الفصل السادس

بينما كنتُ مُستلقِيًا على سريري بالفندق، مأخوذًا بمُشاهَدة الدَّورات الكسولة لمروحة السقف، تأملتُ احتمالية أنَّني قد أكون مجنونًا.

لم يكن هذا الأمر غير مألوف، حتى في زَمن مجتمع الروعة، وعلى الرغم من وجود عِلاجات، فلم تكن لطيفة.

كنتُ مُتزوِّجًا في يومٍ من الأيام بامرأةٍ مجنونة. كان كِلانا في السَّبعين من العمر تقريبًا، ولم أكن أعيش لأجل أي شيء إلا المرَح. كان اسمها زُويا وكنتُ أدعوها زِدْ.

تقابلْنا في الفضاء، حين ذهبتُ إلى هناك لأرى المشاهير من السَّاعين وراء المُتعة الذين يعيشون في الفضاء الخارجي. لا تُوجَد مُتعة كبيرة في الثَّمالة حتى الترنُّح عند درجة واحد من مِقياس الجاذبية، أما عند دَرَجة عشرة إلى سالِب ثمانية فالأمر يَصير في غاية المُتعة. فأنت لا تترنَّح بل تقِفز، وحينما تقفِز داخل كُرة سماوية تعجُّ بآخَرين من السُّعداء الصاخِبين الذين يقفِزون عُراة تصير المُتعة مُضاعَفة.

كنتُ أقفِز داخل كرة شفَّافة قُطرها مِيل ومليئة بكرات أصغر حجمًا يمكن أن يحصل فيها المرء على العديد من الأفكار الجيدة لاختراعات مجنونة وقاتلة. كانت الآلات الموسيقية مُبعثَرة على أرضية الكرة، وإذا كنتَ تجيد العزْف على إحداها، كان يُمكنك أن تأخذ واحدة وتربطها بك وتبدأ في العزف، في حين يلتقط الآخرون جيتاراتهم الإلكترونية ويُصاحبونك العزف. كانت الإيقاعات تتفاوَت، فمنها ما كان رائعًا ومنها ما كان مُروِّعًا، إلَّا أنها جميعًا كانت مُفعَمةً بالحيوية دائمًا.

كنتُ أعمل على تأليف سيمفونيتي الثالثة على نحوٍ غير مُنتظم، وكلما ظننتُ أنني تمكنتُ من تأليف جزءٍ جيِّدٍ قضيتُ بعض الوقت داخل الكرة في عَزْفِه. أحيانًا كان الغُرباء الذين يُصاحبونني في العزف يَمنحونني أفكارًا لألحانٍ جديدة ومُبتَكرة وكان ذلك جيدًا. وحتى حينما لا يفعلون، كان مُجرَّد العَزف على أيِّ آلةٍ موسيقية وسيلةً سريعة لإثارة فضول أحدِ الغُرَباء العارين المُثيرين للاهتمام.

وهكذا التقَينا. التقطَتْ إحدى آلات البيانو وأخذَتْ تعزِف بعُنف ألحانًا بأحدِ أساليب موسيقى الجاز مُستخدِمة زمنًا موسيقيًّا غير مُعتادٍ في حين لعبتُ أنا اللحن الأساسي للقِطعة الموسيقية على آلة التشيلو. كان الأمر مُزعِجًا في البداية، ولكن بعد فترةٍ قصيرة بدأتُ أفهم ما كانت تفعله بموسيقاي شيئًا فشيئًا، وقد كان جيدًا حقًّا؛ فأنا مُولَع بالموسيقيين.

أنهينا جلسة العزْف نهايةً صاخبة وأنا أعزف على الكمان بجنونٍ وقد تجمَّعَت قطرات العرَق كحبَّات عِقدٍ على جسدي، ثم طُفْتُ في الهواء برشاقةٍ وتوجَّهتُ نحو أجهزة إعادة تدوير المياه، وكانت هي تضرِب بعُنفٍ على أصابع البيانو الثمانية والثمانين وكأنَّهم الجُناة المسئولون عن قَتلِ حبيبها.

انهرتُ تمامًا عندما اخترَقَت آخرُ نغمة موسيقية الفُقَّاعة بقوَّة. وتوقَّف الأفراد والعُشَّاق والمجموعات في مُنتصَف جِماعهم الطائر ليُصفِّقوا. فانحنَتْ وتحلَّلَت مِن الحِبال التي كانت تَربِطها بالبيانو وتوجَّهَت نحوَ الكوَّة.

لففتُ ساقيَّ لأعلى وانطلقتُ مُسرِعًا عبر الكُرة مُحاولًا باستماتةٍ الوصولَ إلى الكوَّة قبلَها، وأمسكتُ بها قبل أن تُغادِر.

«مرحبًا! كان هذا رائعًا! أنا جوليوس! كيف حالك؟»

مدَّت كِلتا يدَيها واعتصرَتْ أنفي وقَضيبي في الوقت نفسه. لم تفعَلْ ذلك بعُنفٍ بالطبع، بل على نحوٍ دُعابي وقالت: «بيب!» ثُمَّ شقَّتْ طريقها للخروج من الكوَّة مُتمَعِّجَة، في حين حدَّقتُ فاغرًا فِيَّ وأنا في حالةٍ من الاستِثارة الحِسِّية.

لاحقتُها وهي تَتشقلَبُ عبر مِكبح المحطة نحوَ الجاذبية وناديتُ قائلًا: «انتظري.»

كان لها جَسدُ عازِفة بيانو: ذِراعان مُعادٌ تَصميمُهما، ويَدان تَتمدَّدان لأطوالٍ لا معقولة، وكانت تَستخدِمُهما برشاقةٍ فضائية وتدَفَع نفسها وَثبًا إلى الأمام بسرعة. تعثَّرتُ في طريقي وأنا أتْبَعُها قدْرَ ما أستطيع على ساقيَّ الفضائيَّتَين المُبتدئَتَين، ولكنها كانت قد ذهبت لحظةَ وُصولي لحافَةِ المحطة التي تُساوي قوة جاذِبِيَّتِها نِصفَ وحدةِ جاذبية.

لم أجِدْها مرَّةً أخرى حتى انتهائي من الجُزء التالي من السيمفونية حين ذهبتُ إلى الفقاعة لعزفِها على آلة الأوبوا. كنتُ لا أزال أقوم بالإحماء والاستعداد حينما مرَّتْ من خلال الكوَّة وربطَت نفسها بالبيانو.

