الفصل الثاني

عَصْرُ الشَّاعرة

الحياة الفكرية والاجتماعية

بزغ القرن الخامس عشر على ربوع الغرب فجرًا ما برح ينتشر ويعمم حتى شمل بنوره نهضة التجدد الكبرى. وما تولى إلا وقد جاء بحادثين بدَّلا حظَّ البحر الأبيض المتوسط وحظَّ مرافئه في الحركة التجارية والعمرانية. وهما اكتشاف فاسكو دي جاما طريق الهند عن طريق رأس الرجاء الصالح، بعد أن شق كولمبس البحار وصولًا إلى الأقطار الأمريكية. وبينا التطور يتتابع في الغرب حثيثًا سواء في العلم وأسباب المواصلات وامتزاج الشعوب والصناعة والتجارة والثروة والحرية الفردية والكرامة القومية — كانت مصر، وقد حُرمت من مرور تجارة الشرق، تتقهقر ببطء حتى انقطعت العلاقات بينها وبين العالم. وظلَّت ثلاثة قرون يحكمها بالاسم ولاة عثمانيون وتدفع الجزية السنوية إلى تركيا إلا أنها تعثو فيها تلك الفئة الطاغية من المماليك «البكوات». ففشت في أنحائها الخزعبلات والأوهام، واشتد العوز مهددًا بالأمراض والمجاعات. والدول التي تتنافس الآن في اكتساب صداقاتها كانت قد نسيت حتى الوجود من هذه البلاد الفريدة بتربتها وتاريخها وحضارتها العريقة، الفريدة بموقعها الحربي المنيل النفوذ السياسي والرواج التجاري لجمعه بين القارات الثلاث وسيطرته على طريق المشرقين.

أي عجاجة لا تثير أعمال الرجل العظيم! هبط نابليون الشرق يستغله ويقيم عليه الركن الأول من عرش، أراد أن يخيم ظله على الشرق والغرب جميعًا. فهبَّت الدول تقاتل الجبار وتتحالف لهزيمة جحافله. وصار القطر المهجور محجة للغايات؛ لأن البطل أدخله في خريطة أطماعه.

جاءت القوة العثمانية بقيادة القبطان حسين باشا وتكاتفت والحملة الإنجليزية في الرحمانية فزحفتا معًا على القاهرة. فسلم الفرنسيون نهائيًّا في سبتمبر ١٨٠١ بعد الاحتلال بثلاثة أعوام دون جني أية فائدة حربية. وكم من عمل يؤتى في سبيل غاية تفشل، فإذا به موفور العائدة لغاية أخرى!

فقد أسفرت الإغارة الفرنساوية عن ثلاث نتائج:
  • الأولى قومية: إذ شعر المصريون بأهمية بلادهم وبمقدرة الشعب على إزعاج الحكومة المستبدة إذا هو اتحد وتضامن. كما لمحوا وميضًا من المدنية الأوروبية الحديثة ورغبوا في اقتباسها.
  • الثانية علمية: إذ استصحب نابليون جماعة من العلماء الأخصائيين. فدرسوا طبيعة البلاد ومواردها، وأدخلوا الطباعة ونشروا الصحف وأسسوا «المجمع العلمي المصري»، وجاءوا في مختلف الموضوعات بأبحاث قيمة، منها وصل البحر الأبيض بالبحر الأحمر الذي سيستفيد منه دلسبس، وأحدثوا إصلاحات كثيرة ذهب جلُّها إنما بقي منها جرثومة ستنمو بعد الآن على يد حكومة البلاد.
  • الثالثة سياسية: أن بين ضباط القوة العثمانية كان ذلك الرجل الذي وُلد هو ونابليون وولنجتون في سنة واحدة «١٨٤٧م» وحكم مصر بعد محوه المماليك … وبين رجال محمد علي رجلان يختلفان أصلًا وعملًا أحدهما كردي وهو محمد تيمور بن إسماعيل بن علي كرد، الذي كان ضابطًا وساعد في استئصال دولة المماليك حتى صار من خاصة الوالي. فترقى في المناصب من كاشف، إلى محافظ، وتُوفي سنة «١٢٦٤ﻫ/١٨٤٧»، والآخر تركي الأصل وهو عبد الرحمن أفندي الإستانبولي الذي كان كاتبًا في الديوان الهمايوني عند السلطان سليم الثالث ثم صار ذا مكانة عند محمد علي حتى أنه بعد وفاته دفنه في القلعة. وكان لسلالة هذين الرجلين أن تحمل علامة اليُمن. فقد تزوج محمد تيمور بابنة عبد الرحمن أفندي فكانا جدَّي الشاعرة.

