهي أن يكون أداة للمواءمة بين الكائن وبيئته مواءمة تعين الكائن الحي على البقاء؛ فهو إذن أداة بيولوجية تطورية، لا تنفك تواجه الجديد من مواقف البيئة الخارجية وظروفها، فترد عليها بما يحفظ لصاحبها حسن البقاء ودوامه، وبهذا التفسير يكون «العقل» كلمة نسمي بها نمطًا معينًا من السلوك الحي النشيط المفيد، لا مجرد مرآة قابلة تمر أمامها أشياء الطبيعة وحوادثها، فترتسم على صفحتها كما ظن السابقون، ولعلك تلاحظ أن هذا التفسير للعقل يزيل الحاجز التقليدي بين العقل والجسم؛ لأنه إذا كان العقل ضربًا من السلوك، فهذا السلوك هو نفسه الجسم السالك الفاعل المتصرف، وليس هنالك آمر ومأمور، وحاكم ومحكوم، بل هنالك كائن عضوي واحد يسلك في بيئته على نحوٍ معين، وإذا كان هذا هكذا فقد تحطمت الثنائية التي شقَّت الإنسان — والكون بصفةٍ عامة — جانبين: فعقل هنا وجسم هناك، أو نفس هنا ومادة هناك، تلك الثنائية التي سادت الفلسفة الحديثة كلها منذ «ديكارت»، وها هنا بذرة المذهب الفلسفي عند وليم جيمس، فعلى الرغم من أنه حاول في كتابه «أصول علم النفس» ألا يخلط العلم بالفلسفة، إلا أنه — بطبيعة الحال — لم يستطع تخليص ذلك العلم من وجهة نظره العامة التي كانت أساس علم النفس عنده، وستكون أساس فلسفته أيضًا.

والمحور الرئيسي في فلسفة «جيمس» هو رأيه في «المعنى» — معنى اللفظة أو معنى العبارة — فماذا «نعني» بهذه الكلمة أو تلك، وبهذه العبارة أو تلك؟ إن لكل كلمة معناها الخاص، وكذلك لكل عبارة، لكن ما هي الصفة المشتركة بين كل ذي معنى، بحيث نستطيع أن نقول عن تلك الصفة المشتركة أنها «المعنى» الذي يجعل الكلمة المعينة أو العبارة المعينة ذات مدلول، ونظريته في «المعنى» لا تختلف في جوهرها عن نظرية «بيرس» التي أسلفنا لك القول فيها — في الفصل السابق — فهما معًا يذهبان إلى أن «معنى» فكرة من الأفكار، المعنى الذي يجعل الفكرة مفهومة وذات دلالة، هو النتائج العملية التي تترتب على الفكرة في خبراتنا، فإذا قلت — مثلًا: «قد انطفأ غليوني» كان «معنى» ذلك أن «أتوقع» نتائج معينة في خبرتي، كأن أتوقع ألَّا أحس طعم التبغ إذا جذبت أنفاسي خلالها، وألَّا يحترق إصبعي إذا وضعته في وعائها، وهكذا وهكذا، فهذه كلها خبرات ستكون مختلفة في حالة انطفاء الغليون عنها في حالة اشتعاله، وقد لا يكون في هذا الكلام جديد بالنسبة إلى طريقة فهمنا لكثيرٍ من عباراتنا في الحياة اليومية وفي معمل العلوم الطبيعية على السواء، ففي هذين المجالين ننصرف — في كثيرٍ من الحالات — إلى النتائج المترتبة على القول لنفهم معناه، لكن الجديد فيه هو القول بأنه لا معنى للعبارة إلا هذه النتائج، هذا جديد، بل يستوقف النظر ويستثير الدهشة لو أمعنت في مضمونه، فأنت في حياتك اليومية، حتى إن فهمت العبارة على أساس نتائجها، قد تظن أن للعبارة معنًى غير هذه النتائج العملية كأنما النتائج العملية تأتي عرضًا، وقد لا تأتي ويظل للجملة معنى، فكم ألف ألف عبارة نقولها، ونتوهم أن قد فهمنا لها معنى، فإذا سُئلنا عن النتائج العملية التي تترتب عليها في خبراتنا لم نجد شيئًا، ومع ذلك نصر على أنها ذات معنًى مفهوم، لكن هذه النظرية الجديدة في المعنى، نظرية «بيرس» و«جيمس» على السواء، تذهب إلى أنه لا معنى للعبارة إلا نتائجها العملية في خبراتنا البشرية، وإذا لم يكن ثَمَّة في خبراتنا من نتائج تترتب على جملةٍ معينةٍ، لم يكن لتلك الجملة معنًى، بل كانت لغوًا فارغًا لا يدل على شيء، وإن خيِّل إلينا غير ذلك.

هذه النظرية في «المعنى» تقضي على الخلافات اللفظية التي كثيرًا ما تنشب بين المختلفين بغير داعٍ يدعو إليها، إما لأن ما يختلفان عليه ليس بذي معنًى على الإطلاق، وإما لأنهما يعنيان شيئًا واحدًا، وهما لا يعلمان، بحكم أن كلًّا منهما يقول كلامًا غير الكلام الذي يقوله زميله، فيتوهمان أن اختلاف اللفظ يستتبع حتمًا اختلاف المعنى، مع أنه قد يكون المعنى واحدًا في القولين، إذا كانت نتائج القولين واحدة، فإذا قلت مثلًا عن منضدة إن طولها متران، وقال زميلي عنها إن طولها ليس مترين على وجه الدقة، لكنها تقرب من المترين قربًا لا تستطيع أدوات القياس التي بين أيدينا أن تكشف عنه، فهذان قولان ظاهرهما اختلاف، لكن حقيقتهما اتفاق في المعنى؛ لأنه لا اختلاف من حيث النتائج العملية بين القول الأول والقول الثاني؛ فأنا وزميلي على حدٍّ سواء سنستخدم أدوات القياس التي بين أيدينا، وسيجد كلانا أن ما يعمله الأول هو نفسه ما يعمله الثاني، وليس في خبرة زميلي نتيجة واحدة سيختلف بها عن النتائج التي ستقع لي في خبرتي بسبب اختلاف قوله عن قولي في طول المنضدة، فلو اشترى لها غطاء، واشتريت لها غطاء، فسيكون ما يعمله — من حيث طول الغطاء — مطابقًا لما أعمله، وهكذا، وإذن فقد انحسم الخلاف بيني وبينه في النتائج العملية؛ وبالتالي قد انحسم الخلاف بيني وبينه في معنى ما قاله وما قلته، على الرغم مما كان ظاهرًا بين القولين من اختلاف.

وكذلك قد ينشأ الخلاف بين متنازعين على ما ليس له معنى على الإطلاق، حين يكون الحكم في المعنى على النتائج العملية التي تقع في خبراتنا، فافرض — مثلًا — أني قلت لزميلي إن «أرواحًا» تسكن هذه الغرفة، ونفى زميلي هذا القول، فما هي النتائج العملية التي تكون في خبرتي ولا تكون في خبرته بناءً على إثباتي لشيءٍ هو ينفيه؟ لا شيء؛ لن أمسك بيدي ما لا يستطيع هو أن يمسكه، ولن أرى بعيني ما لا يستطيع هو أن يراه، ولن أشم ولن أسمع ما لا يستطيع أن يشمه أو يسمعه، لو اختلفنا على وجود خيط مشدود فوق أرض الغرفة بين الجدارين المتقابلين، فأنا أزعم وجوده وهو ينفي، لكان هنالك اختلاف في السلوك المترتب على عقيدتي وعقيدته؛ فقد أخطو فوق الخيط محاولًا ألا أتعثَّر فيه لعلمي بوجوده، وقد لا يحسب هو حسابًا لذلك فيتعثر ويقع، ها هنا اختلاف في النتائج العملية، وهو الذي يدل على أن كلامي وكلامه كان لهما «معنى»، وهكذا قل في كل عبارةٍ نقولها، فهي بغير معنى ما لم يترتب عليها نتيجة أو نتائج في خبراتنا البشرية العملية، وهذه النتائج هي وحدها معنى العبارة الذي لا معنى لها سواه، ومن التناقض أن تقول عن جملة — كائنةً ما كانت — إنك قد فهمت معناها ولو أنها لا تغير شيئًا من خبرتك السلوكية بين حالتَي نفيها وإثباتها.

إلى هنا يتفق «جيمس» مع «بيرس»، لكن «جيمس» يختلف عن «بيرس» في المزاج؛ وبالتالي فهو يستطرد في النظرية استطرادًا يختلف به عن «بيرس»، وحين أقول هنا إن اختلافهما في «المزاج» قد أدى إلى اختلافهما في الرأي، فإنما أستخدم نظرية ﻟ «جيمس» نفسه، حين قال إن الناس نوعان؛ ففريق ذو عقل «ناشف» أو «صُلب»، وفريق آخر ذو عقل «لين» أو «رخو»، العقل الأول معاند والعقل الآخر مطاوع، وبين الفلاسفة هذا الاختلاف نفسه، فالفلاسفة أصحاب العقول اللينة أو المطاوعة هم العقليُّون المثاليُّون المتفائلون المتدينون الواحديون الاعتقاديون القائلون بالإرادة الحرة، وأما الفلاسفة أصحاب العقول الناشفة أو المعاندة فهم التجريبيون الماديون المتشائمون الآخذون بشهادة الحواس وحدها، العازفون عن الدين، المتشككون، القائلون بأن العالم كثرة لا واحد، وقد كان «بيرس» من أصحاب العقول الناشفة المعاندة، أما «جيمس» فقد جمع الطرفين في شخصه؛ إذ كان في طبيعته جانب العالم وجانب الفنان في آنٍ واحد؛ ولذلك تراه في بعض نواحيه من أصحاب العقول المعاندة، ذلك حين يحتكم إلى التجربة والحس وما إلى ذلك، لكنه في نواحيه الأخرى ذو عقل لين مطاوع، ومن هذه النواحي رأيه في الدين وفي وجود الله، وهنا أحد مواضع الاختلاف بينه وبين «بيرس» في نظرية المعنى؛ فبينما يتفق الاثنان على أن الجملة لا تكون ذات معنى إلا بمقدار ما لها من نتائج عملية تقع في خبراتنا البشرية، ترى «جيمس» يستطرد بالنظرية فيخرج بها عن حدودها، إذ يجعل أن جملة مثل «الله موجود» ذات معنى، وشرح ذلك عنده كما يأتي: إن وجود الله يستحيل بالطبع إثباته إذا احتكمنا إلى خبراتنا العملية؛ لأننا لا نراه ولا نسمعه ولا نمسه، وإذن فلا يجوز أن يكون ذلك طريق إثباته، ومع ذلك فهنالك طريق غير مباشر إلى إثبات المعنى لهذه الجملة إذا رجعنا في ذلك لا إلى النتائج الحسية المباشرة، بل إلى النتائج العامة التي تحدث في وجهة نظر المؤمن بصدقها، فالذي يؤمن بأن الله موجود يختلف شعوره في حياته عمن لا يؤمن بذلك، فتراه مثلًا متفائلًا قوي الرجاء؛ وبالتالي فهو مستبشر بحياته فرح مطمئن، على خلاف زميله المنكر؛ إذ يغلب أن يكون هذا متشائمًا منقبض النفس معدوم الرجاء والأمل، وهذا الاختلاف في وجهة النظر كافٍ وحده أن يجعل للجملة معنى لما لها من نتائج.