ثبَّتُّ آلة الأوبوا هذه المرة تحت ذِراعي وانطلقتُ تِجاهها مُسرِعًا قبل ترطيب ريشة الأوبوا والبدء في العزف. حُمتُ فوق البيانو ونظرتُ في عينَيها مُباشرة ونحن نعزِف. كان مِزاجها ذلك اليوم يَميل إلى استِخدام الزمن الموسيقي ٤/٤ والتآلُف الموسيقي المؤلَّف من القرار (النغمة الأولى من السلم) والنغمة الرابعة والنغمة الخامسة التامَّة وهو ما أضفى جوًّا من التنوُّع ما بين موسيقى البلوز والروك والفولكلورية، عابِثةً بحدود ألحاني الخاصَّة. تَبارَيْنا في الارتِجال وكانت جوانب عَينَيها تتجعَّد على نحوٍ ساحِرٍ كلَّما تمكَّنْتُ من التعامُل جيدًا مع جُزءٍ صغير من هذا التنوُّع الموسيقي العبقري.

كانت مُسطَّحة الصَّدْر تمامًا تقريبًا يُغطِّي جسَدَها فِراء أحمر ناعِم وأنيق مثل السِّنجاب. كانت تبدو كالرَّحالة، وهو ما ناسَبَ حياة الفضاء الناعِمة ذات المناخ المحكوم. بعد خمسين عامًا، كنتُ أُواعِد ليل، فتاة صَهْباء أخرى، إلَّا أنَّ زِد كانت مَعشوقَتي الأولى.

ظلَلتُ أعزِف وأعزِف مَفتونًا برشاقة حَرَكاتها على البيانو وبتَقْطيبات التركيز المُضحكة التي ارتسمت على وجهها عند التقاط جُملة موسيقية متكررة ذات إثارة خاصة. وكنت حينما أشعر بالتعب، أعزف قطعة موسيقية انتقالية بطيئة أو أتركها تعزف مُنفرِدة. وكنتُ أنوي أن أفعل ذلك لأطول وقتٍ ممكن، وفي هذه الأثناء كنتُ أتحرَّك بخفَّةٍ بينها وبين الكوة.

حينما عزفتُ آخِرَ لحن، كان الإنهاك يَعتصِرُني كمِنشَفَةِ وجه، ولكنني استجمعتُ قواي وانطلقتُ نحو الكوة ووقفتُ أمامها لأُغلِقَها وأمنَعَها من الخروج؛ ففكَّتْ أربطَتَها بهدوءٍ وسبَحَت نَحوي.

نظرتُ في عينَيها الفِضيَّتَين المائلتين اللتين تَبدوان كعيون القطط؛ العينين اللتين كنتُ أُحدِّق إليهما طوال المساء وأُراقِب الابتسامة التي وُلِدت في رُكنَيْهما وامتدَّت إلى أصابع قدَمَيها الطويلة الرشيقة. نظرَتْ لي بدَورها ثم أمسكتْ بمِفصَلي مرَّة أخرى بطول ذِراعيها.

قالت: «لا بأس بك.» ثُمَّ قادَتْني إلى غُرفة نَومها التي تَقَع قُبالة المحطة.

لم نَنَمْ.

•••

كانت زُويا من أوائل مُهندِسي الشبكات المسئولين عن المجموعات النَّجمية ذات النطاق العريض والمدار الجُغرافي المُتزامِن مع الأرض التي كانت في طريقها إلى الصعود عبر أطراف مَطلَع العالم نحوَ عالم الروعة. تعرَّضَت إلى العديد من الطاقات الإشعاعية الشديدة ودرجات الجاذبية المنخفضة حتى أصبحَتْ إنسانًا بعدَ بَشريٍّ بمرور الوقت، وأدخلَتْ تحديثات من خلال إضافة مجموعة مُذهلة من التعزيزات الخارجية: ذيل لاوظيفي، عينين تستطيعان الرؤية عبر مُعظَم أطياف التردُّدات اللاسلكية، ذِراعَيها، فِرائها، ومفاصل رُكبةٍ قابلة للانعِكاس والالتِواء، وعمود فقري آلي تمامًا غير عُرضةٍ لأيٍّ من الأمراض السخيفة التي تُصيب بَقيَّتنا، مثل آلام أسفل الظهر، والتهابات الكتِف، وعِرق النَّسا والانزلاقات الغضروفية.

كنتُ أعتقد أنني أعيش لأجل المُتعة، ولكني لم أكن أعرِف أيَّ شيء عن زِدْ؛ فقد كانت لا تلجأ إلى الكلام إلا حينما لا يُجدِي التزمير والصَّفير والإمساك والتقبيل نفعًا، وكانت تُدخِل تحديثات على نفسها على نحوٍ دَوري بناءً على أيِّ نزوةٍ عابرة تخطُر ببالِها، مثل حينما قرَّرَتِ السَّير في الفضاء مُجرَّدةً من الجِلد وقضَتْ فترة ما بعد الظهيرة تُغطَّى بصفائح القصدير ويُرَكَّب لها رئة اصطناعية.

وقعتُ في حُبِّها مئات المرَّات في اليوم، وواتَتْني رَغبةٌ في خنقِها على الأقلِّ مرَّتَين. قضتْ يَومَين على الأقلِّ في جولة السير بالفضاء تطفو عبر الفقَّاعة وتصنع وُجوهًا مجنونة لانعكاسها الخارجي. لم تكن لديها وسيلة لمعرفة ما إذا كنتُ بالداخل، ولكنها كانت تفترِض أنَّني أشاهدُها. أو ربما لم تفعل، وكانت تصنع هذه الوجوه لتسلية من كان يُشاهدها.

ولكنها عادت عبر المِكبح مرة أخرى، غريبة ولا تنطِق ببِنتِ شفَةٍ وقد امتلأت عيناها بالنجوم التي رأتها وتعكس بشرَتَها المَعدِنية برودة هواء الفضاء الشاغر، وقادَتْني في لُعبة مُطارَدة مرِحة عبر المحطة، والرَّدهة الفوضوية حيث انزلقْنا عبر بودينج الأرز الزَّلِق المُتهادي ذي الشكل البيضاوي، والصوبات التي كانت تختبئ فيها كالسِّنجاب وتتسلَّقُها كالقرد، مرورًا بالمناطق السكنية والفقاعات التي مرَرْنا بها وقاطَعْنا الآلاف من المُضاجَعات.