•••

وُلدت عائشة سنة ١٢٥٦ هجرية قبل وفاة محمد علي بتسعة أعوام، وتوفيت بعد تولية عباس الثاني بعشرة أعوام؛ أي إنها شهدت تطور بلادها على عهد أربعة ولاة هم: محمد علي وإبراهيم وعباس الأول وسعيد، وثلاثة خديوين هم: إسماعيل وتوفيق وعباس الثاني.

كان لمحمد علي مطامع سياسية معينة فبذل المجهودات لتأييدها في الداخل بإنشاء المدارس الحربية والمستشفيات العسكرية، وتنظيم الجيش وتخريج الأطباء، ونشر المعارف وإرسال البعوث إلى أوروبا لتتلقى العلوم الفنية والميكانيكية والحربية. أما في الخارج فكان يؤيد مطامعه بالحروب والفتوح.

وتتابع التطور ضئيلًا خلال ولاية إبراهيم التي لم تدم سوى شهرين اثنين، وولايتي عباس الأول وسعيد حيث كان غرض التعليم محصورًا في تخريج موظفين للحكومة وضباط للجيش. وإن امتاز عهد سعيد بأمور ذات شأن، منها وفاء ديون الحكومة، وحذف الجمارك الداخلية والاحتكارات، وإرجاع الحرية الفردية وحق الملكية إلى الفلاحين — بعد أن كان محمد علي قد جمع الأملاك بين يديه جاعلًا الحكومة تسيطر على كل تجارة مع الخارج. وتمَّ في عهد سعيد إنشاء القناطر الخيرية التي بُدئ بها بأمر من محمد علي. وسعيد هو الذي فوَّض إلى صديق طفولته دلسبس أن يباشر حفر قناة السويس.

بيد أن الاندفاع الأكبر جاء في عهد إسماعيل فعاد إلى معالجة مشروعات محمد علي مرسلًا البعثات إلى أوروبا، موجدًا المكتبة الأهلية ومتحف الآثار المصرية، حافرًا الترع للري ومجمِّلًا المدن الكبيرة.

وأصدر أمرًا في أواخر عهده يعلن رغبته في أن يحكم بواسطة مجلس نظار، بعد أن كان أصدر أمرًا بتشكيل مجلس نواب تأخذ الحكومة رأيه فيما تسن وتحور من النظم والقوانين وكان كاهل مصر قد أُثقل بالديون مما أدى إلى قبول الرقابة الأجنبية على المالية المصرية. فقام يومًا ينكر على الموظفين الأوروبيين حق التدخل في شئون بلاده. فحملته الدول أثر ذلك على التنازل لولده توفيق تحت الرقابة الفرنساوية الإنجليزية فيما يتعلق بالمالية.

وقامت الثورة العرابية مطالبة — فيما طالبت به — بإلغاء الرقابة الأجنبية على المالية المصرية. وكان ما كان من احتلال إنجلترا وتفويضها إلى لورد دوفرن درس مختلف المشاريع وتنفيذها في مصر. وبعد توقف القطر عامين استطرد فيه التنظيم والتقدم بحيث تمكن القاضي المفكر قاسم أمين أن يقول في رده الفرنسوي على الدوق داركور:
إن الحرية التامة سواء في التفكر والكتابة أصبحت مباحة، وإن المصري يتمتع الآن بكل ما ضمنه الإعلان الشهير من «حقوق الإنسان» وإن الجميع يتوقون إلى العلم ويتعلمون معتبرين أن هذا هو السبيل الوحيد للنهوض. منذ ثورة عرابي انتبه الشعب المصري لمكانته وكرامته. استنار ذهنه فجعل يهتم بنظام الحكم وبالشئون العامة يقدرها ويحكم لها أو عليها. وبالجملة فإن مصر تيقظت بالفعل.١

نشر قاسم هذا الكتاب سنة ١٨٩٤. ولما توفيت عائشة بعد ثمانية أعوام كانت حركة التطور في ازدياد وقد أُضيفت إليها عناصر فنية متنوعة.

•••

أهي يقظة الفكر عند الأفراد تهيئ اليقظة القومية أم هي يقظة الجمهور ومطالبه والأحوال المحيطة به التي تخلق الأفراد وتحبوهم بالمواهب الضرورية ليتكلموا بصوت الجماعة؟

أظن أن التفاعل هنا محتم كما هو في كل أمر آخر. فالأفراد يخلقون الجمهور والجمهور يخلق الأفراد؛ لأن القوى البشرية محكمة الترابط فيما بينها، فإذا انتبهت إحداها تأثرت بذلك الانتباه جميع القوى وهبت متجددة نابضة، مبدعة. كأنها الصوت الواحد يحدث هزة في مكان من الهواء فتتناقله الموجات المسارعة حتى يرن في أقطاب الفلك جميعًا.