ولا يسوق «جيمس» هذا المثل جزافًا، بل يجعله تطبيقًا لمبدأ عام، نلخصه فيما يلي: هنالك حالات تقطع فيها الشهادة بالصواب أو بالخطأ، وعندئذٍ لا إشكال في قبولها أو رفضها، لكن هنالك أيضًا حالات كثيرة جدًّا تمتنع فيها هذه الشهادة الحاسمة، فماذا يكون موقفنا إزاءها؟ يرى «جيمس» أنه في مثل هذه الحالات نأخذ «بأنفع» الفروض، ويكون النفع هنا هو هو بعينه صدق الفرض الذي أخذنا به، فانظر إلى هذا السؤال مثلًا: هل الحياة تستحق منا أن نحياها؟ إننا لا نملك ما يعيننا على الإجابة الحاسمة عن مثل هذا السؤال، فسواء أجبت بالإيجاب أو بالنفي، جاز لمعارضك أن يسألك لماذا كان الإيجاب أو كان النفي، دون أن تجد ما تقنعه به، فليس محالًا على إنسان أن يرى لنفسه أن الحياة لا تستحق منه أن يحياها، والعجيب أن مثل هذا المتشائم قد ينتهي به رأيه هذا في حياته إلى نوعٍ من الحياة هو بالفعل لا يكون جديرًا بالعناية أو الرعاية، ومن جهةٍ أخرى قد تجد من يقنع نفسه بأن الحياة تستحق أن يحياها، وتراه بفضل قراره هذا يجعل حياته بالفعل حياة جديرة بالعيش، وهكذا ترى أن الاعتقاد بالصواب في مثل هذه الحالة قد خلق الصواب فعلًا، فيكفي أن تأخذ بوجهة نظر معينة — في أمثال هذه الحالات التي يمتنع فيها القطع بصواب أو بخطأ — لتحدث لك هذه الوجهة من النظر نتائج عملية في حياتك تجعل رأيك صوابًا، هذه هي النظرية التي يعرضها «جيمس» في مقالته المشهورة التي عنوانها «إرادة الاعتقاد»، وهو يقصد من العنوان نفسه أن الاعتقاد في الحالات التي لا تحسم فيها الشواهد، إنما يتوقف على إرادة الإنسان المعتقد، فاعتقد — إن شئت — وسيكون لعقيدتك أثرها في حياتك؛ وبالتالي ستكون عقيدة ذات معنًى ومغزى ودلالة حكمًا بمقياس البراجماتية نفسها.

وهذا ينتقل بنا إلى نظرية «جيمس» في الحق، أو في الصدق، صدق العبارة التي نقولها، فمتى تكون العبارة صادقة؟ يجيب «جيمس» بأنها تكون كذلك إذا تصرفت على أساسها فلم تجد ما يعترض غايتك، فالصدق أو الحق هو هداية في السلوك لا أكثر ولا أقل، ألم نقل إن «المعنى» — مهما كانت الكلمة أو الجملة — هو ما ترتب على الكلمة أو الجملة من نتائج؟ وكلمة «الحق» أو «الصدق» لا تشذ عن هذه القاعدة العامة، معناها هو نتائجها، فكل ما يؤدي إلى النتائج المرجوة «حق»، وكل ما لا يؤدي إلى مثل هذه النتائج «باطل»، الأمر في ذلك شأنه شأن الفروض العلمية نفسها، فكيف يقرِّر العالِم في معمله أن فرضًا ما صحيح؟ يقرر ذلك بعد أن يرى النتائج التي تنتج عن الفرض، فإذا وجده مطابقًا في نتائجه تلك لكل وقائع الظاهرة التي جاء الفرض ليفسرها، كان عنده فرضًا صحيحًا وإلا فهو باطل، فهكذا الأمر في كل عبارةٍ نقولها، هي بمثابة فرض علمي نفرضه، ويكون تحقيقه مرهونًا بانطباقه على الواقع، وليس في طبيعته شيء يجعله صوابًا أو خطأ غير نجاحه أو فشله في تفسير الواقع.

وهذا القول نفسه يمكن التعبير عنه — كما عبَّر عنه جيمس — بعبارةٍ أخرى، فنقول: إن الحق هو ما كان الاعتقاد فيه أفضل من إنكاره، أفضل بالنسبة إلى طرائق سلوكنا في الحياة العملية الواقعة، «الحق» أو «الصدق» هو ما تسلك على مقتضاه فلا تجد من الحوادث ما يعترض سبيلك أو يناقض اعتقادك، «الحق» أو «الصدق» هو ما ينجح من حيث الثمرة العملية التي يثمرها العمل بمقتضاه، ليس «الحق» صفة آسنة راكدة لاصقة بالعبارة التي نصفها بهذا الوصف، بل هو قابلية العبارة لأن تكون أداة للسلوك وخطة للعمل، فإن كان فيها ما يهدينا إلى العمل الناجح فهي «حق» وإلا فهي باطل، ومن هنا قال «جيمس»: إن «الحق» أو «الصدق» لا يكون في الجملة قبل النزول بها إلى معترك الحياة والعمل، بل هو «يطرأ» عليها عندئذٍ «فتصبح» حقًّا أو صدقًا حين ألمس أثرها الناجح في ميدان السلوك، فالحوادث العملية وحدها هي التي تجعلها صادقة أو باطلة.١
كلمة «الحق» وكلمة «النفع» مترادفتان، فنقول عن فكرة إنها نافعة لأنها حق، أو إنها حق لأنها نافعة، والقولان في المعنى سواء؛ لأنهما في النتائج العملية سواء، أو قل إن شئت أن «الحق» و«النفع» طرفان لخيطٍ واحد، أحدهما داخل العقل والآخر خارجه، فعندما تكون الفكرة في أول سيرها نحو التحقيق، نصفها بكلمة حق، حتى إذا ما خرجت إلى عالم الخبرة عملًا، وصفناها بأنها نافعة،٢ وفي هذا الصدد يقول «جيمس» تشبيهه المشهور الذي يوضح الفكرة بوضوحه، لكنه في الوقت نفسه كان موضعًا سهلًا للنقاد يهاجمونه منه، إذ يقول: إن الخبرة هي «القيمة الفورية»٣ لما نصفه بأنه حق، تشبيهًا للعبارة الصادقة بالسلعة المطروحة في السوق، قيمتها ليست في ذاتها، بل فيما يُدفع فيها من ثمن، فأثار هذا التشبيه نقد المهاجمين، فكيف ينزل «جيمس» — في رأيهم — بالحق إلى هذه الدرجة من المادية التي تجعله سلعة من السلع؟ أما «جيمس» فقد فرح بتشبيهه هذا وعدَّه توفيقًا في التعبير الأدبي، وراح يستخدمه ويوسع من مدى تطبيقه، فقال في مناسبةٍ أخرى إن الفكرة تظل صادقة ما دام لم يعترضها معترضٌ ممن نعاملهم على أساسها؛ فهي كالذي يعامل الناس معتمدًا على حسابه في البنك، فالفكرة كورقة النقد تصلح للتعامل إلى أن يعترضها معترضٌ بحجة أنها باطلة،٤ وما دامت الفكرة ساريةً نسلك على أساسها فنحقق بسلوكنا ما نبتغي من نتائج فهي فكرة صواب.
مقياس النجاح في النتائج العملية، الذي جعله «جيمس» مقياس «الحق»، هو نفسه معيار الأخلاق، فالذي يجعل الفعل فضيلة هو أنه فعل ناجح،٥ فإذا استعرضت مختلف المواقف التي يقول عنها الناس إنها من الفضيلة أو من الرذيلة ألفيتَ فيها جميعًا عاملًا مشتركًا، هو وجود الإنسان الذي يعي بشعوره ما في الموقف المعين من قيمةٍ خُلقيةٍ إن خيرًا وإن شرًّا، وإذن فلأن يكون الفعل خيرًا؛ فذلك لأنه كذلك في نظر واحد أو أكثر من الناس، ولو خلا العالَم من البشر لبقي العالم غير موصوف بخير أو شر، ومعنى ذلك أن تقدير الإنسان للفعل عنصر جوهري في اعتبار قيمته الخلقية، وعلى أي أساس يكون هذا التقدير إن لم يكن على أساس إشباع الفعل لرغبات الإنسان، هذا معيار لا يقتصر تطبيقه على الفرد الواحد، بل يمتد ليشمل البشر أجمعين، وهو في الوقت نفسه يجمع في مضمونه أنظار الفلاسفة على اختلاف مذاهبهم، فلنفرض أن فعلًا معينًا قد أشبع رغبة فرد دون سائر الأفراد، فماذا يكون الحكم فيه؟ يجيب «جيمس» قائلًا: إنه لا تفضيل لرغبة على رغبة، فالرغبات — من حيث هي رغبات — سواء، وإذن فلا أساس للمفاضلة بين الأفعال إلا بمقدار ما تحقِّقه من رغبات، فأكثر الأفعال تحقيقًا لها أكبرها قسطًا من الفضيلة، وهذه الحالة نفسها — حالة الصراع بين الرغبات المختلفة — قد تكون في الفرد الواحد، وعندئذٍ تكون القاعدة الخلقية الواجب اتباعها، هي نفسها القاعدة التي تتبعها مجموعة الأفراد، وهي تغليب الفعل الذي يشبع الرغبة الأقوى، على أن نفهم «الأقوى» بمعنى الأمد الطويل، وما قد يظهر فيه من نتائج للفعل الذي أديناه، الفضيلة بهذا المعنى هي إشباع الرغبات، والفضيلة المثلى هي إشباع الرغبات جميعًا، ولما كان هذا محالًا، كان الأفضل دائمًا هو الأكثر إشباعًا لأكبر قدر مستطاع من رغباتنا.