في الغالِب ستعتقِد أننا قد مارَسْنا الحُبَّ معًا بعد هذا اللهو واللعب، وفي الواقِع كان هذا هو ما كنتُ أتوقَّعُه بكلِّ تأكيد منذ بدأنا اللُّعبة التي كنتُ أراها كلعبةِ سباق الحواجز للخيول، ولكننا لم نفعل مُطلقًا. كنتُ أنسى في خِضَمِّ لَعِبنا دَوافعي الشهوانية وأعود إلى حالة من البراءة الطفولية غير عابئ إلَّا بإثارة المُطارَدَة وشعور الرغبة في الضحك الشديد الذي كنتُ أشعُر به كلَّما كانت تكتشِف مُنعطفًا جديدًا أكثر غرابةً لتَتَّخِذه. أعتقد أننا صِرنا أسطورة بالمحطة؛ ذلك الثنائي المجنون المُفعَم دائمًا بالحيوية والنشاط، وكأن مُمثِّلَيْن كوميديَّيْن يَقتحِمان حفلك عارِيَيْن فجأة ثم يَختفِيان.

حينما طلبتُ منها الزَّواج والعودة معي إلى الأرض لنعيش معًا حتى تنفكَّ دعائم الكون، ضحِكتْ واعتصرَتْ بأصابِعِها أنفي وقضيبي وصاحت قائلة: «لا بأس بك!»

اصطحبتُها للعيش في تورونتو وأقمْنا في مسكنٍ يقَع في الطابق العاشر أسفل الأرض بالمساكن المؤقتة للجامعة. لم يكن رصيدنا من الووفي على كوكب الأرض رائعًا للغاية، وكانت الممرات المؤسَّسِية اللامُتناهية تُشعِرها بأنها في موطِنها وأتاح لها فُرصًا لمُمارَسة شَغَبِها وَخُدَعِها.

ولكن شيئًا فشيئًا تضاءل شغَبُها، وبدأت تتحدَّث أكثر. أعترِف أنني في البداية كنتُ أشعر بالارتياح حيال ذلك؛ إذ كنتُ سعيدًا بأن زَوجتي الصامتة الغريبة الأطوار قد بدأت في التصرُّف بشكلٍ طبيعي أخيرًا والتعامُل بلُطفٍ مع الجيران، بدلًا من تدبير المقالِب لهم بالتزمير وركْلِ مُؤخراتهم واستِخدام المُسدَّسات المائية لرشِّهم بالمياه. توقَّفنا عن مُمارسة لعبة سباق الحواجز وتخلَّتْ هي عن المفاصل القابلة للالتواء وأزالت فِراءها وتخلَّت عن عَينَيها الفِضِيَّتين وتَحوَّلَتا إلى لونٍ بُندقي، ولكنه كان لونًا جميلًا وساحرًا تمامًا مثلما كان اللون الفضي يُضفي عليها غموضًا.

ارتدينا الملابس العادية، واستضفنا الآخرين. وبدأتُ أتدرَّب على سيمفونيتي في قاعات منخفضة الووفي، وفي المُتنزَّهات مع أيِّ موسيقيين كان يُمكنني العثور عليهم، وكانت تدعَمُنا دون أن تعزِف، فقط تجلِس جانبًا وتظلُّ مُبتسِمة ابتسامةً لا تتجاوَز حدود شفتَيها.

ثُمَّ فقَدَت عقْلَها.

كانت تتغوَّطُ على نفسها، وتجذِب شعرَها، وتَجرَح نفسها بالسكين. اتهمَتْني بالتخطيط لقتلِها. أشعلَتِ النيران في شُقَقِ الجيران ولفَّتْ نفسها في أغطيةٍ بلاستيكية وضاجَعَت الأثاث.

جُنَّتْ. وكانت تُمارِس جُنونها بشكلٍ صريح وعلى نِطاق واسع، بالرسم على جُدران غُرفة نومنا بِدَمِها، والترنُّح والثرثرة بكلماتٍ غير مفهومة طوال الليل في وَصَلاتٍ من الهَذَيان المُتكرِّر. كنتُ أبتسِم وأومئ وأواجه الأمر لأطولِ فترةٍ مُمكنة، ثم أجذِبُها وأسحَبُها وهي تركُل كالبَغْل إلى عيادة الطبيب بالدَّور الثاني. لقد عاشتْ على سطح الكوكب عامًا كاملًا وفقَدَتْ عقلَها لمُدَّة شهر، ولكن الأمر استغرَقَ مِنِّي كلَّ هذه المُدَّة لتَقبُّله.

شخَّص الطبيب حالتها بأنها خَلَل غير كيميائي، وهو ما يَعني أن عقلها — وليس دِماغها — هو الذي أصابه الخَلَل. بعبارة أخرى، لقد قُدْتُها إلى الجنون.

يُمكنك الحصول على المَشورة في حالة الخَلَل غير الكيميائي، من خلال مُحاولة الحديث عن الأمر بالأساس، وتَعلُّم كيفية الشعور بالرِّضا عن نفسك أكثر، ولكنها لم ترَغب في ذلك.

كانت بائسةً ولدَيْها مُيول انتِحارية وترغَبُ في القتل. وفي لحظات الوَعْي الوَجيزة التي كانت تَمرُّ بها تحت تأثير المُخدِّر، وافقتْ على استِرجاعِها من نُسخةٍ احتياطية صُنِعَتْ قبل قُدومنا إلى تورونتو.

كنتُ إلى جِوارها بالمُستشفى حينما استفاقت. كنت قد جهَّزتُ لها مُلخَّصًا مكتوبًا للأحداث منذ استِرجاعها من آخر نُسخةٍ احتياطية لها وأخذَتْ تقرؤه على مدار اليومين التاليين.

«جوليوس»، هكذا قالت وأنا أصنع الفطور في شقَّتِنا التي تقَع تحت الأرض. كانت نبرةُ صوتِها تبدو جادَّة للغاية وخلَت من أيِّ مرَح، فعلمتُ على الفور أن ما لدَيها من أخبار لن يكون جيدًا.

أجبتُ وأنا أُحَضِّرُ أطباق البَيض واللحم المُقدَّد وأصنع أكوابًا من القهوة الساخنة: «نعم؟»

أجابت: «سأعود إلى الفضاء وسأعود لاستِخدام نُسخةٍ قديمة منِّي.» كانت قد جهَّزَت حقيبة كتِفٍ وارتدَت ملابس السفر.

