الفصل الخامس

شاعرة بثلاث لغات

عبقريتها اللغوية

قالت التيمورية شعرها بالعربية لغة وطنها المصري. وبالتركية لغة آبائها، وهي لغة لا يزال التخاطب بها في بعض الأسر ذات الأصل التركي. وقالته بالفارسية التي هي لفئة من أدباء العرب والترك لغة «مدرسيه»، شأنها عندهم شأن اليونانية واللاتينية عند الغربيين. والسبب في ذلك علاقة الفرس بهذين الشعبين الشرقيين من حيث السياسة والتاريخ.

ليس بوسعي درس شعرها غير العربي لجهلي اللغتين اللتين كتب بهما. على أني أذكر هنا شبه شهادة سمعتها عرضًا من شقيقها أحمد تيمور باشا. وهي قول المغفور له السلطان حسين لسعادته أنه «يفكر فيه كلما رأى ابنته قدرية تقرأ في ديوان السيدة عائشة.» وهناك شهادة مسجلة في آخر الديوان المذكور «كشوفة»، وهي رسالة من «إيران دولت عليه سي مصر قاهرة قونسولي سعادتلو دوقتور ميرزا محمد مهدي بك أفندي حضرتلي.»

ولكن هل تعني الشهادة والإنكار دومًا كل ما يرصف فيهما؟ نقرأ أحيانًا وصف بعض نتاج الأقلام عندنا فنحسب أننا مقبلون على مثل ما أبرز أوربيدس ودانتي وشكسبير. فنحملق بالعيون والقلوب فإذا بنا نطالع شيئًا حسنًا قد يجوز «تشجيع» صاحبه. أو شيئًا غير حسن يتحتم أن يحرم كاتبه من الفاكهة والحلوى طيلة أسبوع على الأقل.

لنكونن إذن من أنصار اللا شهادة ما بقينا في هذه الفوضى الإطنابية. غير أننا لا يسعنا إلا الإعجاب بقلم يعالج الشعر والآداب في لغات ثلاث.

لا يذهلنا الآن أن يتكلم الشخص الواحد بثلاث لغات أو أربع، وأن يتكلم باعة الدكاكين وغلمان البواخر والمقاهي والفنادق بما يربو عليها، لعلمنا أنهم لا يستعملون إلا الكلمات المألوفة التي تفي بالأغراض السطحية. لا يذهلنا ذلك لتتابع الاحتكاك والاختلاط بين الأمم. بيد أنه ندر حتى بين مشاهير الشعوب من الأفذاذ من عرف أكثر من لغتين معرفة عبقرية.

•••

عبقرية اللغات عبقرية مستقلة. هي حذق عميق رشيق ينفذ في أرواح الشعوب ويأوي إليها، ثم يتحول اتساعًا وعلوًّا فيشملها. كأن الفرد الموهوب يتقمص في كل شعب يدرس لغته فيتوحد وإياه حيًّا بحياته، ناطقًا بلهجته، مدركًا منها الخصائص والمستعصيات. ويفسر الروحانيون هذه الموهبة بما يفسرون به المواهب الأخرى والعبقريات. أعني نظرية الأعمار المتكررة بالتناسخ والتجسد بين شعوب مختلفة.

وقبل الإلماع إلى الشعر العربي والكلام عن شعر عائشة أعلم أن قولي لن يرضي أنصار القديم ولا أنصار الجديد. ولما كنت من ألين الطبائع عريكة كنت مستعدة لتغيير فكري بشرط أن يقنعني السادة المثقفون. وبعد فلنبدأ متوكلين على الله.

ليس أعسر من تعريف الملكة الشعرية وتحديد الشاعر. أصحيح أن الشعر كله رقة وعذوبة وإحساس وموسيقى دون تفكير ومعرفة وبحث وقوة؟ أم هو مزيج من كل ما تفنيه الحياة وتولده من المدركات والمحسوسات، سبك في قوالب متعددة وفقًا لأنظمة بديهية تتملص كالشعر نفسه من حظيرة التفهم والإدراك؟

الشعر أحد أساليب التعبير عن خواطر وعواطف وحاجات ما فتئت الإنسانية تستوحيها وتنفعل بها. قليلة هي تلك المعاني الأساسية. بيد أن شعبها ومناحيها تذهب كل مذهب وتضرب من أعماق البحار إلى أقطاب الأرض، إلى فسيح السموات، إلى رحبات الزمن في الأزل منها والسرمد.