وليس بخافٍ على «جيمس» أن هذه النظرية في الأخلاق من التعميم، بحيث لا تصلح وحدها هاديًا في السلوك إذا ما نشأ موقف معين، وكان على الإنسان فيه أن يختار طريقًا للعمل، لكنه لا يجد وسيلة لتخصيص ما يعمل في كل موقف على حدة، فالأمر متروك للإنسان الفرد عندئذٍ؛ لأنه سيكون أدرى بالظروف التفصيلية المحيطة به، وعلى كل حالٍ فليس من شأن الفلسفة الخلقية أن «تعظ»؛ فهي معنية بالمبادئ العامة وحدها، وعلى غيرها تقع مهمة التطبيق.

حسبنا هذا المقدار من «براجماتية» جيمس — لكن البراجماتية منهج وليست فلسفة إيجابية ذات نتائج معينة، فهل هو من فلاسفة المناهج وكفى؟ — إذ قد يقتصر الفيلسوف على منهج التفكير دون أن يكون له هو نفسه تفكير خاص يقوم على أساس هذا المنهج — أم أن له فلسفة قائمة على منهجه؟

لوليم جيمس فلسفته الخاصة التي يطلق عليها اسم «التجريبية المتطرفة»٦ عنها يقول في مقدمته التي يقدم بها كتابه «معنى الحق»٧ ما يأتي: «تتألَّف التجريبية المتطرفة أولًا من مصادرة، ثم من حقيقة أقررها، وأخيرًا من نتيجةٍ عامة.»٨ أما المصادرة (والمقصود بكلمة «مصادرة» فرض يفرضه الباحث ويصدر به بحثه ويطالب القارئ بأن يسلم بصحته؛ فهي في ذلك شبيهةٌ بالبديهية) فهي أن كل مناقشة فلسفية يجب أن تنحصر في موضوعات مما يقع في الخبرة البشرية، قد يكون في الكون ما لا يقع للناس في خبراتهم، لكن حديثنا عنه عندئذٍ يصبح بغير معنى، إن «جيمس» لا يدَّعي أن وجود الشيء متوقفٌ على خبرتنا به، لكن الذي يدعيه هو أن الشيء لا يكون مفهومًا لنا، وذا دلالة في حديثنا عنه، إلا إذا كان جزءًا فعليًّا أو ممكنًا من أجزاء الخبرة الإنسانية.
تلك هي «المصادرة» التي لو وقف عندها لكان على اتفاق مع التجريبية الإنجليزية؛ لأن رجال هذه المدرسة — لوك وباركلي وهيوم — هم أيضًا يرَوْن أن ما يُستطاع معرفته هو وحده الذي يقع في حدود خبرات الإنسان، وعبثًا نتحدث إذا لم يكن حديثنا عن شيءٍ خبرناه فعلًا، أو كان في الإمكان أن نخبره، لكن «جيمس» لا يقف عند حدود هذه المصادرة وحدها، بل يمضي فيقرر حقيقة هي التي ميَّزت تجريبيته وجعلتها تجريبية «متطرفة» — كما أسماها — وهي أننا حين ندرك أشياء العالم بالخبرة المباشرة، فإنما ندرك الأشياء وما يربطها من علاقات، فالعلاقات القائمة بين الأشياء هي — كالأشياء نفسها — مما ندركه في عناصر الموقف الذي يتاح لنا أن ندركه، وليست هي — كما كان الظن — من صناعة عقولنا،٩ كلا ولا هي شيء خارج عن طبيعة الموقف جاءه من أعلى، بل هي جزء منه لا يتجزَّأ، يدركه الإنسان إذ يدرك الموقف بكل ما فيه من عناصر؛ أشياء وعلاقات، والقارئ الذي لم يألف مشكلة العلاقات في الفلسفة قد لا يقدر خطورة هذه الحقيقة التي يقرِّرها «جيمس»؛ إذ يقرر أن «العلاقات» تدرك في الخبرة المباشرة كالأشياء المرتبطة بتلك العلاقات سواء بسواء، ولكي أعينه على تقدير هذه الحقيقة أستطرد فأقول: إن الفلاسفة ينقسمون قسمين رئيسيين؛ المثاليون من جهة، والواقعيون من جهة أخرى، أما المثاليون فهم الذين يجعلون حقائق الأشياء في كونها أفكارًا في عقولنا، أي إن الشيء المعين موجود إذا كان له فكرة في رأسي، وإلا فلا وجود له، وإن كان الأمر كذلك، فمجموعة الأشياء — أي الكون كله — هي بالتالي مجموعة أفكار في عقل الإنسان أو في عقل الله، فكيف تكون العلاقات بين الأفكار؟ إنها ليست علاقات مكانية؛ فالفكرة لا تكون على يمين الفكرة أو على يسارها — مثلًا — لكن العلاقات بين الأفكار تكون في تضمُّن بعضها لبعض، والاستدلال على بعضها من بعضها الآخر وهكذا، وبهذا تكون مجموعة الأفكار بمثابة نسقٍ واحد أو بناءٍ واحد، تستطيع من كل فكرة أن تعلم فكرة أخرى؛ لأنها نتيجة تلزم عنها، أو لأنها مقدمة تقتضيها، وهكذا تظل تنتقل من فكرةٍ إلى فكرةٍ بالاستدلال وحده، حتى يكتمل لك النسق كله، إذن فمن فكرةٍ واحدة — أي فكرة شئت — تستطيع أن تستدلَّ على سائر الأفكار جميعًا، الأمر في ذلك كالأمر في نظريات الهندسة — مثلًا — حيث تستطيع من أي نظريةٍ شئت أن ترجع قافلًا إلى مقدماتها أو تتقدم سائرًا إلى نتائجها حتى يكتمل لك البناء كله، فكأن كل نظريةٍ واحدة تحمل في جوفها مجموعة النظريات، بعضها كامن فيها؛ لأنه مقدماتها، وبعضها الآخر كامن فيها أيضًا؛ لأنه نتائجها، وفي مثل هذه الحالة لا بد أن يكون النسق كله وحدة واحدة، علاقة الكل بأجزائه هي علاقة الكائن العضوي بأجزائه … وما شأن «العلاقات» بهذا كله؟ شأنها هو أن المثاليين — بناءً على رأيهم هذا — يجعلون العلاقات التي تربط الأشياء بعضها ببعض أجزاء من طبيعة الأشياء نفسها، داخلية فيها وليست تأتيها من الخارج لتربط شيئًا بشيء؛ لأن علاقة الشيء الواحد بسائر الأشياء هي نفسها جزء متمم لطبيعة ذلك الشيء، ولولاه لما عرفت حقيقته كلها، فمثلًا إذا قيل لك عن «أ» إنه والد «ب» فأين ترى علاقة «والد» هذه التي تربط الشخصين «أ» و«ب»؟ عند المثاليين أن هذه العلاقة تراها بتحليل طبيعة «أ» وحقيقته، وعندئذٍ ستجد أن جزءًا من تلك الحقيقة أنه «والد»، فالعلاقة إذن داخلية فيه، وليست جزءًا من المشاهدة التي تأتي عن طريق الحواس.

وأما الواقعيون فيرون رأيًا غير هذا؛ إذ يرون أن الأشياء التي ندركها موجودة وجودًا خارجيًّا مستقلًّا عن عقولنا وما فيها من أفكار؛ فهي موجودة سواء صادفها العقل الذي يدركها أو لم يصادفها، وإذا كان الأمر كذلك، فعلمي بها متوقف على ما أشاهده منها، لا على استدلالٍ عقلي، فإذا رأيت شيئًا يقع قبل شيء، قلت إنه وقع قبله؛ لأني شاهدته هكذا، لا لأني وجدت الأول يستتبع بالضرورة حدوث الثاني كنتيجة له، ولما كان العالم يأتي في التجربة الحسية أشياء مختلفة كثيرة مرتبطة بعلاقات مختلفة كثيرة كذلك، وجب أن أقول: إنه عالم «متعدد»، وليس هو بالوحدة الواحدة كما يظن المثاليون، وأن هذا التعدد لا يكون الجزء منه دالًّا على الجزء الآخر دلالة حتمية كما يظن المثاليون أيضًا، بل الأمر موكول إلى الخبرة، فإن وجدت جزءين متلازمين قلت إنهما كذلك، وإلا فلا أستدل على وجود الواحد من وجود الآخر … وما شأن «العلاقات» وإدراكها بذلك؟ شأنها هو أن الخبرة الحسية — كما يقول التجريبيون — تأتي في الحقيقة مفككةً إلى الذهن، والذي يربطها بعضها ببعض هو الإنسان المدرك، يربطها على مقتضى قوانين يسمونها قوانين تداعي الأفكار أو ترابطها.