سحقًا! هكذا قلتُ في قرارة نفسي، ولكنِّي قلتُ بمرَحٍ مُصطَنَع وأنا أقوم في عقلي بعملية جرْدٍ لقائمة مَسئولياتي على الكوكب: «عظيم! أعطِني دقيقةً أو اثنتَين، سأحزُم أمتِعَتي. أنا أيضًا أفتقِد الفضاء.»

هزت رأسها غير مُوافِقة وتطايَرَ شرَرُ الغضب من عينيها البُندقيَّتَين ذات التعبيرات المفهومة تمامًا وقالت: «لا، سأعود إلى ما كنتُ قبل أن ألتقي بك.»

كان الأمر مُؤلمًا بشدَّة. لقد أحببتُ زِد القديمة التي كانت تلعَبُ لعبة كسر الحواجز، أحببتُ مرَحَها وشغَبَها. لقد صارت بعد زواجِنا شخصًا مُرعِبًا ومُروِّعًا، إلَّا أنَّني بقيتُ معها احترامًا لما كانت عليه في الماضي.

وها هي الآن ذاهِبة لاستِرجاع نفسها من نُسخة احتياطية صُنِعَت قبل أن نلتقي. كانت في طريقها لاقتِطاع ثمانية عشر شهرًا من حياتها والبدْء من جديد والعودة إلى نُسخةٍ محفوظة.

مؤلمًا؟ لقد كان الأمر مؤلمًا بلا احتِمال.

عُدتُ إلى المحطة بعد شهر ورأيتُها تعزِف داخل الكرة السماوية مع رجلٍ له ثلاثة أزواج من الأذرع الإضافية مُنبثِقة من فَخذَيه. كان يُحلِّق سريعًا حول الكرة وكانت هي تعزف لحنًا على البيانو، وحينما التقَتْ أعيُنُنا ووقعَتْ عيناها ببريقِهما الفضيِّ عليَّ، لم يبدُ فيهما أيُّ شيءٍ يدلُّ على أنها تَعرِفُني على الإطلاق، وكأنها لم تُقابِلْني من قبلُ قط.

تخلَّصتُ من الأمر بعضَ الشيءِ أيضًا، وأخرجتُ الواقِعةَ من رأسي وارتحلتُ إلى عالَم ديزني حتى أُعيدَ تجديدَ ذاتي باكتِساب أصدقاء جدُدٍ والحصول على مِهنةٍ وحياة جديدَتَين. لم أتحدَّث عن زِد مرَّةً أخرى على الإطلاق، خاصَّةً مع ليل التي لم تكن بحاجةٍ نهائيًّا لأن أُعَكِّر صفوَها بذِكرياتي عن حَبيباتي السابِقات المَجنونات.

•••

إذا كنتُ مجنونًا، فلم يكن جنوني من ذلك النوع الغريب الذي وصلَتْ إليه زِد. كان جنونًا من النَّوع البطيء الهائج والقبيح الذي جعلَنِي أُنفِّر أصدقائي منِّي، وأُدمِّر أعدائي، ودَفَع حبيبتي للارتِماء في أحضان أقرَبِ أصدقائي.

قرَّرتُ أن أذهبَ إلى طبيبٍ بِمُجرَّد انتهائنا من تمرير فكرة التجديد في الاجتماع العام لأعضاء اللجنة. كان لا بُدَّ أن أُحدِّد أولوياتي بوضوح. ارتديتُ ملابس الليلة الماضية ومشيتُ مباشرة إلى محطة القطار الكهربائي المُعلَّق التي تقَع في البهوِ الرئيس. كان رصيف الانتظار يعجُّ بالزوَّار الفرِحِين المُبتهِجين المُتأهِّبين لقضاء يومٍ من المُتعة المُنتظِمة التي يُستخدَم فيها تطبيقات الوسائط المُتعدِّدة الفائقة. حاولتُ أن أجبر نفسي على الاهتمام بهم كأشخاص، ولكن على الرغم من مُحاولاتي الحثيثة، فقد ظلُّوا يتحوَّلون في عقلي إلى مُجرَّد حشود، وكان لا بُدَّ أن أُثبِّتَ قَدميَّ على أرض الرصيف بقوَّةٍ حتى لا أجِدَ نفسي مدفوعًا بهم إلى الحافَة، وكان من الأفضل أن أنتزِع لنفسي مقعدًا.

عُقِد الاجتماع بشُرفة شجرة ضوء الشمس في أرض المُغامرة، على بُعد بضعِ خُطوات من المكان الذي سقطتُ فيه صريعًا وتحوَّلتُ إلى أشلاء على يَدِ القاتل الذي لا يزال مَجهولًا. كان أعضاء اللجنة المسئولون عن أرض المغامرة يُدينون لطاقم عملِ ساحةِ الحرية بمعروف؛ إذ إنَّ عملية اغتيالي قد وقعتْ في منطقتهم، لذا أعطَونا حقَّ استخدام غُرفة اجتماعاتهم الفخمة، حيث تنساب شمس فلوريدا عبر ألواح الستائر المَعدِنية مُلقِيةً أشعَّات من الضوء المُمتزِج بذرَّات التراب عبر الغرفة. سمعت الأصوات الخافِتة لطبول التيكي وثرثرة مُرشدي جولة رحلة الغابة الآتية من خارج الغرفة، كان صوتًا أشبَهَ بِطنينٍ مُنخفِضٍ قادِمًا من لُعبَتَين من أقدَم ألعاب المُتنزَّه.

كان هناك ما يَقرُب من مائة عضوٍ من أعضاء طاقم عمل اللجنة المسئولة عن ساحة الحرية، مُعظمُهم تقريبًا من الجيل الثاني من أعضاء طاقم العمل، ارتسَمَت على وُجوههم ابتسامةٌ عريضة وَدُودة. ملئوا الغُرفة عن آخِرها، وكان هناك الكثير من المُعانَقة والمُصافَحة قبل بدء انعقاد الاجتماع. كنتُ مُمتنًّا أن الغرفة أصغر من أن تَسع دائرة المقاعد البروتوكولية للأعضاء، وهو ما مكَّن ليل من اعتِلاء إحدى المنصَّات ومُطالَبة الحضور بالهدوء احترامًا للاجتماع.

