الفصل الخامس

حين عُدتُ إلى المُتنزَّه أخيرًا كان قد مَرَّ ٣٦ ساعة ولم تعُد ليل إلى المنزل. كان سيجري تَحويلها إلى بريدي الصوتي لو حاوَلَت الِاتِّصال بي؛ فلم يكن لديَّ أيُّ طريقةٍ لأُجيب على هاتفي. ولكنها لم تُحاوِل الِاتِّصال بي على الإطلاق، كما اتَّضَح لاحِقًا.

قضيتُ وَقتي بين التفكير الكئيب، واحتِساء الشراب، ووضْع خطط بشِعة خلَتْ من أي عقلانية للانتِقام من دِبرا لقتلِها إياي، وتَدميرها عَلاقتي بليل، واستِيلائها على قاعة الرؤساء المُحبَّبة إلى قلبي (وهو ما أدركتُه مُتأخِّرًا على أيِّ حال)، ولِما تُمثِّله من تهديدٍ للقصر المسكون. حتى في حالتي المُشوَّشة هذه كنتُ أعلم أن هذه الأفكار غير بنَّاءة، وظللتُ أعدُ نفسي بأنني سأكُفُّ عنها وسأستحِمُّ وأتناوَلُ بعض المُنبِّهات وأتَّجِه إلى العمل بالقصر.

كنتُ أحاوِلُ تعزيز نشاطي لأتمكن من فِعل هذا، ودخل دان في هذه الأثناء.

قال مصدومًا: «يا إلهي!» أعتقِد أنني كنتُ في حالة مُزرِية؛ إذ كنتُ مُستلقيًا على الأريكة بملابِسي الداخلية نَتِنًا مُترهِّلًا مُحتقِنًا.

«مرحبًا دان. كيف الحال؟»

رمَقَني بإحدى نظرَاته التهكُّمية الساخِرة المميَّزة وراوَدَني نفس شعور تبادُل الأدوار الغريب الذي مرَرْنا به في جامعة تورونتو، حينما اندَمَج حتى صار وكأنه أحد طلَّاب الجامعة وصرتُ أنا الدخيل. كان هو الصديق المُخلِص ذا النظرات الساخِرة وكنتُ أنا الباحِث المُثير للشفَقة الذي دَمَّر كلَّ رأسِ ماله من السُّمعة الطيِّبة. تفحَّصتُ رصيدي من الووفي، بحُكم العادة، وبعد لحظةٍ توقَّفْت عن الانزِعاج من رصيدي المُنخفِض، ليَحلَّ مَحلَّه شعور بالدَّهْشة من حقيقة أنَّني استطعتُ تفحُّصَه أصلًا. لقد عاد اتِّصالي بالشبكة مرة أخرى!

قلتُ وأنا أُحدِّق إلى رصيدي المُحزَّن من الووفي: «الآن، ماذا تعرِف عن ذلك الأمر؟»

ردَّ قائلًا: «ماذا؟»

اتَّصلتُ بقوقعة أذُنه لاصوتيًّا قائلًا: «لقد صارت أنظِمَتي مُتَّصِلة بالشبكة مرَّة أخرى.»

أجاب مُتسائلًا: «هل كنتَ غيرَ مُتَّصِل؟»

قفزتُ من على الأريكة ورقصتُ فرحًا وأنا أرتدي ملابسي الداخلية وأردفتُ قائلًا: «كنتُ، ولكن لم أعُد كذلك.» شعرتُ بتحسُّنٍ كبير عن الأيام الماضية، وكنتُ مُستعدًّا لهزيمة العالم أجمع، أو دِبرا على الأقل.

«دَعْني آخذُ حمَّامًا أولًا، ثم لنذهبْ إلى معامِل المُبتكرين؛ لديَّ فكرة رائعة حقًّا.»

•••

كانتِ الفكرة، كما شرحتُها وأنا في السيارة الصغيرة، هي إعادة تجديدٍ استباقية للقصر. كان تخريب القاعة فِكرة سيئة وغَبيَّة وقد نِلتُ جزائي عنها. لقد كان الهدَف من مجتمع الروعة هو أن يكون له سُمعة أفضل من اللجنة القادِمة، والنجاح عن جَدارة لا بالخِداع، على الرغم من عمليات الاغتِيال وما شابَه.

إنها إعادة التجديد إذن.

أوضحتُ قائلًا: «قديمًا، في بِدايات قصر ديزني لاند بكاليفورنيا، كان يعمل لدى والت ديزني رجل يرتدي سُترةً مُدرَّعة وكان يقِف بعد أول مُنحنًى لعربات المَوت مُباشرة. كان يقفِز ليُفزِع الزوَّار أثناء مُرورهم، ولم يدُم الأمر طويلًا بالطبع. فقد كان ذلك الوغد المِسكين دائمًا ما يتلقَّى اللَّكَمات من الزوَّار المُرتعِبين، كما لم يكن ارتِداء الدِّرْع مُريحًا مع طول مُناوَبات العمل.»

ضحِك دان بإعجاب. كان مُجتمع الروعة قد تخلَّص من أيِّ شكلٍ من أشكال العمل المُكرَّر المُمِل، وما تبقَّى من هذه الأعمال — مثل تقديم الطلبات في الحانة وتنظيف المراحيض — كان يُكسِبك رصيدًا وافرًا من الووفي وحياة مُترَفةً في غير ساعات العمل.

أردفتُ قائلًا: «ولكنَّ هذا الرجل ذا السُّترة المُدرَّعة كان يَستطيع الارتِجال. فكنتَ تُشاهِد عرضًا مُختلفًا قليلًا في كلِّ مرة، وهو ما يُشبِه الحديث المُنمَّق الذي يَسرِده أعضاء طاقم العمل خلال جولة لُعبة مَركِب الغابة. فكلٌّ منهم له أسلوبه ودُعاباته الخاصَّة التي يُلقِيها، وعلى الرغم من أن الدُّمى الآلية المُتحرِّكة ليست جذَّابة كثيرًا، فإن ذلك يجعل العرْضَ يستحقُّ المُشاهَدة.»

سأل دان وهو يهزُّ رأسه: «هل ستملأ القصر بأفرادٍ يرتَدُون الدُّروع؟»

لوَّحتُ مُستنكرًا اعتراضاته، مما تسبَّبَ في انحِراف السيارة عن مَسارها، وهو ما أفزَع مجموعة من الزوَّار كانوا في جولةٍ على دَرَّاجاتٍ مُستأجَرة حول المكان. قلت: «لا.» ولوَّحت مُعتذرًا إلى الزوَّار الذين شحَبوا خَوفًا، وأردفتُ قائلًا: «على الإطلاق. ولكن ماذا لو كان لجميع الدُّمى الآلية المُتحرِّكة عُمَّال تشغيل من البَشر؛ مُشغِّلون يتحكَّمون فيها عن بُعدٍ عن طريق جهازٍ يَعمل بالريموت كنترول؟ سندَعُهم يتفاعَلون مع الزوَّار، ويتحدَّثون معهم، ويُخيفونَهم … سنتخلَّص من الدُّمى الآلية المُتحرِّكة الحالية ونَستعِيض عنها بروبوتات قابلة للتحرُّك بحُريَّة كاملة، ثم نعرِض الأدوار على الشبكة. فَكِّرْ في الووفي! يُمكنك، على سبيل المِثال، تعيين الآلاف من المُشغِّلين عبر الإنترنت في وقتٍ واحد، بواقِع عشر مُناوَبات في اليوم، كلُّ واحدٍ منهم داخل قصرنا … سنمنَح جوائز للأداء الأكثر تَميُّزًا، وستُنظَّم المُناوَبات طبقًا للتصويت الشعبي. عمليًّا، سننجَح في زيادة أعداد زوَّار القصر إلى عشرة آلاف زائر كلَّ يوم، وهؤلاء الزوَّار فقط هم من سيَصيرون عُمَّالًا شرفِيِّين.»

أجاب دان: «هذا جَيِّد بالفِعل ويَتَّفِق مع رؤية مجتمع الروعة. قد يكون لدى دِبرا الذكاء الاصطناعي وتقنية التَّخليق السريع، أما أنت فسيكون لدَيك التفاعُل الإنساني كهديَّةٍ لأشدِّ المُعجَبين بالقصر في العالم …»

قاطعتُه قائلًا: «وهؤلاء هم المُعجَبون أنفسهم الذين سيجِب على دِبرا استمالَتُهم حتى تتمكَّن من الاستيلاء على القصر. شيء رائع للغاية. أليس كذلك؟»

•••

كانت المُهمَّة الأولى هي الاتِّصال بليل، وتصحيح الأمور وتعريفها بالفِكرة. ولكن كانت المُشكلة الوحيدة أنَّ قوقعة أذُني انقطَع اتِّصالها بالشبكة مرَّةً أخرى. وعُدتُ نَكِدَ المِزاج ثانيةً فجعلتُ دان يتَّصِل بها بدلًا منِّي.

