الفصل السابع

نثرها

نتائج الأحوال

أما الشعر فقد قرضته عائشة تحديًا لبعض من سبقنا من «ذوات الخدر والأحساب» أو كما قالت:

ما قلته إلا فكاهة ناطق
يهوى بلاغة منطق وكتاب

وأما النثر فقد عالجته لملء ساعات الفراغ الطويلة التي لم تكن لتستنفدها محبة الأبناء وواجبات المنزل، ولياقات المجتمع، وفروض العبادة، ونظم القصائد، وقد شعرت قليلًا قليلًا بأنها تحب أن يكون لديها بلاغ تؤديه إلى قومها. وأما هذا الكتاب خاصة «نتائج الأحوال»، فهي تطلعنا في مقدمته على بواعث إنشائه وتخبرنا كيف كانت دوامًا تميل إلى استقصاء أحاديث السلف وتحب مسامرة الكبار ومجالسة العجائز لتسمع أخبارهم «وألتقط من تلك النوادر أعاجيب القدر»، ولما تمَّ لها ذلك وأنشأت تطالع «من التواريخ ما قدرت قدرتي أن تدانيه، وما أمكن فكرتي الخامدة أن تصل إلى معانيه». «ولما تأملت في سير الأمم، وتحققت أن السعد والنحس منوطان بالقدر من القدم، وقد شاهدت والله في نفسي صدق هذا الخبر … فدعتني الرأفة بكل مغبون لقي ما لقيت، ودُهي بما دُهيت، إلى أن أبدع له أحدوثة تسلية عن أشجانه عند تزاحم الأفكار» …

إذن فلتعمد هي إلى تخيل الخيالات ونسج الحكايات. ولن يكلفها ذلك أكثر من جمع شتات ما قرَّ في ذهنها من حكمة العجائز وما يتطابق وإياه من تجاربها الشخصية، لتدوين آراء شائعة مقبولة في أحوال هذا الناس: في السعد والنحس، في الصبر والمواساة، في الخيانة والوفاء، في الحب والكراهية، في القضاء والقدر، في التربية والأخلاق، وفيما يستتبع المصائب والرزايا في النفس الرشيدة من تقويم ورجوع عن الغي والضلال.

«نتائج الأحوال» هو بالجملة من رواسب تلك القصص التي سمعناها في طفولتنا، خلال الليالي الساهرة في زمهرير الشتاء وهزيم الرعد وتدفق الأمطار. فتمتعنا منها بلذاذتين اثنين: لذاذة التحرز من غضب الطبيعة وصقيعها في ملجأ دافئ، ولذاذة الاستماع إلى سير الملوك والأبطال والجان والعاشقين يتصرف بهم القضاء والقدر، لينتهي بنا الأمر في الغالب إلى اندحار الشر وانتصار الخير.

فإذا تطلعت إلى خلاصة «نتائج الأحوال» فهب أنك تصغي إليَّ في ليلة صاقعة ممطرة وأنت في ثوب الطفل الغرير ففي هذه الحال تتذوق حكايتي بما فيها مما وعيته من أقاصيص الماضي الساذج.

•••

هذه ككل قصة قديمة تحترم نفسها، فيها ملك وابن ملك ووزير ونديم، وعريس وعروس، وغير ذلك كثير. وإليك أسماء أهم الشخصيات:
  • العادل: ملك عظيم صالح منصور.
  • الممدوح: ولي عهده، محور آماله ومطمح آمال الشعب. وهو بطل الحكاية.
  • عقيل: الوزير. وهو واسع الإدراك حاذق التدبير، وقد فوَّض إليه الملك أن يدير شئون الدولة.
  • مالك: النديم. ويظهر أنه على غير ما يستحسن في النديم من عذوبة المنطق وبراعة الظرف ولطف السمر «ولم يبدُ من أولئك شيء في سياق القصة» فهو ذو مواهب خُلقية كالوزير من حيث الاستقامة والوفاء والحصافة وسعة الإدراك وحسن التدبير. قد يحار علماء النفس حيال مثل هذا التركيب السيكولوجي، لكن حيرتهم لا تغير الواقع.
  • دشنام: قيِّم على خزينة المال.
  • غدور: قيِّم على خزينة السلاح.
  • بوران: ابنة ملك العجم وخطيبة الممدوح. مشهورة بسداد الرأي، وذكاء العقل، وحسن الإدارة.

أما «حبكة» القصة فمنشأها أن الملك مولع بولده، شأنه شأن الكثيرين من الآباء في الشرق من حيث يسيء فهم المحبة الوالدية ويحسبها قائمة في إنالة الولد جميع مطالبه وعدم التعرض لصد أهوائه. أخذت تظهر نتائج هذه التربية السيئة في سلوك الغلام وفساد أخلاقه، فلم يجرؤ على لفت الملك إلى ذلك سوى الوزير والنديم. لكنهما لم يحدِّثاه في ذلك مباشرة، بل في حديث رمزي طويل ذكرا فيه حديقة فيها غصن لم يحسن تقليمه. فأدرك الملك اللبيب غرضهما، وأفحمته حجتهما، وندبهما لتثقيف ولده وتعليمه. فقاما بذلك خير قيام، وبدت نتيجة جهودهما في زمن قصير بتحول التلميذ النجيب عن وجهة الطلاح والجموح إلى وجهة الصلاح والسجاحة. ولا تسل عن سرور الملك! إنه عبر عنه تعبيرًا فاخرًا بالطريقة التي ألفها ملوك الحكايات في عطفهم على من يحسن في سبيلهم البلاء، ويخدمهم في صدق ووفاء.