قالت بمرَح: «مرحبًا!» كانت المنطقة التي حول عيَنَيْها لا تزال مُنتفِخة من البكاء، وهو ما كان واضحًا إذا عرفتَ كيف تدقِّقُ النظر، ولكنها كانت بارِعةً في التَّظاهُر بالشجاعة مهما كان حَجم الألَم الذي تَشعُر به.

ردَّ الأعضاء التحيَّة في صَوتٍ واحدٍ هادِر: «مرحبًا يا ليل!» وضَحِكوا على تقاليدهم السخيفة. لقد كانوا بالطبع حُفنةً من الشخصيات المَرِحة في المملكة السحرية.

قالت ليل بابتسامة متواضعة للغاية: «الكل يعلم لماذا نحن هنا. أليس كذلك؟» لقد كانت تحشدُ بقوَّةٍ على مدار أسابيع على أيِّ حال. «هل لدى أيٍّ منكم أسئلة بشأن الخطط؟ نوَدُّ البدْء في التنفيذ على الفور.»

رفع رجل ذو ملامح صِبيانية مُصطنَعة بالكامل ذِراعه في الهواء، فأشارت إليه بالحديث بإيماءة فقال: «حينما تقولين «على الفور.» هل تقصدين …»

تَولَّيتُ مُقاطعته قائلًا: «الليلة، بعد هذا الاجتماع. لدَينا جدول إنتاج مدَّته ثمانية أسابيع، وكلَّما عجَّلْنا بالبدء انتهينا سريعًا.»

غمغَمَ الحشدُ مُضطربًا، ورمَقَتْني ليل بنظرةِ احتِقار، فهززتُ كتفيَّ بلا مُبالاة. لم تكن السياسة لُعبتي.

ردَّتْ ليل: «إننا نُجرِّب شيئًا جديدًا هنا يا دون، عملية تحديث حقيقية. الخبر الجيد هو أن هذه العملية قصيرة؛ ففي غضون شَهرَين سنعلَمُ ما إذا كانت ناجحة أم لا. إذا لم تكن كذلك، حسنًا، يُمكننا تَغييرها في غضون شَهرين أيضًا. ولهذا لا نَقضي الكثير من الوقت في التخطيط مِثلما نفعل عادة؛ لن يَستغرِق الأمر خمس سنوات لتُثبِتَ الفكرة نَجاحَها، ومن ثَمَّ فإن المَخاطِر أقل.»

قالت عضوة أخرى من أفراد طاقم العمل، وهي سيدة تبدو في الأربعين ذات هيئة مُستديرة وسلوك رقيقٍ حانٍ: «أنا أؤيد التحرُّك سريعًا بشدَّة، يعلَمُ الله، لم يكن إيقاعُنا في العمل بهذه الحماسة أبدًا. لكنَّني قَلِقَة بشأن كل هؤلاء الأشخاص الجُدُد الذين تقترَحِين توظيفهم، ألن يُبطِّئنا وجود عدد أكبر من الناس فيما يتعلَّق باتِّخاذ قرارات جديدة؟»

لا — فكَّرت بِحدَّة — لأن الأشخاص الذين آتي بِهم لا يُدمِنون الاجتماعات.

أومأت ليل قائلة: «هذه نُقطة جيدة يا ليزا، العرض الذي نُقدِّمه للاعبي الحضور المرئي عن بعد يُعتبَر فترة اختبار، ولن يُسمَح لهم بالتصويت إلَّا بعد أن نتَّفِق نحن على نجاح عملية التجديد.»

وقفَ عضو آخَر من أفراد طاقم العمل. تعرَّفتُ عليه: إنه «ديف»، شخص أحمق مغرور ممتلئ الجسم يُحِبُّ العمل عند البوابة الأمامية على الرغم من أنه كان يُفسِد كلامه أغلب الوقت تقريبًا. قال وهو يبتَسِم لها بِحزن: «ليليان، أعتقِد أنكِ تَرتكِبين خطأً كبيرًا هنا. نحن نُحِبُّ القصر، جميعنا، وكذا الزوَّار. إنه قِطعة تاريخية، ونحن حُرَّاسه ولسنا مُلَّاكَهُ، وتغييره بهذا الشكل، حسنًا …» وهزَّ رأسه ثم أكمل قائلًا: «هذه ليست إدارة جيدة، إذا كان الزوَّار يرغبون في التجوُّل عبر بيتٍ للرُّعب يقفِز فيه رجال من الظِّلال فجأة ويصرخون بالزوَّار ليُفزِعوهم، فليذهبوا إلى أحد منازل الهالوين الموجودة في مساقط رأسهم. القصر أفضل من ذلك، لا يُمكنني أن أصير جُزءًا من هذه الخطة.»

رغبتُ لو مَحوتُ ابتسامة الزهوِ التي ارتسمتْ على وجهه. لقد شننتُ هذا الهجوم العنيف نفسه آلاف المرات — فيما يتعلَّق بأعمال دِبرا — ولكن سَماعه من هذا الأحمق فيما يتعلق بعملي جعَلَني أستشيط غضبًا بداخلي.

تحدثتُ قائلًا: «اسمع، إذا لم نفعل هذا، إذا لم نُغيِّر الأمور بأنفسنا، فسيُغَيِّرها آخرون بدلًا منَّا. السؤال يا ديف هو: هل يَسمح الحارس بأن يُنتزَع منه ما هو مُوكَّل إليه حراسَتُه، أم يفعل كلَّ ما في وُسعِه للتأكُّد من استمرار وجوده ليضمَن أنَّ ما عُهِدَ إليه يَحظى بالرعاية على النحوِ الصحيح؟ إن دفْن رءوسنا في الرمال ليس من الوصاية الجيدة في شيء.»

أستطيع القول إنني لم أبلِ بلاءً جيدًا؛ فقد كان مِزاج الحشد يزداد كآبةً ووجوههم تزداد تَجهُّمًا، فقررتُ ألَّا أتحدَّث مرةً أخرى حتى انتهاء الاجتماع مهما كانت الاستفزازات.

قدَّمَت ليل ملاحظاتي بشكلٍ أكثر سلاسة، وتعامَلَت مع العشرات من المُلاحظات الأخرى، وبدا أن الاعتراضات ستستمرُّ طوال فترة ما بعد الظهيرة والليل وحتى اليوم التالي، وكنتُ مُجهدًا وذِهني مُشوشًا وبائسًا في الوقت نفسه، أُحدِّق إلى «ليل» وابتِسامتها المُتوتِّرة وكيف تُسوِّي شعرَها خلف أُذُنِها بِعصبِيَّة.