قابلْناها في مَجمع المُبتكرين، وهو مَجمَع ضخْم من المباني الجاهِزة المصنوعة من الألومنيوم المَطلِيَّة باللَّون الأخضر، كان يزدَحِم بالمُخترِعين المَجانين منذ دخول مجتمع الروعة إلى عالم ديزني. كان أعضاء اللجنة الذين بَنَوا قِسم التخيُّل الابتكاري بفلوريدا ويُديرون الأمر الآن هم الأقلَّ انخراطًا في السياسة بالمُتنزَّه، كانوا ممَّن يرتدون معاطِف المُختبرات البيضاء ويُمسِكون بألواح الكتابة والأوراق، ولا يُمانِعون في العمل لدى أيِّ شخصٍ ما دامت الأفكار جيدة. وكان عدَم اهتمامهم بالووفي يَعني أنهم قد راكَمُوا الكثير منها.

كانت ليل تعمَل مع سانيب، المعروف أيضًا باسم «مُعجِزة السِّلَع»؛ فقد كان بإمكانه تصميم أي هديةٍ تذكارية وصُنع نماذج أوَّلية لها أسرَع من أيِّ شخصٍ آخر: القُمصان، والمَنحوتات، والأقلام، والدُّمى، والأدوات المَنزلية، كان المَلِكَ في مَجاله. كانا يَتعاوَنان عبر شاشتهما الذهنية؛ إذ كانا يَجلِسان على أحد مَقاعد المُختبَر الطويلة، أحدهما قُبالة الآخر بمُنتصَف المُختبَر، الذي كان في حجم ملعب كرة السلَّة ويَعجُّ بالحُليِّ الرخيصة ذات العلامات التجارية، يُثرثِران في حِين كانت أعينُهما تتراقَصُ عبر شاشاتٍ غير مرئية.

اتَّجَه دان تلقائيًّا ليَنضمَّ إلى مساحة العمل المُشترَك بمُجرَّد دخوله المُختبَر تاركًا إيايَ وحيدًا. من الواضح أن دان كان سعيدًا بما رآه.

وَكزتُه بمرفقي وهمستُ له قائلًا: «اصنع نُسخةً مطبوعة.»

بدلًا من إظهار شفَقتِه عليَّ والرِّثاء لحالي، اكتفى دان بكتابة بِضعة أوامر في الهواء، فبدأتِ الصفحات في الخروج تِباعًا من طابعة موجودة في رُكن المُختبر. كان أيُّ شخصٍ آخر سيُثير جلبةً حول هذا الأمر، ولكنَّه لم يفعل شيئًا سوى دَمْجي في المُناقشة.

لو كنتُ بحاجةٍ إلى دليل يُثبِت أن ليل وأنا مُقَدَّرٌ لنا أن نكون معًا، لكانت التصميمات التي توصَّلَت إليها هي وسانيب كافيةً للغاية. فقد كانت تفكر مِثلي تمامًا: تذكارات تُبرِز الطابع الإنساني للقصر. كانت ثمَّة دُمى آلية مُتحرِّكة مُصغَّرة للأشباح الجوَّالة في صندوقٍ أسودَ خفيف، وكانت هياكلها الآلية الداخلية مكشوفة من خلال طبقات البلاستيك التي تُغطيها، والدُّمى الصغيرة لأبطال الحركة التي كانت تَتواصَل عبر الأشعة تحت الحمراء، بحيث يؤدِّي وَضْع إحداها بالقُرب من الأخرى إلى تشغيل حركاتها المُستَوحاة من أجواء القصر؛ فتنعِق الغِربان، وتُلقي رأس السيدة ليوتا التعاويذ، وتَشرَع التماثيل النِّصفية الغنَّاءة في الغِناء. كما عمِلتْ على تصميم بعض الملابس الرسمية مُستَوحِية زِيَّ أفراد طاقم العمل، ولكن وفقًا لآخِر صَيْحات الموضة لهذا العام.

ما أحاوِل قوله هو إنها كانت سِلَعًا جيدة. كنتُ أرى بعَين خَيالي إعادة افتتاح القصر في غضون ستَّة أشهر وهو يَعجُّ بالأفاتارات الآلية للمَهووسين بالقصر حول العالم، وعربة هدايا السيدة ليوتا مُكدَّسة حتى آخِرها بالغنائم الرائعة، واللاعبين البشريِّين المُتنقِّلين يرتَجِلون مع الزوَّار في منطقة الانتظار …

رفعَت ليل رأسَها خارجةً من حالة التجارب الوسيطة التي كانت تَخوضها، وسدَّدَت إليَّ نظرةً غاضبة وأنا أُمعِنُ النظر في النُّسخة المَطبوعة وأومئ برأسي بِحَماس.

هاجَمتْني سريعًا قائلة: «هل هذا الشَّغَف كافٍ في نظرِك؟»

شعرتُ بالدِّماء تتدفَّق إلى وَجهي وأذُني في مَزيجٍ من الغضب والخَجل، وذكَّرتُ نفسي بأنَّني أكبرُها بأكثرَ من قرنٍ من الزمان؛ ومن ثمَّ كان عليَّ أن أتصرَّف بنُضج، كما أنَّني من بدأ الشِّجار.

قلت: «هذا رائع حقًّا يا ليل.» لم تَلِنْ نظرتُها الحانِقة. «اختيار جيِّد بِحق، لديَّ فِكرة رائعة …» وشرعتُ أسرد كلَّ شيء: الأفاتارات والروبوتات وتجديد القصر، فتوقفَّتْ عن نظراتها الغاضِبة، وبدأت تُدوِّن مُلاحظات وتبتسِم فتظهر غمَّازاتها، وتَتجعَّد عيناها المائلتان عند زواياهما.

قالت أخيرًا: «هذا ليس سهلًا.» أومأ سانيب لاإراديًّا، بعدَ أن كان يَتظاهَر بأدَبٍ بأنه لا يُنصِتُ لي، ودان كذلك.

قلت: «أعلم ذلك.» ازداد وَجهي سُخونة وأكملتُ قائلًا: «تلك هي الفِكرة، فما تفعلُه دِبرا ليس سهلًا كذلك. إنها مُجازَفة خطيرة جعلتْها هي وأتباعَها في حالٍ أفضل، وجعلَتْهم أذكى.» أذكى منَّا بكل تأكيد. «إنهم يستطيعون اتِّخاذ قراراتٍ كهذه بسرعة، وتنفيذها بنفس السرعة. نحتاج إلى أن نتمكن من فعل ذلك أيضًا.»

هل كنتُ حقًّا أؤيِّد السير على خُطى دِبرا؟ لقد انسَلَّت هذه الكلمات من فمي هكذا، ولكنِّني رأيتُ أنني كنتُ على حق؛ لا بُدَّ أن نهزِم دِبرا في مَلعبها وأن نتفوَّق على قُدرات أتباعها.

قالت ليل: «أفهم ما تقول.» استطعتُ الجزْمَ بأنها كانت مُستاءة؛ فقد تحوَّل أسلوب حديثها إلى أسلوب أفراد طاقم العمل. «إنها فكرة جيدة بحق. أعتقد أن لدَينا فرصة جيدة لنُنفِّذها إذا تحدَّثنا مع المجموعة وعرضناها عليهم بعد القيام بالبحث اللازم، ووضع الخُطط، ورسم المسار الحرِج، وطلَب آراء بعضهم عما نفعله بشكل سرِّي.»

شعرتُ أنني أسبَحُ في بركةٍ من العسل الأسود اللَّزِج. فوفقًا للمُعدَّل الذي يسير به أفراد اللجنة المسئولة عن ساحة الحرية، سنعقِد نحن اجتماعات مُراجعة المُتطلَّبات الرسمية في حين يُدمِّر أتباع دِبرا القصر بالفعل من حولنا. لذا جرَّبتُ تكتيكًا آخر.

«لقد شاركتَ في بعض عمليات التجديد والإحلال يا سانيب. أليس كذلك؟»

أومأ سانيب ببطءٍ وارتسمَت على وجهه علامات الحذَر؛ فقد دفعتُ بشخصٍ لا يهتمُّ بالسياسة في نقاشٍ سياسي.

أردفتُ قائلًا: «حسنًا أخبِرني، إذا جِئنا لك بهذه الخُطة وطلَبْنا منك أن تضعَ لها جدولَ إنتاج دُون وقتٍ لأيِّ تنقيح إضافي، فقط تأخذ الفِكرة وتعمَل عليها ثم تُنفِّذها، فكم ستحتاجُ من الوقت لتنفيذها؟»

ابتسمت ليل بوقار، كانت قد تعاملت مع المُبتكِرين من قبل.