وإزاء هذين الرجلين الأمينين لمولاهما، ولوظيفتهما، وللمصلحة العامة (إذا جاز مثل هذا التعبير في الحكايات القديمة) نجد مثالًا شنيعًا للحسد والخيانة والدسيسة في القيمين دشنام وغدور؛ فقد أخذهما الاستياء من نجاح الوزير والنديم، فدأبا ليفسدا عليهما الأمر بتملق الأمير الصغير وإيغار صدره على هذين اللذين يقصيانه عن أندية اللهو والمرح، ويبعدان بينه وبين والده بحجة التعليم والتهذيب، بينما هما في الواقع يكيدان له لانتقاص سطوته وكرامته وتنغيص حياته.

وتبع ذلك جهاد صامت عفيف بين الفريقين؛ فتارة ترجح عند الأمير كفة الإخلاص والاستقامة، وتارة يستسلم لصوت الوشاية والافتراء. وتمَّ الفوز للدساسين في النهاية؛ لأن الحقيقة كثيرًا ما تتخاذل وتتوارى في تعمل الغيرة والتفادي، وكثيرًا ما يظفر الخونة والمحتالون، فخرج الفتى على أستاذيه الصالحين، وقاطعهما، وتوعر خلقه، وتفاقمت شراسته. وأراد الوزير أن يتلافى الأمر بالتي هي أحسن، فاقترح على الملك أن يزوجه. فوافق الملك على هذا الاقتراح. وأنفذ وزيره إلى إيران يفاوض ملك العجم في خطبة ابنته بوران المشهورة بسداد الرأي، وذكاء العقل، وحسن الإدارة. ومضى النديم إلى الشين (الصين) لإحضار أمتعة الزواج وجهاز العروس.

وخلا الجو للدساسين قرب التلميذ المنقلب عريسًا بين عشية وضحاها. فحزن الملك جد الحزن لشراسة ولده، وتعاون الغم والشيخوخة على تهديم صحته وأشرف على الموت. وماذا عسى يصنع المشرف على الموت؟ إنه يستدعي إليه ولده ليزوِّده بالنصائح. وذاك ما فعله الملك العادل. بيد أن المنية عاجلته قبل أن يمعن في الكلام، فقضى نحبه بين ذراعي ولده مأسوفًا عليه من هذا الولد المسكين.

وهنا — وقد سنحت للدساسين الفرصة التي تربصا بها طويلًا — قام القيمان بتمثيل الفصل الثاني والأهم من دورهما؛ فأوهما الشعب بأن الملك ما زال على قيد الحياة، غير أنه لمرضه وضعفه عهد إليهما هما القيمان بإدارة شئون الدولة وشئون ولده. وأنفذا الفتى إلى المجلس يحمل كتابًا مزورًا في هذا المعنى، والفتى في حزنه على والده مشرد الفكر، لا يعرف مضمون الكتاب. ومن ثم يجهدان للتخلص من هذا الفتى فيفوضان أمر الفتك به إلى عبدين يقودانه إلى خارج المدينة للقيام بمهمتهما الغادرة. لكنهما تأخذهما الشفقة عليه، فيكتفيان بإبعاده إلى مكان لا يستطيع العودة منه إلى المدينة.

ومن الناحية الأخرى، لا يفوت القيمين الأفاكين إبلاغ الوزير في إيران أن الأمير عشق صبية من بنات الإفرنج وجرى في أثرها، فعلى الوزير أن يمضي في العالم ليبحث عنه. ويكتبان إلى النديم أن الأمير خرج إلى الصيد فشرد به الجواد «وانساب ذاك الفرس إلى ضيعة حرسها عبيد» فليجدَّن إذن في طلبه بين العبيد. أين ذلك؟ هنا على مقربة منا، يا أصحابي، في السودان! أجل، في السودان!

وهذا هو ذا صاحبنا الوزير يطوي البراري والقفار، وينتقل من دار إلى دار، وها هو ذا صاحبنا الآخر، النديم، يذرع شواطئ النيل في أعاليه، ويفتش في أقاصي السودان وأدانيه. وينقضي زمن غير قليل وجميع أقطاب القصة (بما فيهم أنا التي أقرا لألخص) في مثل تيه بني إسرائيل يعمهون! وليس من سبيل يتبع في «نتائج الأحوال» سوى اشتباك القصة الصغيرة بالقصة الصغيرة، وارتباك هذه بقصة غيرها، على نحو حكايات «ألف ليلة وليلة» و«كليلة ودمنة»، وإذ كنت أنا وأصدقائي أشخاص الرواية نجوب الكتاب لنعثر بعضنا على بعض فلا نفوز بغير التطوح والتنائي، كم ذا سألت الله أن يأخذ بيدنا فيجمع شملنا ويرد لهفتنا! لا سيما الفتاة العروس بوران التي ما علمت بما جرى لخطيبها حتى طلبت الانفراد في عزلة عن الناس. وأراد والدها أن يزفها إلى ابن أخيه ليتدارك الحال ويحول مجرى أفكارها قبل الاستفحال في الجوى. ولكنها أبت، وفرَّت إلى حيث لا يعثر عليها! لأنها على نحو ما ينشد الشيخ سلامة حجازي في الجراموفون:

عرفت هواكم قبل أن أعرف الهوى
فصادف قلبًا خاليًا فتمكنا

وكم كان يغيظني أننا بينا نحن «أي أنا والصلاح من أهل الرواية» تعبث بنا الأقدار وتجد بنا النوى فنتقلى على مثل جمر الغضى؛ إذ بالغاصبين الخائنين يسرحان في بغداد ويمرحان، لهما تضرب المدافع وتنتشر الألوية، ولهما تقدم الرعية فروض العبودية والإكرام!