أخيرًا، طلبتُ أخذَ الأصوات. وفقًا للتقاليد، تُجَمَّع الأصوات سرًّا وتُعرَض في جدولٍ على الملأ على قنوات البيانات. تَشتَّتَتْ عيون المجموعة وهم يَستدعون شاشاتهم الذهنية ويشاهدون المجاميع الكلية وهي تتوالى ظهورًا. كنتُ غير مُتصلٍ وغير قادِرٍ على التصويت أو المشاهدة.

وأخيرًا تنفَّسَتْ ليل الصُّعَداء وابتسمت واضِعةً يدَيْها خلْفَ ظهْرِها.

قالت بصوت تجاوَزَ طنين الحشد: «حسنًا إذن، لنَذْهبْ إلى العمل.»

وقفتُ ورأيتُ دان وليل يُحدِّقان أحدُهما إلى عَيني الآخر بنظرةٍ ذاتِ مَغزًى بين حَبيبَين جديدين وتملَّكَني غَضَبٌ شديد جعَل لَوني يَستحيل إلى الأحمر حرفيًّا. تَشوَّش بَصَري وتخضَّب باللون الوردي، وخفَق وهَجٌ وَامِضٌ على أطراف بَصَري بقوة. مَشيتُ خُطوتَين مُتثاقِلَتَين إلى الأمام نَحوَهما وفتحتُ فمي لأقول شيئًا بَشِعًا، ولكن لم يخرُج منه إلا صَيحة تأوُّه. لقد تخدَّر نصفي الأيمن وانزلَقَتْ ساقي من تحتي وارتطمت بالأرض.

بينما كنتُ أحاوِل جاهدًا رفع ذِراعي اليُسرى شقَّت أشعَّة الضوء القادمة من بين ألواح الستائر المعدنية طريقها إلى صدري، ثم استحال كلُّ شيءٍ إلى الأسْوَد.

•••

لم أكن مجنونًا على أيِّ حال.

كانت عيادة الطبيب في المشفى الواقِع بالشارع الرئيس نظيفةً بيضاء ومُزيَّنة بمُلصقات لجيمني كريكت يرتدي ملابس الأطباء البيضاء وسماعة طبيب ضخمة. جئتُ على نقَّالة صُلبة وُضِعَت لتستقرَّ أسفلَ لافتةٍ ذكَّرتْني بأن أُجري فحوصات طبية مَرَّتَين في السنة، كم هذا رائع! وحاولتُ أن أرفع يديَّ إلى أعلى لأحجُب عن عَينيَّ الضوء المُبهِر واللافتات المُبهِجة واكتشفتُ أنَّني لا أقوى على تَحريك ذِراعي. ولكن بعد مزيدٍ من التحقُّق اكتشفتُ أن هذا كان يُعزى إلى أنَّني كنتُ مُقيَّدًا بالكامل بالأركان الأربعة للنَّقَّالة.

صحتُ مرةً أخرى: «وااااه.»

حامَ وجهُ دان القَلِقُ في مجال رؤيتي إلى جانب طبيبٍ ذي ملامحَ وَقُورةٍ يبدو في السَّبعين من عُمره، له وجه كوَجهِ نورمان روكويل امتلأ بتجاعيد حوْلَ العَينَين وتجاعيد الابتِسام.

قال الطبيب بصوتٍ رقيق تناسَبَ مع وَجهِه: «مرحبًا بك مرةً أخرى يا جوليوس، أنا الطبيب بيت.» على الرغم من هُراء أعضاء طاقم العمل الذي أصابَني بِخيبةِ الأمل مُؤخرًا، فقد وجدتُ العَزاء في خُدعَتِه المُسلِّية هذه. استرخَيتُ على النقَّالة مرةً أخرى وأضاء الطبيب الأضواء في عينيَّ وفحَص أجهزة التشخيص المُختلِفة. تحمَّلتُ الأمر بصمتٍ رَزين وأربكتْنِي بِشدَّةٍ أصواتُ التأوُّه البَشِعة التي كنتُ أُطلِقُها في مُحاولةٍ للكلام. سيُخبِرني الطبيب بما يحدُث حينما يكون جاهزًا.

سأله دان: «هل لا يزال بحاجة لأن يظلَّ مُقيَّدًا؟» وهززتُ رأسي رافِضًا بإلحاح؛ فلم يكن التقييد هو فكرتي عن قضاء وقتٍ مُمتِع.

ابتسم الطبيب بحنانٍ وقال: «أعتقِد أن هذا هو الأفضل في الوقت الحالي. لا تقْلَقْ يا جوليوس، سنجعلُك تتعافى وتعود إلى سابق عهدك في القريب العاجِل.»

أبدى دان اعتراضه، ولكنه توقَّف حينما هدَّدَه الطبيب بإخراجه من الغُرفة، فأخَذَ بيدي عِوَضًا عن ذلك.

شعرتُ بحكَّةٍ في أنفي، حاولتُ أن أتجاهَلَها، ولكنها ازدادتْ وظلَّتْ تزداد سوءًا حتى لم أعُد أقوى على التفكير في أيِّ شيءٍ آخر إلَّا تلك الحكَّة التي كانت كنَصْلٍ مُشتعِلٍ يَصعَقُ طرف مِنخاري. جعَّدتُ وجهي بشراسةٍ وأخذت أهزُّ قُيودي. لاحظ الطبيبُ حركاتي العنيفة وهو شارِدُ الذِّهن وحكَّ أنفي برفقٍ بأحد أصابِعِه المُقفَّزة، كان الشعور بالراحة رائعًا. جلُّ ما تمنَّيتُه ألَّا تُصيب الحكَّة خِصيتيَّ في أيِّ وقتٍ قريب.

أخيرًا سحَب الطبيبُ مقعدًا وقام بشيءٍ تَسبَّب في ارتفاع مُقدِّمة السرير، حتى تَمكنتُ من النظر إلى عينَيه مُباشرة.

