الفصل الرابع

اقتنعتُ بثلاثة أشياء بعد قضائي ليلةً كاملة في قاعة الرؤساء:
  • (١)

    أنَّ أتباع دِبرا هم من قتلوني، ولتذهَبْ حُجَج غِيابهم إلى الجحيم.

  • (٢)

    أنَّهم سيَقتلونَني مرَّةً أخرى حينما يَحين الوقت للتخطيط للاستيلاء على القصر المسكون.

  • (٣)

    أنَّ الأمل الوحيد لإنقاذ القصر هو القِيام بضربةٍ استباقية مُضادَّة: لا بُدَّ أن نُوجِّه لهم ضربةً قاسية مُوجِعة.

دُعِيت أنا ودان لنَشهد ثماني ساعات مُتواصلة من العمل الدقيق في قاعة الرؤساء؛ إذ عمِل أتباع دِبرا بتعاونٍ سَلِس وُلِدَ من رحم المِحَن التي مَرُّوا بها في بكين. تنقَّلَت دِبرا بين الفِرَق المختلفة وهي تُقدِّم اقتراحاتها تارة باللفظ وتارة بلغة الجسد على حدٍّ سواء، تاركة في أعقابها دفقاتٍ من النشاط المُلهِم.

كانت هذه الدِّقَّة هي ما قادَتْني للاقتِناع بالنقطة الأولى؛ فأيُّ فريق عمل بهذا القدْر من الدقَّة والإتقان يمكن أن يفعل أي شيء إن كان يُعزِّز خُطَّتهم. فريق؟! سُحقًا، سأُسَمِّي الأشياء بمُسمَّياتها: إنَّهم جَيش.

أما النقطة الثانية، فقد خطرَت لي حينما اختبرتُ نموذجًا من بناء لنكولن الذي أتمَّ تيم تنفيذه في حوالي الثالثة فجرًا بعد مُشاورات مُكثفة مع دِبرا. إن السِّمة المُميِّزة لأيِّ لعبةٍ رائعة أنها تَصير أفضل في المرة التالية، إذ تبدأ التفاصيل والزخارف المُختلفة في التأثير على وَعيك. فقد كان القصر يَعجُّ بمظاهر البَهرجَةِ الرَّخيصة والأشكال والتفاصيل الماكرة التي تتسلَّل إلى تجرِبَتك في كلِّ جولة مُتعاقِبة.

بينما كنتُ أحوِّل نظام التشغيل إلى خاصيَّة الولوج العام بدَّل تيم وضع قدَمَيه بعصبية مُنطلقًا بفخر، وبصعوبة استطاع التحكم في حِدَّته. حمَّل تيم التطبيق على دليلي العام وشغَّلتُه أنا بحماس.

الرب! الرب! ولنكولن وَطلقات المَدافع والخطابة والمَحاريث والبِغال والمعاطف! غمرتْني كلُّ هذه الأشياء واخترقتْني واصطدمَتْ بجُمجُمتي من الداخل وارتدَّت. امتازت التجربة الأولى التي عايشتُها بشكلٍ من أشكال الترتيب، بطابعٍ سَردِي، أما هذه التجربة فكانت عبارةً عن صورٍ مُتكاملة مُجمَّعة في كتلةٍ واحدة غير مُتمايِزة غمرتْني تمامًا حتى فاضت. كان الأمر مُرعبًا لوهلة؛ إذ بدا كيان لنكولن يُهدِّد شخصيتي نفسها، وبينما كان على وشْك الاستحواذ عليَّ، إذ بدأ في التَّراجُع والخُفوت تارِكًا وراءه دَفْقة من الإندروفين والأدرينالين جعلتْني أرغبُ في القفز.

شهقتُ قائلًا: «تيم! تيم! كان هذا …» خانَتْني الكلمات. أردتُ أن أحتَضِنَه. فكرتُ في كل الأشياء التي يُمكن أن نفعلها للقصر عبر هذه التجربة! يا له من رُقِي! أن تُطبَع هذه التجربة مُباشرة دون اللجوء إلى الأعْيُن الغبية العَمياء والآذان الصمَّاء السميكة.

انفرَجَت أسارير تيم وابتهج، وأومأت دِبرا بجِدِّية وهي جالسة على عرشها. سألني تيم: «هل أعجبتك التجربة؟» أومأتُ وترنَّحتُ إلى الخلف تِجاه مقعد المسرح حيث كان دان نائمًا مُلقيًا رأسه إلى الخلف، وينطلِق صوتُ شخير خافتٍ يهزُّ حلقه.

بدأ الإدراك يعود إلى عقلي شيئًا فشيئًا ومعه شعور بالحَنَق. كيف يَجرءون؟ لا يُمكن للحلول التوفيقية الرائعة للتكنولوجيا والنفقات التي تمخَّضت عنها ألعاب ديزني لاند — الألعاب التي أمتعت العالم أجمع لقرنَين وأكثر من الزمان — أن تتنافَس ندًّا لِنِدٍّ مع ما يعملون عليه على أيِّ نحو.

شبَّكتُ يديَّ في حِجري. لماذا لا يفعلون هذا في مكانٍ آخر بحقِّ الجحيم؟ هل كانوا مُضطرِّين لتدمير كلِّ ما أحببتُه لتنفيذ هذا؟ كان يُمكِنهم أن يُنفِّذوا هذه التِّقنية في أيِّ مكانٍ آخر؛ كانَ يُمكنهم أن يَنشروها عبر الإنترنت ويلِجَ الناس إليها من غُرَف مَعيشتهم!

ولكن هذا لن يَصلُح أبدًا. إن تنفيذه هنا كان أفضل للووفي القديم، سيُعيدون تجديد مُتنزَّه عالَم ديزني ويُسيطِرون عليه. ثلاثمائة عضوٍ ازدَهَروا فيه سابقًا سيحلُّ محلَّهم عضوٌ واحد فقط يُدير بِسلاسةٍ مُتنزَّه تتجاوَزُ مِساحته ضِعف مِساحة ولاية مانهاتن.

نهضتُ وخرجتُ من المسرح غاضبًا مُتِّجهًا إلى ساحة الحرية والمُتنزَّه. صار الجوُّ باردًا دون الوصول إلى حدِّ الجفاف، وسَرَتْ رعشة بردٍ رطبةٍ بِطول ظهري جعلَتْ نَفَسي يقِف في حلقي. التفتُّ لأتأمَّل قاعة الرؤساء، رأيتُها شامخة مُتماسِكة كما كانت دائمًا منذ صباي وقبل ذلك، كانت بمثابة نُصبٍ تذكاريٍّ للمُبتكرين الذين توقَّعوا ظهور مجتمع الروعة وكانت مَصدر إلهامٍ له.

اتَّصلتُ بدان الذي كان لا يزال يغطُّ في النوم في خلفية المسرح وأيقظتُه، فأصدَر صوت نَخير غير مفهوم في قَوقعة أُذُني.

قلت: «هم من فَعلوها؛ هم من قَتَلُوني.» كنتُ أعلمُ أنهم من فعلوا ذلك، وكنتُ سعيدًا؛ لأن هذا جعل ما سأفعله بعد ذلك أسهل.