بيد أن للأيام دورتها، وأخذت تتحول الأمور على ما يُرام. فتلاقى بديًا الأمير والنديم فعجلا بالذهاب إلى إيران، حيث تسوق الفتى أشواقه، فهو كعروسه. قد وقع الهوى من نفسه مكانًا بعيدًا. وظلَّ في مصائبه ويأسه يلازمه خيال الفتاة التي وعدوه بها دون أن يعرفها. وكان للأمير والنديم في إيران رحلات عديدة غير موفقة. إلى أن أقبلا أخيرًا على جبل شاهق فإذا هناك إشارة تركها لهما الوزير تدعوهما، فيما لو اهتديا إليها، إلى العراق مباشرة.

فعادا مباشرة إلى العراق واجتمعا بالوزير وهو في زي ناسك، ولك أن تطلق هنا العنان لمخيلتك فتتصور ما شاء لك التصور من سرور وحبور، من بكاء وإغماء، يتلوه يقظة، فسلام، فكلام يناسب المقام. وانضم إلى هؤلاء الثلاثة العبدان اللذان أبقيا على الأمير، وكان القيمان الغاصبان قد أرادا الإيقاع بهما لانكشاف فعلتهما، فأخفق الخائنان ونجا العبدان الوفيان. وكان هذا التلاقي مبعثًا لمؤامرة طويلة، وقد آل كل من المتآمرين على نفسه ليصرعنَّ الآفة بالآفة، ويفلنَّ الحديد بحديد مثله، وآزرهم طبيب الملك، ودبر لهم الحيل، فكان الفوز حليفه في كل ما دبر. فأوفد إلى أصحابه المتآمرين عددًا من الرجال، وحفروا نفقًا يمتد إلى قلب المدينة ويفضي إلى خزينة الدولة! وأبى السعد إلَّا أن يكلل مساعيهم بالنجاح وإلا أن يهيئ لهم الأفراح والليالي الملاح، فلمَّ شملهم بالعروس بوران! لست بواصفة لك مشهد اجتماع العاشقين السعيدين بعد طوال الفراق! حسبي أن أتمنى لك مثل هذه الساعة مع من تهوى … وعندما آن الأوان ليثوب كل من الحبيبين إلى رشده، جاهرت الفتاة برغبتها في العودة إلى الوطن ليزفها أبوها إلى خطيبها بالأبهة اللائقة بالملوك. «لا بد لي أن أتوصل إلى بلادي بشرفي — تقول بوران: وأدخل قلعة أبي بصيانتي ثم يبعثني هو إلى هذا العزيز بالصيانة.» وكذلك كان.

وعاد الأصحاب بعدئذ إلى إتمام أعمالهم ففاجأوا البلاد بدخول الأمير منصورًا وقبضوا على الخائنين. وتتابعت الحوادث والمشاهد بمثل سرعة الصور المتحركة، منها: موكب الملك، المدافع تقصف والطبول تدوي، هيجان بغداد وأفراحها، فوز الحق والصلاح وانهيار الغدر والطلاح، مجيء العروس في موكب بديع، المناداة بالممدوح خليفة وإجلاسه على «التخت»، أفراح، أنوار، أهازيج، زينات، شموس مجلوة، بدور منيرة، وفوق كل ذلك خطب وأشعار! وبات العروسان يديران كئوس المواد السكرية ويتداولان أقداح الوداد العبقرية.

وفي القصر أُقيمت بالطبع حفلة «تشريفات» لمناسبة الجلوس المجيد والزفاف السعيد. فتقاطر المهنئون، وتليت رقاع التهاني، ووزعت الهدايا من العروس على أرباب الدولة. وجادت قريحة الملك فانبرى يخطب في الجموع شاعرًا ناثرًا، ويمتدح النوائب التي هذبته وعلمته الصبر والحكمة. وهاكم أبياتًا من نظمه:

واشتاقني عزي كشوقي للمنى
مذ كنت ألقى لاعج اللوعات
قلدت سيف الصبر كي بجرازه
أسطو على محن الزمان العاتي
حتى قطعت به حبائل محنتي
وسلكت نهج الرشد في طياتي
وأنا المقر بما جنيت، وليس لي
عذر سوى أسفي على هفواتي
فلأشكرن شدائدًا لو لم تكن
ما كنت أدري زلتي لمماتي

أدركني العياء في مراجعة هذه القصة المكتوبة للغة «المقامات»، ذات الكناية والسجع الطويل، غير أن مطالعتها ومطالعة أمثالها تتحتم على الباحث عن مصدر التطور، وهذا الفن بارقة للفن القصصي الحديث عندنا، ذلك الفن الذي ما زال في لغتنا جنينًا، ولم يبلغ قط عند العرب طور النضج والقوة.