قال وهو يُداعِب ذَقنَه: «حسنًا، الآن. لديك مُشكلة يا جوليوس، قال لي صديقك إنَّ أنظمتك غير مُتَّصِلة منذ أكثر من شهر؛ كان من الأفضل بالطبع أن تأتي لرؤيتي حينما بدأ ذلك كلُّه، ولكنك لم تفعل وازدادتِ الأمور سوءًا.» وأشار برأسه إلى أعلى نحوَ عِبارة جيمني كريكت: هيا، اذهب لرؤية طبيبك! وأردف قائلًا: «إنها نصيحة جيدة يا بُنَي، ولكن لا فائدة من البُكاء على اللبن المسكوب. لقد استُرجِعتَ من نُسخةٍ احتياطية منذ ثمانية أسابيع مضت، كما أرى. لا يُمكِنُني التأكُّد دون إجراء مَزيدٍ من الاختبارات، ولكن فَرضيَّتي هي أن الواجهة البينية بين الآلة والدماغ التي رَكَّبوها في ذلك الوقت كان بِها خَلَل مادي، وظلَّتْ تتدهوَرُ منذ ذلك الحين وتُخفِق وتُعيد التحميل. إن عمليات إيقاف التشغيل هي آلية وِقائية، الغرَض منها منعُ حدوث هذه النَّوبة التي أصابتْك بعدَ الظهر. حينما تَستشعِر الواجهة أيَّ عُطل، تُغلق نفسها مُباشرة وتُشغِّل وضعَ التشخيص، وتُحاوِل إصلاح نفسها ومُعاوَدَة الاتِّصال بالشبكة.

حسنًا، هذا جيد في حالة المشاكل البسيطة، ولكنها ليستْ مُؤشرًا جيدًا في مثل هذه الحالات، فقد ظلَّت الواجهة تتدهوَرُ بشكلٍ مُنتظم، ويكون الأمر مُجرَّد مسألة وقتٍ قبل أن تتسبَّبَ في أضرارٍ خطيرة.»

سألتُه قائلًا: «وااااه؟» كنتُ أقصِد أن أقول حسنًا، ولكن ما الذي أصاب فمي؟

وضع الطبيب إصبَعه على شفَتي قائلًا: «لا تُحاوِل، لقد أغلقتُ الواجِهة وأغلقتُ معها بعض عملياتك العصبية الطَّوعِية. وستُغلَق تمامًا بمرور الوقت على الأرجح، ولكن في الوقت الراهِن لا جدوى من ذلك. ولهذا السبب قَيَّدناك؛ فقد كنتَ تُصارِع بِشدَّةٍ حينما أَتَوا بك، ولم نَشأ أن تُؤذِيَ نفسك.»

ستُغلَقُ تمامًا على الأرجَح؟ يا إلهي! هل يُمكن أن يَنتهي بي الأمر عالِقًا في هذه الحالة للأبد؟ وبدأتُ أرتعِش.

هدَّأ الطبيبُ من رَوعي وربَّتَ على يدي، وفي هذه الأثناء وضع لاصِقةً تحتوي على مُهدِّئ ينتقل عبر الجلد على مِعصَمي، فتراجَع الذُّعر مع تسرُّب المُهدِّئ الذي تحتويه اللاصِقة إلى مَجرى دَمي.

حدَّثني قائلًا: «هوِّن عليك، إنه ليس شيئًا دائمًا، يُمكِننا أن نصنعَ لك مُستنسَخًا جديدًا ونُحدِّثه من نُسختِك الاحتياطية الأخيرة. هذه النُّسخة الاحتياطية للأسف لم تُحدَّث منذ بضعة أشهر. لو قُمنا بذلك في وقتٍ سابق، فربَّما تَمكنَّا من إنقاذ نُسخةٍ احتياطية حديثة، ولكن نظرًا للتدهْوُرِ الذي أبديْتَه حتى الآن … حسنًا، فلن يكون ثَمَّةَ جدوى من ذلك.»

خفَقَ قلبي بِعنف، سأفقِد شَهرَين من حياتي، سأفقِد كلَّ شيءٍ وكأنَّ شيئًا لم يكن: اغتيالي، قاعة الرؤساء الجديدة ومُحاوَلاتي المُخزية بعد ذلك، مُشاجراتي مع ليل، ليل ودان، الاجتماع، خُطَطي لتجديد القصر! كل شيء، الجيد والسيئ، ستُقتلَع كلُّ لحظة من جُذورها وكأنها لم تكن.

لا أستطيع القيام بذلك. كان لديَّ عملية تجديد عليَّ أن أُنجِزها وكنتُ الوحيد الذي يعرِف كيف يَجِب أن تُنفَّذ. وبدون تحفيزي المستمرِّ سيلجأ أعضاء اللجنة إلى طريقتهم القديمة وأساليبهم الآمِنة بلا شك، بل قد يتركون الأمر برمَّته في مُنتصف الطريق ويؤجِّلون العملية لإجراء مُراجعة مُطوَّلة لا تنتهي، فنَصير هدفًا يَسهُل تدميره لدِبرا.

لن أسترجِع نفسي من نُسخة احتياطية.

•••

أُصِبتُ بنَوبتَين أُخرَيَين قبل أن تُغلِق الواجهة نفسها أخيرًا بشكلٍ كامل. أتذكَّر النوبة الأولى: تشوُّشٌ في الرؤية، وَمَضاتٌ خاطِفة تمنع الرؤية وتشنُّجات لا إرادية ومَذاق نُحاسي، أما النوبة الثانية فقد حدَثَتْ دون أن تُوقِظني من غَيبوبتي العميقة.

كان دان لا يزال موجودًا حينما عدتُ إلى الوعي مرةً أخرى في المشفى. كانت لِحيته خفيفة للغاية وارتسمت خطوط قلقٍ جديدة حول أركان عَينَيه التي جُدِّدَت مؤخرًا. دخل الطبيب وهو يهزُّ رأسه.

«حسنًا، الآن، يَبدو أنَّ الأسوأ قد انتهى. لقد أعددتُ نماذج المُوافَقة لإجراء عملية التحديث وسيكون المُستنسَخ الجديد جاهزًا في خلال ساعة أو اثنَتَين. في هذه الأثناء أعتقِد أن التخدير الكامل سيكون مطلوبًا. وبِمجرَّد الانتهاء من عملية الاسترجاع، سنُنَحِّي هذا الجسد نيابة عنك وبذلك نكون قد انتهَينا.»

نُنَحِّي هذا الجسد؟ سيَقتُلُني، هذا ما يعنيه الأمر.

قلت: «لا.» شعرتُ بالحماس على الرغم من القيود: لقد استعدتُ السيطرة على صوتي!

تخلَّى الطبيب عن أسلوبه المُراعي وأطلَقَ العِنان لسُخطه وقال: «مهلًا! لا يُوجَد حلٌّ آخر. لو كنتَ أتيتَ لزيارتي حينما بدأ الأمر كله، فربما كان لدَيْنا خيارات أخرى؛ لا تَلومَنَّ إلَّا نفسك.»