ولقد بدأت الهمهمة الشعرية عند كل قوم بوسيلة من الوسائل. عن طريق العبادة، أو تعظيم الأبطال، أو شكوى الآلام وبث الغرام. ويظهر أن الداعي إليها عند العرب هو سير الأظعان في البوادي وانتقال القوافل في وحدة القفار فاهتدوا إلى الحداء مستحثين الإبل في مستعر الرمضاء. فخفت الإبل سيرًا وانتعش منها النشاط، وارتاح الحادون إلى النشيد يجدون فيه ملهاة عن المشقة وتسلية التعب والضجر. وتطرقوا بعدئذ إلى تنويع الموضوعات فتغنوا بمزايا المحبوب وشبهوه بما يعجبهم من خصائص الحيوان في الفلوات التي يجتازون. ووصفوا وحشة المضارب المتنقلة والآثار العافية، ومرارة الوداع والفراق. وعدَّدوا مفاخر القبيل والنسب ولذائذ العشق والحرب والغزو والتطعين والإخضاع.

وكان من ثروة اللغة في الألفاظ والاستعارات «لكثرة القبائل المتكلمة العربية» مساعد على الْتزام البحر والقافية في تنظيم الحداء. فأوجد هذا في الشعر العربي طلاوة وغنى في الوتيرة الواحدة. وجزالة ونكهة بدوية ودقة لفظية تغرد بها دون غيره. ومنه كذلك جميع العيوب التي يسبح فيها شعرنا إلا القليل كما في بحرٍ طام.

يصمم أكثر شعراء العرب على تقليد هذا الشاعر أو ذاك من القدماء بدلًا من أن يجروا وراء سليقتهم الفردية، فينجم لنا «طبعات» جديدة مشوهة من الشاعر المقلد. ويخاطبوننا بلغة عصور خلت ونحن اليوم في عصر الحيرة والتردد والثورة الكبرى. فمن الإعجاب بالجزالة البدوية جاء حب النسخ والتقليد، وعنه نجم الفقر في الخيال العربي، والتقيد باللفظ دون المعنى، وجمع الفكرة في كل بيت بمفرده، والخلل في اتساق الخواطر، والقصور في تنظيم أجزاء الخطاب. حتى إنك كثيرًا ما ترى وجوب جعل آخر القصيدة أولها ومنتصفها آخرها.

وعن التقليد نتج حصر الشعر في أبواب المدح والهجو والرثاء والحماسة والفخر والنسيب، والحكمة أحيانًا. وعند ترتيب الدواوين على الحروف الأبجدية لأن التواني وشيوع الموضوع يفقدان كل قصيدة عنوانها كما يفقدان كل ديوان فهرسه. وعنه خصوصًا نجم إهمال التاريخ في قصائد الشاعر ومؤلفات الكاتب. كأن نمو الفكر ومماشاة التطور دورًا بعد دور شيء لا يُلتفت إليه. مع أن معرفة التاريخ ليست دون معرفة الحوادث والمؤثرات وألسن البيئة أهمية في تفهم فصل أو كتاب.

•••

جميع هذه العيوب في ديوان التيمورية حيث لا تنظيم ولا تنسيق، حتى ولا تبويب على الأبجدية، ولا أثر للتاريخ في القصائد — إلا القصائد التاريخية في السطر الأخير منها! ولئن جرت على عادة العرب في التعبير، أي الإفصاح عن عواطفها غالبًا باستعارات من سبقها، فالأمر الذي يسبيني في شعرها أن شخصيتها تبدو من خلال المحفوظات كما يبدو الجسد في لوحة تصويرية من خلال الأنسجة الشفافة وقد تفلتت من عيب «المفاخرة» بذويها وأهلها. ولا هي تبدأ بالتغزل لتنتهي بالإطناب. وليس للأطلال والمضارب ذكر في قصائدها. وأما من حيث الصدق فأظنها في مقدمة الصادقين من شعرائنا. ومعظم استسلامها للغلو في جزء خارج عنها وهو شعر المجاملة بينا هي في شعرها الذي يرسم نفسها ساذجة مخلصة عذبة تروي حديثها بأسلوب ليس هو بالهندسي الذي لا يقدر أنصار القديم سواه. إنما هو كما يقول الفرنجة روائي romantique يجري عليه بعض شعراء العصر.
وهذا الشعر الوجداني بطبيعته، الغنائي بلهجته، ينقسم إلى خمسة أقسام كبرى. وهي:
  • شعر المجاملة.