ردَّ دان قائلًا: «يا إلهي! إنهم لم يقتلوك؛ لقد قدَّموا نُسَخَهم الاحتياطية، ألا تتذكر؟ لا يُمكن أن يكونوا هم من فعلوها.»

صرختُ قاطعًا هُدوءَ الليل الذي خلا من الناس: «هُراء! هُراء! لقد فعلوها وعبَثوا بِنُسَخهم الاحتياطية بطريقةٍ ما. لا شكَّ في ذلك مُطلقًا. كلُّ شيءٍ مُنظَّم ودقيق، وإلَّا كيف استطاعوا إنجاز كلِّ هذا التقدُّم في القاعة بهذه السرعة؟ لقد كانوا يَعرفون أنَّ كلَّ ذلك سيحدُث، ودَبَّروا حدَثًا للإلهاء، ثُمَّ أكملوا في طريقهم. لا تُخبِرني أنك تَعتقِد أن هذه الخُطط كانت موجودةً وأنهم شرَعوا في تنفيذها حينما استطاعوا.»

زمْجَرَ دان وسمعتُ صوت طقطقة مفاصله. لا بُدَّ أنه كان يَمطُّ جسمه. تنفَّسَ المُتنزَّه من حولي بأصوات عُمَّال الصيانة الذين كانوا يُهروِلون جَيئةً وذَهابًا في الليل. قال دان: «أنا أُصدِّق ذلك. من الواضِح أنك لستَ مُقتنِعًا. ليست هذه المرة الأولى التي نختلِف فيها. إذن ماذا بعد؟»

أجبتُ قائلًا: «الآن سننقِذُ القصر. الآن سنُحارِبهم.»

قال دان: «تبًّا!»

لا بُدَّ أن أعترِف أنَّ جُزءًا منِّي كان مُتفقًا مع رأي دان.

•••

واتَتْني الفُرصة لاحقًا في ذلك الأسبوع، كان أتباع دِبرا المُتباهُون يُعلِنون عن تقديم استِعراضٍ تمهيدي خاصٍّ لقاعة الرؤساء لباقي أعضاء اللجنة الذين يعملون في المُتنزَّه. كانت جرأةً شديدة أن يَسمحوا للشخصيات المؤثرة الأساسية في المُتنزَّه بالدخول قبل وقتٍ طويل من إصلاح الأعطال. إذا مرَّت عملية التشغيل بشكل سلس، فستَحُوز الانبِهار الذي سيضمَن بدَوره الاستمرار في حصولهم على الدعم أثناء استكمال المُهمَّة، أما إذا فشِل العرْض التجريبي، فسوف يكون ذلك بمثابة النهاية لهم. كان العديد من الناس في المتنزَّه لدَيهم ارتِباط عاطفي بقاعة الرؤساء، وأيًّا كان ما توصَّلَت إليه دِبرا، فلا بُدَّ أن يُشبِع تَوْقَهم.

بينما كنتُ أوجه عرَبتي الصغيرة من المنزل إلى ساحة انتظار السيارات المخصَّصة لأعضاء طاقم العمل حدَّثتُ دان قائلًا: «سأفعلها أثناء العرض التجريبي.» استرقتُ النظر إليه حتَّى أُقيِّمَ ردَّ فعله، فوجدتُ وجهه أجوَفَ خاليًّا من أيِّ تعبير.

«لن أُخبِر ليل، من الأفضل ألَّا تعلم شيئًا، سأتَّبِع سياسة الإنكار المَنطِقي.»

قال دان: «وأنا؟ ألا أحتاج أنا أيضًا إلى سياسة الإنكار؟»

«لا، لا تحتاجها. أنت دخيل، يُمكنك الادِّعاء بأنك كنتَ تعمل بمُفردك؛ أي تعمل مُستقلًّا تمامًا.» كنتُ أعلم أن هذا لم يكن عدلًا؛ فقد كان دان هنا ليعيد بناء رصيده من الووفي، وإذا تورَّط في خُطَّتي القذِرة، فسيُضطرُّ للبَدء مرةً أخرى من الصِّفر. كنتُ أعلم أنَّ هذا لم يكن عدلًا، ولكنني لم أبالِ، كنتُ أعلم أننا نُحارِب من أجل البقاء. «إنه الخَير في مُواجهة الشرِّ يا دان، أنت لا ترغَب في أن تُصبح من سلالة ما بعد البشر، بل أن تظلَّ إنسانًا. والألعاب بشرية، كلُّنا نقوم فيها بدور الوسيط من خلال تجاربنا. نكون داخلها جسمانيًّا، وتتحدَّث إلينا عبر حواسِّنا، أما ما يَبنيه أتباع دِبرا فما هو إلَّا هُراء؛ خلق عقل واحدٍ مُشترك للجميع. زرْع الأفكار على نحوٍ مباشر، يا إلهي! هذه ليست تجربة، بل غسيل دماغ! لا بُدَّ أن تعلم ذلك.» كنتُ أجادل نفسي تمامًا مِثلما أجادِلُه.

اختلستُ النظر إليه مرة أخرى وأنا أنطلق مُسرعًا على طُرُق ديزني الخلفية التي تصطفُّ حولها أشجار صُنوبر فلوريدا المُتعرِّقة واللافتات الأرجوانية النظيفة. كان دان ينظر نظرةً تأملِيَّة تمامًا كما كان يفعل في الماضي في تورونتو. تبدَّدَ بعض التوتُّر الذي كنتُ أشعر به. كان يفكر في كلامي، لقد نجحتُ في إقناعه بالتفكير في الأمر.

ردَّ قائلًا: «جولز، هذه ليست فكرةً جيدة.» ضاق صدري وربتَ دان على كتفي. كانت لديه القُدرة على طمْأَنَتي حتى وهوَ يُخبِرني بأنني أحمق. «حتى لو كانت دِبرا وراء اغتيالك، وهذا ليس أكيدًا — كلانا يَعلَم ذلك — حتى لو كان هذا هو الوضع، فلدَينا طرُق أخرى أفضل في جَعبتنا، كتطوير القصر ومنافستها ندًّا لِنِد، هذا هو الذكاء. أعطِ الأمر بعضَ الوقتِ وسنتمكن من الانتِقام منها والاستيلاء على القاعة وحتى على القراصنة؛ سيجعلها هذا تَستشيط غضبًا. يا إلهي! إذا تمكنَّا من إثبات أنها كانت وراء الاغتيال، يُمكنُنا طردُها. الآن، لن تُفيدك الأعمال التخريبية في شيء. لديك العديد من الخيارات الأخرى.»

«ولكن جميعها ليست سريعةً بما يكفي ولا تَشفي غليلي، أما هذه الطريقة فبها بعض الجرأة.»

وَصلْنا إلى ساحة انتظار السيارات المُخصَّصة لأعضاء طاقم العمل وأوقفتُ السيارة في أحد أماكن الانتظار الفارغة ثم خرجت من السيارة بسرعة قبل أن تُتاح لها فرصة لإخراج مِقبَس إعادة الشحن. سمعتُ صوت باب دان يُغلَق بعنفٍ خلفي وعرفتُ أنه كان يَتبعُني.