فإذا ما جاء «جيمس» ليقول: إن الإنسان يدرك العلاقات إدراكًا مباشرًا مع الأشياء نفسها المرتبطة بتلك العلاقات، يكون قد سار بتجريبيته خطوة أخرى بعد التجريبية الإنجليزية التي قصرت المشاهدة على «الحالات» المتقطعة المتجزئة وحدها، ثم جعلت العلاقات التي تربطها تتم في الداخل ولا تأتي مع بقية المدركات من خارج — ومن ثم كانت تجريبية «جيمس» تجريبية «متطرفة» — وبعد هذه الحقيقة التي يقررها عن العلاقات، تجيء النتيجة التي ينتزعها منها، وهي أن العالم هو ما يجيء في الخبرة، وليس هنالك ما يدعو إلى إضافة شيء من عندي لبنائه أو تدعيمه، يجيئني العالم في خبرتي قائمًا في بنائه مدعمًا بروابطه، إذ يجيئني بعنصريه؛ الأشياء والعلاقات التي تربط تلك الأشياء في وقائع؛ فقد كانت مسألة العلاقات هي نقطة الضعف في التجريبية الإنجليزية التقليدية؛ ولذلك كانت أيسر نقطة يهاجمها منها أنصار الفلسفة المثالية؛ إذ كانت هذه الفلسفة تسأل المذهب التجريبي قائلة: إذا كان الإدراك أمره أمر حالات تأتي متقطعة عن طريق الحواس المختلفة، فما الذي يُوجِد العلاقات بين أجزائه؟ هذا مصباح على منضدة — مثلًا — وهكذا أراه مرتبطًا بالمنضدة بعلاقة «على»، لكن العين لا ترى «على»، بل ترى «مصباحًا — منضدة»، فكيف وبأي الوسائل أدرك «على» التي ليست بين المحسوسات؟ أقول: إن هذه كانت أيسر نقطة للهجوم على المذهب التجريبي من جماعة المثاليين الذين ينكرون الكثرة، وينكرون خارجية الأشياء، فجاء «جيمس» واعترف للمثاليين بوجاهة نقدهم وصوابه، لكنه أعاد بناء المذهب التجريبي نفسه ليقابل هذا النقد، بأن جعل العلاقات جزءًا يُدرَك بالخبرة المباشرة كأي جزء آخر، وبهذا أصبحت التجريبية مذهبًا أوفى وأكمل وأقدر على مواجهة الهجوم.١٠
لكن موضوع العلاقات، وجعلها جزءًا من الخبرة المباشرة، ليس وحده يكون «التجريبية المتطرفة»، بل يقوم إلى جانبه موضوع آخر، أبعد منه أثرًا في توجيه الفلسفة المعاصرة، ألا وهو فكرة «العنصر المحايد» الذي لا هو بعقلٍ ولا هو بمادة، إنما العقل والمادة كلاهما اشتقاقان من مصدر محايد، ولشرح ذلك أقول: إن هذه المنضدة التي أمامي تبعث موجات ضوئية في كل مكان يمكن أن ينبعث الضوء منها إليه، وفي أي نقطةٍ من هذا المكان يمكن رؤية المنضدة، وإذن فلو سألت: أين المنضدة؟ أجبت: هي في كل هذه النقط المكانية على السواء، فاجمع كل «الظواهر» الموجودة إمكانًا في أرجاء هذا المكان، تكن لك المنضدة، فلو وقفت في نقطةٍ مكانيةٍ من هاتيك النقط التي تنبعث إليها ظواهر المنضدة، تكون لديك منها صورة حسية، ومن الظواهر الخارجية مضافة إلى الصورة الحسية التي كوَّنتها عنها تكون حقيقة المنضدة، فليس الفرق بين الشيء الخارجي الذي جرى العرف بأن نسميه بالمنضدة، وبين الصورة الحسية، وهو فرق بين مادة في الخارج وعقل في الداخل، بل كلا الجانبين — الخارج والداخل معًا — متكوِّن من مصدرٍ واحد هو الظواهر المنبعثة في نقاط المكان، تنظر إليها من خارج فإذا هي الحقيقة الخارجية، وتنظر إليها من داخل، فإذا هي الفكرة الداخلية، وخلاصة القول هي أن المادة لم تعد «مادية»، ولا أصبح العقل «ذاتًا روحانية» كما كان يقال، بل انحلَّت المادة إلى ظواهر متناثرة ففقدت صلابتها، وانحل العقل إلى حالاتٍ إدراكية ففقد ذاتيته، والجانبان معًا صادران عن عنصرٍ محايد.١١
ويتفرع عن «التجريبية المتطرفة» نتيجة هي العقيدة بأن العالم ليس وحدة، بل هو متعدد المحتوى، وقد عبَّر «جيمس» عن هذا المذهب التعدُّدي في كتابه «عالم متكثر»١٢ أي إن العالم قوامه كائنات كثيرة لا كائن واحد، فكما أنه يرى أن المظهر الواحد من مظاهر الشيء المعين قد يكون جزءًا من الشيء الذي اصطلحنا على أن نصِفَه بالمادية والموضوعية، أو أن يكون جزءًا من الإدراك الحسي لشخصٍ مدرك؛ ومن ثم فهو حالة من مجموعة الحالات الشعورية لذلك الشخص، وهي المجموعة التي اصطلحنا أيضًا على أن نسميها عقلًا، فكذلك المدرك الحسي الواحد قد يكون حالة شعورية في أكثر من عقلٍ واحد؛ إذ قد يكون المدرك الحسي لهذه المنضدة — مثلًا — حلقة من حياتي الشعورية، وحلقة من حياتك الشعورية، ثم ما هو أكثر من هذا، إذ قد يكون المدرك الحسي المعين جزءًا من الحياة الشعورية لفردٍ من الناس، ويكون في الوقت نفسه جزءًا من الحياة الشعورية لعقلٍ أشمل من عقل ذلك الفرد، بحيث يشمل كل هذا العقل الفردي بجميع حالاته، مضافًا إليه مدركاتٍ أخرى، وعندئذٍ يكون المدرك — أو الفكرة — حالة من حالات عقلٍ أصغر، وحالة من حالات عقلٍ أكبر، فيكون لها بذلك وضعان مختلفان، مع أنها هي هي الفكرة نفسها، ومن هذا ينفسح أمامنا المجال لاحتمال أن يكون العالم كله محتوى في عقل واحد كبير احتواء الأدنى في الأعلى يشمل كل العقول الفردية، بحيث يكون كل إدراك من إدراكات العقول الفردية إدراكًا في العقل «الإلهي» الشامل، وعندئذٍ تتكون لدينا فكرة عن «إله» يختلف عن الفكرة التي تكوَّنت عنه في الديانات التقليدية، وكذلك تختلف عن الفكرة التي تكونت عنه في الفلسفات الآخذة بمبدأ وحدة الوجود؛ وذلك لأن هذا الإله الذي هو عقل يشمل سائر العقول، ليس منفصلًا عن الكون انفصال الخالق عن خلقه كما تصورت الديانات التقليدية، كلا ولا هو حال في الوجود كله كما تصورت فلسفة وحدة الوجود، ولكنه إله بينه وبين سائر العقول الفردية قسط مشترك، هو الاشتراك في إدراكاتٍ بعينها، لكنه في الوقت نفسه يتميز بفردية مستقلة، كما يتميز كل فرد من الأفراد الصغرى بفرديته المستقلة، فالصورة — كما يتخيَّلها «جيمس» — هي أقرب إلى سلمٍ متدرجٍ من عقول؛ فعقل أكبر من عقل؛ لأنه يدرك إدراكاته ثم يزيد عليها، ثم عقل ثالث أكبر من هذا العقل، فرابع أكبر وهكذا دواليك صعودًا، دون أن يتحتم أن يكون هنالك عقل مطلق يسع كل شيء، فالعقل الأعلى فيه كل ما في الأدنى مع الاحتمال دائمًا بأن يكون هناك ما هو أعلى.
ولعل ما حدا بوليم جيمس إلى مثل هذه الفكرة التي تجعل العقول متصاعدة، دون أن تضيع في ذلك شخصية العقل الفردي، هو أنه أراد أن يحتفظ لكل فردٍ إنساني بإرادته المستقلة، لتقع عليه مسئوليته الخلقية، إنه لو جعل في الكون إلهًا يشمل كل شيء، وتنمحي فيه الأفراد، لتورط فيما تورطت فيه الديانات التقليدية والفلسفات الموحدة للوجود، وهو مشكلة الشر؛ فلو كان هنالك مثل هذا الإله الشامل، للزم أن يكون مسئولًا عن كل ما يقع، والشر بعض ما يقع، فإما أن نقول: إن الله عندئذٍ مسئول عنه، أو إنه عاجز عن درئه، و«جيمس» يفضل البديل الثاني، ويكون العجز هنا معناه أن الله لا يشمل كل شيء في الوجود، بل إن هنالك إلى جانبه سائر العقول والإرادات، التي وإن تكن أدنى منه وأصغر في سعة الإدراك، إلا أنها موجودة مسئولة عما تصنع، فهذا الافتراض يجعل لكفاح الأفراد نحو الخير معنى؛ لأنه يجعل في مستطاع الأفراد تغيير ما هو كائن إذا كان شرًّا ليصبح أفضل مما هو وأكمل … ولا تسل «جيمس» قائلًا: ما برهانك؟ لأنه لا برهان، فهذه حالة من الحالات الكثيرة التي قال عنها إنه حيث لا يكون برهان يثبت أو ينفي، فعلينا بالاختيار اختيارًا إراديًّا متعمدًا لعقيدةٍ يكون من شأنها أن تفسح مجال الأمل في حياةٍ أفضل.١٣

(٢) «جون ديوي»١٤ وتغيير القيم

هو ثالث ثلاثة عمالقة خلقوا الفلسفة البراجماتية خلقًا، وأشاعوها في أرجاء العالم طرًّا بحيث لم يعد في وسع مثقف ألا يتابعهم في نتائجهم متابعة القبول أو متابعة الرفض والإنكار، وهؤلاء الثلاثة هم «بيرس» و«جيمس» و«ديوي»، على أنهم وإن ذهبوا جميعًا مذهبًا واحدًا من حيث الأصول، إلا أن كلًّا منهم قد انشعب به في اتجاهٍ يميزه عن زميليه، والصفة المميزة ﻟ «ديوي» هي محاولته استخدام منهج العلوم في التفكير في القيم — الأخلاقية والسياسية والجمالية وغيرها — تفكيرًا قد ينتهي إلى تغييرها تغييرًا يناسب ظروف الحياة الحاضرة، أو بعبارةٍ أخرى هي اتخاذه من الفكر «ذريعة»١٥ للعمل على نحو يحقق للإنسان ما يبتغيه في مجتمعٍ صناعي ديمقراطي كالمجتمع الذي نعيش فيه اليوم، أو على الأصح كالمجتمع الذي تعيش فيه الولايات المتحدة في عصرها الراهن.