  • الشعر العائلي.

  • الشعر الغزلي.

  • الشعر الأخلاقي.

  • الشعر الديني أو الابتهالي.

ففي الأقسام الثلاثة الأولى تلقت التأثر من الناس فأعادته إليهم نشيدًا. وفي القسمين الأخيرين تلقت التأثر من مختلف الجهات فخاطبت نفسها وناجت نبيها الكريم مبتهلة إلى العزة الإلهية.

شعر المجاملة

لقد حلَّت المجاملة عندنا مكان الصدق في أمور جمة لخلو محافلهم الاجتماعية من النقد المنصف الحصيف. فإن نحن استنكفنا هذا التطفل من المجاملة، وتأفَّفنا لإدمان معالجيها والراضين بها، فهذا لا يحول دون التقرير بأنها في حالتها المعتدلة علامة للثقافة النفسية. المرء يعيش في بيئته فعليه أن يقلع عما يزعج بني جلدته لغير ما سبب. لذلك هو يضبط خوالج نفسه، ويحاول الشعور معهم والتلطيف إليهم لا خبثًا ولا كذبًا بل تمرنًا على الغيرية بتهذيب ذاته في فن الإرضاء «والدوزنة» واقتبال التضحية الصغيرة التي تسهل بالمران وتتحول شيئًا فشيئًا إلى سرور وقتي مأنوس استبدل كلمة «نرجو تشريفكم» في دعوة بكلمة «احضر عندنا يوم كذا ساعة كذا» تعلم أن الصراحة ليست هي الخشونة، وتقدر المجاملة المعتدلة وآداب اللياقة. وتعلم لماذا هذه الملح في حالة الدقة والإحكام تلقى في اجتماعات الأنس رونقًا سطحيًّا مستحسنًا.

أما عائشة فلديها الوقت الكافي لتتفنن في تنميق الدعوة على هذا النسق:

لقد مَنَّ الإله لنا بسعد
وأشرقت الليالي بالأماني
وقام الفوز في الدنيا خطيبًا
ودق الحظ أوتار المثاني
وأنتم للمنى عين وروح
ومشكاة السرور مع التهاني
لكم صفو المسرة في انتظار
فمِنُّوا بالتعطف والتداني
أجيبوا دعوة الداعي فأنتم
فرائد والمجالس كالجمان

وفي الوليمة يقرأ المدعوون هذه المجاملة الأخرى على لوحة كبيرة:

قد مَنَّ فضلًا بالصفا الفتاح
وضياء توفيق الهنا مصباح
والسعد أقبل والعناية ساعدت
دامت لنا بسرورنا الأفراح

وتطرز اسم رجال الإنشاء:

علام الدر يا غوَّاص غالي
فبعه بما يُسام ولا تبال
لقد جاد الإله لنا ببحر
يجود بدره قبل السؤال

وتحيي دولتلو حسين باشا، «أليس هو السلطان حسين بعدئذ» لقدومه من السفر فتقول:

لاحت شموس السعد بالأقطار
وجلت عروس الأنس للأبصار
واستبشرت مصر المنى بقدومه
حسن الخلائق غرة الأنوار
لو للديار فم لقالت مرحبًا
بشرى بنير عزتي ومداري
قد أقبلت بالبشر دولتك التي
هي تاج آمالي وعين فخاري

أكثر المجاملة في شعرها لامتداح الخديوين «عشر قصائد تقريبًا».