اتَّجهنا إلى أنفاق المرافق عابِسين. مررتُ أمام الكاميرات وأنا أعلم أن صورتي ستُحفظ في الأرشيف وأن وجودي قد سُجِّلَ بالفعل. اخترتُ وقت هجومي بحِرص؛ فبوصولي في مُنتصف الظهيرة، كنتُ ملتزمًا بنمطي التقليدي في مُشاهدة ديناميكيات تفاعل الحشود في الطقس الحار. حرَصتُ على زيارة المكان مرَّتَين في نفس الوقت خلال الأسبوع الماضي والتلكؤ في المَخازِن قبل التوجُّه إلى الأدوار العلوية، ومن ثَمَّ لن يكون في الفترة ما بين توقيت وصولي بالسيارة وظهوري في القصر تضارُب.

لازَمَني دان كظلِّي وأنا في طريقي إلى المخازن، ثم سِرتُ مُلاصقًا للجِدار في المنطقة التي لا تكشِفها الكاميرا. قديمًا في أوائل أيامي بالمُتنزَّه، حينما كنتُ أغازل ليل، أرَتْني المِكنسةَ الكهربائية، وهي نظام التخلُّص من النفايات من خلال الهواء المضغوط القديم الذي استُغنِي عنه في القرن العشرين. كان الأطفال الذين نشئوا في المُتنزَّه معروفِين بحُبِّهم لاستِكشاف الأنابيب، التي كانت لا تزال تفوح منها رائحةٌ خفيفة لأكياس القمامة، التي كانت في وقتٍ ما تكسَحها بسرعة ستِّين ميلًا في الساعة وتُفرغُها في مقلب القمامة الذي يقَع على أطراف المُتنزَّه، ولكن بالنسبة لطفلٍ شُجاع ورشيق، كانت هذه الأنابيب بمثابة أرضٍ للعجائب تقَع تحت الأرض يَجِب استكشافها حينما تفقِد التجارب التي تُستخدَم فيها تطبيقات الوسائط المتعدِّدة للمُتنزَّه بريقَها.

ابتسمتُ ابتسامةً شرسة وفتحتُ باب مَدخلِ الخدمات وهمستُ ﻟ «دان» قائلًا: «لو لم يَقتلوني ويُجبروني على اتِّخاذ جسدٍ جديد، لربَّما لم أصبح بالليونة الكافية لأتمكن من الدخول. إنها سُخرية الأقدار. أليس كذلك؟»

تسلَّقتُ مُتسللًا إلى الداخل دون انتظار ردٍّ من دان، وبدأتُ أشقُّ طريقي ببطءٍ أسفل قاعة الرؤساء.

•••

غطَّتْ خُطَّتي كلَّ التفاصيل التي يُمكن تصوُّرها، سوى تفصيلةٍ واحدة لم تخطُر ببالي إلا بعدَ قضائي أربَعين دقيقة داخل أنبوبة الهواء المضغوط وذِراعاي مَمدودَتان أمامي وساقاي مَفرودَتان خلفي كالسبَّاحين.

كيف سأتمكن من الوصول إلى جيوبي؟

لأكون أكثرَ دقَّة، كيف سأتمكن من الحصول على مُسدَّسي ذي التردُّدات اللاسلكية العالية الطاقة من جَيب سروالي الخلفي وأنا لا أستطيع حتى أن أثْنِيَ مرفقيَّ؟ كان هذا المُسدَّس هو أساس الخطة؛ فهو عبارة عن مولِّدِ تردُّدات لاسلكية عالية الطاقة من خلال شُعاع مركَّز وموجَّه سيخترِق أرضية قاعة الرؤساء ويشقُّ طريقه صعودًا صاهرًا كلَّ البقايا اللعينة للإلكترونيات المكشوفة التي تقابِلُه في المبنى. نبتَتْ بذور هذه الفكرة في رأسي خلال العرض التجريبي الأول لتيم حينما رأيتُ كل نماذجه الأولية الموضوعة بالكواليس مُبعثرة، وأغطيَتُها مفتوحة ويُمكن العبَث بها بسهولةٍ دون أي حماية.

قلتُ بصوتٍ مكتوم على نحوٍ غريب بفِعل جُدران الأنبوب: «دان!»

أجاب قائلًا: «نعم!» كان صامتًا طوال الطريق وكان دليلي الوحيد على وجوده هو صوت مرفقه وهو يُحاول جرَّ نفسه إلى الأمام عبر الأنبوب المُعتم.

«هل يُمكنك الوصول إلى جَيبي الخلفي؟»

أجاب: «أوه، تبًّا!»

«اللعنة! احتفِظ بتعبيراتك اللعينة لنفسك. أيُمكنك الوصول إلى جَيبي أم لا؟»

بينما كان يَجذِب نفْسه إلى أعلى داخل الأنبوب سمعتُه يُزمجِر، ثم شعرتُ بيده تتحسَّس ساقي، وسُرعان ما شعرتُ بصدره يُطبِق على ساقيَّ ويَحُكُّهما بأرضية الأنبوب بقوةٍ ويدُه تَنبُش حول مُؤخِّرتي بحثًا عن الجيب.

قال: «يُمكنني الوصول إليه.» عرفتُ من صوته أنه لم يكن سعيدًا بصِياحي فيه، ولكنني كنتُ مُنهمِكًا للغاية لأفكر في الاعتِذار منه، على الرغم من التأثير السلبي الحَتْمي الذي كان يُصيب رصيدي من الووفي في هذه الأثناء بينما كان غضبُ دان يتصاعد.

أخذ يتحسَّس جَيبي بحثًا عن المُسدَّس، وهو أسطوانة ضيِّقة بطول راحة يدي، ثم أخرجه من جَيبي وقال: «ماذا الآن؟»

«هل يُمكنك أن تُمرِّره لي؟»

زحف دان إلى أعلى، مُتجاوزًا إياي، ولكنَّه لم يلبَث أن علِق بي بمجرَّد أن لامس قفَصُه الصدري عضلات فَخذي وقال: «لا يُمكنني التقدُّم أكثر من ذلك.»

قلت: «حسنًا، سوف تُضطرُّ إلى إطلاق النار إذن.» حبستُ أنفاسي، هل سيفعلها؟ شتَّان بين أن تكون شريكًا في فعلٍ مُدمِّر وأن تكون مُنفِّذَه.

ردَّ دان قائلًا: «يا إلهي! جولز!»

«قُل نعم أو لا يا دان. هذا كلُّ ما أريد سَماعه منك.» كان الدَّمُ يَغلي في عُروقي؛ كنتُ غاضبًا من نفسي، ومن دان، ومن دِبرا، ومن الأمر برمَّته.

ردَّ قائلًا: «حسنًا.»

«جيد، عليك أن تضبِطه على درجةِ التَّشتيت القُصوى وتُوجِّهه إلى أعلى في خطٍّ مُستقيم.»