ولكن يُخيل أنه قبل تنفيذ أي عمل يقتضي رسم خريطة خيالية جلية في الذهن الناضج الصافي، خريطة من الخرائط التي يسمونها المتهكمون «نظريات» وهذه النظريات التي تثني لذكرها شفاه العلميين هي من الأهمية بحيث إن الطبيعة لا تجمع عادة (وإن فعلت نادرًا بشذوذ جميل) بين مقدرتي النظر والعمل في شخص واحد؛ إذ إن لكل منهما صفات تنافي صفات الأخرى. يُهيئ النظريون الخرائط الذهنية، فينظر فيها سواهم بعين النقد والتمحيص مستخرجين منها ما لاءم حاجة الوقت، وينفذها آخرون فتصير شيئًا محسوسًا يستخدم ويخدم. كأنما هي «المثل الأفلاطونية» التي بموجب نظريتها لا تكون المحسوسات إلا انعكاس أفكار كائنة في ذهن الإله الأعظم. تلك هي حكاية التلغراف اللاسلكي التي ابتدأت مع مكسويل وهرتز وبرنلي نظريات وتعديلات علمية، فصارت مع ماركوني عاملًا آليًّا تعنو له مجاري الجواء في نقل الأفكار. وتلك هي حكاية الغواصات التي كانت في كتب جول فرن الفرنسوي رؤى وأخيلة علمية. فبسط أديسن الأمريكاني لوزارة بحرية بلاده إمكان إنشائها في تقرير نسخه الألمان سرًّا، وسيروها خلال الحرب مدنًا متحركة تخفر البحار وتصادر سفن الأعداء وسفن من كان لهم مواليًا وظهيرًا. وتلك هي حكاية الثورة الفرنساوية أعدها الكتاب والمفكرون، والثورة الروسية التي مهد لها الروائيون والشعراء سبيلًا.

•••

وانتحت الحياة الجديدة في مصر هذا النحو. فإنه إلى جانب التحسين الزراعي والحربي والميكانيكي والمدرسي، ظهرت حركة أخرى راودها الغموض في البدء، إنما جعلت تتسع وتنجلي مع الأيام. نشأت عن تواصل الاحتكاك بمدنية الغرب سواء بواسطة النزلاء المقيمين في هذه الديار، وبعوث الشبان العائدين من أوروبا وقد تطعَّمت نفوسهم بجديد النزعات وحديث الآراء، وجماعات خريجي المدارس المصرية وقد سرت إليهم عدوى الفكر العصري خلال ما تلقنوا من الدروس الأوروباوية. وقدم مصر جماعة من نوابغ السوريين وأحرارهم النازحين أثر النكبات فكان صدم أفكارهم بأفكار المصريين جزيل النفع للفريقين وللفكر العربي عمومًا.