هاك كلامًا حلوًا رنانًا في تهنئة الخديوي بالعودة:

كلَّلت تاج البدر قربًا بالشرف
مذ حل في مصر ركابك وانعطف
طربت بمقدمك السني بلطفه
مصرُ السعيدة والسرور بها هتف
وازَّينت بكر الحبور وأصبحت
مجلوَّة بين الرفاهة والترف
وتجملت مصر بما جاد الهنا
ورخيم مطربها على عود عكف

في منتهى اللطف هذان البيتان لا سيما الثاني. وفي الشطر الأخير نفحة شعرية منعشة. وهذا مثله:

وتراقصت مهج النفوس لبشرها
كبلابل غرَّدن في روض أنف
أضحى يقول بسعد بابك نيلها
أقبلْ على بحر الوفاء ولا تخف

•••

أكل هذا محض رغبة في المجاملة والإرضاء؟ بل فيه بعض الصدق، إن للأعياد العمومية والاحتفالات بهجة و«جوًّا» ينفث في الجماهير فكرة ويبث فيهم توقعًا. ويخلق في ذوي الشعور المتيقظ مختلف العواطف. فكيف لا تتأثر المرأة المحجوبة إذ تمر في مركبتها المسدولة الأستار بين معالم الزينة والألوية والأنوار وصفوف الجنود وقرع الطبول؟ كيف لا تهتم بالذات العلية التي تهتز البلاد لحركاتها وهي القريبة إليها بمنصب أبيها، المدينة لها بعض الشيء بمرتبة أسرتها، الملمة ببعض أحوالها بالاختلاط بنسائها؟ فكما تهنئ خديويًّا بالعودة تهنئ الخديوي التالي توفيق باشا بالتولية:

تيجان يمن الصفا أضحت تكللها
يد السرور بفوز دائم بهج
والسعد أشرق نورًا والسما غنيت
عن نور أقمارها والأرض عن سرج
تقلد النير الدري تولية
ضياؤها لسوى الإصلاح لم يهج
هذا الخديوي الذي قرت بموكبه
عين الزمان وقالت للهدى ابتهج
يسوس بالعدل والإنصاف أمته
ويبذل الفضل والجدوى لكل رجِ
والدهر رنَّم بالبشرى يؤرخه
يا مصر قد زانك التوفيق بالبلج

وإذ يمر الخديوي ببنها العسل تنظم هذه الأبيات لتكتب على لوحات الزينة:

البشر أجرى ببنها أنهر العسل
والنصر أضحى بتوفيق السعود جلي
وافى «الخديوي» فأضحى نور بهجتها
كالبدر في التم أو كالشمس في الحمل
ما ثم أرض سقاها غيث مقدمه
إلا وفازت بزاهي الأنس والجذل
تهلل القطر بشرًا من زيارته
وأيقن القوم حسن الفوز بالأمل

وحين مولد ولي عهده:

قرَّت عيون للسعادة بالصفا
مذ بشرت بسمي عم المصطفى
عباس أشرق بالمعالي نجمه
من نير التوفيق سعدًا أشرفا
رقصت بمنبتها الغصون بشارة
بقدوم من بوجوده دهري صفا
قالت ميامن بشره تهن الورى
فالأمن والتوفيق فوزًا أخلفا

إلا أن هذه اللهجة تصطبغ بالجد في قصيدة الترحيب بالخديوي بعد الثورة العرابية:

الله أكبر يوم آب عزيزنا
عيد كبير زانه التشريق
وافى الخديوي الفخيم المرتضى
رب الفخار عزيزنا توفيق
رُفعت له الأعلام يوم قدومه
وبدا لها في الخافقين خفوق
وسرت بأرجاء البلاد مسرة
من عطرها روح النسيم عبيق
عزفت له الأفراح ألحان الهنا
وبدا يشير لحسنها التصفيق

ومن ثم تمضي في إنكار تلك الثورة التي لم يرضَ عنها الخديوي:

ولك السيادة ليس ينكر أمرها
إلا عديم العقل أو زنديق
قدحت بأكباد العدا نار الغضا
واشتدَّ ما بين الضلوع حريق
كفروا بأنعم فيض جدواك التي
تربو على قطر الندا وتفوق
ظلموا نفوسهم بخدعة مكرهم
والمكر يصمي أهله ويحيق
فرقت شمل جموعهم فمكانهم
في الابتعاد وفي الوبال سحيق

هذه مصارحة خطيرة وهي الغمزة السياسية الوحيدة في كتابات التيمورية إذا استثنينا مشايعتها للعرش في قصائد الثناء. مشايعة فيها تتلخص عاطفتها «الوطنية» وبها تحب جو «مصر السعيدة» ونيلها الفياض، وألحان أفراحها. تريد لمصر الخير والصلاح والهناء بواسطة الخديوي الذي ترى فيه أقدر عامل على ذلك، ليس لأنه مصلح أو خيِّر بطبيعته، بل لأنه صاحب الأريكة. فكما أنه فوق رعاياه في المكانة فهو كذلك لهم في الصلاح والعدل المثل الأعلى.