سمعتُه وهو يُحرِّر المِزلاج، وشعرتُ بفرقعةٍ ساكِنة في الهواء ثُمَّ انتهى الأمر. كان من مُسدَّسات الطلقة الواحدة، صادَرْتُه من أحد الزوَّار المُشاغِبين قبل عشر سنوات، في الوقت الذي ظهرَت فيه هذه الأسلحة كموضةٍ لفترة قصيرة.

حدَّثتُ دان قائلًا: «تشبَّث به.» إذ لم أكن أنوي أن أُخلِّف ورائي دليلًا صغيرًا كهذا. واصلتُ الزَّحفَ على بطني تجاه مَنفذ الخدمات التالي الذي يقَع بالقُرب من ساحة انتظار السيارات، حيث خبَّأتُ ملابس بديلةً مُطابقة لما يَرتديه كِلانا.

•••

نجحْنا في العودة مع بداية العرْض التجريبي مُباشرة. كان أفراد اللجنة التابِعة لدِبرا يجلسون مُصطفِّين حول مقصورة المسرح السُّفلى في قاعة الرؤساء، بالإضافة إلى لفيفٍ من الأعضاء المؤثرين من اللجان الأخرى الذين ملئوا منطقة انتظار بدء العرض حتى آخِرها.

تقدَّمتُ أنا ودان في الوقت الذي كان يُدلِّي فيه تيم الحبلَ المُخمَلِيَّ خلف الجمهور. ابتسم لي ابتسامةً صادقة وصافَحَني، فابتسمتُ له بدوري وأنا في قمَّة الرضا الآن لمعرفتي أنه سيفشَل فَشلًا ذريعًا. وجدتُ ليل وأخذتُ يدَها في يدي في طريقنا إلى صالة العرْض التي كانت تفوح برائحة غسول سجاد السيارات والإلكترونيات الجديدة.

اتَّخذنا مقاعدنا وأخذتُ أحرِّك ساقي بحركةٍ عصبية قهرية، في حين كانت دِبرا تُلقي خطابًا قصيرًا، مُرتدِية مِعطف لنكولن وقُبَّعته الطويلة. كان هناك ما يُشبه منصَّة بثٍّ مُثبَّتة فوق المسرح الآن حتى تَسمح لهم بتسليط شُعاع تطبيقهم كاملًا تِجاهنا من خلال دفقةٍ واحدة هائلة.

انتهت دِبرا من خِطابها وغادرت المسرح الذي ضجَّ بعاصفةٍ من التصفيق المُهذَّب ثم بدءوا العرض التجريبي.

لم يحدُث أيُّ شيء، وحاولتُ ألَّا ترتسِم على وجهي ابتسامة الرضا العريضة في هذه الأثناء. لم يدقَّ أي صوت في قوقعة أذني ليدُلَّ على وجود أيِّ ملفٍ جديدٍ في دليلي العام، ولم أشعر بأي دفقة من الأحاسيس، لا شيء. التفتُّ إلى ليل لأُدلي بمُلاحَظةٍ ما مُختالًا، ولكنَّ عينيها كانتا مُغلقَتين وفمها يتدلَّى مفتوحًا وتَزفِر أنفاسًا قصيرة. وكان جميع أعضاء فريق العمل بالصفِّ في الحالة نفسها من التركيز العميق الممزوج بالانبهار. جذبتُ شاشة ذهنية تشخيصية، ولكن لم أجِد أيَّ شيء، لا تشخيصات، ولا شاشة ذِهنية. أعدتُ التشغيل عن طريق إغلاق النظام ثم تَشغيله مرَّةً أخرى.

لا شيء.

كنتُ غيرَ مُتَّصِل.

•••

غير مُتَّصلٍ، هكذا كانت حالتي حينما غادرتُ قاعة الرؤساء. غير مُتَّصلٍ، أخذتُ يدَ ليل ومَشَينا إلى منطقة التحميل الخاصة بليبرتي بيل، المكان الذي نُجري فيه أحادِيثَنا الخاصة. غير مُتَّصلٍ، أخذتُ منها سيجارة.

كانت مُنزعِجةً وكان هذا واضحًا لي على الرغم مما كان يُخالِجني من تشوُّشٍ واندِهاش لكوني غير مُتَّصلٍ. واغرورَقَت عيناها بالدُّموع.

قالت بعدَ وهلةٍ من التَّحديق بضوء القمر المُنعكس على النهر: «لماذا لم تُخبرْني؟»

قلتُ ببلاهة: «أُخبركِ؟»

«إنهم جيِّدون بالفِعل، إنهم ماهرون. إنهم أفضل منَّا، يا إلهي!»

ولأني غير مُتَّصِلٍ، فشِلتُ في إيجاد أيِّ إحصائياتٍ أو إشارات تُساعدني في مُناقشة الأمر. غير متصلٍ، حاولتُ دون مُساعدة وقلت: «لا أظنُّ ذلك. لا أظنُّ أنَّ لهم رُوحًا أو تاريخًا أو أيَّ شكلٍ من أشكال الصِّلة بالماضي. لقد شبَّ الناس جميعًا في مُدن ديزني، وهم يزورون هذا المكان من أجل الاستمرارية بقدْر ما يزورونه للترفِيه؛ وهذا ما نُقدِّمه نحن.» كنتُ غيرَ مُتَّصِل، ولكنهم ليسوا كذلك. ماذا حدَث بحقِّ الجحيم؟

«سيكون كلُّ شيءٍ على ما يُرام يا ليل. لا يُوجَد أيُّ شيءٍ في هذا المكان أفضل منَّا؛ يُوجَد ما هو حديث ومُختلِف، ولكن ليس ما هو أفضل. أنتِ تعلمين ذلك؛ لقد قضيتُ وقتًا في القصر أكثرَ من أيِّ شخصٍ آخر وتَعلمين كمَّ العمل والمجهود والتحسينات الذي بُذِل فيه. كيف يُمكن لِما أُنتِجَ في أسبوعين أن يكون أفضلَ من هذا المكان الذي حافَظنا عليه طَوال كلِّ هذه السنوات؟»

وضعَتْ ظهرَ كُمِّها على عَينيها وابتسمَت قائلة: «أنا آسِفة.» كان أنفُها أحمر وعيناها مُنتفِخَتَين وبرَز النَّمَش على خَدَّيها المُتورِّدَين. «آسِفة، ولكن الأمر صادِم. ربما تكون على حق، وحتى إن لم تكن كذلك، مهلًا، هذا هو الهدَف من مبدأ الجَدارة. أليس كذلك؟ البقاء للأجدَر وكلُّ الأشياء الأخرى تُسْتَأْصَل ليَحلَّ مَحلَّها.

تبًّا، أكرَه شكلي عندما أبكي. دعْنا نذهَب لنُهنِّئهم.»

عندَما أمسكتُ يدَها لنذهب، كنتُ سعيدًا بنفسي على نحوٍ غير مفهوم لنجاحي في تَحسين مِزاجها دُون أيِّ مُساعدة اصطِناعية.