ولم يكن «ديوي» براجماتيًّا منذ أول نشأته، بل تأثر في أولى مراحله بالفلسفة الهيجلية، ولم يكن له بدٌّ من ذلك؛ لأنه لم يجد حوله إلا أساتذة يذهبون في الفلسفة هذا المذهب، فأخذ عنهم، ثم أخذت ظروفه تتطور حتى اتخذ لنفسه طريقة البراجماتي بقية حياته، وقد كانت الأعوام التي شكلته من الوجهة الفلسفية تشكيلًا حاسمًا، وهي الأعوام العشرة الممتدة من ١٨٩٤م إلى ١٩٠٤م (ولد ديوي عام ١٨٥٩م ومات عام ١٩٥١م)، وذلك حين كان رئيسًا لقسم الفلسفة في جامعة شيكاغو، وحين قام بتجربة في التربية على نطاقٍ واسع، أجراها على مدرسة ملحقةٍ بالجامعة، فعندئذٍ نفض يديه من الفلسفة الهيجلية، وبدأ في وضع الأساس لوجهة نظره التي التزمها منذ ذلك الحين، وهي التي يُطلق عليها — كما قلنا — اسم «المذهب الذرائعي»، وهو مذهب شديد الشبه بما كان يدعو إليه «وليم جيمس» في ذلك الوقت نفسه باسم «الفلسفة البراجماتية».

وإنه لمما يعيننا على فهم وجهة النظر التي أخذ بها «ديوي» أن نذكر لمحة من حياته تلقي ضوءًا شديدًا على أصول تفكيره، ذلك أنه ولد ونشأ في ولاية «فيرمونت» في الشمال الشرقي، في منطقة ريفية هادئة يعيش أهلها على الزراعة، ولهم كل ما تقتضيه الزراعة من أخلاق المحافظة على القديم، وإيثار السلامة والأمن والدعة على المخاطرة، وما إلى ذلك، ثم انتقل في رجولته إلى ما يسمونه في الولايات المتحدة «بالغرب الأوسط»، وهو إقليم نزح إليه المغامرون من أهل الشرق — أعني شرقي الولايات المتحدة — الذي كان أول ما عمره الوافدون من أوروبا، حتى ازدحم، فماذا شهد «ديوي» في الغرب الأوسط خلال ستة عشر عامًا أقامها هناك؟ شهد حياةً اقتصاديةً تختلف اختلافًا بعيدًا عن حياة موطنه الزراعي الذي نشأ فيه؛ إذ رأى الثراء الطائل يجمعه صاحبه في مثل اللمح بالبصر، وقد يفقده كذلك في مثل اللمح بالبصر، رأى الناس تغلب عليهم المغامرة والمخاطرة، وأميل إلى العمل الحر الجريء منهم إلى العمل المستقر الثابت الآمن؛ لأن هذا الاستقرار وهذا الثبات وهذا الأمن يكلفهم الخضوع لقوانين الحكومة المطردة، ويكلفهم بالتالي الحد من أصالة التفكير وقدرة الابتكار، كانت الحياة هناك — كما شهدها «ديوي» — معرضة للخطر، ولكن بلوغ النجاح فيها كان كبير الاحتمال، فلم يكن الناس ينشدون اليقين في حياتهم، ومن هنا انعكس الأمر على تفكير «ديوي» حين أخرج فيما بعد كتابه «طلب اليقين» ليهزأ من طلب اليقين في حياة الفكر وحياة العمل على السواء، كان أهل الغرب الأوسط جميعًا ممن نزحوا حديثًا، فقلما تجد أسرة هناك عندئذٍ امتدت إقامتها أكثر من جيلٍ واحد أو جيلين، وقد نزحوا من كل فجٍّ من فجاج الأرض، فكأنما جاءوا جميعًا لا يحملون بين جنوبهم إلا شيئًا واحدًا، وهو أن يخاطروا ويغامروا، فمن ذا كان يعبأ عندئذٍ هناك بالتقاليد الموروثة أو بأصول الثقافات القديمة؟ نظر الجميع إلى أمام لا إلى وراء، مؤمنين بأن النجاح أكبر احتمالًا من الإخفاق.

ذلك هو طراز القوم الذين ذهب «ديوي» بينهم ليعلِّم أبناءهم في جامعة شيكاغو، فأي شباب تتوقع له أن يختلف إلى الجامعة؟ شباب كالآباء، يريدون العلم الذي يعين على العمل، يريدون الفكر الذي يرسم طريق النجاح، إنهم لم يكونوا كالشبان الذين ألفتهم جامعات أوروبا، بل الذين ألفتهم جامعات الجهة الشرقية من الولايات المتحدة نفسها، جاءوا وفي رءوسهم تقدير للثقافة في ذاتها، كلا؛ فقد تغيرت معهم وجهة النظر، وجاءوا ينشدون العلم الذي يكون قريب الصلة بما هم مقبلون عليه من حياةٍ عمليةٍ سريعة الخُطا، لم يكونوا يريدون — بالطبع — دراسة اللاتينية أو الإغريقية أو غيرهما من الدراسات النظرية البحتة التي هي في الحقيقة مخلفات الثقافة الأرستقراطية القديمة، التي كانت تصلح لأهل الفراغ من أبناء الطبقات الثرية، أمثال هذه الدراسات لم يعد بذي نفع في مجتمعٍ ديمقراطي كل أبنائه قد خلقوا للعمل، وللعمل الجاد، فإن كان طلاب الجامعات القديمة ينشدون النظريات التي يدرسونها وهم جالسون على مقاعدهم؛ فقد جاء هؤلاء إلى الجامعة يريدون العمل بأيديهم، فإذا ما كان الموضوع مما لا يقتضي عملًا مباشرًا، فليكن إذن شديد الصلة بما يعمل.

فكيف يجيء تيار الفكر في رأس فيلسوف حساس لما حوله من ظروف، إن كانت هذه الظروف هي التي تحيط به؟ هل يمكن أن يتجه بفكره إلى غير العمل؟ هل يمكن أن تدفعه هذه الرغبات الجامحة من حوله نحو النظر إلى المستقبل، ثم يلتفت رغم ذلك إلى الماضي؟ كلا، وهكذا كان الأمر مع «ديوي»، تشكك في قيمة التقاليد كلها، كالتقليد الذي جرى بين المفكرين الأمريكيين الأولين من أن للإنسان حقوقًا طبيعية كانت لهم قبل اجتماعهم في مجتمع، وكالعرف الذي يقضي بالرجوع إلى السابقات في أحكام المجتمع أو أحكام القضاء، وكالاعتقادات الدينية في صورها الجامدة، بل والافتراضات العلمية التي قد تكون قائمةً على غير أساس يبرر قيامها، إن كل شيء في حياة الإنسان قابل للتغير إن دعت الضرورة إلى تغييره، ولا يجوز أن يقفَ شيء — كائنًا ما كانت قيمته وقداسته — حائلًا في مجرى الإصلاح الاجتماعي وتوفير العيش الرغيد للإنسان العامل، لا بد من تغيير قواعد الأخلاق إن اقتضى الإصلاح هذا التغيير، ولا بد من تغيير أسس السياسة والاقتصاد والتربية وكل شيء مما قد يظن به الدوام والثبات، في سبيل تغيير الحياة تغييرًا يجعلها أكثر ملاءمة لظروف العصر الجديد.

وماذا تكون الفلسفة إن لم تكن — كما يصفها «ديوي» — تعبيرًا عقليًّا عن الصراع الداخلي الذي يسري في ثقافة العصر؟ مهمة الفلسفة هي أن تتعقَّب خيوط هذا الصراع إلى أصولها لتضع أمام النظر مصادر القوى التي تتجاذب عقول الناس، فيسهل بذلك تشخيص الداء ووصف الدواء، والحق أنك إذا أمعنت النظر في أي فلسفةٍ شئت، فمهما كانت هذه الفلسفة في ظاهرها منعزلة عن تيارات الحياة العملية، فستجدها في الحقيقة معبرةً عما تنطوي عليه تلك الحياة في عصرها من مبادئ أساسية يسير الناس في نشاطهم العملي على مقتضاها، شعروا بذلك أو لم يشعروا، فهكذا كانت فلسفة أفلاطون وفلسفة أرسطو — مثلًا — دفاعًا في صميمها عن المثُل العليا التي كانت هدف المدنية اليونانية يدافعون عنها إزاء هجمات الشكاك، فلولا تلك الهجمات الانقلابية لكان من المحتمل ألَّا ينشأ سقراط مدافعًا عن القيم الأخلاقية الثابتة، أو ألَّا ينشأ أفلاطون ليقيم الحجة على وجود عالم فكري ثابت رغم ما قد يبدو للعين من صيرورة وتغير، أو ألَّا ينشأ أرسطو ليستهدفَ الغاية نفسها في الأخلاق وغيرها، ثم انتقل إلى العصور الوسطى الدينية، وانظر ما مهمة الفيلسوف عندئذٍ، كان همه الأول والأخير أن يدافع عن العقيدة الدينية السائدة بسندٍ من الفلسفة.