أجاب في التوِّ دون تفكير: «حوالي خمسة أعوام.»

صرختُ قائلًا: «خمسة أعوام؟ لماذا خمسة أعوام؟ لقد أصلح أتباع دِبرا القاعة في شهرٍ واحد!»

أجاب: «أوه، مهلًا. دون أيِّ تنقيحٍ على الإطلاق؟»

أجبت: «دُون تنقيح. كلُّ ما عليك هو تحديد أفضل طريقةٍ لفعل هذا وتطبيقها. ويُمكننا نحن أن نُزوِّدك بأيِّ عددٍ من العَمالة الماهرة، بواقِع ثلاثِ مناوباتٍ على مَدار اليوم.»

أدار عَينَيه إلى الوراء وحسَبَ عدد الأيام على أصابعه وهو يُغمغِم في سرِّه. كان طويلًا رفيعًا ذا لبدةٍ من الشَّعْر المُجعَّد الداكن كان يُسوِّيه لا إراديًّا بأصابعه البدينة القصيرة المُدهِشة وهو مُستغرِق في التفكير.

أجاب قائلًا: «حوالي ثمانية أسابيع. في حال عدَم وقوع حوادث، والحصول على الأجزاء الجاهزة المُتاحة في السوق، وتوافر عمالة لا محدودة، وإدارة مُتمكنة، والخامات …» ثم خفَتَ صوته مرة أخرى واهتزَّت أصابعه القصيرة وهو يسحَب شاشة ذِهنية ثم بدأ في إعداد قائمة بالمطلوب.

قالت ليل مُنزعِجة: «انتظر، كيف تختِصر المدَّة من خمس سنوات إلى ثمانية أسابيع؟»

كان دَوري الآن لأرسُم على وَجهي ابتسامةً مُتكلَّفة. لقد رأيتُ كيف يعمل المُبتكِرون حينما يكونون مُستقِلِّين بأنفسهم، فيَبنُون النماذج الأولية ونماذج تصوُّرية بالأحجام الطبيعية؛ كنتُ أعلم أن المأزق الحقيقي في التنقيح المُستمرِّ والمُراجَعات والإجماع المُتأرجِح دَومًا للعقل الجمعي لأعضاء اللجنة المسئولين الذين كلَّفوهم بالعمل.

بدا سانيب مُرتبكًا وقال: «حسنًا، إذا كان كلُّ ما يجِب عليَّ القيام به هو إرضاء نفسي بأن خُطَطي جيدة والمباني الخاصَّة بي لن تنهار، إذن يُمكنني إنجاز المُهمَّة بسرعةٍ هائلة. بالطبع خُططي ليسَت مثالية. أحيانًا أكون قد أنجزَتُ نِصف المشروع حين يظهَر أحدُهم ويقترِح فكرةً أو أسلوبًا يجعلُ كلَّ شيءٍ أفضلَ إلى أبعدِ الحدود. حينئذٍ أعود إلى لَوح الرسم … لذا أقضي وقتًا طويلًا أمام لوح الرَّسم في البداية، وأجمَعُ آراء مُبتكِرين آخرين وأعضاء اللجنة ومجموعات التركيز والشبكة فيما أنجزته، ثم نقوم بالتنقيح والمُراجعة في كل مرحلة من مراحل البناء، ونرى إن كان ثمَّةَ أيُّ شخصٍ لديه فكرة أخرى رائعة لم نفكر فيها وندمجها، وأحيانًا نعيد العمل مرة أخرى من جديد.

إنها عملية بطيئة، ولكنها تنجح.»

كانت ليل مُضطربة: «ولكن إذا كان باستطاعتك أن تصنع نُسخة مُنقَّحة كاملة من العمل في ثمانية أسابيع، فلماذا لا تُكمل تنفيذها ثم تُخطط لعملية تنقيح أخرى وتنفِّذها في ثمانية أسابيع أخرى وهكذا؟ لماذا تحتاج إلى خمس سنوات قبل أن يتمكن أيُّ شخصٍ من ركوب أي لعبة؟»

أجبتُها قائلًا: «لأن هذه هي الطريقة التي يتمُّ بها الأمر، ولكن ليست هذه هي الطريقة التي «يجِب» أن يتمَّ بها الأمر، وهذه هي الطريقة التي سنُنقِذ بها القصر.»

شعرتُ بالثقة تَسري بداخلي، بالمعرفة اليقينية بأنَّني على حق. كانت فكرة اللامركزية رائعة، فكرة يمتاز بها مجتمع الروعة، إلَّا أن المنظومة كانت تحتاج إلى تغيير شامل، وهذا بالضبط ما سيجعلها أكثر تفرُّدًا.

حدَّثتُ ليل وأنا أنظر في عينيها بتمعُّن مُحاولًا أن أنقل إليها وجهة نظري: «لا بُدَّ أن نفعل هذا، إنها فُرصتنا الوحيدة. سنُعيِّن المئات ليأتوا إلى فلوريدا ويُشاركوا في عملية الإحلال والتجديد، سنُتيح الفرصة لكل مُولَع بالقصر على وجه الأرض أن ينضمَّ إلينا، ثم سنُوظِّفهم مرة أخرى للعمل فيه، وتشغيل روبوتات الحضور عن بُعد. سوف نحصل على تأييد أكبر وأعظم جهات التوصية في العالم، وسنبني شيئًا أفضل وأسرع من أيِّ شيءٍ بناه أيُّ فردٍ آخر من أفراد اللجنة دون التخلِّي عن الرؤية الأصلية للمُبتكِرين. سيكون الأمر تجسيدًا يفوق الوصف لمجتمع الروعة.»

خفَضَت ليل عينيها، وكانت هي من تَورَّد وجهُها حماسةً الآن. أخذت تذرَع المكان جَيئةً وذَهابًا ويداها تتأرجَحان إلى جانبيها. كنتُ أُدرك أنها ما زالت غاضبة منِّي، ولكنها كانت مُتحمِّسة وخائفة و — نعم — شغوفة أيضًا.

قالت بعد وقتٍ طويل وهي لا تزال تمشي جَيئةً وذهابًا: «الأمر ليس بيدي، كما تعلَم.» تبادلتُ أنا ودان ابتساماتٍ خبيثة؛ فقد صارت معنا.

أجبتُ قائلًا: «أعلم.» ولكنها كانت، تقريبًا، أحد قادة الرأي الأساسيِّين ضِمن مجموعة اللجنة المسئولة عن ساحة الحرية، وواحدة ممَّن يعرفون الأنظمة عن ظهر قلب، واتخَذوا قراراتٍ جيدة ومعقولة، واحتفَظوا بربَاطة جأشِهم في وقت الأزمات. لم تكن مُتهوِّرة ولا تميل إلى اتخاذ مواقف متطرفة. وهذه الخطة كان من شأنها تدمير تلك السُّمعة ورصيدها من الووفي المُتعلِّق بها في وقت قصير، ولكن بحلول الوقت الذي سيحدُث فيه ذلك، ستكون قد حصلَت بالفعل على رصيدٍ وافرٍ من الووفي، في وجود أعضاء اللجنة الجدد الذين سيكونون أقوى بآلاف المرَّات.

أردفتْ قائلة: «أعني أنَّني لا أستطيع أن أضمن أيَّ شيء. أرغَب في دراسة الخُطط التي سيخرُج بها قسم الخيال الابتكاري والقيام ببعض جَولات المُعاينة التفصيلية …»

بدأتُ في إبداء اعتراضي لأُذكِّرها أن السرعة عامل مِحوري، ولكنها سبقتْني.

قالت: «ولكنَّني لن أفعل، لا بُدَّ أن نتحرَّك سريعًا. أنا معكم.»

لم تلقِ نفسها بين ذراعيَّ، ولم تقبِّلني وتُخبِرني بأنها قد غفرَت لي كلَّ شيء، ولكنها انضمَّت لنا وكان ذلك كافيًا.

•••

عاودَتْ أنظِمتي الاتصال بالشبكة مرةً أخرى في ذلك اليوم، وبصعوبة لاحظتُ ذلك. كنتُ مُنشغلًا للغاية بالقصر الجديد. اللعنة! من أين لهم بهذه الجرأة؟ لم يجرؤ أي شخص منذ افتتاح القصر في كاليفورنيا عام ١٩٦٩ على العبَث به. أوه، بالطبع، كان لنُسخة باريس، (قصر الأشباح)، قصة مُختلِفة قليلًا، ولكنه حظِيَ ببعض التعديلات والتغييرات الطفيفة لإرضاء ذَوق السوق الأوروبية في ذلك الوقت. فلم يرغَب أحد في العبَث بالأسطورة.