•••

لم أرَ دان في أيِّ مكانٍ ونحن نَعتلِي المسرح بقاعة الرؤساء أنا وليل، حيث كانت دِبرا وأتباعها ولفيف من المُهنِّئين يَحتفلون بتمرير قِطعةٍ من حجَر الكوكايين فيما بينهم. تفقَّدَتْ دِبرا المِعطف والقُبَّعة وكانت في حالة مُفرِطة من الاسترخاء والنشوة، يُطوِّق ذراعاها اثنَين من رِفاقها والغليون بين أسنانها.

بينما نُحاول أنا وليل شقَّ طريقنا عبر العديد من المُجامَلات المُرائية ابتسمَتْ دِبرا ولا يزال الغليون في فمِها، وأومأت لنا، ثم سحبَتْ نفَسًا طويلًا من الدُّخان وكان تيم يُشعِل لها وعاء الغليون كاملًا.

ردَّتْ باقتضاب: «شكرًا، لقد كان مجهودًا جماعيًّا.» واحتضنَتْ صديقَيها بشدَّةٍ حتى كادت أن تدْمَغَ رأسيهما معًا.

قالت ليل: «ما جَدولُك الزَّمني إذن؟»

بدأت دِبرا بإلقاء خُطبةٍ عصماء مُطوَّلة عن المسارات الحَرِجة، والمراحل الرئيسة، واجتماعات مُناقَشة المُتطلَّبات، ولم أكن مُنصتًا لما تقول. أما أتباعُها فكانوا يَعشقون هذه التفاصيل الخاصَّة بسَير العملية. حدَّقتُ إلى قدميَّ وألواح الأرضية، وأدركتُ أنها ليست ألواحًا أرضية، بل رسمٌ يُحاكي شكل الألواح الأرضية مرسومٌ على قِطَعٍ نُحاسية مُعشَّقة؛ نفس فكرة قفَص فاراداي. لهذا لم يُحدِث المُسدَّس الذي يُطلِقُ تردُّداتٍ لاسلكية عالية الطاقة أيَّ تأثير؛ لهذا لم يُبالوا بالمرَّة بالعمل على كمبيوتراتهم وهي مكشوفة دون حِماية. تتبَّعتُ النُّحاس الواقي الذي امتدَّ عبر المسرح بأكملِه وبطول الجُدران حتى اختفى عند السقف. وصُعِقتُ مرة أخرى من مدى ما بلَغَه أتباع دِبرا من تطوُّر، وكيف حصَّنَتْهم تجربتهم القاسِية في الصين ضِدَّ هذا النوع من الخِدَع الرديئة التي اختلقَها أمثالي من قُدامى فلوريدا عَتيقي الطراز.

على سبيل المِثال، لم أكن أظنُّ أن أيَّ عضوٍ من أعضاء طاقم العمل في المُتنزَّه خارج زُمرة دِبرا سيكون لديه الجرأة ليُخطِّط لعملية اغتيال. بمُجرَّد وُصولي إلى هذا الاستِنتاج، أدركتُ أنها كانت فقط مسألة وقتٍ حتى يُخططوا لعملية اغتيالٍ ثانية وثالثة ورابعة؛ أيُّ شيءٍ يُمكنهم أن يُفلِتوا منه دون عِقاب.

انتهت دِبرا أخيرًا من حديثها وانطلقْتُ أنا وليل بعيدًا. وقفتُ أمام محطة النَّسْخ الاحتياطي في الممرِّ ما بين ساحة الحرية وأرض الخيال وسألتُها قائلًا: «متى كانت آخِر مرةٍ أَجرَيتِ فيها نَسْخًا احتياطيًّا؟» إذا أمكنهم مُلاحَقَتي، إذن ربَّما يُلاحِقون أيًّا منَّا.

ردَّت: «أمس.» كان وَجهُها يعكِس ما تُعانيه من إعياءٍ ووَهَن؛ فلم تبدُ كأحد أفراد طاقم العمل الدَّءوبِين، بقدْر ما بدَت أشبهَ بزائرةٍ أفرطت في خَوض التجارب الوَسيطة.

«لِنَقُم بعملية نَسخٍ احتياطي أخرى. حسنًا! علينا أن نقوم بالنَّسخ الاحتياطي ليلًا وفي وقتِ الغَداء؛ ففي ظلِّ الظروف الحالية لا يُمكننا أن نتحمَّل خسارة عملِ ما بعد الظهيرة، فما بالُك بعمل أسبوعٍ كامل؟»

أدارَتْ ليل عيْنَيها مُستنكِرة، كنتُ أكثرَ حكمةً من أن أُجادِلها وهي مُتعَبة، إلَّا أنَّ هذا الأمر كان مصيريًّا وأهمَّ من أن يُتجاهَل تفادِيًا للشِّجار. فقالت: «يُمكنك القِيام بالنَّسخ الاحتياطي كيفما تشاء يا جوليوس، ولكن لا تُمْلِ عليَّ كيف أعيش حياتي. اتَّفقنا؟»

«بربِّك يا ليل! لن يَستغرِق الأمر إلَّا دقيقة وسيُشعِرني بتحسُّنٍ كبير، أرجوكِ!» كنتُ أكره نَبرةَ الأنين في صَوتي.

أجابت قائلة: «لا يا جوليوس، لا. لِنَعُد إلى المنزل ونأخُذ قسطًا من النوم. أريدُ القيام ببعض العمل على السِّلَع الجديدة الخاصَّة بالقصر؛ بعض المُقتَنَيات التي يُمكن شراؤها.»

«بحقِّ الرب! هل ما أطلُبه بالأمر الجَلَل؟ حسنًا، انتظري إذن حتى أقوم أنا بالنَّسخ الاحتياطي. اتَّفَقنا؟»

زمجرتْ ليل ورَمَقتْني بنظرةٍ غاضبة.

اتَّجهتُ إلى المحطة وأعطيتُ أمرَ النَّسخ ولكن لم يحدُث أيُّ شيء. أوه، نعم بالطبع، لقد كنتُ غير مُتَّصِل. غَمَرَ عرَقٌ بارِد جسدي الجديد.

•••

استحوذَت ليل على الأريكة بمُجرَّد دخولنا المنزل، وكانت تُغمغِم بشيءٍ عن رغبتها في العمل على بعض الأفكار الخاصَّة بالسِّلَع المُراجَعَة التي وَاتَتْها. رَمقتُها بنظرةٍ غاضبة وهي تتحدَّث لاصوتيًّا وتكتُب على الهواء وهي جالِسة في الرُّكن مُنعزِلة عنِّي. لم أكن أخبرتُها بعدُ بأنني غير متَّصِل؛ فقد بدا الأمر وكأنه مُجرَّد شكوى شخصية تافِهة مُقارَنةً بالأزمات التي كانت تُواجِهها.

كما أنها لم تكن أولَ مرَّة يَنقطِع فيها اتِّصالي بالشبكة، على الرغم من أنَّ هذا لم يحدُث منذ خمسين عامًا، وعادةً ما يحدُث حين لا يُصحِّح النظام نفسه بعد ليلةٍ من النوم الهانئ. وكان بإمكاني زيارة الطبيب في الصباح التالي حالَ استِمرار الخَلَل.