والتيمورية في هذه «المحافظة» السياسية متفقة وطبيعتها؛ لأننا رأينا فيما مضى وسنرى في الباقي من آثارها أنها غير ثائرة.

شعرها العائلي

أليست المجاملة وحب التساهل لتيسر العلاقات بين أعضاء البيت الواحد، وتحل من المشاكل ما قد لا يفلح في حله الصراحة والعناد؟

تكاد تتوحد العاطفة والمجاملة في بعض شعر عائشة العائلي؛ لأن الملاينة تتخذ لهجة أقرب إلى النفس في مثل ترحيبها هذا بولادة شقيقها:

غنى فؤاد الأم أهلًا بالذي
مذ جاء أشرقت المنازل بالهنا

وفي قولها يوم بدأ يقرأ، كأنما هي رأت في المستقبل المرتبة العلمية التي هو بالغها:

لاح العود وأسفر التوفيق
وتلا لنا سور العلا توفيق١
رقم الفقيه له على لوح الهدى
أقبل، فإنك للنجاح رفيق

وفي وصف هدية بعث بها خطيب شقيقتها إلى عروسه:

تهادينا الزهور فعطرتنا
وللنسمات تعطير مضاعف
سألنا ما الذي أذكى شذاها
فقيل لأنها نفحات «آصف»٢

وفي قولها في ختان ولدها:

دقَّت له العلياء دُفَّ سروره
لما زها عن ثغره البسام
وغدت تعوذ نجمه لما بدا
ودعته في أفق المسرة سامي
رمقته أحداق الورى من بشرها
وصَفَتْ له الأرواح في الأجسام

هذا شعور الأم. ولأنها ترمق ولدها بالبشر، وتصفو له روحها، فهي لا تقبل في الثناء عليه بعدئذ معارضة ولا إنكار؛ فتكتب إليه مرة تطلب كتاب «درة المختار»:

طروس حررت فورا
فحاكت نسمة الأسحار
سأودعها تحيات
بها عرف الصبا قد سار
إلى عالي المكانة من
سما في المجد والمقدار
له همم إذا ظهرت
توارت دونها الأقمار
وأرجو من معاليكم
سريعًا درة «المختار»

وتكتب إليه مرة أخرى مشتاقة صادقة، وفي الشطر الأخير مثال من ذكرها لاسمها، أما السطر الأول فمن ألذ أحاديث الأمومة:

قلبي لبعدك لم يحمد مجاورتي
وفرَّ نحو حبيب في حشاه ربي
فقل بطلعتك الغرا وعزتها
واحكم بما ترتضي مُتِّعت بالأدب
من غير قلب أتبقى روح عائشة
لا والذي زان هذا المجد بالأدب

وأصدق صورة من شعرها العائلي في المراثي، ولا سيما مرثاة ابنتها المحبوبة توحيدة وهي القصيدة الوحيدة تقريبًا التي يذكرها الناس من شعرها زاعمين أنها خير ما نظمت التيمورية، وحكمهم في هذا حكمهم في كثير من الشئون؛ يقرون رأيًا ما، ويعززونه، ويتعصبون له قبل الاطلاع على سواه، بروح التساهل، وقبل أن يصرفوا ولو دقائق في البحث والمقارنة.

وأضيف إلى هذه المرثاة مرثاتها للشيخ إبراهيم السقَّا الذي يلوح كأنه عضو من عائلتها المعنوية. فتتوجع لفقده:

الدهر أبدل راحتي بعناء
واعتاض صفو تنعمي بشقاء
شجن عرى الإسلام بالظمأ الذي
حلَّ العرى بضمائر العلماء
أضحتْ حصيدًا أرض أزهرنا التي
كانت به كالدوحة الخضراء
تشكو الأوام وما بها من مطفئ
مذ غاب سقاء العلى بالماء
قلبي عليه غدا كجمرات الغضا
وا لوعتي من حره وشقائي
فلأذرفن أسى عليه مدامعي
ما دمت عائشة بخدر فنائي

اسمها من جديد، يصحبه وصف كارب من التحجب؛ إذ تدعو خدرها «خدر فنائها».