بلغت تلك الحركة أشدها في عهد إسماعيل وقد بدت أدبية اجتماعية بعد أن كانت ميكانيكية علمية، يمتزج فيها استيحاء الجديد وتجديد «القديم» الاستيحاء بالاطلاع على مؤلفات الأجانب ونقل ما تيَّسر نقله منها إلى العربية. والتجديد بإعلاء شأن روح اللغة؛ إذ كانت يومئذ آلات مطبعة بولاق الأميرية والمطابع الأهلية الأخرى تشتغل لإعادة نشر مؤلفات «المدرسيين» من كتاب الإسلام وعلمائه الأقدمين. وكثرت الصحف حتى بلغ عددها السبعة والعشرين فترتب على ذلك «نشر أغراض عامة في تلك الجرائد ومباحث علمية وأدبية في صحيفة روضة المدارس وتخريج نوابغ من طلبة مدرسة دار العلوم على يد أستاذهم المرحوم الشيخ حسن المرصفي واستفادة بعض النبهاء من طلبة الأزهر بطول اختلاطهم بالمرحوم الشيخ جمال الدين العالم العصري حين ذاك، سلوك سبل أخرى في الإنشاء تستمد منها الأقلام. فعوضًا عن الاشتغال بكتابة التهاني أو البشرى بمولود، أو التأسي على مفقود أو المدح أو الهجاء أو العتاب أو الاستعطاف أو التغزل بالغيد والغانيات أو مكاتبة الأصحاب والأحباب والرجاء والاعتذار التي هي من الأغراض الخصوصية، مالت الأقلام إلى الكتابة في حب الوطن وما يستلزمه من خير العمل والحث على الفضيلة والتباعد عن الرذيلة وحق الحاكم على المحكوم والمحكوم على الحاكم وغير ذلك من شرح حكم عالية هي من الأغراض العمومية. كل هذا كان أعظم مرشد للمطلعين عليها حتى ترتب على ذلك تغيير عظيم في الأساليب الإنشائية، وفي الحركة الفكرية وفي الشعور بالذاتية».٢
ذكر هنا أمين باشا سامي ذلك الرجل الشرقي الشبيه بفلاسفة الماضي كسقراط وسواه الذين لم يكتبوا وإنما أرسلوا تعاليمهم ضمن المحادثات العادية. وكانت أهم المحافل الفكرية هي الحلقة التي تعقد حول جمال الدين «في القهوة التي قرب قهوة البورصة القدي …» «ولعل تلاميذه لا ينسون في مستقبل الأيام أن يحيوا ذكره بينهم في ذلك المكان» هذا رأي الدكتور شبلي شميل الذي عرف الأفغاني وجالسه وناقشه. ويتابع الحديث عنه قائلًا:
«لم يكتب فيما أعلم شيئًا٣ وإنما يلقي على آخرين مقالات ضافية تُنشر في «جريدة مصر»٤ تحت أسمائهم. ولولا الشيخ محمد عبده ويده الكاتبة لما كان لصوته صدى ولبقيت تعاليمه في صدور أكثر الذين تلقوها عنه وماتت معهم؛ إذ كانت كل تعاليمه حديثًا يلقيه بحسب مقتضى الحال» «وقبل «جريدة مصر» كانت شهرة جمال الدين مقتصرة على الأخِصَّاء وأعماله محصورة في دائرة مريديه. وأما «جريدة مصر» فكانت سببًا كبيرًا لإذاعة صيته ونشره في الآفاق.» «ولم يتهيأ له أن وقف خطيبًا في قوم إلا مرة واحدة أظهر فيها أنه خطيب مفوه أيضًا. وكان ذلك بمسعى أديب إسحق. وفي تياترو زيزينيا على محضر من جمهور غفير من علية القوم من رجال ونساء من السوريين والمصريين. فألقى خطبة اجتماعية سياسية أبدع فيها معنى ومبنى وجرأة وبقي يرتجل الكلام نحو ساعتين من دون أن يبدو أدنى تعب أن يتلعثم حتى خلب العقول وأقام الناس وأقعدهم.»٥
جاء الأفغاني مثالًا محسوسًا لتفاعل الأفراد والجمهور. إذ رأى ببصيرته النافذة ما يحرك نفوس إخوانه من العوامل المستفزة نفسه، دون أن يهتدوا إلى كيفية التلخيص والإفصاح. فتكلم فيهم بلغته «الممزوجة ببعض لكنة أعجمية تنم عن أصله الغريب وإنما وقعها على الأذن كان محبوبًا.٦ تكلَّم فيهم بفصاحته النارية فكان له اليد الطولى في تحريض الأفكار وإضرام الثورة العربية» فهو زعيم الناقمين في ذلك العهد، هذا الأفغاني الذي أرسلت شعلة روحه الشرر من أفغانستان، إلى بلاد فارس، إلى وادي النيل حيث مرَّ كتيار لفاح.

شعر الفكر المتغير المتكيف بوجوب تبديل أستاره والتجلي بزي يوافق صورته الخفية فكان ذلك التطور في نتاج القرائح والأقلام من شعر ونثر، وإن كان في الشعر أسبق أما في النثر فأوضح. وظهرت مع الشعر الفصيح ضروب من الشعر العامي كالمواليا التي لم يألف معالجتها نفر من كبار الشعراء. وتجدَّد «الزجل» الطلي. وأما وضوح النثر فجاء من انتشار العلوم الطبيعية والرياضية، فمال الناس معها إلى إحكام المعنى وإخراجه من معمعة السجع والجناس والاستعارة والتورية. وبديهي أنه لم يفلح في ذلك أولًا غير النفر اليسير، وتفرقت من الآخرين الطرق. فتحدى بعضهم أسلوب الأقدمين من صدر الإسلام أو من صدر العباسيين. وتسربت إلى أسلوب غيرهم ركاكة لغة الدواوين التي لم تخلص منها حتى في هذه الأيام. ولعل أقرب الأساليب منالًا هو أسلوب الصحافة التي كانت وما زالت عندنا ميدانًا للعلماء والشعراء والأدباء، وقد تحتم عليها التوفيق بين مختلف الأذواق والكتابة بلغة يفهمها الجميع على السواء. ولصحافتنا في ذلك تاريخ أعز. وما فتئ التحسن يبدو عليها من عام إلى عام وهي عامل كبير في رفع فكر المجموع، وربما كانت العامل الأكبر؛ لأنها العامل الأشمل.