تاريخ الفن القصصي عند العرب يتلخص في سطور وجيزة. فقد نشأ في القرن الأول للهجرة مستندًا إلى تاريخ الجاهلية، وظل في نمو يقتبس من التاريخ ومن الخيال معًا حتى القرن الرابع. فجاء بتلك القصص أمثال «الجمهرة» و«عنترة» و«بكر وتغلب» و«شيبان وكسرى أنوشروان»، وغيرها من قصص الغرام مثل «مجنون ليلى» و«جميل بثينة» وما إلى ذلك من عديد القصص التي اندمجت بعدئذ في كتاب «ألف ليلة وليلة».

وقد ألَّف العرب كتبًا لا أصل لها في الواقع إنما استمدت موضوعها من العلم والخيال والحكمة جميعًا. وربما كان أنفس تلك الكتب «أسرار الحكمة المشرقية» الذي روى ابن طفيل الأندلسي أنه لخصه عن كتاب كبير من وضع الرئيس ابن سينا حيث هذا الحكيم صوَّر نشأة الإنسان وألمع إلى نظرية التطور.

أما كتاب «ألف ليلة وليلة» فهو فارسي الأصل. وقد وضع أصله في القرن الرابع فتناولته أيادي النساخ بالإضافة والتحريف فكان كل منهم يزيد عليه وينقص فيه ما شاء، وذلك حتى القرن العاشر.

ووقف الفن القصصي بجمود اللغة مدة ثلاثة قرون. فحكاية عائشة بعيوبها ورواسبها تجربة أولى في النزعة المتجددة، لا سيما فيما يختص بالأدب النسائي؛ إذ لا علم لي بامرأة عربية اللغة وضعت قصة تامة قبل عائشة. فهي بتجربتها هذه من رواد المنهج الجديد.

•••

والرواية بعيوبها ذات مغزى أخلاقي؛ لأن واضعتها جعلت سوء تربية الممدوح وعجزه عن تمييز الصديق من العدو منشأ مصائبه. فقد رأى عدوًّا فيمن يحسن إرشاده، ويعلمه كبح أهوائه، وينبهه إلى واجباته ومسئولياته. وحسب صديقًا من حفز طيشه وغروره، وملق منه الزهو والعجرفة، وشجعه على العبث بكرامة الناس وكرامته الشخصية. فعُوقب بنتائج ضلاله. ولكنه يوم ثاب واعترف بخطئه، بعد أن أتمت المحن صقله وهيأته لمنصبه، عادت إليه حقوقه ومسراته وحقق جميع رغباته. ومن ثم اسم «نتائج الأحوال».

أما أن الحياة تتصرف معنا، بني الإنسان، على هذه الكيفية فقد يحدث أحيانًا، ولكن نقيضه قد يحدث أيضًا. قد يتفق أن يعلو صوت الحق، وينتصر الصلاح، فيظفر المرء بما هو له في حكم الطبيعة والقانون والكفاءة، وقد يُثاب المرء عن الخير خيرًا، وعن التضحية كرامة. ولكن كم ذا يفوز الشر، ويغلب الظلم والخداع، كم ذا يُجار على صاحب الحق في جميع القوانين البديهية والمشروعة! وكم يتألَّب الناس على سحقه وإهلاكه، وما له من ذنب سوى الإخلاص والتفاني!

وما كان أعدل الدنيا وأنصف الدهر، لو عومل كل بما يأتيه، وكان حقًّا من نوع العمل.

على أنه لا مندوحة لنا عن الأخذ بالمبادئ الأخلاقية ونشرها. ولا بد من تلقين النشء دروس الصدق والاستقامة والصلاح مهما عصفت حولها الشرور والأكاذيب والمفاسد؛ لأنه ينطبق على المبادئ الأخلاقية السامية ما قاله قولة الجاحد في الألوهية: «لو لم يكن الله موجودًا لوجب أن نخترعه.»

أجل، يجب أن نخترع الأخلاق السامية لو لم تكن موجودة؛ لأنها من المواهب الفكرية والذهنية، إنما هي لباب الفضل في الإنسانية، وهي التي لا يتغلب عليها مذهب سياسي ولا تدرك قواعدها ثورة اجتماعية، فعلى من يستطيع تأييدها ونشرها أن يفعل، ليذكرنا على الدوام بأن الدنيا ذخيرة من أنفس ذخائر المثل الأعلى الذي لا يقتصر على جيل أو على فرد، بل تتعاون الجماعات والدهور على تمثيله وتحقيقه.

مرآة التأمل

الشائع أن «باحثة البادية» كانت أول مصرية عالجت الموضوعات الاجتماعية، وقد سبق أن أيدت هذه الفكرة قبل الاطلاع على نثر التيمورية. فأستدرك اليوم لأسجل الأسبقية لعائشة التي كتبت في هذه الموضوعات في صحف عصرها وفي «مرآة التأمل في الأمور» وهذه رسالة وجيزة في ١٦ صفحة من القطع الكبير. ليس لهذه الرسالة من تاريخ يوقتها، إلا أن كاتبتها ختمتها (على طريقة ذلك العهد) بامتداح لسمو الخديوي السابق، عباس حلمي باشا، فقد نشرت إذن بعد توليته، أي بعد ١٨٩٢، وفي السنوات العشر الأخيرة من حياة التيمورية.