لكن مهمة الفيلسوف وإن تكن دائمًا تعبيرًا عقليًّا عما تنطوي عليه حياة الناس من مبادئ، إلا أنها قد لا تكون دائمًا دفاعًا عن النظام القائم، كما كانت الحال في أعلام الفلسفة اليونانية والفلسفة الوسيطة؛ لأنه قد يحدث أن تأخذ حياة الناس في التغير والانقلاب، وأن تأخذ مبادئ حياتهم — بالتالي — في التحول والتبدل، وعندئذٍ يقوم الفيلسوف بمهمته نفسها، مهمة التعبير العقلي عن المبادئ التي تنطوي عليها حياة الناس، فإذا هي فلسفة تدعو إلى وجوب الانقلاب والثورة؛ لأنها فلسفة جاءت في عهد انقلابٍ وثورة، هكذا كانت فلسفة «ديكارت» مثلًا عند خروج أوروبا من عصرها الوسيط إلى عصرها الحديث، حين دعا الناس إلى تغيير منهج التفكير، وهكذا أيضًا «ديوي» الذي لم يسعه إلا أن يكون بفلسفته داعيًا إلى تغيير القيم؛ لأن الحياة التي أحاطت به كانت تسير بالفعل نحو هذا التغيير، «فلو استطعنا أن نحدِّد الأهداف التي ارتسمت في تصوُّره، والوسائل التي رآها موصلةً إلى تلك الأهداف، استطعنا فهم فلسفته، وعندئذٍ نرى كيف تتكامل آراؤه التي أدلى بها في ميادين مختلفة فيما بينها اختلافًا بعيدًا، لكنها مع ذلك تتكامَل في نظرةٍ واحدةٍ شاملة لما عساه أن يحقِّق التقدُّم في مجتمعنا … وأول ما تُعنى به فلسفة ديوي من أهداف هو مشكلات الديمقراطية الأمريكية.»١٦

وليس من شك في أن أول حجر يوضع في بناء الديمقراطية هو التربية التي تؤدي إلى ذلك؛ ومن ثم كانت التربية أحد ميادينه الأساسية التي خلق فيها وابتكر، ففي عام ١٨٩٩م أخرج كتابه «المدرسة والمجتمع» يشرح فيه طرائقه التي كان يتبعها في مدرسته التجريبية الملحقة بالجامعة، وكان مبدؤه الأساسي هو أن يجعل من تلاميذ المدرسة مجتمعًا صغيرًا يشبه المجتمع الكبير في حياته ونشاطه، فيهيئ للتلاميذ المواد الخامة المختلفة ليصنعوا منها أشياء تتناسب مع قدراتهم، وخلال هذه الصناعة يتعلَّمون ما يتعلَّق بها من علوم، ثم تلا ذلك كتاب آخر في التربية أخرجه عام ١٩١٦م، هو «الديمقراطية والتربية» يبين فيه أن التربية هي العملية التي تعين الجماعات الإنسانية على استمرار وجودها، لا بمجرد المحافظة على التقاليد القديمة مهما يكن نوعها، بل بسرعة المواءمة بين نفسها وبين بيئتها، فتغير من نفسها بما يقتضيه تغير البيئة.

فلو أردت عبارة واحدة قصيرة تلخِّص لك صميم فلسفة «ديوي» فهاك هذه العبارة: «إن التطبيق العام لمناهج العلم في كل ميدان ممكن من ميادين البحث، هو الوسيلة الوحيدة القادرة على حل مشكلات الديمقراطية الصناعية.»١٧ هذه هي النتيجة التي انتهى إليها «ديوي» بكل فلسفته على تنوُّع ميادينها، وهي أن نصطنع المنهج العلمي في كل موضوع نفكِّر فيه، لا فرق في ذلك بين اقتصاد أو تربية أو دين أو أخلاق أو سياسة، ففلسفته إذن هي في حقيقتها «منهج»، لا يعنيه أن يقدم للناس حقائق بعينها بقدر ما يعنيه أن يقدِّم لهم منهجًا يطبقونه في كل موضوع، وهو إذا ما بحث موضوعًا معينًا، فإنما يبحثه أولًا وقبل كل شيء على أنه «مثل» يطبق عليه منهجه في البحث، فما عناصر هذا المنهج؟
كان كتاب «وليم جيمس» في أصول علم النفس (صدر ١٨٩٠م) هو الضوء الذي اهتدى به «ديوي» أخيرًا في تشكيل منهجه وخطته في التفكير والبحث، فلم يكن ذلك الكتاب مجرد كتاب في علم النفس كسائر الكتب، بل كان فاصلًا بين عهدين في ذلك العلم، إذ اعتبر «العقل» نمطًا معينًا من السلوك، يعالج به الإنسان بيئته على نحو يعينه على الحياة، فالعلامة الدالة على وجود «العقل» في أية ظاهرة سلوكية هي أن نلحظ فيها استهدافًا لغايات مستقبلة، واختيارًا للوسائل المؤدية إلى بلوغ تلك الغايات،١٨ واستخراج مكنون هذه العبارة — ومكنونها طويل عريض عميق غزير — هو الأساس الذي أقام عليه «ديوي» منهجه وبنى عليه تفكيره.

وأولى النتائج التي تترتب على هذه العبارة، هي أن «العقل» سلوك ذو طابع معين، وليس هو بالكائن الروحاني الغيبي الذي يختلف عن الجسم الحي الفعال، كما هو الرأي عند الفلسفة المثالية، وعند «ديوي» نفسه في مرحلته الأولى؛ لأنه كان إبان تلك المرحلة — كما أسلفنا — هيجلي الاتجاه في فلسفته، وثانية النتائج التي تنتج من العبارة نفسها هي أن القيم والغايات التي بمقتضاها يعمل الإنسان ويسعى، إما أن تكون جزءًا لا يتجزَّأ من طبيعة العالم الخارجي نفسه، بحيث يجيء الإنسان فيدركها، ثم يعمل على تحقيقها، أو أن تكون من خلق الإنسان، يخلقها لتكون له وسائل يوائم بها بين نفسه وبين العالم الطبيعي أو المجتمع الذي يعيش فيه، وهي على كلا الفرضين ليست شيئًا سابقًا بوجوده على وجود العالم الطبيعي أو المجتمع، بل تنشأ نتيجة لازمة لاتصال الإنسان بمحيطه اتصالًا يظهر فيه كفاحه واختياره وأسلوبه في معالجة المواقف الجزئية التي تعترضه أثناء الحياة الجارية، وثالثة النتائج التي تستخلص من العبارة المذكورة، وربما كانت أهم النتائج أن الإنسان إذا ما نشط حيال بيئته من طبيعة ومجتمع، فإنما يكون المستقبل هو رائد نشاطه، أي إن معنى نشاطه هذا لا يكون إلا بالنظر إلى ما يتولَّد عنه من نتائج من شأنها أن تغيِّر أوضاع الأشياء تغييرًا كبيرًا أو صغيرًا، يكون سببًا في إزالة مشكلاته التي اعترضَت سبيله، وما دام الأمر كذلك، فالنتيجة الرابعة هي أن ليس هنالك قيمٌ ثابتة على الزمن، لا تتغير مهما تغيرت الظروف والمواقف، إنما القيم ملازمة للحياة في تغيرها، فكلما تغيرت هذه، تغيرت تبعًا لها تلك؛ إذ ماذا عسى أن تكون هذه القيم — في الأخلاق أو في السياسة أو غيرهما — إن لم تكن أدوات يستخدمها الإنسان في سلوكه؟

وهنا نصل إلى صميم فلسفته، فلسفة «الذرائع»؛ وهو اسم أطلقه «ديوي» على اتجاهه البراجماتي الخاص، الذي اختلف به عن زميليه «بيرس» و«جيمس»، وإن يكن في اتجاهه ذاك أقرب إلى «بيرس» منه إلى «جيمس»؛ فقد كان من رأي «بيرس» أن الأفكار الكلية إن هي إلا عادات سلوكية اعتادها الإنسان ليتصرَّف بها في المواقف العملية التي تشير إليها تلك الكلمات، فكأنما الفكرة الواحدة من هذه الأفكار الكلية هي بمثابة خطة تضبط السلوك وتوجهه، وهكذا ارتأى «ديوي» حين جعل الأفكار «ذرائع» تتذرع بها في توجيه السلوك وضبطه توجيهًا وضبطًا يحقِّق للإنسان غاياته المنشودة، فمهما تكن الفكرة، فهي تتضمَّن خطة للعمل، وإذا لم تكن كذلك فهي ليست من الفكر في شيء، وكما أن هذا العمل المتضمن في الفكرة هو معناها، فهو نفسه كذلك طريقة تحقيقها التي نميز بها الفكرة الصائبة من الفكرة الخاطئة، فأما الصائبة فهي التي إذا ما سلكنا وفق الخطة العملية التي ترسمها، انتهى بنا ذلك السلوك إلى ما نبتغي، وأما الخاطئة فهي التي لا تؤدي خطتها العملية إلى الغاية المقصودة، وإذن فتحقيق صواب الفكرة لا يكون في الخلاء، إنما يكون في نسيج الواقع، هذا الواقع الذي لا نراه دائمًا متفقًا مع أهدافنا، فنلجأ إلى تغييره بما يتفق مع صوالحنا، تغييره بماذا؟ تغييره بأفكارنا، فإذا لم تكن هذه «الأفكار» أدوات أو ذرائع تعين على ذلك فهي لغو باطل، وخطأ فاحش أن نفرِّق بين ما هو نظري وما هو عملي من جوانب حياتنا؛ إذ يستحيل فصل «الأفكار النظرية» عن «تطبيقها العملي»، ثم تظل مع ذلك أفكارًا توصف بالصواب والحق، فالفكر والعمل طرفان لخيطٍ واحد، أو جانبان من شيء واحد، أحدهما مكمِّل للآخر، ومتصل به اتصالًا وثيقًا، ليست علاقة الفكر بمقصورة على زميلاتها من أفكار؛ بحيث يبدأ الأمر وينتهي داخل الرأس بغض النظر عن الواقع الخارجي، بل الفكرة خيط من نسيج خيوطه مزيج محتوم من أفكار في الداخل وحوادث طبيعية في الخارج.