أما في مرثاة والدتها فتطلب للراحلة الرحمة، وتهنئ القبر بنزيلته المخدرة التي لم تسفر لغريب:

يا قبر، فاهنأ بالتي أحرزتها
هي درة بالدرج لاحت تسطع
يا رب، فاجعل جنة المأوى لها
دارًا بطيب نعيمها تتمتع
واسكب على حصبائها سحب الرضى
فضلًا، وإن تك قد سَقَتها الأدمع
يهنأ لأرباب النعيم نعيمهم
طوبى لمن من نهرهم يتضلع

وبعد هذا الامتثال تنتفض صائحة بالموت الذي فطر حشاشتها. إلا أن صيحتها تظل استرحامًا. وما أبلغ وصفها الردى «بمنهل التشتيت» على قياس النظرة الدنيوية التي تختبر به الفراق المر، دون الأمل الروحي الذي يرى فيه وسيلة الاجتماع والاتحاد.

يا منهل التشتيت، حسبك ما جرى
فعيوننا قد أقسمت لا تهجع
ذهب الأحبة واستقر ركابهم
يا ليت روحي ودعت إذ ودعوا
يا ليتهم طلبوا الفداء فهذه
روحي ولكن «ليت» ليست تنفع

وفي رثاء شقيقتها:

أحبيبتي، كيف الرضا بتشتت
قد ضر بالإخوان والأولاد

وفي هذه المرثاة ترتفع التيمورية لحظة إلى ما فوق الندب والرثاء:

يا من أتى للقبر يقرأ طرسه
مهلًا، فليس كتابه بمداد
وأعد له نظرًا فإن حروفه
كُتبت بذوب العين والأكباد

وفيها هذا البيت الذي يسجل بداهة وجوب انحلال الصور الكونية ليتسنى لها أن تتألف وتتشكل مرة أخرى. فيتم بذلك ناموس من أكبر النواميس في الوجود:

وجدت، وأعدمها الزمان حياتها
ما أقرب الإعدام للإيجاد!

•••

تولد المرأة أحيانًا صنوف التوليد المحسوس. فأحوال حياتها جميعًا تتهيأ لهذه الوظيفة وتتجه نحوها اتجاه الأنهار إلى البحر. ولقد شُبهت الأم دوامًا بالطبيعة، تلك الأم العظمى. وكان ما يرمز إلى أمومة الطبيعة ووظيفة التوليد الرائع فيها، أنثى في جميع أديان الأقدمين؛ فإيزيس المصريين «تلك الإلهة التي بدأت التوليد الإلهي، الأم الإلهية التي ولدت جميع الأشياء»، واللواتي قمن مقامها في الميثولوجيات الأخرى، يرمزن إلى المرأة القادرة بأمومتها، الممثلة الطبيعية بوظيفتها، القائمة حلقة مغناطيسية بين الحياة والحياة.

فما هو شعورها يوم ترى مخلوقها جامدًا في حضنها هامدًا؟

لا عجب أن يبدو الكون عندئذ متهدمًا في نظر الثكلى وأن ينقلب الروض قفرًا، وأن يغشى النور ظلام.

ولا عجب أن يكون غمها الأكبر الذي لا يُحتمل أن يظل هذا الكون المتهدم لها عامرًا لسواها، ويظل هذا النور منتشرًا ينير الناس ويفرحهم في حين يدلهم الجو حولها.

أي مأساة هذه التي تتصدع من جرائها الخليقة؟

أغمضت توحيدة عينيها، فكل الحياة عند عائشة سواد وتهدم وتفجع وتناقض أليم.

ستر السنا، وتحجبت شمس الضحى
وتغيبت بعد الشروق بدور
ومضى الذي أهوى وجرَّعني الأسى
وغدت بقلبي جذوة وسعير
طافت بشهر الصوم أكواب الردى
سحرًا وأكواب الدموع تدور
فتناولت منها ابنتي فتغيرت
وجنات خد شأنها التغيير
فذوت أزاهير الحياة بروضها
وانقد منها مائس ونضير
يا روع روحي، حلها نزع الضنا
عما قليل ورقها ستطير

من أرق قصائد تنسن الإنجليزي وأدلها على شاعريته الحنون قصيدة «ملكة مايو» وهي عادة جرى عليها الإنجليز في بعض المقاطعات أن يختاروا كل عام من بناتهم ملكة للربيع.