لغة هذه الرسالة ككل ما نثرت عائشة، وهي لغة المقامات ذات السجع والتطويل، وهي تستهلها بالشكوى وتفكر «لعلي أرى لسماء الصفو هلالًا ولعقد الأزمة إنحلالًا.» ويظهر أنها عثرت على «انحلال لعقد الأزمة» أو ما يشبه ذلك؛ لأنها «فناداني زعيم الجسارة هلمي إلى مقصورة السلامة، ولا تحذري الانتقاد والملامة، وعليك بإيضاح الدعوى.»

وهنا قامت و«زعيم الجسارة» ذلك — ولعله صديق خيالي — بتخاطب حفل بالتضخيم المسجع شغل صفحتين اثنتين. فوصلنا أخيرًا في أول الصفحة الرابعة إلى «إيضاح الدعوى». وما هي سوى انقلاب الأدوار بين الرجال والنساء، وتسرب الفساد إلى داخل الأسرة. وتفصيل ذلك عندها أن جماعة من الشبان «غرَّهم الله بالغرور حتى إن كل إنسان همَّ بالاقتران من وضيع ورفيع وخامل ونبيه، كان كل بحثه عن الحلي والحلل والضياع والعقار، لا عن النسب والتدين والعفة والوقار»، ذلك ليتمتع بما تمتلكه ربات الجمال «… ويريح فكره من الأتعاب ويستغني عن الجهد في الاكتساب، ويسلم الزمام للهوى»، مكتفيًا «بتلك الثروة المستعارة، وما يدري بأنه واقع في حبائل الخسارة. فتحتاط به أقرانه.» «ويقوم جيش المداهنين بين يديه» …

«ويظل الزوج بين لهو وتبذير حتى ينفذ من يده الدينار والدرهم، وإذ يعود إلى البيت تقابله الزوجة بالسخط والنفور، ولا يلبث أن ينتقل النفوذ والسيطرة إليها؛ لأن الزوج عاجز إلا عن القصف والتبذير.» «وحق الزوجية لا يتم إلا إذا كان كل واحد منهما يرعى الآخر فيما له وعليه. فعلى الزوج أن يقوم بكل حقوقها ومصالحها، كما يجب عليها طاعته والانقياد لأمره.» فإذا انقلب الرأس عقبًا فكيف تستقيم الأمور؟ وكيف «لا تُلقي المرأة وشاح الحذر وترمي برقع الحياء!»

أتكون الزوجة صابرة كتومًا، دفعًا للشماتة وحذرًا من ذيوع الفضيحة، «فدفنت هذا الويل بجدث قلبها الحزين الولهان»؟ إلا أن الكتمان لا يداوي علة، والتجلد لا يفثأ غلة، بل تجدب في نفسها مادة الحياة و«بدَّلت القصور بالقبور»؛ إذن فالبشرى للزوج الذي لا يرثي لِيُتم الأطفال، «بل يأخذ من الميراث ما لقي وأبقى ويجعله صداقًا لمن يلقيها في أكفة الشقاء!»

أم تكون المرأة سليطة اللسان وإذ تضيق بالحياة ذرعًا تعمد إلى اللوم والمشاجرة؟ إذن تبدأ حياة هي الجحيم؛ إذ لا مقدرة للرجل على زجرها وإسكاتها؛ فيهجر بيته إلى الحوانيت والحانات، «وإذا أتى المنزل نام في الحال خوفًا من المرافعة في القيل والقال.»

فكيف تسكت النساء على ضياع شبابهن ونضارتهن وأموالهن وآمالهن في السعادة والهناء؟ إن الحزن والأسى ليلهب قلوبهن! فتمضي الواحدة منهن إلى الجارات مستجيرة من عذابها وكربها. فإذا هي وقعت على امرأة فاضلة تهوِّن عليها الأمر صمتت لحين استئناف الأزمة الجديدة. أما إذا ساقها سوء الطالع إلى تلك الدور التي تبدل منها الصون والحصانة باسم الحرية العصرية، فهناك تغريها من سفلت أخلاقها فتستسلم المرأة وتخرج عن جادة الحشمة. عندئذ يغار الزوج ويقوم بالتهديد والوعيد. ولكن كيف تعبأ المرأة به وبكرامته وهو لم يعرف لنفسه واجبات ولم يقف شروده عند حد؟

هذا منشأ الشقاء على ما يبدو للتيمورية؛ لذلك ناشدت الرجال في آخر الرسالة أن يصغوا إليها، ورجت منهم «أن لا تنبذوا خطاب هذه الضعيفة ولا تقيسوه بأقوال النساء السخيفة.»

وقد لبى الرجال هذه الدعوة، بداهة أو اختيارًا. فالنقد الاجتماعي الذي سيعالجه قاسم أمين بحصافة ولوذعية، قد سبقته التيمورية بهذه الدعوة إلى الإصلاح؛ لأن الكتاب الذي وضعه قاسم أمين بالفرنسية ردًّا على الدوق داركور صدر سنة ١٨٩٤م وعقليته لم تتفتق فيه عن تلك الثورة النبيلة الكامنة التي شبَّت في كتابيه «تحرير المرأة» و«المرأة الجديدة»، وقد صدر الكتاب الأول سنة ١٨٩٨م وصدر الآخر في ١٩٠٠م.