ما الذي جعل القصر بهذه الروعة على أيِّ حال؟ لقد زُرتُ عالم ديزني العديد من المرَّات كزائر قبل أن أستقِرَّ فيه، وأصدُقُكم القول، لم يكن القصر هو أكثر ما أُفضِّله على الإطلاق.

ولكنني عندما عدتُ إلى عالم ديزني بشَحمي ولَحمي بعد تجربةٍ أعيتْني ضَجرًا من السفر — واعيًا — من تورونتو لمدة ثلاث ساعات، وجدت نفسي مدفوعًا بقوة الحشود تجاهه.

أنا من أسوأ الأشخاص على الإطلاق الذين يُمكن أن تذهب معهم لزيارة أيٍّ من المُتنزَّهات الكبيرة. فقد كنتُ دائمًا مَهووسًا بالتغلُّب على الحشود منذ كنتُ طفلًا مُشاكسًا أشقُّ طريقي كالأفعى وسط الحشود بمَحطات مترو الأنفاق، وأتسلَّل خِلسة إلى المقعد الخالي الوحيد في عربة مكدَّسة.

في الأيام الأولى لمجتمع الروعة، عرفتُ لاعب بلاك جاك مَهووسًا بِعدِّ الأوراق، وينعَم بِمَوهِبة فِطرية في معرفة احتمالات الفوز. كان مُهندسًا مُتواضِعًا قصيرًا وبدينًا، ومؤسِّسًا مُتواضِع النجاح لشركةٍ ناشئة مُتواضِعة النجاح للتكنولوجيا الفائقة، كانت تعمل على شيءٍ سرِّيٍّ مع وكلاء برامج الكمبيوتر. وعلى الرغم من كونه مُتواضِع النجاح، فقد كان فاحِش الثراء؛ فلم يَجمع سنتًا واحدًا لتمويل شركته التي كان يَمتلِكها بالكامل دون شركاء، حتى باعها في مُقابل تِلالٍ من المال. كان السرُّ وراء ذلك هو طاولات قمار لاس فيجاس الخضراء التي كان يَحُجُّ إليها في كلِّ مرةٍ ينخفِض فيها رصيد حِسابه البنكي، فيعُدُّ الأوراق التي تحمل الصور ويحسِب احتمالات الفوز ويَهزم مُوزِّع الأوراق.

بعد مرور وقتٍ طويل من بيعِه شركة برامج الكمبيوتر التي كان يملِكها، وبعد جمع تكلفة إطلاق مشروعه التجاري، كان يتخفَّى مُرتديًا ثيابًا تَنكُّرية سخيفة، ويذهب إلى نوادي القمار ويفوز بجولة تِلوَ الأخرى فقط ليشعُر بالرِّضا النابِع من هزيمته لمُوزِّع الأوراق؛ فقد كان الأمر بالنسبة له مُجرَّد مكافأة عقلية بحتة ودفْقة من إكسير السعادة تجتاحه في كلِّ مرةٍ كان يخسَر فيها مُوزِّع أوراق اللعب، في حين ينجَح هو في مُضاعَفة الرِّهان على مجموعةٍ كاملة من بطاقات الصور.

على الرغم من أنَّني لم أشترِ طوال حياتي سوى بطاقة يانصيب واحدة، فإنني سرعان ما فهِمتُ هَوَسه؛ فقد كنتُ مِثله مهووسًا ولكن بهزيمة الحشود، بالعثور على الطريق الأقلِّ مُقاومَة، بملء الفراغات، بتخمين أيِّ الطوابير سيكون أقصر، بتفادي الازدِحام المُروري، بتغيير الحارات المُرورية بأقلِّ قدرٍ من الكلام وإن كان همسًا، بالتحرُّك بدقَّةٍ ورشاقة، وقبل كلِّ شيء، بسرعة.

وعند تلك العَودة المشئومة، سجَّلتُ دخولي بأرض مُخيَّم حِصن البرية ونصبتُ خَيمتي وركضتُ نحوَ أرصفة السفن لألحقَ بعبَّارةٍ تُوصِّلني إلى البوابة الرئيسة.

كان الزِّحام قليلًا قبل وصولي إلى البوابة الرئيسة وطوابير قطْع التذاكر. قاومتُ رغبةً أولية في أن أُهرَع نحو أبعد عبَّارة لأفوز على أقراني الراغبين في استقلال العبارات التي، بحُكم القاعدة العامة، سيكون أمامها أقلُّ وقت انتظار، وأخذتُ خطوةً إلى الخلْف وقمتُ بمسحٍ بَصريٍّ سريع للأكشاك العشرين وقيَّمتُ طابور المُتجمهِرين أمام كلٍّ منها. قبل مجتمع الروعة كنتُ أهتمُّ بأعمارهم بشكلٍ أساسي، ولكن ذلك المِقياس لم يعُد كونه مُجرَّد استِشرافٍ أجوفَ لسلوكهم؛ لذا بدلًا من ذلك تفحَّصتُ بدقةٍ أساليب اصطفافهم في الطابور، وثيابهم، والأهمُّ من كلِّ ذلك، ما يَحملونه من أمتعة.

يُمكنك أن تتعرَّف بشكلٍ أفضل على قُدرة الشخص على التعامُل بفاعلية مع تعقيدات ومصاعب الانتظار من خلال ما يَحملونه معهم أكثر من أيِّ وسيلةٍ أخرى؛ فقط لو أن عددًا أكبر من الناس يُدركون ذلك. إن الشخص التقليدي، بالطبع، هو ذلك الذي لا يحمل معه أيَّ شيء: لا حقيبةَ كتِف صغيرة ولا حتى يرتدي شيئًا ذا جيوب أمامية. بالنسبة إلى الأشخاص العاديين، يُمكن اعتبار هذه النوعية من الناس رِهانًا رابحًا في المُعامَلات السريعة، ولكنني قمتُ بدراسة غير رسمية وتوصَّلتُ إلى أن هؤلاء المُتمردِّين الشُّجعان على العادات، غالبًا ما يكونون الأكثر طيشًا؛ فلا يكون أمامهم إلَّا الابتسام بارتباكٍ كالبُلَداء وهم يُفتِّشون جيوبهم عبَثًا بحثًا عن أداةٍ للكتابة، أو شيء يدلُّ على هُويتهم، أو بطاقة الدخول الإلكترونية، أو تميمة على شكل قدَم أرنب، أو مِسبحة، أو شطيرة تونة.

أما بالنسبة لي فلا، وحفاظًا على مالي سأختار النوع الذي أسمِّيه «المهموم بالطريق»، وهو الشخص الذي يحرِص على أن يكون مُزوَّدًا بأربعة أو خمسة أنواعٍ مُختلفة من وسائل حمل الأشياء، بداية من السراويل ذات الجيوب الواسعة الكبيرة والمُنتفِخة، والحقائب العسكرية الصغيرة الذكية التي تُثبَّت بأحزمةٍ على الحقائب الكبيرة التي تعمل بخاصيَّة الإغلاق البيومتري. ولكن ما يجِب الانتِباه إليه هو: إلى أيِّ مدًى تُعتبَر وسائل الحمل والنقل هذه مريحة؛ هل تتَّسِم بالتوازُن الجيد؟ هل هي مُصمَّمة بشكلٍ يجعلها أقلَّ عُرضةً للتداخُل مع غيرها وأسهل في الوصول إليها؟ مثل هذا الشخص الذي أعطى هذا القدْر الكبير من الاهتمام لأنواع الأمتعة المُختلِفة التي يحملها، من المُرجَّح أن يقضي الوقت الذي يُنفِقه في طابور الانتظار في تحديد أيٍّ من الأشياء سيحتاج إلى استخدامها عندما يصِل إلى بدايته، وستجِده يَحملها استعدادًا لتشغيلها في أسرع وقتٍ ممكن.

إنها مُهمَّة صعبة؛ إذ يوجَد العديد من المُدَّعين المُشابهين الحمقى الذين يحزمون كلَّ شيء في حقائبهم؛ لافتِقارهم إلى الذكاء التنظيمي اللازم لتحديد ما ينبغي تحزيمه، فتجِدهم يميلون إلى إثقال كواهِلهم بالحقائب والجيوب والأكياس الإضافية، ولكن الفيصل هو مدى فعالية هذه الأحمال. فهؤلاء الأشخاص الأشبه ببِغال حَمْل الأمتعة سوف يئنُّون تحت أحمالهم الثقيلة، مُنشغِلين بإزاحة هذه الحقيبة وتلك في الوقت نفسه، ورفع نهايات الأحزِمة المفكوكة من على أكتافهم.