فإذا شئت أن تقف على مثال من توارد الخواطر فاقرأ قصيدة تنسن المذكورة The May Queen وقابل بينها وبين مرثاة التيمورية لابنتها ضاربًا صفحًا على الاتساق التام في قصيدة الشاعر الإنجليزي، وعن نقيض ذلك في قصيدة الشاعرة المصرية. تجد العاطفتين تتلامسان في غير موضع. وأذكر أن عائشة كانت تجهل الإنجليزية، وأن هذه القصيدة لم تنقل في عصرها إلى العربية. وأظنها لم تنقل بعدئذ وقد أكون مخطئة.
فتاة تنسن تقول مودعة والدتها ساعة الموت:٣
You’ll bury me, my mother, just beneath the hawthorn shade,
And you’ll come sometimes and see me where I am lowly laid.
I shall not forget you, mother, I shall hear you when you pass,
With your feet above my head in the long and pleasant grass.
I have been wild and wayward, but you’ll forgive me now;
You’ll kiss me, my own mother, and forgive me ere I go;
Nay, nay, you must not weep.

و«توحيدة» تقول:

والقبر صار لغصن قدي روضة
ريحانها عند المزار زهور

وتقول:

أماه، قد عزَّ اللقاء وفي غد
سترين نعشي كالعروس يسير
وسينتهي المسعى إلى اللحد الذي
هو منزلي، وله الجموع تصير
قولي لرب اللحد، رفقًا بابنتي
جاءت عروسًا ساقها التقدير
وتجلدي بإزاء لحدي برهة
فتراك روح راعها المقدور
أماه، لا تَنْسَيْ بحق بنوتي
قبري لئلا يحزن المقبور
فتاة تنسن تذكر حبيبها فتقول:٤
And say to Robin a kind word, and tell him not to fret;
There’s many worthier than I, would make him happy yet.
If I had lived—I cannot tell—I might have been his wife;
But all things have ceased to be; with my desire of life.

وتوحيدة لا تذكر اسمًا، إنما تشير إلى الزواج الذي كان قريبًا لولا الموت:

أماه، قد سلفت لنا أمنية
يا حسنها لو ساقها التيسير
كانت كأحلام مضت وتخلفت
مذ بان يوم البين وهو عسير
عودي إلى ربع خلا ومآثر
قد خلفت عني لها تأثير
صوني جهاز العرس تذكارًا، فلي
قد كان منه إلى الزفاف سرور

وكما تطلب فتاة تنسن الصلاة، وتبارك الكاهن الذي أسر إليها بكلمات الرحمة والسلام فأفهمها عذوبة الغفران، وحبب إليها الموت بعد أن كان مخيفًا، وأكد لها أن المسيح الذي «مات لأجلها سيبلغها السماء» كذلك تطلب توحيدة أن يُزار قبرها وأن تُتلى الصلوات على روحها لتحظى برحمة الرب الغفور:

أماه، لا تنسي بحق بنوتي
قبري لئلا يحزن المقبور
ورجاء عفو، أو تلاوة منزل
فسواك من لي بالحنين يزور
فلعلما أحظى برحمة خالق
هو راحم، برُّ بنا، وغفور

الأم عند تنسن لا تسمعنا صوتها. أما عائشة فتنتحب وتعود فتبكينا:

بنتاه، يا كبدي ولوعة مهجتي
قد زال صفو شأنه التكدير
لا توصِ ثكلى قد أذاب وتينها
حزن عليك وحسرة وزفير
قسمًا بغض نواظر وتلهفي
مذ غاب إنسان وفارق نور
وبقبلتي ثغرًا تقضَّى نحبه
فحرمت طيب شذاه وهو عطير
والله لا أسلو التلاوة والدعا
ما غردت فوق الغصون طيور
كلا، ولا أنسى زفير توجعي
والقد منك لدى الثرى مدثور
أبكيك حتى نلتقي في جنة
برياض خلد زينتها الحور

إنها تؤمن بالخلود، لذلك يعقب تفجعها الخضوع، وبينا هي تقول بلسان الجسد:

قد كنت لا أرضى التباعد ساعة
كيف التصبر والبعاد دهور!
ولهي على «توحيدة» الحسن التي
قد غاب بدر جمالها المستور