•••

وإذا كانت الحالة الفكرية والاجتماعية في تفاعل مستديم، فكيف كانت يا ترى العيشة العائلية؟ كيف كانت حالة المرأة؟ أكان يصل إليها صدى الخارج؟ أكانت تشتغل لرقي بلادها في دائرة الأسرة وتدرك معنى المطامع القومية؟

هاك شبه جواب عن هذه الأسئلة عند أمين باشا سامي الذي يخبرنا أنه في عصر محمد علي كان الأهالي: «عقبة كئودًا في طريق تعليم بنيهم. غير أنهم لما تحققوا أن تعليمهم في تلك المدارس ومكثهم بها ينقل حالة أبنائهم إلى حالة أرقى من التي انتشلوا منها تحققت الرغبة عندهم.» «أما تعليم البنات فلم يصادف تسهيلًا في عصره حتى اضطر إلى إصدار أمره إلى حبيب أفندي في ٤ جمادى الثانية سنة ١٢٤٧ﻫ (١٠ نوفمبر سنة ١٨٣١م)٧ بشراء عشر جوار سودانيات صغيرات السن ينتخبن بمعرفة كلوت بك لتلقي فن الولادة ومعهن اثنان من آغوات الحرم يتعلمان فن الطب والجراحة.»٨

كانت عامة الفتيات تتعلم التطريز وأشغال الإبرة سواء في بيوتهن أو بالتردد على المعلمات القبطيات وغيرهن. ومنهن من يتعلمن القرآن على فقيه البيت. ونفسي تحدثني أن ذلك الفقيه كان ينطبق عليه وصف صاحب مذهب «هذا جناه أبي عليَّ وما جنيت على أحد.»

ليأخذن التلاوة عن عجوز
من اللائي فغرن مهتمات
يسبحن المليك بكل جنح
ويركعن الضحى متأثمات
فما عيب على الفتيات لحن
إذا قلن المراد مترجمات
ولا يدنين من رجل ضرير
يلقنهن آيًا محكمات
سوى من كان مرتعشًا يداه
ولمته من المتثغمات٩

•••

أليس هذا قد كان رأي أكثر الأهل في معارف البنت وفي الذين يتولون تعليمها؟ بيد أن السيل متابع مجراه والوفود الأوروبية ترد أفواجًا ومعها البعوث الدينية تؤسس المدارس للبنين والبنات. فأُنشئت مدرسة راهبات الراعي الصالح في شبرا منذ ١٨٤٤، وتلتها مدرسة الأمريكان للبنات بالأزبكية سنة ١٨٥٦، ومدرسة راهبات الفرنسيسكان الإيطالية سنة ١٨٥٩. وبينا مدارس الجوالي تتكاثر في أنحاء القطر أسست مدرسة البنات بالسيوفية سنة ١٨٧٣ (ولم يسبقها من المدارس الأميرية سوى مدرسة الممرضات والقوابل منذ عهد محمد علي). وهي المدرسة التي تُعرف اليوم بالمدرسة السنية. وتلتها مدرسة القربية سنة ١٨٧٤ ثم انضمت ومدرسة السيوفية وعُرفت بها. وكان عدد المدارس للبنات والبنين في ازدياد سريع حتى أُنشئ منها في حياة «عائشة» ما يقارب الألف من مدارس أميرية ومدارس تابعة لمجالس المديريات أهلية وأجنبية عدا المعاهد الدينية والكتاتيب.

بيد أن المرأة لم تكن وصلت إلى دور تثقيف نفسها. بل كانت راتعة في انقطاعها وجهلها شأن من اعتاد الهواء الفاسد يضيق منه النفس ويعتل إذا هو انتقل إلى حيث الهواء نقي. وإنما هي الأقلية المتنورة من الرجال التي كانت تطلب في الزوجة شريكة وصديقة، وللأبناء التربية المنزلية الصالحة، وللبيت ذلك الجو المفرح الذي تخلقه المرأة بعذوبة حبها إذا هي قُرنت بالحصافة والمعرفة. وكان أولئك الرجال يتشاكون الغم فيما بينهم، وليس من يقتحم مصادرة الرأي العام. حتى انبرى قاسم لا يبالي بتطعين الحراب، هادئًا كمن جس مقاتل الخصم وتسلَّح بصارم الحق واليقين.

الحياة المنزلية

نحن حوالي منتصف القرن التاسع عشر، في مدينة القاهرة عاصمة الديار المصرية قبل أن تبدل معالمها يد الهدم والبناء. وقبل أن تصقل بعض جوانبها يد التحسين الجديد. مدينة شرقية توالت عليها نوائب التاريخ واختلطت فيها أجناس الشعوب وهي لسرها الطويل كتوم توزعت في مختلف الجهات، منها البقايا الأثرية والجوامع البديعة الفائقة على الثلاثمائة، والحمامات والأسواق و«السبل» المرمرية المقدمة ماءها العذب لكل ظمآن يرتوي وفوق المدينة الجاثمة ترتفع تلك المآذن بقاماتها الهيفاء فيخيل أحيانًا أن الإنسانية أعلت هياكلها في الهواء الأزرق ليس ليصل صوت المؤذن إلى المؤمنين على مسافة بعيدة فحسب، بل ليكون المبتهل في صلاته أقرب إلى باريه وأرسخ في الثقة بالاستجابة. وطورًا تبدو تلك المآذن كأنها حراب أرسلتها أيادي الإسلام تنبئ الجائب بأنها على دوام الاستعداد لدفع الطوارئ عن الذمار.