استرقتُ السمع إلى أحد الطوابير التي كانت تتألَّف من مجموعةٍ من «المهمومين بالطريق» وكان أطول قليلًا من باقي الطوابير، ولكنَّني انضممتُ إليه وتشنَّجتْ عضلات وَجهي لا إراديًّا بعصبية، وأنا أُلاحِظ وَتيرة تقدُّمي في الصف مُقارَنةً بالأماكن الأخرى التي كان بإمكاني اختيارها. كان كل ما حولي يؤكد صِحَّة اختياري، ويُخبرني أنه فأل حسن لعالَمٍ خالٍ من الانتظار، وكنتُ أتقدَّم نحو الشارع الرئيس، شارع الولايات المُتَّحدة الأمريكية، قبل بقيَّةِ رِفاقي في العبَّارة.

كانت العودة إلى عالم والت ديزني بمثابة عَودةٍ للوَطن بالنسبة لي. كان والداي قد اصطحباني إلى هناك لأول مرَّة حينما كنتُ في العاشرة تمامًا، عندما بدأتِ الإلماعات الأولى لمجتمع الروعة بالتدفُّق شيئًا فشيئًا إلى وَعي جموع الناس: فناء النُّدرة، وموت الموت نفسه، والنِّضال من أجل إعادة تنظيم اقتصادٍ لم يَنمُ إلَّا من خلال التركيز على النُّدرة والموت. ذِكرياتي عن هذه الرحلة مُشوَّشة ولكنها دافئة: طقس فلوريدا المُعتدِل، وبحرٌ من الوجوه الباسِمة يتخلَّلهما لحظات سِحرية مُظلمة أثناء ركوب عربات التنقُّل الخاصَّة بديزني لاند، ومُشاهَدة عرضٍ بعد آخَر من العروض المُجسَّمة ثلاثية الأبعاد.

ذهبتُ مرة أخرى بعد تخرُّجي في المدرسة الثانوية، وأبهَرَني ثراء التفاصيل وعَظمة وفَخامة كل شيء. قضيتُ هناك أسبوعًا كنتُ فيه مَشدوهًا كالأبلَه، على وجهي ابتسامة عريضة، أتجوَّل من مكانٍ لآخر. وعرفتُ أنَّني يومًا ما سآتي للعَيش هناك.

صار المُتنزَّه مِعيارًا أساسيًّا لي، شيئًا ثابتًا في عالمٍ يتغيَّر فيه كلُّ شيء، فصرتُ أعود إليه مرارًا وتكرارًا مُثبِّتًا أقدامي فيه، وأتسامَر مع كلِّ الناس بحميميةٍ ووُد.

تجوَّلتُ في ذلك اليوم من مكانٍ إلى مكان ومن لُعبة إلى أخرى، بحثًا عن الطوابير القصيرة، التي كانت بمثابة المَناطق الهادئة في قلب الإعصار الأكبر من الحشود التي اجتاحَتِ المُتنزَّه عن آخِره. كنتُ أقِف على أيِّ أرضٍ مُرتفِعة، أو على أحد المَقاعد، أو أقفز على أحد الأسوار وأُجري مسحًا بصريًّا لجميع الطوابير المُمتدَّة على مرمى البصر، وأُحاوِل أن أُحدِّد التيَّارات السائدة في سَيل الحشود التي عادةً ما يكون لها وقتُ ذُروة قديم مُتعارف عليه. وأصدُقُكم القول، ربما أكون قد أمضيتُ وَقتًا كبيرًا في البحث عن المناطق الفسيحة، التي يُمكن التجوُّل بها، يُضاهي ما كنتُ سأقضيه في الاصطفاف في الطابور كحَمَل مُطيع، ولكنني كنتُ أحظى بمُتعة أكبر وأمارس المزيد من التمارين الرياضية.

كان القصر المسكون يمرُّ بفترة خَواء كبيرة من الزوَّار؛ فقد مرَّ مَوكِب عرض تَحَطُّم الثلوج المُذهِل عبر ساحة الحرية لِتوِّه في طريقه إلى أرض الخيال يَتبعُه جَحافِل من الزوَّار يرقصون على أنغام موسيقى الراب الياباني ﻟ «فريق سوشي كيه» الكوميدي ويُقلِّدون حركات البطل الشجاع هيرو. وبعد مرور المَوكِب، تحوَّلَت ساحة الحرية إلى مدينة أشباح، واسْتُغِلَّت الفرصة للقيام بخمس جولات مُتتالية سيرًا على الأقدام في القصر.

أخبرتُ ليل أنَّني قد لاحظتُها ثم لاحظتُ القصر، ولكن في الحقيقة كان الأمر معكوسًا.

كنتُ سعيدًا خلال أول جَولَتَين بالصقيع الآتي من مُكيِّف الهواء وبالإحساس اللذيذ لقطرات العرَق وهي تجفُّ على جلدي، إلا أنني في الجولة الثالثة بدأت أُلاحظ كم كان الجوُّ باردًا. كان أعلى أشكال التكنولوجيا تَقدُّمًا في المكان هو جهازٌ لعرْض الأفلام الحلقية، إلَّا أن كلَّ شيء كان مَحبوكًا بدَهاء شديد، حتى إنه أعطى إيحاءً مِثاليًّا بأنه منزل مسكون بحق: كانت الأشباح التي تحوم في قاعة الرقص كأنها أشباح حقيقية، ثلاثية الأبعاد وأثيرية وَطَيفِية. كانت جميع الأشباح التي غَنَّت في العرْض الهزْلي بالمَقبرة مُقنعةً على النحو نفسه وخفيفة الظلِّ بحقٍّ ومُخيفة في الوقت نفسه.

خلال جَولتي الرابعة لاحظتُ التفاصيل: العيون ذات النظرة العدائية المدمجة في نقْش وَرَق الجُدران، والرسوم المُكرَّرة في الحِليات المِعمارية، والثُّريَّات، ومَعرض الصُّور الفوتوغرافية. بدأتُ أفسِّر كلمات أغنية «الأشباح المُبتسِمة المُروِّعة» التي كانت تُردَّد طَوال الجولة سواء عبر الأنغام الشريرة لآلة الأرغُن التي تُكرِّر اللحن الرئيس بشكلٍ مُبالَغ، أو الغناء المرِح للتماثيل النِّصفية الموسيقية الأربعة الموجودة بالمقبرة.

كان لحنًا جذَّابًا أخذتُ أردِّده خلال جَولتي الخامسة، ولكنِّي لاحظتُ هذه المرة مدى قسوة برودَة مُكيِّف الهواء؛ إذ سَرَت نَوبات قَشعريرةٍ غامضة، عبر الغُرَف كلَّما أعلنَتِ الأرواح المُتجوِّلة عن وجودها. وبِمُجرَّد نُزولي في نهاية الجَولة للمرَّة الخامسة، كنتُ أردِّدُ اللَّحن صفيرًا مُضيفًا إليه ارتِجالات لحنِيَّة من موسيقى الجاز بإيقاعٍ مُختلَط.

كان ذلك حين قابلتُ ليل مُصادفة. كانت تحمِل ورقة تغليف آيس كريم فارغة، وكنتُ في ذلك اليوم قد رأيتُ عشراتٍ من أفراد طاقم العمل يَجمعون النفايات على نَحوٍ مُتكرِّر، حتى إنني أيضًا بدأتُ ألتقطها. ابتسمَت لي بخُبثٍ وأنا أترجَّل داخل المُتنزَّه الذي كان يفوح برائحة الأطعمة المَقليَّة ومُبيدات الجراثيم واضعًا يديَّ في جُيوبي وفي رضًا تامٍّ عن نفسي؛ لمُعايَشتي تجربة مُتكاملة لقِطعةٍ فنية مُمتازة بحق.

بادَلتُها الابتسام؛ فقد كان من الطبيعيِّ لواحدةٍ من ملوك الووفي المحظوظين الذين تسنَّى لهم الاعتِناء بهذه القِطعة الترفيهية البديعة أن يُلاحظ كيف كنتُ أستمتِع بشدَّة بما أنجزتُه من عمل.

حدَّثتُها مُبديًا إعجابي بتِلال الووفي العِملاقة التي نَسبتْها إليها شاشتي الذهنية: «إنه تجسيد لمجتمع الروعة حقًّا.»

كانت مُتقمِّصة الشخصية ولم يكن من المُفترَض أن تكون مَرِحة، إلَّا أن أعضاء فريق العمل من جِيلها لا يَسعُهم إلَّا أن يكونوا ودُودِين، فمزَجَت بين السلوك المُتحفِّظ وروحها الحلوة الطبيعية وابتسمَت لي بخُبثٍ وانحنَت انحناءةً قوية على طريقة الزومبي على سبيل التحية وتنهَّدَت قائلة: «شكرًا لك، إننا نُحاوِل بالفِعل أن نجعَله مُفعمًا بالحياة.»