لا تصلح العائلات إلا بتربية البنات

يقول ابن أخي الشاعرة، الأستاذ محمود تيمور، إن التيمورية نشرت مقالات في جريدة «المؤيد»، وأرجح أن خير تلك المقالات أدرجتها زينب فواز في كتابها «الدر المنثور». وقالت أنها اقتبستها عن جريدة «الآداب» الصادرة يوم السبت الموافق ٩ جمادى الثانية سنة ١٣٠٦ الهجرية، أي سنة ١٨٨٨م، قبل أن يكتب قاسم أمين في هذا الموضوع باثنتي عشرة سنة تقريبًا.

أرجح أن هذه خير مقالاتها؛ لأن عائشة كانت وزينب فواز على اتصال وائتلاف. وقد ترجمت زينب لعائشة في حياتها واستقت منها مصادر تلك الترجمة بما فيها نص مراسلتها ووردة اليازجي نظمًا ونثرًا. كما أنها صدَّرت كتاب «الدر المنثور» بخطاب من عائشة كلُّه ثناء وتقريظ، على طريقة يومها، ولما أدرجت هذا المقال دون سواه فأكبر الظن أنها فعلت بإشارة التيمورية، أو أنها فضَّلته على غيره نظرًا لمحتوياته.

إنه لأثر نفيس حقًّا؛ لأنه بكر في لمس موضوع خطير. وخير ما تنتهي إليه مباحثنا اليوم ليس بأصدق نظرًا، ولا بأصوب حكمًا مما جاءت به عائشة منذ ٣٧ عامًا.

عنوان هذا المقال هو «لا تصلح العائلات إلا بتربية البنات»، وكما أنها في «مرآة التأمل في الأمور» تجعل منشأ الشقاء في بحث الرجل عن الثروة ليسيء بعدئذ التصرف بها فيهدم بيته بيده، فهي في هذا المقال تلوم المرأة على إسرافها في الزينة دون انتباه إلى واجباتها، وترى في ذلك مبعث الخلل والفساد، وتعجب «من مدنية تشفف بتزيين فتياتها بحلي مستعار، وتستعين على إظهار جمالهن بزخرف المعادن والأحجار، وتتخيَّل أنها زادتهن بسطة في الحسن والدلال، والحال أنها ألقت تلك الأحداث في أخدود الوبال؛ لأنه لا يُعد عليهن من تلك المستعارات إلا العجب والغرور المؤدي بهن إلى ساحات المباهاة والفجور؛ وذلك لكف بصيرتهن عن الإدراك وعدم علمهن نتائج الأحوال وعواقب الأمور.»١

•••

موضوع زينة المرأة قد يشغل كتابًا أو كتبًا لمن يريد أن يتناوله من وجهه المهم دون الاكتفاء بالإرشاد، أو بالتهكم، أو النقد الجارح، لذلك ألقي هنا بكلمة فقط.

أعتقد أن من طبيعة وجود المرأة أن تكون جميلة، كما أن من طبيعة وجود النوع الإنساني أن يكون ذكيًّا نشيطًا. وكما يصقل المرء ذكاءه بالمعرفة والتجربة والاطلاع، فكذلك تصقل المرأة جمالها بالزينة والأناقة والكياسة. الفتاة مُعَدَّة لتكون ربة منزل، وأم عائلة، وسيدة مجلس زائرة ومزورة، وليست معدة لتنزوي في حياة الزهد والرهبانية؛ فيجب أن تنشأ على ما أُعدت له من إبهاج المنازل وتزيين المجتمعات، وبث اللطف والأنس في كل ناحية تحل فيه. ولما كان عليها أن تبهج برخامة صوتها، وحلاوة ابتسامتها، وظرف حديثها، فعليها كذلك أن تروق النظر بحسن هندامها. فالعيب إذن ليس في ميل المرأة (والرجل كذلك) إلى الزينة، ولكن في المغالاة بإرضاء ذلك الميل، وعدم الخضوع لقواعد الذوق السليم في التصرف بمظهره. والغلو عيب في كل أمر، وسقم الذوق نكبة دائمة.

وللتوفيق بين تنظيم الزينة والاقتصاد فيها؛ فعلى الفتاة أن تتعودها منذ نعومة أظفارها. بعكس ما تجري عليه أكثر المدارس، إن لم نقل كلها، في تجريد البنات من كل حلية وإفهامهن أن الزينة لا تجوز إلا بعد الخروج من المدرسة، فينلن حريتهن من هذه الوجهة متأخرات؛ أي إن الحرية في الزينة تفاجئهن مفاجأة بدلًا من أن يتعوَّدْنَها شيئًا فشيئًا، فيكون شأنهن عندئذ شأن من وجب عليه أن يربي نفسه تربية جديدة تناقض تربيته السابقة من كل وجه. ومن هنا عدم التوازن والاتزان، وعدم وضع الشيء في مكانه، وإغراق في إسراف الوقت والدرهم، والغلو في الأخذ بأهمية الزينة. ومن هنا زعم أكثر النساء بأنهن لا يتجملن أصلًا. والواقع أن أكثرهن زعمًا وتنصلًا أوفرهن تبرجًا وتجملًا، إلا اللائي يأبى التجمل أن يتناسب و«طرازهن» الطبيعي وشكلهن.