في الشوارع والساحات تبصر أخلاطًا من الثروة والفقر، أناسًا يرتدون الأثواب النفيسة وعليهم دلائل النعمة والرخاء، وآخرين يرتدون الأطمار البالية وعليهم دلائل الذل والشقاء. ولكن «رغم مشهد الفقر والمرض عند الشعب فإن شوارع القاهرة ليست لتوحي الأسف والخيبة اللذين يشعر بهما المسافر في الأستانة ذات المنظر الفخم من الخارج، المحزن في الداخل. نعم إن أكثر هذه الشوارع مظلمة ملتوية متشابكة الواحد في الآخر كأنها مجاهل التيه، يعترضها هنا وهناك ممرات خفية وغاية ما يسع عابرها أن يستسلم لحكمة دابته وثقافتها. على أنها نظيفة يتعهدونها بالكنس والرش المنظم وبدلًا من بلاط الأستانة الشنيع وتلك السلالم الحجرية في غلطة وبيرا، لا تجد هنا إلا أرضًا مستوية صلبة تسير فوقها بلا عناء. أما المنازل القائمة على جانبي الشارع فهي في الغالب أشهق من بيوت عاصمة تركيا وأتقن صنعة، ففي كل وقت تبصر العين الواجهة المزخرفة بالنقش العربي، أو النافذة ذات المشبك الخشبي الدقيق الفن الأنيق التفاصيل، فيكاد المرء يغتفر لأجلها الغيرة التي أقامت هذا الحاجز بين داخل المسكن وتطلع السابلة.»١٠

•••

كاتب أجنبي يجيئنا بهذا القول لا يرى في ذلك «الحاجز» سوى رمز «للغيرة». كأن الغيرة من واردات الشرق التي يتفرج عليها الغرب ولا يكابدها. ولكن هلم نقف أمام أحد هذه المنازل، أمام المنزل الذي نتطلع الآن نحو الماضي لأجله. هلم نستعين بالخيال حين لا وسيلة سواهُ، فنخترق جانبًا من الحديقة الحافلة بالورد والرياحين تحت رعاية الأشجار ذات الظل الوارف. هو ذا الآغا يسير بنا إلى دار الحريم حيث تلقانا طغمة من الجواري والخادمات وتدعونا إلى الجلوس في الفسحة الواسعة الموفورة النور والهواء أرضها تختفي وراء البسط العجمية والطنافس الفاخرة. والمقاعد والأرائك تدور في جوانبها، تتخللها الطاولات الصغيرة وعليها أدوات التدخين من علب اللفائف وأطباق صغيرة للرماد (منافض). وعلى جدرانها تتألق مياه المرايا العميقة الصافية. وقام في وسطها خوان كبير من الخشب المموه بالذهب، تتدلى فوقه الثريا العديدة الشموع المنحدرة من السقف المصنوع من خشب الجوز المجمَّل بالنقش والزخرف بل هي هبطت من صميم رسم مثل وردة كبيرة تناوب فيها الحفر والتخريم بنتوء مستدير وسيم. فكان النور خلال تلك التخاريم من جهة إلى جهة نفيذًا.

هذه هندسة أكثر منازل الطبقة العليا وما دونها قليلًا في ذلك العهد وما بعده حتى أوائل القرن العشرين. أما البذخ والترف في بيوت الكبراء فيبدو في اتساع الغرف والردهات، وفي تعدد المقاعد والمرايا ونفاسة الأقمشة والثريات والطنافس. ولا بد من قاعة أو قاعات للاستقبال. على أن السيدات يقابلن عادة في هذه «الفسحة» فسحة الدار، كل شهور الصيف الطويلة. وهنا تنعقد اجتماعات الأسرة سواء في الليل والنهار.

اقتبس هذا الوصف من كتاب الزوجة الأولى لصاحب الدولة حسين رشدي باشا. كانت السيدة فرنسية ووضعت كتابين بلغتها وقعتهما باسم «نية سليمة» المستعار فوصفت فيهما المجتمع المصري وعاداته على ما أدركته في أواخر القرن الماضي. وإنما استندت على هذا الكتاب١١ لأن هدى هانم شعراوي التي تفضلت فأعارتنيه مع الكتاب الآخر١٢ قالت لي إنه أصدق ما قرأت من نوع هذه الكتب في وصف العادات المصرية، وأكثرها إنصافًا وأقربها إلى الواقع. وإذا أضفنا إلى ذلك أن «نية سليمة» عاشت في ذلك المجتمع وعاشرته وأحبته، غير ضاربين صفحًا عن بطء التطور الاجتماعي، ولا سيما في الشرق وفي الأيام الخالية، أمكننا أن نقول إن هذا الكتاب وإن أُنشئ في أواخر القرن التاسع عشر فهو يقرب كثيرًا إلى ما كانت عليه في أيام عائشة.