غمغمتُ استحسانًا لجُهدها وبدأتُ ألاحِظ كم كانت لطيفةً تلك الفتاة صغيرة الحجم التي كانت ترتدي زيَّ خادِمة مُتعفِّنًا وتُمسِك بمِنفَضة غبار يتَساقط ريشُها. كانت مُغتسِلةً وفي غاية النظافة وسعيدة بكلِّ شيء، وكانت تشعُّ بكلِّ ذلك، وهو ما جعلني أرغَب في قرْص وَجنتَيْها.

حانت اللحظة لأتحدَّث، فقلت: «متى يَسمحون لكم أيها الغِيلان بالذَّهاب؟ أودُّ اصطحابَك لاحتِساء شراب زومبي أو بلودي ميري.»

قادَنا ذلك إلى مِزاحٍ مُريع ومن ثَمَّ اصطحابها لتَناوُل الشراب بنادي المغامرين وتعرَّفتُ على عمرها خلال هذه الأثناء، وفقدتُ أعصابي وأنا أخبِر نفسي بأنه لا يُمكن أن يكون ثَمَّة أيُّ شيء يقوله أحدُنا للآخَر عبر فجوةٍ زمنية تُساوي قرنًا كاملًا.

وبينما أخبرتُ ليل أنها هي من لفتَتِ انتباهي أوَّلًا قبل القصر، إلَّا أن العكس هو ما كان صحيحًا. ولكن الحقيقة أيضًا — وهو ما لم أُخبِرها به إطلاقًا — أنَّ أكثر ما أحببتُه في القصر هو:

أنه كان المكان الذي قابلتُها فيه.

•••

قضيتُ اليوم أنا ودان نتجوَّل في القصر، نُعِدُّ سيناريوهاتٍ مكتوبة للاعبي الحضور عن بُعد الذين كنَّا نأمَل في ضمِّهم إلى الفريق. كنَّا في مساحةٍ إبداعية بالكامل، وكان الحوار يتدفَّق بسرعة فاقَت قُدرة دان على تدوينه. كان العمل على الأفكار مع دان أروعَ طريقةٍ مُمكنة لتَمضِية الوقت على الإطلاق.

كنتُ مُؤيِّدًا بشدَّة لتَسريب الخُطة على شبكة الإنترنت على الفَور لكسْب قلوب وعقول جمهورنا الأساسي، ولكن ليل رفضَت الفكرة.

كان مُزمَعًا أن تقضي اليَومين المُقبلين في مُناورات سياسية هادئة وسط باقي أفراد اللجنة؛ لكسْب بعض الدَّعم للفكرة، ومن ثَمَّ لم تكن ترغَب في ظهور أيِّ شيءٍ غير لائق قد ينبُع من انضمام غُرَباء مُؤيِّدين للفِكرة قبل انضمام أفراد اللجنة أنفسهم.

كان التحدُّث إلى أفراد اللجنة وإقناعهم مهارةً لم أتقِنها قط. كان دان وليل يُجيدان هذا الأمر، أما أنا فأعتقِد أنَّني كنتُ أنانيًّا مُنغلِقًا على نفسي على نحوٍ مُبالَغ فيه، وهو ما لم يَجعلني أطوِّر مهاراتٍ جيدة كصانعٍ للسلام. حينما كنتُ أصغَر سنًّا، كنتُ أعتقِد أن هذا عائد إلى ذكائي الذي يفوق الجميع، ومن ثَمَّ فليس لديَّ من الصبر ما يكفي لتوضيح الأمور بكلمات مُقتضَبة للأغبياء الذين لم يفهموها بسهولة دون كثيرٍ من الشرح.

وحقيقة الأمر أنني رجل ذكي بما فيه الكفاية، ولكن ليس إلى حدِّ العبقرية، خاصة فيما يتعلق بالناس. ربما كان هذا يُعزى إلى فِكرة «مزاحمة الحشود» وعدَم رؤية الأفراد، بل مُجرَّد الحشد؛ فأنا مَحضُ عدوٍّ للوفاق.

لم أكن لأنجَحَ في الدخول إلى عالم أفراد اللجنة المسئولين عن ساحة الحرية وحدي، لولا ليل التي حقَّقَت لي ذلك قبل وقتٍ طويل من شُروعنا في ممارسة الحب. ظننتُ أنَّ أقرانها سيَصيرون أفضل حُلفائي في عملية الانضمام، ولكنهم كانوا مُنهَكين تمامًا وأكثر استعدادًا للُّجوء إلى النوم الطويل من أن يُعيروا اهتمامًا كبيرًا لوافدٍ جديد مثلي.

أخذتْني ليل تحت جَناحها، وصارت تدعوني إلى الحفَلات التي يُقيمونها بعد العمل وتُقدِّمني إلى أصدقائها المُقرَّبين، وتُوزِّع نُسخًا من أطروحتي في كتمان. وكانت تفعل العكس أيضًا؛ فكانت تُطري على فضائل الآخَرين ممَّن كنتُ أقابلهم بصدقٍ حتى لمستُ فيهم ما يَستوجِب الاحترام، ومن ثَمَّ لم يَسعني إلَّا أن أعامِلَهم كأشخاصٍ مُتفرِّدين.

خلال السنوات التالية، فقدتُ هذا الاحترام وصرتُ أمضي الوقت مع ليل في مُعظَم الأحيان، ثم مع دان بمجرَّدِ وُصوله، ومع أصدقاء الإنترنت في جميع أنحاء العالم. كان أفراد اللجنة الذين كنتُ أعمل معهم طَوال اليوم يُعاملونني بالدرجة العادية من اللياقة، ولكن دون كثيرٍ من الود.

أعتقد أنني عاملتُهم بالمثل. حينما كنتُ أتصوَّرهم في ذهني، كنتُ أراهم بلا وجوه، مجرَّد حشدٍ من أشخاص عُدوانِيِّين سلبِيِّين علَقُوا في ذلك العالم الجامد القائم على بِناء الإجماع حتى لم يعُد بمقدورهم القيام بأي شيء.

انغمستُ أنا ودان في الأمر تمامًا، وأخذنا نتصيَّد مَواقِع الإنترنت للحصول على قوائم بعناوين المهووسين بالقصر في أركان العالم الأربعة، واضِعين إيَّاها في جدول بيانات يُقابِلها مناطقهم الزمنية وطبائعهم، وبالطبع رصيدهم من الووفي.

«هذا غريب»، هكذا قلتُ وأنا أنظر إلى أعلى من محطة الإرسال عتيقة الطراز التي كنتُ أستخدمها؛ إذ عادت أنظمتي غير مُتَّصِلة بالإنترنت مرة أخرى. كانت تتأرْجَح صعودًا وهبوطًا منذ يومين للآن، وظللتُ أنوي الذَّهاب إلى الطبيب، ولكن لم تتسنَّ لي الفرصة لذلك. كان ثمَّةَ شعور مُلحُّ يَجتاحُني على نحوٍ دَوري عندما كنتُ أتذكر أن هذا يعني أن تحديث نُسختي الاحتياطية قد انتهت مُدَّته، ولكن القصر كانت له الأولوية دائمًا.

قال دان: «ماذا؟»

نقرتُ على شاشة العرض قائلًا: «أترى هذه الأشياء؟» كان أحد مواقع المُعجبين يعرِض صورًا مُتحرِّكة مُتداخلة ثلاثية الأبعاد لعناصر مُختلِفة من القصر، وهو ما كان جزءًا من مشروعٍ تعاوني عِملاق ظلَّ قائمًا على مدار عقود يهدف إلى بناء عرضٍ تفصيلي ثلاثي الأبعاد لكل بوصة من المُتنزَّه. وقد استخدمتُها لبناء نموذجي التجريبي لمُحاكاة جولات الطيران الافتراضية.

قال دان: «إنهم رائعون حقًّا. لا بُدَّ أن هذا الشخص بارع للغاية.» قام مُصمِّم هذه الصور المتداخلة بتصميم وترتيب وتحريك كلِّ شَبَح موجود في مَشهد قاعة الرقص ببراعةٍ وأكمَلَها بإضافة الكينيماتيكا اللازمة لتحقيق الحركة الكاملة. كان أي فنان من المُعجبين «العاديين» سيستخدم مكتبة كينيماتيكا بشرية قياسية لتحريك الأشكال، أما هذا الشخص فقد كَتَبَها بنفسه من الألف إلى الياء لتتحرَّك الأشباح بانسيابٍ طَيْفي لا يَمتُّ للبشر بِصِلة.

سألَنِي دان: «من هو المُصمِّم؟ هل هو موجود على قائمتنا؟»

انتقلتُ إلى أسفلَ لعرض أسماء المُساهِمين، فشهَقَ دان قائلًا: «تبًّا لي!»