ولو شبَّت جميع الفتيات على اعتبار الزينة المعتدلة المعقولة الفنية جزءًا من ترتيب هندامهن على ما يناسب شكلهن وقالبهن بحكم الذوق والزي السائر، لما أنفقن في سبيل ذلك وقتًا طويلًا ولا بدا ذلك فيهن تكلفًا وعملًا مستثنى، بل لاندمج في عاداتهن وصار طبيعيًّا. وإذن لما رأينا المرأة في كثير من العائلات الشرقية بأثواب رثة قذرة بين زوجها وأولادها، بلا لياقة ولا حاسة فنية. حتى إذا استقبلت ضيوفًا أو خرجت للزيارات ارتدت أفخر الأثواب وازدانت بأنفس الحلي، فبدت في كل أولئك غريبة بطيئة الحركات مرتبكة السكنات، وكأن كل جارحة فيها تنطق بأنها «مطقمة بزي الآحاد والأعياد» على نحو قول الفرنسيين.

لو درجت المرأة منذ الصغر على الزينة المعقولة لأدركت أن هذه الزينة جزء من جمالها وأنها تعالجها لنفسها لا للناس، ولامتدت عنايتها تلك إلى منزلها فلا تقصر ترتيبه وتزيينه على يوم الاستقبال في الغرف والردهات التي يراها الزائرون والزائرات، في حين هي تبقيه في سائر الأيام على أسوأ ما يكون من التشويش والارتباك، ولامتدت تلك الأناقة غير المصطنعة إلى أفكارها، إلى آرائها، إلى عاداتها إلى نظرتها في الحياة. فالمزية الواحدة، حتى وإن كانت خارجية، تستطيع أن تتناول نواحي شتى، كما أن العيب الواحد قد يهدم حياة بأسرها. ومواعظ المصلحين لم تجد نفعًا على طول الأجيال؛ لأن حب الجمال في الإنسان أعرق من أن يخلقه الإرشاد، وليت الإرشاد ينقلب تحويلًا إلى الأخذ بالوسائل المغرية بتوقيت الزينة وتنظيمها.

•••

طويلة حاشيتي هذه بعد كلام التيمورية، ولكنها غير دخيلة ولا هي تافهة. فمن حق الجميل أن يطمع في المزيد، ومن حق غير الجميل أن يقلل من دمامته، ويسترها، محاولًا إظهارها بالمظهر غير المستنكَر.

ورغم إنكار الغلو في الزينة الفارغة، فإن التيمورية ترى أن أعنف العتب يقع على الرجل — وباحثة البادية ستقول هذا القول فيما بعد — لأنه القوي وفي وسعه النهوض بالمرأة إلى حيث تتسع مداركها فتصبح له شريكة. فإذا بها تهتف:

فيا رجال أوطاننا! لِمَ تركتموهن سدًى؟ وهن بين أناملكم أطوع من قلم؛ فعلامَ ترفعون أكفَّ الحيرة عند الحاجة كالضال المعني، وقد سخرتم بأمرهن وازدريتم باشتراكهن معكم في الأعمال واستحسنتم انفرادكم في كل معنًى؟ فانظروا عائد اللوم على من يعود؟

منذ خمس وثلاثين سنة طلبت عائشة اشتراك المرأة مع الرجل في الأعمال، ولِمَ هذا الاشتراك؟ لأنه طبيعي «من حكم باري النسمات وموجد المخلوقات» ولأنه الأساس الأصلي «لصيرورة مدار عمران هذا العالم على الزوجين. ولو أمكن الانفراد لخص عالم الأسرار إحداهما دون الآخر، وهو الأفضل، ولم يفقره إلى ما هو دونه. فكان التأمل في هيولي هذا الكون موجبًا على الهيئة الرجولية العناية بتعليم المرأة وتهذيبها لينالوا بذلك أرفع مجدًا وأهنأ جد، ولتعتاض الفتيات عن قلق الجهل براحة العرفان»؛ أي ليقمن بواجبات التدبير في منازلهن وفي شئونهن، ويأتين بالمطلوب من عطف ووقاية وحكمة نحو نفوسهنتركتموهن سدًى وذويهن، دون شعوذة ولا شرود عن الصواب.

إنها تقول بلغتها بالمساواة بين الرجل والمرأة، تقول بذلك تصريحًا لا تلميحًا: «إذ لو أمكن الانفراد للرجل لخصه الله بالوجود دون المرأة، فهما ضروريان كل منهما للآخر، موجودان معًا تحت شمس واحدة وأحكام واحدة ليأتي كلٌّ بقسطه من واجبات متعادلة.»

لقد قالت بهذا في الشرق، ورأت أن يتساوى الرجل والمرأة وأن يشتركا في الأعمال، وهي محجوبة رهن جدران الخدر … ومتى؟ في حين كان هذا يُعد بدعة في أوروبا؛ إذ لا يفوتنا أن لفظة «ذكر» لم يُتفق على حذفها من قوانين إنجلترا والاستعاضة عنها بلفظة «رجل» أو «أحد» إلا منذ سنة ١٨٥٠م. وكان ذلك مقدمة لتحرير المرأة عندهم من حيث إدخالها في الإنسانية.