فلتكن إذن «نية سليمة» دليلنا.

•••

هي تقول لنا إن هذه السيدة الجميلة البشوشة التي جاءت مرحبة وجلست على المقعد قربنا هي ربة المنزل. أما أولئك النسوة الجالسات على «الشلت» فهاك خبرهن:
«إنهن من المترددات على المنزل، وليس لهن أن يجلسن قرب السيدات على المقاعد، وإن كنَّ أرفع قدرًا من الخادمات الجاثمات على البساط أو على الحصيرة»، «هن من الجواري البيض المعتوقات ومن الجواري السود اللاتي حججن. ومعهن الدلَّالات بائعات الأقمشة والبضائع. ومعهن المراضع وأخوات الرضاعة وقارئات القرآن وسواهن من النديمات ومن المختلفات إلى المنزل لأغراض شتى. يأتين ويجلسن القرفصاء كل اثنتين أو ثلاث على «الشلتة» الواحدة، ويشتركن في الحديث ويروين الأخبار.» «أما الزائرات المهمات فتأتين وبعد كلمات الترحيب وتقديم لفائف التبغ تحضر القهوة التي يستغرق تقديمها من الزيارة زمنًا. فالعادة في الطبقة المتوسطة أن يُؤتَى بها مصبوبة في الفناجين على طبق من الفضة. أما في البيوت الكبيرة فيتعاون في تقديمها ثلاث خادمات على الأقل: إحداهن تحمل الطبق يجلله غطاء مخملي مزركش وقد تهدلت من حواشيه الهدبات الذهبية والفناجين مصفوفة عليه. وتحمل الخادمة الثانية أبريق القهوة في شبه مجمرة فضية امتلأت بالرماد المتلظي. بينما الخادمة الثالثة تصب القهوة، وتدور بها على الزائرات»١٣
أما الأحاديث فهي طبعًا لا تختلف عن المألوف حتى اليوم في الدوائر النسائية غير المتنورة و… وربما المتنورة أحيانًا. موضوعات لا تنفد مادتها كأنها الماء كلما غالبت في الإسراف منه زاد تدفقًا وسيولًا. وتلك الموضوعات هي الولادة، والخطبة، والزواج، والموت، وخصام الأزواج، وخصام العائلات فيما بينها، والثروة، والاغتياب إلخ. ولكن يخيل أن السيدات المصريات لم يكنَّ يومئذ لتنطبق عليهن التهمة التي يحب الرجال أن يلصقوها بالمرأة؛ لأن «نية سليمة» تقول بجلاء إنه:
ليس من الغريب أن يقطع الأحاديث غير مرة سكوت طويل وربة البيت لا تقلق من جراء ذلك ولا تجهد ذهنها للاهتداء إلى موضوع جديد. فقد حضرت مجالس السيدات قليلات التزاور فيما بينهن يظللن جالسات معًا دقائق طويلة ثم يفترقن دون أن يتبادلن كلمات التبجيل المبتذل والمجاملة الشائعة ذات المراسيم المسهبة والجمل المهلهلة. فهي تنطوي على تمنيات ودعوات صالحات يتيسر ترديدها مرات عديدة دون أن يكون في ذلك غضاضة أو خشية الهزوه والنكتة.» «ثم تأتي زائرات أخريات فتنهض صاحبة المنزل للاحتفاء بهن ويحذو حذوها الجميع، فتلقي الواصلات الجديدات التحية، ولكن ما أدق الفوارق في أساليب التحية! إنهن يقبِّلن يد السيدة المسنة ويدعونها «عمتي»، ويقبلن وجنة مثيلتهن في السن والمرتبة ويدعونها باسم «الأخت» العذب، ويقابلن معارفهن الأقل مؤالفة بتحية «تركية» أما السيدات الأوروبيات فيصافحنهن باليد.١٤
إن اللائي يحضرن اجتماعات السيدات المصريات يعلمن أن وصف صنوف السلام ما زال حيًّا بحياة الواقع في أيامنا. ولقد كانت دوامًا ساعات السلام لي أوقات اغتباط ودرس أتبين فيها العادات الراسخة وأحلل أسبابها ما أمكن، بيد أن هناك نوع سلام آخر يدخل في الصنف الثاني الذي وصفته «نية سليمة» إلا أنه يتجاوزه للإفراط في التودد والتعاطف. وهو ضم الخد إلى الخد مرة بعد أخرى وإرسال قبلات سريعة متوالية في الهواء يُسمع لها مصيص شائق كأنه تغريد طائفة خاصة من الطير. وفيما يتعلق بالتحية «التركية» أو «اللاتوركا» كما يقولون فهي كما تقول «نية سليمة»:

كم من نبل وكياسة في التحية التركية، وكم تنويعها ميسور؛ فاليد اليمنى تنفتح بهيبة وبلا توتر وتستطيل في تحدر أكثر أو أقل بعدًا حتى ليصل إلى الأرض عند الضرورة. ثم إن النصف الأعلى من الجسد الذي انحنى يعود إلى التقويم والاعتدال مسايرًا حركة اليد التي تدنو من الفم أولًا، ثم من الجبهة دون أن تمسها، وتركن أخيرًا إلى موضعها تاركة خلاء في الهواء كما يترك مرور جناح الحمامة.

والوداع يشبه السلام فتُعاد عنده طقوس الاحتفاء والتبجيل ذاتها. أما التفصيل الحري بانتباه خاص فهو أن السيدات اللاتي لا يرين مطلقًا أزواج صاحباتهن يحسبن مخلات باللائق إن لم يبعثن إليهم بالسلام مع زوجاتهم. وربة البيت لا ترافق زائراتها بل تتقدمهن إلى الباب فيتبعنها.١٥

لطيف هذا! ومعناه المشيعة تسهل لزائراتها السبيل وأنها تخرج من منزلها على نوع ما بخروجهن أو هي تودع معهن شيئًا منها. وإني لأوثر هذا على السير وراء الزائرات كما تطردهن طردًا وتقتفي أثرهن لتكون على ثقة من ذهابهن والتثبت بأنها تخلصت لحين ما من ورطة وجودهن …!

•••

هب أن هذا المنزل الذي زرناه الآن متبينين فيه بعض عادات ذلك العهد هو منزل إسماعيل تيمور باشا،١٦ وأن تلك السيدة ربة البيت التي رحبت بنا هي والدة عائشة، «وهي جركسية الأصل معتوقة والدها إسماعيل تيمور باشا»،١٧ فأين عائشة الصغيرة نفسها؟ أين الشاعرة العتيدة التي نلتفت اليوم إلى معالم الأمس لننال لمحة من حجر نعمتها وما فيه من خطوط ألفتها فكان هيكل زفراتها وهديلها؟!

ألا فاعلم أن عائشة اليوم بنية صغيرة لا تحضر مجالس «السيدات» ولا تختلط بالزائرات إلا لتقبل أيديهن إن كنَّ من صديقات والدتها وقريبات أسراتها. وإذا شئت أن تراها فعليك بذلك المخدع المنفرد حيث تجدها مع أختيها.

١  Les Egyptiens.
٢  أمين باشا سامي في كتابه «التعليم في مصر»
٣  يعني أن جمال الدين لم يكتب بيده مقالات للصحف المصرية. إلا أنه أنشأ في باريس «العروة الوثقى» التي أصدرها بالاشتراك مع تلميذه وصديقه الشيخ محمد عبده. وتُوفي عن كتابين أحدهما تاريخ الأفغان والآخر نقد للفلاسفة الماديين نقله عن الأفغانية الشيخ محمد عبده أيضًا.
٤  يعني «جريدة مصر» التي كان يصدرها سليم النقاش وأديب إسحق ثم أُلغيت ورخص لهما بإصدار جريدة «المحروسة» محلها.
٥  ننسخ هذه النبذة من فصل للدكتور شميل نُشر في مجلة «الزهور» (في ديسمبر ١٩١٢) التي اقتطعت ذلك الفصل من مجموعة مذكرات قالت إن الدكتور كان يومئذ يشتغل بوضعها باسم «حوادث وخواطر».
٦  الدكتور شميل نقلًا عن الفصل المذكور في «الزهور».
٧  أي قبل ولادة عائشة بتسعة أعوام.
٨  التعليم في مصر.
٩  «اللزوميات» لأبي العلاء المعري.
١٠  “De Constantinople au Caire”, par Xavier Marmier. وقد كتب هذه الرحلة سنة ١٨٤٥-١٨٤٦ صاحبها العضو في الأكاديمية الفرنساوية.
١١  “Harems et Musulmanes d’Egypte”, par Niya Salima.
١٢  أما الكتاب الآخر فهو رواية “Les Rèpudièes” التي طُبعت سنة ١٩٠٧ قبيل وفاة المؤلفة.
١٣  Harems et Musulmanes d’Egypte.
١٤  Harems et Musulmanes d’Egypte.
١٥  Harems et Musulmanes d’Egypte.
١٦  لقد هُدم المنزل الذي ولدتْ وشبَّت فيه عائشة، كما هُدم المنزل الذي سكنته بعد زواجها. وقام على آثار كل منهما أبنية جديدة.
١٧  الدر المنثور في طبقات ربات الخدور.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