إذ بها يتجه انتباهها إلى ما وراء الموت فتذكر أن الفراق الطويل والانفصال المحسوس لا يجردانها من فخر الأمومة واغتباطها. فتقول بامتثال حزين وقد نما أملها بالاجتماع المنتظر:

هذا النعيم به الأحبة تلتقي
لا عيش إلا عيشة المبرور

وتشكر الله على كل حال:

قلبي وجفني واللسان وخالقي
راضٍ وباكٍ شاكر وغفور

ابنتها إن فقدت بها «كبدها ولوعة مهجتها» فإنها رغم ذلك، الفتاة الصغيرة التي لا تستطيع أن تكون لوالدتها الحصن الحسي والمساعد الذي يخفف الأثقال ويروج الأعمال. صدر والدها هو لها ذلك الملجأ في الحزن واليأس، ومن قلبه التعزية ومن مقدرته المعونة فيوم تفقده تفقد الشاعرة هذه الشفقة التي تلذ لها من أبيها، وتذلها من الناس ولهذا تقول في رثائها له:

يا حسرة ابنته إذا نظرت لها
بمماته عين من البأساء
يا كنز آمالي وذخر مطالبي
وسعود إقبالي وعين شفائي
يا طب آلامي ومِرْهم فرحتي
وغذاء روحي، بل ونهر غنائي
أبتاه، قد جرعتني كأس النوى
يا حر جرعته على أحشائي

وهذا الأنين يستحضر لذاكرتي أنين ابن أخيها المرحوم محمد تيمور فيما بعد، عند ضريح والدته في ساعة غم متفجع قانط:

أماه، قومي واسمعي
أماه، ما لك لا تجيبي؟
أرأيت دمع محاجري
وسمعت يا أمي نحيبي؟
هل راع قلبك ما لقيت
من النوائب والكروب؟
إن الوجود صحيفة
ملأى بأسرار القلوب
خلفتني للهم فيه
وللشدائد والخطوب
أماه، إني قد طرقـ
ـت حماك في اليوم العصيب
أبكي على سعدي كما
يبكي الغريب على الغريب
أفنى الغرام تجلدي
وفقدت في أهلي طبيبي
هذا جناه أبي عليَّ
وما جنيت على حبيب

والفرق بين التيمورية وابن أخيها في هذا الانتحاب أن الشاعر الفتى همه الشكوى وطلب الشفقة؛ إذ ليس من يسمع له ويواسيه غير الأم في قبرها.

أما عائشة فتعود إلى انتباه لطيف في حسرتها، وهو دليل رقة نسائية حلوة، تعنى برضى والدها ميتًا وحيًّا. وفيه كذلك دليل على الأثر الذي تركه الوالد الصالح الحكيم في حياتها:

يا ليت شعري، حينما حلَّ القضا
هل كنت عني راضيًا أم نائي؟

•••

أسمعت القصب يشدو؟

ذلك القصب الشرقي الساذج الذي سبق شدو جبروت الفراعنة وجلال الأهرام وكتمان الهياكل — أسمعته يشدو تحت النخيل على ضفاف النيل عند حلول الشفق؟

لكأن شدو عائشة شدوه.

إنها تجرب مزمارها في المجاملة، وتنتحب فيه بالرثاء، لتبلغ منه أشجى قرار وأحر زفير في شكايات الغرام. وتسمو به بعدئذ مرفرفة كالألحان المجنحة، في الابتهال إلى المهيمن على دوران الأكوان وحظوظ بني الإنسان.

١  اسم شقيقها تيمور باشا هو أحمد توفيق تيمور، ثم تغلَّب اسم أحمد، وبه عُرف.
٢  هو آصف باشا.
٣ 
ادفنوني يا أماه، في ظل أشجار الزعرور
وزوريني أحيانًا حيث أنا متوارية
لن أنساك يا أماه، وعندما تمرين
سأسمع وقع خطاك على الحشيش الغض اللطيف
كنت شرسة عنيدة إلا أنك الآن تسامحينني
قبليني يا أماه: وسامحيني قبل أن أمضي
لا، لا. لا ينبغي أن تبكي
٤ 
قولي لروبن كلمة مواساة وقولي له ألا يحزن
كثيرات غيري خير مني قد يجعلنه سعيدًا
لو عشت لربما كنت أصير له زوجة
إلا أن جميع هذه الأشياء تلاشت مع رغبتي في الحياة

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