ولا تفكير إلا إذا اعترضت الإنسانَ مشكلةٌ تتطلب الحل، أعني أنه لا تفكير إذا لم نجد حقائق الواقع متعارضة مع تحقيق أغراضنا على وجهٍ من الوجوه، فعندئذٍ نقف حيال ذلك الواقع «لنفكِّر» كيف نغير من أوضاع عناصره وأجزائه، بحيث يتخذ الوضع الذي يخدم أغراضنا، لا تفكير إذا ظل الإنسان سابحًا في «فكره» بعيدًا عن دنيا الحوادث الخارجية؛ لأنه عندئذٍ يكون حالمًا أو كالحالم، ويسوق «ديوي» لذلك مثلًا مشهورًا، جاء في كتابه «كيف نفكر»،١٩ مثل من يمشي خلال الغابة قاصدًا إلى غايةٍ معينة ليبلغها في وقتٍ معين، ثم تعترضه قناة، فإن كان عبور القناة ممكنًا بقفزةٍ واحدة، فلا تفكير؛ لأنه لا إشكال، لكن يبدأ التفكير حين تنهض أمامه المشكلة: كيف يعبر القناة ما دامت القفزة الواحدة لا تكفيها؟ أيخوض بثيابه في الماء إن كان الماء ضحلًا؟ أيبني جسرًا من فروع الشجر؟ هل يترك غايته المنشودة ويقفل في طريقه راجعًا؟ إلى آخر هذه الأسئلة التي يظل يلقيها على نفسه وهو واقف أمام القناة «يفكر» ماذا عساه صانع للتغلُّب على هذه المشكلة التي اعترضت طريقه، وواضح أن الفكرة التي تنشأ عندئذٍ لا بد أن تكون ذات علاقة وثيقة بالموقف الراهن الماثل أمامه، ولا بد لها أن ترسم خطة واضحة التفصيلات لما ينبغي عمله، فإن لم تكن كذلك لم تكن شيئًا، وواضح كذلك أن الفكرة التي تطرأ لذلك السائر الذي يريد أن يعبر قناة معينة في ظروفٍ معينة، إنما يكون تحقيقها عملًا وفعلًا هو معناها وهو وسيلة اختبار صوابها في آنٍ واحد، أي إنه لا تمييز بين أن يكون للفكرة «معنى» وأن تكون «صوابًا»، وبعبارةٍ أخرى لا نحكم على الفكرة بأنها صواب على أساس معيار عقلي خالص، منفصل عن دنيا العمل، بل نحكم بصوابها بالاحتكام إلى تنفيذها، وهكذا ينشأ الفكر وينمو مصاحبًا لنشأة مشكلة عملية أولًا، ثم لتتابع حلقات من أفعال مؤدية إلى الغرض المقصود، وبعبارةٍ ثالثة، الفكر لا يتم فكرًا إلا إذا ارتبط بما ليس فكرًا، لو ظل الفكر دائرًا حول نفسه، بأن ينتقل من فكرةٍ في الرأس إلى فكرةٍ في الرأس ثم إلى ثالثة فإلى رابعة، فلن يكون جديرًا باسمه، وإنما يكون الفكر فكرًا حين يمتد إلى ما وراء حدوده النظرية إلى حيث العمل والتنفيذ.

وما «المنهج العلمي» إلا الطريقة التي يستخدمها الإنسان في خروجه من دائرة الفكر المحض إلى دنيا العمل، فكيف يتم هذا؟ يتم بالاستنباط وبالاستقراء في آنٍ معًا، فأنت إزاء المشكلة تفرض فرضًا معينًا تظن أنه ممكن التنفيذ، وأنه بتنفيذه سيزيل المشكلة التي اعترضت سبيلك، وتنفيذه يقتضي بالطبع أن تستخلص منه النتائج التفصيلية التي تترتب عليه، وذلك هو الاستنباط، وعندئذٍ تخرج إلى الدنيا الخارجية بغية التنفيذ وفق تلك التفصيلات التي تحددت بفضل الفرض الذي فرضته معينًا لك في موقفك، وها هنا ستصطدم بالوقائع ذاتها والحوادث ذاتها، فتراها بالعين وتلمسها باليدين، وعندئذٍ تدرك إدراكًا عمليًّا قائمًا على المشاهدة وعلى التجربة إن كان فرضك الأول صوابًا، بمعنى أنه مؤدٍّ إلى الغاية المنشودة، أو لم يكن، وهذه هي مرحلة الاستقراء في حل المشكلة، ولا تتمُّ عملية التفكير إزاء مشكلة من المشكلات إلا إذا أجرينا التجربة العملية على الفرض الذي فرضناه حلًّا لها، وتمت التجربة بالنجاح المطلوب.

ومرحلة «الفرض» — أي مرحلة «الحل المقترح» — هي التي يسميها «ديوي» فكرة، وإذن «فالفكرة» هي اقتراح قدمه الإنسان لنفسه لحل مشكلة معينة من مشكلات حياته، حين يكون ذلك الاقتراح لا يزال معلقًا ينتظر التنفيذ؛ وبالتالي ينتظر الاختبار، وبديهي أن مثل هذه «الفكرة» لا توصف بأنها «حق» إلا إذا كانت دليلًا هاديًا يسدِّد خُطا صاحبها في مرحلة السلوك، أي في مرحلة التنفيذ، فصوابها هو في هدايتها لصاحبها، وليس صوابها صفةً لاصقة بها بغض النظر عن أثرها في مجرى السلوك والعمل «فالحق هو ما يهدينا هدايةً موفقة، القدرة المحققة في مثل هذه الهداية الموفقة هي على وجه الدقة ما نعنيه بكلمة الحق»،٢٠ وهنا نلاحظ الفرق البعيد بين هذا المعنى «للحق» وبين ما جرى به التقليد عند الفلاسفة السابقين، الواقعيين منهم والمثاليين على حدٍّ سواء؛ فقد كان صدق الفكرة عند هؤلاء جميعًا صفة ننعت بها «كائنًا» ساكنًا لا حركة فيه ولا فاعلية؛ إذ ننعت بها شيئًا قائمًا برءوسنا، فنقول عن ذلك الشيء إنه صادقٌ أو إنه حق إذا كان صورة صحيحة لأصلٍ في الخارج — وهؤلاء هم الواقعيون — أو إذا كان متسقًا مع سائر ما يحتويه العقل من أفكار — وهؤلاء هم المثاليون — أما عند «ديوي» وزملائه البراجماتيين، فالصدق أو الحق صفة ننعت بها «صيرورة» وحركة وسيرًا وفعلًا، الحق صفة «سكونية» عند أولئك، وهو صفة «حركية» عند هؤلاء، ويقتضي هذا الرأي الجديد في طبيعة «الحق» ألا يكون سابقًا على الإنسان وخبرته، لم يكن هنالك قبل الإنسان ومشكلاته ونشاطه في حل تلك المشكلات «حق» أزلي، إذ كيف يكون ولا إنسان هناك ولا إشكال ولا نشاط لحل ذلك الإشكال؟ ثم جاء الإنسان ونشأت مشكلاته، فنشأت مع ذلك حلوله لها، فكان الحل الموفق منها «حقًّا» ومن مجموعة هذه الحلول الموفقة لمجموعة المشكلات العملية في الحياة الإنسانية يتألَّف «الحق»، ولعلك تلاحظ أن هذا الاختلاف بين الرأي التقليدي في «الحق» وبين الرأي الجديد، يتضمَّن اختلافًا في الأساس الاجتماعي والأخلاقي على السواء؛ فقد كان المجتمع قديمًا مؤلفًا من سادة يأمرون ورعية تؤمر؛ وبالتالي فهو مؤلف من فئةٍ تفرض معيار الحق فرضًا، وما على الناس إلا أن يقيسوا أفكارهم إلى ذلك المعيار المفروض، فإن طابقته كانت صوابًا وإلا فهي خطأ، وهذه حالة من يريد أن يحافظ على النظام القائم لا يتناوله بالتعديل والتبديل، وهي حالة تستتبع ألَّا تقع على السواد من أفراد الناس تبعة خلقية؛ إذ التبعة كلها واقعة على السيد الآمر الذي سن القانون وشرع المعيار، أما النظرة البراجماتية فتفترض عدم الثبات في القيم والمعايير، وتفترض — بل تستوجب — ضرورة تغييرها لتلائم الظروف القائمة، وإذن فكل فرد مسئول أمام المشكلة التي تعترضه، مسئول عن حلها حلًّا موفقًا، فيكون هذا الحل الموفق هو الصواب والحق؛ «فاعترافنا بأن الحق هو نجاح التنفيذ، وليس يعني إلا هذا، إنما يضع على الناس تبعة، هي أن ينفضوا أيديهم من الاعتقادات الجامدة في السياسة والأخلاق، وأن يخضعوا أعز معتقداتهم للاختبار العملي الذي يجعل النتائج مقياس الحق، وأن هذا التغيير في وجهة النظر ليتضمن تغييرًا في مركز السلطة وفي وسائل اتخاذ القرارات في حياة المجتمع.»
وفي هذه النقطة الأخيرة تتبيَّن إحدى أوجه الاختلاف بين «ديوي» و«جيمس» كما يتبين الاتفاق بينه وبين «بيرس»، فهم جميعًا متفقون على أن النتائج الناجحة الموفقة هي ما نعنيه بصفة «الحق» أو «الصدق» أو «الصواب» التي نصف بها فكرة معينة، لكن «جيمس» يجعل نجاح النتائج مرهونًا بالفرد الواحد، وإن يكن يفضل أن يكون ما يرضي الفرد الواحد مرضيًّا في الوقت نفسه للناس جميعًا، لكن الأساس هو أن تصادف الفكرة في نفس صاحبها رضا من حيث نتائجها في حياته العملية؛ ومن ثم كان رأيه الخاص بصواب عبارة مثل «الله موجود»؛ لأن الفرد المعتقد في صوابها ستتغير وجهة نظره إلى الحياة وطريقة سلوكه، ومن هنا يكون صدقها له، مهما يكن أمرها عند سائر الناس، وأما «بيرس» و«ديوي» معًا فيجعلان نجاح النتائج مرهونًا «بالمجتمع»؛ أي مرهونًا باتفاق الأفراد، فلا فرق عندهما بين المنهج العلمي عند مجموعة العلماء في المعمل، وبينه عند مجموعة الأفراد في المجتمع، حتى لقد كان المثل الأعلى عند «بيرس» هو أن يتكوَّن في الحياة «مجتمع معملي» أي مجتمع كالذي ينشأ حين يجتمع العلماء على مشكلةٍ معينة يتعاونون معًا على حلِّها، فهل ينفرد العالِم في معمله بالنتيجة التي ترضيه هو بغض النظر عن زملائه، أم يتحتَّم عليه أن يعرض نتيجة تجاربه على الزملاء العلماء ليقروه على نجاحها في حل المشكلة التي هي موضوع البحث؟ النجاح المقصود إذن عند «بيرس» وعند «ديوي» هو نجاح بالنسبة لمجموعة الأفراد.٢١
وكما يختلف «ديوي» عن الفلسفات التقليدية في معنى «الحق» بأن جعله متغيرًا مع تغيُّر الظروف العملية بعد أن كانت تلك الفلسفات تجعله ثابتًا رغم تغير الظواهر، فكذلك يختلف عنها في حقيقة الطبيعة ذاتها؛ لأنها عنده متغيرة الحوادث، وكانت عندهم — أو عند أغلبهم — حقيقة ثابتة،٢٢ فالفيلسوف — في رأي «ديوي» — إذا ما تنكَّر للحوادث في تغيرها الدائب، انتظارًا منه للحق الثابت، فإنما يقطع الصلة بينه وبين الكون الذي يزعم أنه موضوع تفكيره وتحليل عملية التفكير على النحو الذي أسلفناه، هو في ذاته دليل على أن قوام الطبيعة حوادث تطرأ ويتغير مجراها؛ إذ ما دام التفكير لا يكون إلا بتغيير عناصر الموقف الذي نفكر فيه، فالعالم إذن طبيعته تسمح بهذا التغير، ولا يقين هناك ولا ثبات؛ لأننا في كل موقف وعند كل مشكلة ننتظر نتائج الخطة التي ننفذها، غير موقنين بنجاحها، حتى إذا ما نجحت كانت صوابًا أو أخفقت كانت خطأ.
خذ هذا المنظار وانظر به إلى بعض المشكلات الإنسانية الكبرى، وكيف كان يتناولها الفلاسفة الأقدمون، وأولها مشكلة الأخلاق: فمتى يكون الفعل فضيلة؟ إنك لو استثنيت المذهب المنفعي في الأخلاق — وهو مذهب «بنثام» و«مل» في إنجلترا — الذي يقيس أخلاقية الفعل بنتائجه في حياة الإنسان، وجدت الكثرة الغالبة من سائر المذاهب الفلسفية تضع للفضيلة معيارًا فرض على الحياة الإنسانية من خارج، فالمعيار آنًا يكون دينيا هبط من السماء كالوصايا العشر مثلًا، فإذا كان الإنسان لا ينبغي له أن يقتل أو أن يسرق، فلأن أمرًا نزل إليه من السماء بألَّا يقترف إثمًا كهذا، والمعيار آنًا آخر يكون عقليًّا، فيقول لك الفيلسوف الذي يسند الأخلاق إلى حكم العقل — مثل «كانت» — إن الفعل يكون فضيلة؛ لأن منطق العقل يقره، بمعنى أنه لا يقتضي من النتائج ما ينقض بعضه بعضًا، فالقتل — مثلًا — رذيلة وإثم؛ لأنه لو عمَّ الناس جميعًا لما بقي هناك من الناس قاتل، وإذن فسيفنى الفعل نفسه، أي ينقض نفسه بنفسه وهكذا، لكن هذه المذاهب في الأخلاق تغض النظر عن حياة الإنسان بتفصيلاتها، كأنما الإنسان حقيقة مجردة قائمة في الفراغ، وليس متصلًا بأقوى الوشائج مع بيئته وظروفها، كيف تنمو الشجرة إلا باتصالها بتربة الأرض وضوء الشمس؟ الشجرة النامية جزء من كل عضوي لا يمكن تصورها وحدها معزولة مفصولة عن سائر الظروف التي تحيط بها، وكذلك الإنسان حين يعمل ويسلك في حياته، وإذن فيستحيل الحكم على أفعاله إلا وهي منبعثة من ظروف معينة وفي محيط معين وإزاء مشكلة معينة؛ ولذلك لا يمكن أن تستقل «الأخلاق» علمًا قائمًا بذاته لا يتصل بسائر العلوم؛ لأن الأفعال الإنسانية التي هي موضوع البحث عند «الأخلاق» هي تعبير عن الطبيعة البشرية التي تتعاون على دراستها وفهمها طائفة من علوم، لا علم واحد بذاته، ودارسة هذه الطبيعة البشرية واجبة، لا لنعرف ما هي، ثم نقف بعد ذلك بأيدٍ مكتوفة على صدورنا، بل ندرس الطبيعة البشرية — كما ندرس أية ظاهرةٍ أخرى — لنمسك بزمامها ونعرف كيف نغيرها لتلائم بيئتها وظروفها، وإذا كان هذا هكذا، فالأمر في «الأخلاق» إنما يتخذ موقفًا وسطًا بين طرفين؛ فلا هو يتنكر للحوادث الجزئية المتغيرة حبًّا منه لمثل أعلى يتصف بالثبات والدوام على مر الزمان واختلاف المكان — كما يفعل المثاليون — ولا هو يقبل الواقع كما هو ليخضع له دون أن يغير منه — كما يفعل الواقعيون، ولكنه يتناول هذا الواقع نفسه بالتغيير ليسير به نحو قيم خلقها الإنسان لنفسه بوحي من ظروفه، وتلك هي «الأخلاق» التجريبية كما فهمها «ديوي»، وهي — في رأيه — الأخلاق التي تحقق للإنسان حريته؛ إذ لا معيار له في أخلاقه إلا حياته ومشكلاته هو وطريقته هو في حل تلك المشكلات حلًّا موفقًا ناجحًا، ثم هي الأخلاق التي تحقق للإنسان ديمقراطيته بمعناها الصحيح؛ لأن مبدأه الأول سيكون استعداده لتغيير ما يحتاج إلى تعديل وتبديل في حياته الاجتماعية، وليس هو الطاعة العمياء لسابقة مر زمانها وانقضى، وهبطت إلينا في ثوبٍ من العرف أو التقليد.٢٣