كان المُصمِّم هو تيم، صديق دِبرا القِزم، وقد قدَّم هذه التصميمات قبل أسبوعٍ واحد من اغتيالي.

سألتُ دان على الرغم من وجود بعض الأفكار الخاصَّة بشأن هذا الموضوع لدي: «ماذا يَعني ذلك في اعتقادك؟»

قال دان: «إن تيم من المُولَعين بالقصر. كنتُ أعرف ذلك.»

«كنتَ تعرِف؟»

بدا دِفاعيًّا قليلًا. «بالتأكيد، لقد أخبرتُك من قبل حينما جعلتَنِي أتسكع مع عصابة دِبرا.»

هل طلبتُ منه التسكع مع دِبرا؟ ما أتذكره أنَّ ذلك كان اقتِراحه هو. الأمر مُعقَّد على نحوٍ يستحيل التفكير فيه.

سألته: «ولكن ماذا يعني ذلك يا دان؟ هل هو حليف؟ هل عَلينا أن نُحاوِل تَجنيده؟ أم أنه هو من أقنع دِبرا بضرورة الاستيلاء على القصر؟»

هزَّ دان رأسه قائلًا: «لستُ متأكدًا أصلًا من أنها ترغَب في الاستيلاء على القصر. أنا أعرف دِبرا، كل ما تريده هو تحويل الأفكار إلى أشياء مادية بأقصى سرعة ووفرة ممكنة، إنها تتخيَّر مشروعاتها بحِرص. إنها مُولَعة باقتناء الأشياء بالطبع، ولكنها حذِرة أيضًا. لقد كانت لديها فكرة رائعة لقاعة الرؤساء، فتَوَلَّتْها بالتَّبَعية. ولم أسمعْها تتحدَّث عن القصر أبدًا.»

«بالطبع لم تسمَعْها. إنها حَذِرة. هل سمعتَها تتحدَّث عن قاعة الرؤساء؟»

تلعْثَمَ دان قائلًا: «ليس تمامًا … أعني، لم تَقُل الكثير، ولكن …»

قاطعته قائلًا: «لكن لا شيء. إنها تسعى وراء القصر، وراء المملكة السحرية، وراء المُتنزَّه. إنها في طريقها نحوَ السيطرة، تبًّا لذلك! ويبدو أنني الوحيد الذي لاحظ هذا الأمر.»

•••

اعترفتُ ﻟ «ليل» بما أصاب أنظِمتي في تلك الليلة، ونحن نتشاجر. فقد أصبح الشِّجار هو وَسيلتنا المُعتادة لتَمضِية المساء، أما دان فقد فضَّل الذهاب للنوم في أحد الفنادق الكائنة بالمكان على أن يتحمَّل شِجارنا.

كنتُ أنا من بدأ الأمر بالطبع. قلتُ وأنا أُلقي بنفسي على الأريكة بعُنف وأركل طاولة القهوة المخدوشة «سَوف نُقتَل إذا لم نُسرِع ونبدأ في عملية التجديد.» وفي الأثناء سمعتُ الهستيريا واللامنطق في صوتي وهو ما أغضبَني أكثر. كنتُ مُحبَطًا من عدَم قُدرتي على تفقُّد سانيب ودان، وكالعادة، كان الوقت مُتأخِّرًا جدًّا للاتصال بأيٍّ منهما والقيام بأي شيء حيال هذا الأمر. وبِحلول الصباح كنتُ قد نَسيتُ مرة أخرى.

صاحَت ليل من المطبخ قائلة: «أنا أفعل ما أستطيع يا جولز. إذا كانت لديك طريقة أخرى أفضل، فأودُّ مَعرفتها.»

«أوه، سُحقًا! أنا أفعل كلَّ ما في وُسعي وأخطط للأمر. أنا مُستعدٌّ للذَّهاب. لقد كانت مُهمَّتك أن تُعِدِّي أفراد اللجنة للأمر، ولكنك لا تتوقَّفِين عن إخباري بأنهم غير مُستعدِّين، متى سيصيرون مُستعِدِّين؟»

«يا إلهي! يا لك من مُتذمِّر!»

«لن أتذمَّر فقط إذا قُمتِ بهذا الأمر. ماذا تفعلين طوال اليوم على أية حال؟ تعملين بمناوبات مُختلِفة في القصر؟ تُعيدين ترتيب المقاعد على سفينة مُغامرة تيتانيك العظيمة؟»

«إنني أعمل بأقصى جُهدي، لقد تحدَّثتُ مع كل واحدٍ منهم مرَّتَين على الأقلِّ خلال هذا الأسبوع عن الأمر.»

صحتُ في المطبخ قائلًا: «بالطبع، بالطبع فعلت.»

«لا تَثِق بكلامي إذن دون تحقُّق. تَفحَّص سجِلَّات هاتفي.»

وقفَتْ مُنتظِرة.

«حسنًا؟ هيا تفحَّصْها!»

قلتُ وأنا خائفٌ ممَّا قد يُفضِي إليه هذا: «سأتفحَّصُها لاحقًا.»

قالت وهي تدخل إلى الغرفة مُستشيطةً غضبًا: «أوه، لا لن تفعل. لا يُمكنك أن تنعَتَني بالكاذبة ثم ترفُض أن ترى الدليل.» وضعَتْ يدَها بقوَّةٍ على رِدْفَيها الرَّشيقين الصغيرين ورمَقَتْني بنظرةٍ غاضبة. واستحال لونُها إلى الشُّحوب حتى إنَّني تمكنتُ من إحصاء النَّمَش على وَجهِها، ورقَبَتِها، وتَرقُوَتِها والبروز الخفيف على جانبي شقِّ الثديَين، الذي كان يَظهَر من القميص القديم ذي الرَّقَبة المُثلَّثة، الذي كنتُ قد أعطيتُها إياه في رحلةٍ لمُدَّة يومٍ واحد إلى مدينة ناساو.

سألتني: «وبعد؟» كانت تبدو على استعدادٍ لكسْر عُنُقي.

اعترفتُ مُتلافِيًا النَّظر إلى عَينيها: «لا أستطيع.»

«بل يُمكِنك، ها هي ذا، سأضعُها في دليلِك العام.»

تحوَّلَ تعبير وَجهها إلى الارتِباك حينما فشِلتْ في إيجادي على شبَكتها وقالت: «ما الذي يحدُث؟»

أخبرتُها بالأمر. كنتُ غير مُتصلٍ، منبوذًا ومعطلًا.

«حسنًا، لماذا لم تذهَب لرؤية الطبيب؟ أعني، لقد مرَّت أسابيع. سأتَّصِل به الآن.»

أجبتُ قائلًا: «انسَي الأمر، سأذهبُ لأراه غدًا، لا داعِيَ لأنْ نُقلِق مَنامه.»

ولكنني لم أره في اليوم التالي ولا اليوم الذي يليه. كان هناك الكثير لأفعله، وفي المرَّات التي كنتُ أتذكَّر فيها أن أتَّصِل بأحدهم، كنتُ إما بعيدًا جدًّا عن المحطات العامَّة أو كان الوقت مُبكرًا أو مُتأخِّرًا للغاية. عادتْ أنظِمتي للاتِّصال بالشبكة بضع مرات، وكنتُ غارقًا حتى أذني بالخُطط المتعلقة بالقصر، وصارت ليل مُعتادة على المُسوَّدات الورقية المُبعثرة في أرجاء المنزل وطباعة مُلاحظاتها على تصميماتي ووضعِها على مقعدي المفضل، والعَيش كما عاش أهلُ الكهف في عصر المعلومات، مُحاطين بالأشجار المَيِّتة والساعات الدقَّاقة.

ساعدَني عدَم اتِّصالي بالشبكة على التركيز. ليس «التركيز» هي الكلمة المُناسبة لوَصْف حالي، بل الهوَس. كنتُ أجلس أمام المحطة التي جلبتُها معي إلى المنزل طوال اليوم، كل يوم، أضع الخطط بجنون وأُملي البريد الصوتي. كان على كلِّ من يرغَب في التحدُّث معي أن يأتي إلى المنزل مباشرة.

صرتُ غارقًا في العمل حتى لم يعُد لديَّ وقت للتشاجُر، وعاد دان إلى المنزل مرة أخرى، ثم حان دَوري الآن للانتقال للإقامة بغُرَف الفنادق حتى لا يقضَّ صوت لَوحة مفاتيحي الصاخِب ليالِيَه. كان هو وليل يُديران حملةً بِدوامٍ كامل لإقناع أفراد اللجنة بالانضِمام إلى قَضيتنا، وبدأتُ أشعر بأننا صِرنا أخيرًا مُتناغمين وأننا على وشْك الوصول إلى هدفنا.