لِذلك اتَّجهتُ ببطءٍ إلى الفِراش، وحينما أيقظتْني الرَّغبة في التبوُّل وسط الليل، اضطُرِرتُ للذهاب إلى المطبخ لأعرِف الوقتَ من ساعتِنا القديمة التي على شكل نجمةٍ مُشعَّة. كانت الثالثة صباحًا، ولكن متى بحقِّ الجحيم تخلَّصْنا من جميع الساعات الموجودة بالمنزل على أية حال؟

كانت ليل تغطُّ في النوم على الأريكة وتذمَّرتْ بوَهَنٍ حينما حاولتُ إيقاظها، فغطَّيتُها ببطانية ثم عدتُ إلى الفِراش مرَّةً أخرى وَحيدًا.

استيقظتُ من النوم مُشوشًا ونَكِدَ المِزاج دُون دَفقة الإندروفين الصباحية التي اعتدتُها. اختفَت أحلام الموت والدَّمار التي بدَت حقيقيةً تمامًا بمجرَّد نُهوضي. كنتُ أفضِّل أن أترُك اللاوعي يتصرَّف بطريقته؛ لذا برمجْتُ أنظمتي منذ زمن طويل على إبقائي نائمًا أثناء دَورات حركات العَين السريعة، إلَّا في حالات الطوارئ. خَلَّفَ الحُلم مَذاقًا كريهًا في ذِهني وأنا أدخل المطبخ مُترنِّحًا حيث كانت ليل تَصنع القهوة.

قالت ليل وأنا أترنَّح عند دخولي: «لماذا لم تُوقِظْني بالأمس؟ أشعُر بألمٍ شديد من النوم على الأريكة.»

كانت مَرِحةً ويَقِظةً كشخصٍ قادرٍ على أن يُعطِيَ جهازَه العصبيَّ أمرًا بأن يُنتِج الإندروفين والأدرينالين وقتما شاء. شعرتُ برغبةٍ في لَكْم الجِدار.

«ما كُنتِ لِتستجيبي.» ثم سكبَتِ القهوة في كوبٍ واحتسيتُها فحرَقَت لِساني.

«ولماذا استيقظْتَ مُتأخِّرًا هكذا؟ كنتُ آمُلُ أن تتولَّى إحدى المُناوَبات نِيابة عنِّي؛ لقد بدأتِ الأفكار الخاصَّة بالسِّلَع تتَّضِح وتتشكل، وكنتُ أرغَبُ في زيارة مَتجر الخَيال الابتكاري وتجربة بعض النماذج الأولية.»

«لا أستطيع.» حشَوْتُ فمي بشريحةٍ من الخُبز بالجُبن ولاحظتُ وجود طبقٍ به بقايا طعام في الحَوض. يبدو أن دان قد تناوَل طعامه وذهب بالفِعل.

قالت: «حقًّا؟» بدأ الدَّم يَغلي في عُروقي بقوَّة. ألقيتُ طبَق دان في غسَّالة الأطباق بعُنفٍ وحَشَرتُ الخُبز في فمي.

أجبتُ قائلًا: «نعم، حقًّا. إنها مُناوبَتُك أنت؛ فلتَتوَلِّيها بنفسك أو تَغِيبي بِحُجَّة المرض.»

تراجَعَت ليل. عادةً ما أكون المِثال الحيَّ للُّطفِ في الصباح، عندما تكون هرموناتي مُعزَّزة، على أيِّ حال. سألتْني ليل مُتَّبعةً أسلوب عضو فريق العمل الراغِب في تقديم المُساعدة: «ما الأمر يا عزيزي؟» واتَتْني حِينها رغبة في لَكْم شيءٍ آخَرَ إلى جانِب الجِدار.

«فقط دَعيني وَشأني، حسنًا؟ اذهَبي واعبَثي بالسِّلَع اللَّعينة. لديَّ عمل حقيقي لأقوم به؛ في حال لم تلحَظي، دِبرا على وشْكِ أن تَلتهِمَك أنتِ وزُمرتَك الصغيرة من المُغامِرين الشُّجعان ثم تُنظِّف أسنانها بِعظامِكم. بحقِّ السماء يا ليل! ألَا يراوِدُك الغضب حِيال أيِّ شيءٍ على الإطلاق؟ أليس لديكِ أيُّ شغَفٍ لَعين؟»

شحَبَتْ ليل وشعرتُ بِشعورٍ مُقْبِض داخلي. كان ما قُلتُه لها أسوأ ما يُمكن أن يُقال.

التقيتُ أنا وليل منذ ثلاث سنوات في حفل شواءٍ أقامه بعض أصدقاء والدَيها، كشكلٍ من أشكال التعارُف والاختلاط بين أفراد طاقم العمل. لم تكن قد تَجاوزَتِ التاسعة عشرة من العُمر حينئذ — في الشكل والواقع — تُحيط بها هالةٌ من الدَّلال والبهجة والنشاط، جعلتْني أتجاهَلُها في بادئ الأمر، مُعتبِرًا إيَّاها مُجرَّد عضوةٍ أُخرى من الأعضاء الأغبِياء التافِهين.

أمَّا والِداها — توم وريتا — على الجانب الآخر، فكانا شَخصَين رائعَين، وكانا من ضِمن أعضاء اللجنة الأصليِّين ممَّن استولَوا على السُّلطة في عالم والت ديزني، وانتزَعوا زمام الحُكم من عصابةٍ من المُساهِمين الأثرياء السابِقين الذين كانوا يُديرون المكان وكأنَّه حِكرٌ لهم. كانت ريتا تبدو في العِشرين أو نحوَ ذلك، ولكنَّها كانت تُشعُّ نُضجًا وتفانيًا مُتَّقِدًا تِجاه المُتنزَّه، وهو ما تناقَضَ بشكلٍ حادٍّ مع سطحيَّة ابنتِها.

كانا يتمتَّعان برصيدٍ غير عادي من الووفي، رصيد يفوق الخيال، ويفوق حاجة الإنسان. فكانت ثروتهما تفُوق ما يكفي للحصول باستمرار على الأشياء النادِرة القليلة الباقِية على سطح الأرض مرارًا وتكرارًا، في عالمٍ كان حتى الفاشِل الذي لا يملِك شيئًا في رَصيدِه من الووفي يستطيع الحصول على الطعام، والنوم، والسفر، والوُلوج إلى الإنترنت دُون أي مُشكلة.