المثل الأعلى للمجتمع الديمقراطي هو أن يتعاون الناس معًا كما يتعاون العلماء في المعمل، فالقاعدة الأولى هي — إذن — «الإخاء» بمعنى التعاون، ومن هذه القاعدة تتفرع «الحرية» و«المساواة» فليست هاتان حقين طبيعيين من حقوق الإنسان كما زعم قادة الثورة وحركة التنوير في آخر القرن الثامن عشر، أي إنهما لم ينشآ إلا بعد تكوين المجتمع، وبعد قيام التعاون بين أفراده، فالإنسان «حر» في مجتمع ديمقراطي يتعاون أفراده على قدم «المساواة»؛ ولذلك وجب أن يكون الاعتماد الأول في مثل هذا المجتمع الديمقراطي، على الجمعيات التطوعية لا على الحكومة، فلا ينبغي أن تجاوز الحكومة بنشاطها حدود تنظيم تلك الجمعيات بحيث لا تتضارب وسائلها وغاياتها، أما فيما عدا ذلك فالجماعة تحدد أهدافها ووسائلها، ثم يتعاون أفرادها في سبيل تحقيق تلك الأهداف تعاونًا يتبعه الحرية والمساواة بين هؤلاء الأفراد، يتبادلون الخبرة بما يعين بعضهم بعضًا، كما يفعل العلماء في المعمل إزاء مشكلةٍ معينة.

وهذا التعاون هو الدين في جوهره، فالإيمان الحق إنما هو إيمان بالكشف عن الحقيقة التي تحلُّ ما يعترض الإنسان من صعاب، الإيمان الحق إيمان بمنهجٍ يُساير التفكير ويُساير الحياة العملية مسايرةً تعمل على ازدهار تلك الحياة ورخائها، لا إيمان بحقيقةٍ ثابتةٍ كمل تكوينها وعرفناها بالوحي معرفة لا تقبل التغيُّر ولا النمو،٢٤ و«الله» هو هذه العلاقة بين الإنسان ومثله العليا، يحاول تغيير أوضاع الحياة على مقتضاها،٢٥ ليس للدين مثلٌ عليا خاصة به ولا منهج للتفكير خاص به، إنما هو روح تسري في مواقف الإنسان كلها إزاء خبراته، هو الروح الذي يصطنعه إذ هو فردٌ متعاون مع إخوان له في مجتمعٍ واحد، يريد أن يبلغ وإياهم هدفًا واحدًا، ليس الدين في «الكنيسة» إنما هو في مواجهة المشكلات وحلِّها.
١  James, Pragmatism، ص٢٠١.
٢  المصدر نفسه، ص٢٠٤.
٣  Cash Value.
٤  James, Pragmatism، ص٢٠٧.
٥  راجع مقالة «الفلسفة الخُلقية والحياة الخُلقية» The Moral Philosophy and the Moral Life وهي بين المنشور في كتاب «جيمس»: The Will to Believe.
٦  Radical Empiricism.
٧  The Meaning of Truth.
٨  يلاحظ أن أربع مقالات مما يكون كتاب «معنى الحق» قد نشرت مع «البراجماتية» في كتابٍ واحدٍ بالعنوان الأخير، فإذا رجع إليه القارئ وجد العبارة المذكورة، صفحة ٣١٠.
٩  James, Pragmatism، ص٣١٠.
١٠  Paul Henle, Introduction to James (Classic American Philosophy) ed. Fisch, p. 121.
١١  وردت هذه النظرية في مقالة لوليم جيمس عنوانها «هل للوعي وجود؟» Does Consciousness Exist?، وهي من المقالات المنشورة في كتاب «مقالات في التجريبية المتطرفة» Essays in Radical Empiricism ومما يجدر ذكره أن برتراند رسل أخذ هذه الفكرة الخصبة ونماها في نظريته عن حقيقة العالم.
١٢  A Pluralisttic Universe.
١٣  راجع له في ذلك:
  • (أ)
    إرادة الاعتقاد The Will to Believe.
  • (ب)
    صنوف من الخبرة الدينية Varieties of Religious Experience.
١٤  John Dewey.
١٥  للبراجماتية عند «ديوي» اسم خاص هو Instrumentalism، سنجعل كلمة «مذهب الذرائع» مقابلة لهذا الاسم، بحيث لا تنصرف إلا إلى «ديوي» وحده.
١٦  Gail Kennedy, Introduction to Dewey, in Classic American Philosophers, ed. by Fisch، ص٣٢٧.
١٧  Gail Kennedy, Introduction to Dewey, in Classic American Philosophers, ed. by Fisch، ص٣٢٩.
١٨  James, Principles of Psychology، ج١، ص٢.
١٩  How We Think (١٩٠٩م).
٢٠  Dewey, Reconstruction in Philosophy، ص١٥٦.
٢١  Dewey, Reconstruction in Philosophy، ص١٦٠.
٢٢  راجع في ذلك كتابيه:
  • (a)
    Experience and Nature.
  • (b)
    The Quest for Certainty.
٢٣  Dewey and Tufts, Ethics، ص٣٦٦.
٢٤  Dewey, A Common Faith، ص٢٦.
٢٥  المرجع السابق، ص٥١.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