•••

تنطوي التربية على فروض كثيرة وتحتمل شتى الإيضاحات والتأويلات. وعليها تحت قلم عائشة مزيد من الإبهام والمرونة. إلا أنها بقولها «تأديب البنات وتهذيب العائلات» يغلب عليها وجوب تنشئة الفتاة لتكون أهلًا للسهر على مصلحة الأسرة والقيام بالمطلوب في سبيل تقدمها وراحتها وهنائها؛ لأن في حجرها تشب الأجيال، ومن كان مُهيأً لإعداد الصلاح والعظماء والنبلاء وجب أن يكون على عظمة ونبل وصلاح.

والمساواة؟ هي معنًى عارض في كلام عائشة، برغم أهميته بالنسبة للوقت الذي ورد فيه. أما اليوم فقد شاعت هذه الكلمة وذاع معناها لدى من يفهمه ولدى من يزعم أنه يفهمه. ولكن أكثرية الرجال، حتى المتعلم الراقي منهم، تكهربهم هذه الكلمة وتثير سخطهم وتهكمهم، وهم لا يقرون منها ما يقرون إلا بشروط من الحصر والتقييد.

وأرى أن في إنكار المساواة على المرأة تكريمًا لها، أية كانت الصيغة واللهجة المعبرة بها من ذلك الإنكار، لعل الرجل الذي يجهده كفاح الحياة لا يريد ذلك الكفاح للمرأة، طامعًا في ادخارها للراحة والهناء والرخاء والمواساة. بل هو دليل على محبته المتلونة الألوان، وعلى احترامه ولو مسخه أحيانًا بشكل الاستخفاف. أذلك الإنكار محض أنانية كما يزعمون؟ وماذا ترى لو كان ذلك؟ ومتى كانت الحياة خالية من الأنانية؟ وما أحب أنانية أحبابنا إلينا! أما الأنانية الممقوتة من القريب والغريب على السواء فهي الأنانية التي تتورم على حسابنا، ولا تجعل لحقوقنا في إحصائها قدرًا وشأنًا. ومن هنا منشأ كل ثورة، وكل فتنة، وكل ظلم.

إن المرأة التي تنال عوضًا عن تأدية واجباتها عطفًا وحبًّا، لا تثور ولا تشكو حتى ولو عسرتها المسئولية، وإنما هي المرأة المظلومة من ناحية العواطف ومن ناحية المعاملة، التي تضج وتلج. يطلبون منها ألف ألف واجب، ويقيدونها بألف ألف قيد، ويرهقونها بألف ألف وقر، ومقابل ذلك، ماذا؟ مقابل ذلك لا رعاية، ولا عطف، ولا محبة، حتى ولا مجاملة. مقابل ذلك أحيانًا، لوم وتفنيد، إذن لماذا تحتمل؟ وفي سبيل أية غاية هي تحيا؟ لقد سنَّ لها المجتمع، دون الرجل قانونًا للعواطف والأفكار والأعمال، وركَّز لها ضمن حدود الأسرة هناء القلب ومسرات الحنان. ولم تقدر تلك القوانين أن ما فرضته لها من رضى قد لا يتحقق، في حين تظل المرأة مرغمة على الواجبات الباهظة وتظل تعذبها لجاجة العيش ووخز الحاجة. وليست كل أسرة لتقوم بتلك الحاجة المحسوسة نحو أفرادها، ولا كل رجل، زوجًا كان أو أبًا، أو أخًا، ليعلم ويدرك أن الرجولة لا تقوم بترأس العائلة وبالأمر والنهي، بل بتأدية واجبات ييسِّرها لها المجتمع قدر الإمكان ويجعلها على المرأة أعسر ما تكون.

قيود واستدراكات وحدود من كل جهة في حياة المرأة. وعلى هذه المخلوقة الضعيفة أن تذعن لها جميعًا وأن ترى فيها الفضل والبر والكمال، وأن تأتي بما لا يخجل أن يهمله الرجل شرط أن تظل ضمن حدود الفضل والبر والكمال. وللرجل كل الحرية في الحلال والحرام، في الممنوع وفي الجائز. أيمكن أن يسكت على هذا الجور قلب يحس وينبض؟ إنه ليتآكله الجوى ويكظم عذابه إلى حين، ولكن لا بد أن يتفجر عن الأسى يومًا، لا سيما إذا رأى أن لا منفعة له من جهاده وأن خيوط حياته تبلى عبثًا ليجني ثمرة تعبه من ليس لذلك أهلًا.

واهًا، أيها الرجال الفضلاء، أنتم الذين تسعدون النساء العائشات تحت رعايتكم، لو علمتم كل ما تكنه الدعوة إلى المساواة من نصال مغمدة في القلوب!

لو علمتم ذلك لعملتم، ليس على نقض معاني المساواة كما تفعلون أحيانًا، بل على تعديل القوانين الجائرة وجعلها صالحة لجميع أفراد المجتمع.

١  قلَّما ناقشت آراء عائشة في هذا الدرس لشعرها ونثرها، وإنما اقتصرت على إبراز أوجه خواطرها. ولولا ذلك لاتسع المجال للإسهاب فيما يشقي العائلات ويسعدها. ولئن علقت أحيانًا على نظرية منها فلتعذر السكوت على ما يحتمله ذلك من إبهام وتأويل.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