تطرَّق حديثُنا إلى اليوم الأول لهما في ديزني، عندما استخدَمَت ريتا وزملاؤها آلةَ القطع باللِّحام لفتْح الأبواب الدوَّارة، ودخلوا جحافلَ وهم يرتَدُون أزياءً منزلية الصُّنع وبطاقات تعريف بأسمائهم. اخترقوا المَتاجر، ومراكز التحكُّم والألعاب بالمئات، في بادئ الأمر، ثم ازداد عددهم على مَدار ذلك اليوم الحارِّ من شهر يوليو حتى صاروا بالآلاف. حاوَلَ أتباع المُساهِمين الأوفياء، ممَّن عملوا بالمُتنزَّه تَحيُّنًا لفُرصةِ أن يَصيروا جُزءًا من هذا المكان الساحر، على الرغم من عدَم امتلاكِهم أيِّ سيطرةٍ على قرارات الإدارة، أن يُظهِروا بعضَ أمارات المُقاوَمة الشكليَّة. ولكن قبل انقِضاء اليوم، استَسلَم أغلبيتُهم للمُهاجِمين وسلَّمُوا شفرات الحماية الأمنية وانضمُّوا إلى صفوفهم.

قالت والِدةُ ليل وهي ترتشِف الليمونادة: «ولكننا كنَّا نعلَمُ أن المُساهمين لن يَستسلموا بهذه السهولة. جعلنا المُتنزَّه يعمل طَوال اليوم على مدار الأسبوعين التاليَين، فلم نُتِحْ للمُساهِمين أيَّ فرصةٍ للمقاومة؛ إذ لم يكن ذلك ليتمَّ دُون أن يكون أمام أعين الزوَّار. رتَّبْنا مُسبقًا مع أعضاء اللجنة المَعنيِّين بشركات الطيران لإضافة خطوطٍ جوية إضافية إلى ولاية أورلاندو، فتدفَّقَت أعدادٌ أكبر من الزوَّار على المُتنزَّه.» ابتسمَتْ وهيَ تتذكَّر تلك اللحظة، وكانت ملامِحها في لحظات السكون تكاد تُطابِق ملامِح ليل. فقط كانت ملامِحها تتغيَّرُ وهي تتحدَّث؛ إذ كانت عضلات وجهها تشدُّ بشرتَها بشكلٍ يَجعلها تبدو أكبر سنًّا بعشرات السنين.

«كنتُ أقضي مُعظَم الوقت في إدارة كشك بيع السِّلَع في مَتجر السيدة ليوتا الذي يقَع خارج القصر، وبينما أُبادِل المُساهِمين الشتائم بصوتٍ خفيض وهُم يُحاولون إبعادي عن المكان، كنتُ أصافح الزوَّار بحرارة. كنتُ أنام في كِيس نَومٍ على أرض أنفاق المرافق مع بضعِ عشراتٍ آخَرين في مُناوَبات عملٍ مُدَّتُها ثلاثَ ساعات، وحينها قابلتُ هذا الوغد …» ثُمَّ دفَعَت زَوجها بكَتِفِها في كَتِفِه وأردفَتْ قائلة: «أخذَ أحدَ أكياس النَّوم بالخطأ ورَفَض التزَحزُح من مكانه حينما أتيتُ لأنام. كلُّ ما استطعتُ فِعله هو الزَّحف إلى جانِبه للنَّوم، ثمَّ حدَث ما حدَث كما يقولون.»

أدارت ليل عَينَيها مُستنكِرةً وأصدرَت أصواتًا لتُسكِتها قائلة: «يا إلهي! ريتا لا أحدَ يحتاج إلى سَماع تلك التفاصيل.»

ربتَ توم على ذِراع ليل قائلًا: «لقد صرتِ فتاةً ناضِجة يا ليل، إذا كنتِ لا تُطيقين سماع تفاصيل غزَل والِدَيك، يُمكنك أن تذهَبي للجلوس في مكانٍ آخَر أو تبتسِمي دونما اعتِراض، ولكن لا يُمكنك أن تُملي علينا موضوع الحديث.»

رمقتْنا ليل، نحن الكبار، بنظرةٍ شبابية غاضِبة للغاية وانتفضَت واقفةً وذهبتْ بعيدًا. بينما كانت ليل تُغادِر هزَّت ريتا رأسها وقالت: «هذا الجيل يَفتقِر إلى الحَماس، يَفتقِرون إلى الشَّغَف. إنه خطؤنا، كنَّا نظنُّ أنَّ عالَم دِيزني سيكون المكان الأمثلَ لتربية طفلٍ في مُجتمع الرَّوعة. ربما كان كذلك، ولكن …» وخفَتَ صوتها تدريجيًّا حتى توقَّفَت عن الحديث وفرَكَت كفَّيْها على فَخْذَيها، وهي إيماءة عهِدتُها في ليل فيما بعد، ثم أردفَتْ قائلة: «أعتقِد أنه لم يعُد ثمَّة تحدِّيات كافية أمامهم هذه الأيام. إنهم مُتعاوِنون أكثَرَ ممَّا ينبغي.» وضحكتْ وأخذَ زَوجها يدَها.

قال توم: «إنَّنا نتحدَّث كآبائنا. حينما كُنَّا لا نزال صغارًا، لم يكن لدَيْنا أيٌّ من هذه الأشياء الحديثة التي تُطيل الحياة، لقد خاطرْنا بحياتنا مع دِبَبَةِ الكهوف والدَّيناصورات!» كان توم يبدو أكبر من سِنِّه، إذ بدا في الخمسين من عُمره، وقد كسا الشَّيبُ جوانب شَعْره وارتَسمَت على وجهه تَجاعيدُ الابتِسام، وكان يُفضِّل ألَّا يبدو أمام الزوَّار بمظهرٍ سُلطوي لا يحمِل أيَّ تهديد. كان من البديهيات لدى الرَّعيل الأول من أعضاء اللجنة أن تَبدوَ النساء شابَّاتٍ وأن يبدوَ الرجال أكبر سنًّا. «لسنا إلَّا زَوجَين من أُصولِيِّي مجتمع الروعة على ما أعتقِد.»

كانت ليل تُشارك في إحدى المُحادَثات القريبة منَّا حين نادَتْني قائلة: «هل أخبروك كم أنَّنا حفنة من المُخنَّثين يا جوليوس؟ حينما تَسأم من ذلك، لماذا لا تَنضمُّ إلينا لنُدخِّن معًا؟» لاحظتُ أنها وأصدقاءها يُمرِّرون فيما بينهم غليونًا من الكوكايين.

تنهَّدَت والِدَة ليل قائلة: «ما الفائدة؟»

أجبتُ قائلًا: «أوه، لا أعلم أنها بهذا السوء.» كان هذا هو أول ما نطقتُ به فعليًّا بعد الظهر. فقد أدركتُ بأسًى عميقٍ أنني كنتُ في ذلك المكان فقط من باب المُجامَلة، لم أكن إلَّا واحدًا من حشود الطامِحين الذين يَتوافَدون على أورلاندو كلَّ عام، طامِعين في أن يَجِدوا لأنفسهم مَوطئ قدَمٍ بين الزُّمرة الحاكِمة. أردفتُ قائلًا: «إنهم مُهتمُّون بالحِفاظ على المُتنزَّه بكلِّ تأكيد. أخطأتُ الأسبوع الماضي برفعِ إحدى بوَّابات الطوابير في لُعبة جولة قارِب الغابة، وتلقَّيْتُ مُحاضرة جادَّة للغاية من أحد أعضاء طاقم العمل، لا يُمكن بأيِّ حالٍ أن يكون قد تجاوَز الثماني عشرة، عن التشغيل السَّلِس للمُتنزَّه. أعتقِد أنهم لا يَهتمُّون بِخلْق حِس الانتِماء إلى مُجتمَع الروعة الذي لدينا؛ فهم لا يحتاجون إلى ذلك، ولكنَّ لدَيهم دافعًا كبيرًا للحِفاظ عليه.»