ذهبتُ إلى المنزل في عصر أحد الأيام مُمسكًا حزمةً من الأوراق، ودخلتُ مُسرعًا إلى غُرفة المَعيشة وأنا أثرثر بسرعةٍ شديدة حول شائبةٍ شابت خُطَّتي الأساسية من شأنها أن تُضيف جولةَ تَفَحُّصٍ سيرًا على الأقدام ثالثة إلى جَولات اللعبة، وهو ما يعني زيادة عدد روبوتات الاتِّصال المرئي عن بُعد، التي يُمكِنُنا استِخدامها دون تقليل الإنتاجية.

كنتُ في خِضَمِّ ثَرثَرَتي حينما عادت أنظمتي للاتِّصال بالشبكة فظهر الحديث العام الذي كان يدور في الغُرفة على شاشتي الذهنية.

ثُمَّ سأُمزِّق كلَّ جُزءٍ صغيرٍ من ملابِسكَ وأضاجِعُك.

وماذا بعدَ ذلك؟

سأُضاجِعُكَ حتى لا تَقوى على السَّيْر.

يا إلهي يا ليل! تَبدِين كراعِيةِ بقَرٍ مَمشوقةِ القَوام.

أغلَقتُ عيني وأُغلِق معها كلُّ شيءٍ فيما عدا الحُروف المُضيئة.

تلاشَتْ سريعًا، وفتحتُ عيني مرَّةً أخرى ونظرتُ إلى ليل التي بدَت مُشوَّشةً وعلى وَجهِها حُمرة خَجَل، فيما بدا دان خائفًا.

سألتُ بهدوء: «ما الذي يحدُث يا دان؟» دقَّ قلبي في صدري بِعُنف، على الرَّغم من شُعوري بالهدوء واللامُبالاة.

همَّ دان بالحديث: «جولز»، ثُمَّ سُرعان ما استسلَم ونَظَر إلى ليل.

فهمَتْ ليل في ذلك الحين أنَّني عدتُ للاتِّصال بالشبَكة وأنَّني اكتشفتُ رسائلهما السرِّية.

قلت: «هل تَستمتِعين يا ليل؟»

هزَّت ليل رأسها ورَمَقَتْني بنظرةٍ غاضبة وقالت: «فقط اذهَب يا جولز، سأُرسِل أغراضَك إلى الفُندق.»

«تُريدينَني أن أذهب. أليسَ كذلك؟ لتُضاجِعيه حتى لا يقوى على السير؟»

«هذا منزلي يا جوليوس، وأطلُبُ منك أن تَترُكه. سأراك في العمل غدًا، لدَينا اجتماع عام لأعضاء اللجنة للتصويت على التجديد.»

كان منزلها.

هم دان قائلًا: «ليل، جوليوس …»

قاطعَتْه ليل قائلة: «هذا أمر بَيني وبينه، لا تتدخَّل فيه.»

أسقطتُ أوراقي، أردتُ أن أرمِيَها، ولكنني أسقطتُها فارتطَمَتْ مُحدِثة صوتًا مكتومًا ثم استدرتُ وخرجتُ من المنزل غيرَ عابئ بإغلاق الباب خَلْفي.

•••

قَدُمَ دان إلى الفندق بَعدي بعشرِ دقائق وطرَقَ بابي بعُنف. كنتُ فاقدًا للإحساس تمامًا حينما فتحتُ له الباب. كان يَحمِل زجاجة تكيلا — الزجاجة الخاصَّة بي — جلبَها من المنزل الذي كنتُ أتَشارَكُه مع ليل.

جلَسَ على السرير وأخذ يُحدِّق إلى ورَق الحائط المطبوع عليه شِعار. أخذتُ الزُّجاجة منه وجلبتُ كُوبَين من الحمَّام وسكبتُ الشراب.

قال: «إنه خَطئي.»

قلت: «أنا مُتأكدٌ أنه كذلك.»

«اعتدْنا احتِساء الشَّراب قبل بِضع ليالٍ؛ كانت غاضبة جدًّا. لَمْ تَرَك منذ أيام، وعندما رأتْكَ أثَرْتَ حنَقَها. لم تَجِد منك إلَّا صِياحًا، وشِجارًا وإهانة.»

أجبتُ قائلًا: «ولذا قرَّرْتَ أن تُضاجِعَها.»

هزَّ رأسَه ثُمَّ أومأ واحتَسى رشفةً من الشراب وقال: «نعم، لقد فعلت. لقد مَرَّ وقتٌ طويل منذ أن …»

قاطعتُه قائلًا: «لقد مارَسْتَ الجِنس مع حَبيبتي في مَنزلي وأنا بالعمل.»

«جولز، أنا آسِف. لقد فعلتُ ذلك ولم أتوقَّف عن فعله، أنا لستُ بصديقٍ لأيٍّ منكما.

إنها مُحطَّمة تمامًا. لقد أرادَتْ مِنِّي أن آتي إليك هنا وأُخبِرَك أنَّ هذا كلَّه مُجرَّد خطأ وأنك مريض بالشكِّ فحسب.»

جلسْنا صامِتَين لوقتٍ طويل. ملأتُ كوبه ثانيةً ثم ملأتُ كوبي.

أردف قائلًا: «لم أستطِع فعل ذلك. أنا قلقٌ بشأنك، لستَ على ما يُرام منذ شهور. لا أعلَمُ ما الأمر، ولكن يَجِب أن تذهبَ إلى طبيب.»

فقدتُ أعصابي وصِحتُ قائلًا: «لا أحتاج إلى طبيب.» أذاب الشَّراب شُعوري بفُقدان الإحساس ولم يترُك داخلي إلَّا الغضب المُتأجِّج والمرارة، رفيقيَّ الدائمين. «أحتاج إلى صديقٍ لا يُضاجِع حبيبتي بمُجرَّد أن أدير ظهري.»

ألقيتُ بكوبي في الجِدار فارتدَّ تاركًا بُقَعًا من التكيلا على وَرقِ الحائط وتدحرَج أسفل السرير. جفَل دان ولكنَّه ظلَّ جالسًا، لو كان نَهَض من مكانه لضربتُه. إنه يُجيد التصرُّف في الأزمات.

ردَّ قائلًا: «إذا كان فيما سأقول أيُّ عزاء، فأنا أتوقَّع أن أموت في القريب العاجِل.» ابتسم لي ابتسامةً ساخِرة وأردف قائلًا: «إن رصيدي من الووفي جيِّدٌ ومن المُتوقَّع أن ترفَعَه مسألة إعادة التجديد هذه إلى أعلى المُستويات، وحينئذٍ سأكون مُستعِدًّا للرحيل.»

أوقفني ذلك، لقد تمكنتُ بشكلٍ من الأشكال من نِسيان أن دان، صديقي العزيز، كان سيَقتُل نفسه.

قلتُ وأنا أجلِس إلى جانِبه: «ستفعَلُها.» كان التفكير في الأمر مُوجِعًا. لقد كنتُ أحبُّ هذا الوغد حقًّا. لعلَّهُ كان أعزَّ أصدقائي.

كان هناك طرْق على الباب. فتحتُه دون التحقُّق من الطارق عبر العَين السحرية. كانت ليل.

كانت تبدو أصغرَ سِنًّا من أيِّ وقتٍ مضى، صغيرة سنًّا وحجمًا وبائسة. كنتُ على وشْك التلفُّظ بمُلاحَظة ساخرة ولكنَّها ماتت في حلْقي قبل أن تخرُج. كنتُ أرغَب في ضمِّها.

تجاوَزَتْني واتَّجَهَت نحوَ دان الذي تملَّص من مُعانَقتِها.

«لا»، هكذا قال. ونَهض ثُمَّ جلس على حافَةِ النافذة مُحدِّقًا بالأسفل في بُحيرة البحار السبعة.

تحدَّثتُ قائلًا: «كان دان يَشرَح لي لِتوِّه أنه يُخطِّط للمَوت في غضون بضعة أشهر. سيُفسِد ذلك الخُطط الطويلة المدى يا ليل. أليس كذلك؟»

انسابَتِ الدُّموع على وجهها وبدَت تتقَوقَع على نفسها، وقالت: «سآخُذ كلَّ ما أستطيع الحصول عليه.»

اختنقتُ شاعرًا بغُصَّةٍ من البؤس وأدركتُ أن فُقدان دان، وليس ليل، هو ما يُحزِنُني أكثر من أيِّ شيء.

أخذَتْ ليل يدَ دان واصطحَبَتْه خارج الغُرفة.

أعتقِد أني سآخُذ كلَّ ما أستطيع الحصول عليه أيضًا، هكذا فكَّرْت.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