رمَقتْني والدة ليل بنظرةٍ مُتأمِّلة طويلة لم أتمكَّن من فَهم مَغزاها. لم أستطِع تحديد إن كان ما قلتُه أغضبَها أم ماذا.

«أعني أنه لا نَفْع من أن تكون ثَوريًّا بعد اندِلاع الثورة بالفِعل. أليس كذلك؟ ألم نُناضِل جميعًا حتى لا يُجبَرُ الأطفال مثل ليل على ذلك؟»

قال توم وقد ارتسمَتْ على وجهه نفس النظرة المُتفحِّصة: «من المُضحِك أن تقول ذلك، كنَّا نتحدَّث عن الشيء نفسه بالأمس. كنا نتحدَّث …» وأخذ نفَسًا عميقًا ونظَر في ارتِيابٍ إلى زَوجته التي أومأتْ له بدَورها فأكملَ قائلًا: «عن التَّعليق المؤقَّت للحياة لفترةٍ قصيرة على أيِّ حال، ونرى إن كانت الأوضاع ستتغيَّر كثيرًا في غُضون خمسين أو مائة عام من الآن.»

شعرتُ بشيءٍ من الإحباط المُخجِل. لماذا كنتُ أضيِّع وَقتي في تملُّقِ هذَين الاثنين وهما لن يكونا مَوجودَين عندما يَحين وقتُ التصويت لي؟ سُرعان ما طردْتُ هذه الفكرة من ذِهني بمُجرَّد أن خطرَتْ لي؛ لقد كنتُ أتحدَّث إليهما لأنهما شَخصَين لَطيفَين. فليس بالضرورة أن تكون كلُّ مُحادَثةٍ ذاتَ أهمية استراتيجية.

قلت: «التعليق المؤقَّت للحياة. حقًّا؟» أذكر أنَّني فكرتُ في دان حينها وفي آرائه عن أن التعليق المؤقَّت للحياة هو عملٌ جَبان، وعن شَجاعة إنهاء الأمر عندما تجِد نفسك باليًا بلا أهمية. لقد واساني ذات مرَّة عندما فضَّل آخرُ الباقين على قَيد الحياة من أقاربي، وكان عمِّي، أن يُعلِّق حياته مُؤقَّتًا لمدَّةِ ثلاثة آلاف سنة. وُلِدَ عمِّي في حِقبة ما قبل مُجتمع الروعة ولم يتأقلَم مع الأمر قط. ولكنَّه كان لا يزال القشَّة الوحيدة التي تَصِلني بعائلتي وبمرحلة بلُوغي الأولى وطفولتي الوحيدة. اصطحبَنِي دان إلى جانانوكواي وقضينا اليوم نتجوَّل عبر الرِّيف مُرتَدِين أحذية السبعة فراسِخ، مُبحِرين عاليًا فوق بُحيرات الألف جزيرة وأوراق أشجار الخريف ذات الألوان النارية التي بدَت وكأنها سجَّادة مُمتدَّة من النِّيران. واختتمْنا اليوم في إحدى بلدات صناعة مُنتجَات الألبان التي يعرِفها دان، حيث كانوا لا يزالون يصنعون الجُبن من حليب الأبقار، وكان المكان يفوح بآلاف الروائح، وبه العديد من زُجاجات نَبيذ التفاح القوي، وفتاة نَسيتُ اسمها منذ زمنٍ بعيد، ولكنَّني لن أنسى ضحكتها المُشرِقة ما دُمتُ حيًّا. ولم يكن الأمر مُهمًّا للدرجة، أن يَنام عمِّي لثلاثة آلاف عام؛ لأنَّ أيًّا كان ما سيحدُث، فستظلُّ أوراق الأشجار، والبُحيرات، والغروب المُنعِش المُخضَّب بحُمرةٍ كحُمرة الدِّماء وضحكة الفتاة.

سألتُ قائلًا: «هل تحدَّثتِ مع ليل عن الأمر؟»

هزَّت ريتا رأسَها قائلة: «إنها مُجرَّد فكرة. لا نُريد أن نُثير قلقَها. فهي لا تُجيد تقبُّل القرارات القاسِية بصدرٍ رَحب؛ هكذا هو جِيلها.»

لم يَمُرَّ وقتٌ طويل حتى غيَّرا موضوع الحديث، وشعرتُ بعدَم الارتياح؛ إذ أدركَتُ أنهما أخبراني بأكثرَ مما ينبغي، أكثرَ ممَّا كانا يَنوِيان قولَه. فابتعدتُ عنهما تدريجيًّا ووجدْتُ ليل وأصدقاءها الشباب فأخذْنا نُدخِّن قليلًا ونَتعانَق قليلًا.

في غُضون شهرٍ واحد كنتُ أعمل بالقصر المسكون، وكان توم وريتا يرقُدان داخل أوعِيَةٍ كانوبية في كيسيمي عليها تعليمات ألَّا يُوقَظا حتى تَجْمَع تطبيقاتُهما الإلكترونية المسئولة عن تجميع الأخبار موادَّ مُثيرةً وشيِّقةً تستحقُّ أن يَعودا إلى الوَعي، وكنتُ أنا وليل مادَّةً مُثيرة.

لم تُحسِن ليل التعامُل مع قرار والديها بالدُّخول في غَيبوبةٍ مؤقَّتة طوعًا. كان الأمر بالنسبة إليها بمثابة صفْعةٍ على الوجه وعارٍ عليها وعلى جِيلها من أعضاء طاقم العمل المُغرِّدين المُتفائلين الذين يَنحازون لمَبدأ الإيجابية.

بحقِّ السماء يا ليل! ألا يُغضبك أيُّ شيءٍ على الإطلاق؟ أليس لديكِ أيُّ شَغَف؟

خرجَتِ الكلمات من فَمي قبلَ أن أُدرِك ما أقول، فما كان من ليل إلَّا أنِ استحالَتْ بَيضاء كالوَرَقة، واستَدارَت على عقِبَيها وخرجَت من المطبخ؛ استقلَّتْ سيارتها الصغيرة وذهبَتْ إلى المُتنزَّه لتَتسلَّم مُناوَبَتها؛ ليل التي كانت تُمثِّل خمسة عشر بالمائة من عُمري وكانت صغيرةً بما يكفي لأن تكون حفيدتي؛ ليل، حبيبتي وصديقتي المُقرَّبة وراعِية اللجنة المسئولة عن ساحة الحرية.

عدتُ إلى الفِراش مرَّةً أخرى وأخذتُ أُحدِّق إلى مروحة السَّقف وهي تدُور ببطءٍ وشعرتُ باشمِئزاز شديد من نفسي.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