كرَّرتُ رفضي قائلًا: «لا، ليس الآن. لن أوقِّع.»

وضع دان يدَه على يدي، حاولتُ أن أسحب يدي من تحت يده، إلَّا أن القيود وقبضته لم تُمكِّنني من ذلك. قال: «لا بدَّ أن تفعل هذا يا جوليوس. إنه الخيار الأفضل.»

قلتُ مُطبِقًا على أسناني: «لن أدعَك تَقتُلَني.» كانت أطراف أصابِعه خَشِنةً وصُلبة؛ إذ كان يعمل بجهد يفوق ما هو مطلوب.

قال الطبيب: «لن يَقتُلَك أحدٌ يا بُنَي.» بُنَي، بُنَي، بُنَي. من يَعلَمُ كم كان عمره؟! يُمكِن أن يكون في الثامنة عشرة من عمره على حدِّ عِلمي. «على العكس من ذلك: إننا نُنقِذُك. إذا استمررتَ على هذا الوضع فستزداد الأمور سوءًا. نوبات انهيارٍ عَصبي، وفي النهاية سينهار عقلك تمامًا، وأنت لا ترغَب في حدوث ذلك.»

فكرتُ في التحوُّل المُثير الذي مرَّتْ به زِدْ حتى فقَدَتْ عقلها تمامًا. لا، بالطبع لا أرغب في هذا. «لا تَهمُّني الواجهة، تخلَّص منها. لا أستطيع القيام بذلك الآن.» وابتلعْتُ ريقي وأردفت: «لاحقًا، بعد عملية التجديد، بعد ثمانية أسابيع أخرى.»

•••

يا لسخرية الأقدار! بمجرَّد أن علِمَ الطبيب أنَّني جادٌّ فيما أقول، أرسل دان خارِج الغُرفة وأدار عينَه لأعلى وهو يَهمُّ بإجراء مُكالمةٍ هاتفية. رأيتُ حلقَه يتحرَّك وهو يتحدَّث لا صوتيًّا. تركني مُقيدًا بالطاولة أنتظِر.

لم يكن بالمشفى أيُّ ساعات، ولا ساعة داخلية، وربما كان قد مرَّ من الوقت عشر دقائق أو خمس ساعات. كنتُ مُتَّصِلًا بقَسطَرة، ولكن لم أكتشِف ذلك إلا حينما اقتضتِ الضرورة القصوى.

حينما عاد الطبيب كان مُمسِكًا بأداةٍ صغيرة تعرفتُ عليها على الفور: المُسدَّس الذي يُطلِقُ تردُّداتٍ لاسلكيةً عالية الطاقة.

أوه، ولكنه لم يكن النموذج نفسه الذي استخدمتُه في قاعة الرؤساء. كان أصغر حجمًا، ومصنوعًا بشكلٍ أفضل، ومُصمَّمًا بدقَّة الأدوات الجراحية. رفع الطبيب حاجِبَيه وحدَّثَني بشكلٍ قاطِع قائلًا: «أنت تعلَمُ ما هذا.» غمغَمَ جُزءٌ مُعتِم في عقلي: إنَّهُ يعرِف، إنَّهُ يعرِف، قاعة الرؤساء. ولكنه لم يكن يعرِف الأمر؛ فقد كانت هذه الواقِعة مُوصَدَةً في ذهني، غير قابلة للنَّسخ الاحتياطي.

قلت: «أعرِف.»

«هذه الأداة شديدة القوَّة إلى أقصى الحدود، ستخترِق الغِطاء الذي يحمي الواجهة وتَصهَرُه. لن تتسبَّب لك في غَيبوبةٍ على الأرجَح. هذا أفضل ما يُمكِنني فِعله. إذا فَشِل ذلك، فسنَسترجِعُك من آخِر نُسَخِك الاحتياطية. لا بُدَّ أن تُوقِّع بالمُوافَقة قبل أن أستَخدِمَها.» تخلَّى عن النَّبرة الحَنونة المُصطَنَعة التي كان يتحدَّث بها، غيرَ عابئٍ بإخفاء اشمِئزازه. شرَدَ ذِهني لتَأمُّل مُعجِزة مجتمع الروعة، المجتمع الذي كان لدَيه كلُّ شيءٍ إلَّا مِهنة الطبِّ التي عَفى عليها الزمن: لماذا تُزعِج نفسك بالخضوع لجراحةٍ في حين يُمكِنك صُنعُ مُستنسَخٍ وأخْذ نُسخةٍ احتياطية ثم إعادة تحديث الجسد الجديد؟ كان بعض الناس يُبدِّلون أجسادهم فقط ليتخلَّصوا من نزلَةِ بردٍ أصابتْهم.

وقَّعت. دفع الطبيب بسريري النقَّال عبر ضجيج وهمْهَمَة أنفاق المرافق، ثم وَضَعه على قطار نَقْل انطلقَ مُسرعًا إلى مَجمَع المُبتكِرين ومن ثَمَّ إلى قفصِ فاراداي ثقيل ومكشوف. كان من شأن استِخدام المُسدَّس ذي التردُّدات اللاسلكية عالية الطاقة قتلُ أيِّ إلكترونيَّاتٍ مُجاورة بالطبع؛ لذا كانوا لا بدَّ أن يَعزِلوني قبل الضغط على الزناد.

وَضَع الطبيب المُسدَّس على صدري وفك قيودي، ثم أقفلَ القفص بإحكامٍ وتراجَع نحو باب المعمل. سحب مِئزرًا ثقيلًا وخوذة بها واقٍ للوَجْه من على أحد العَلَّاقات الموجودة بجوار الباب.

«بمُجرَّد خروجي من الباب وَجِّه المُسدَّس إلى رأسك واسحَبِ الزناد. سأعود في غضون خمس دقائق. وبمُجرَّد دخولي الغُرفة، ضعِ المُسدَّس على الأرض ولا تَلمِسه. إنه يَصلُح للاستِخدام لمرَّةٍ واحدة، إلَّا أنني لا أرغبُ في اكتِشاف أنَّني مُخطئ.»

أغلق الباب. أخذتُ المسدَّس في يدي. كان ثقيلًا، مُحتشِدًا بطاقةٍ كثيفة مُختزَنة بداخله، وكان طرفه بيضاويًّا مُجوَّفًا بغرَض تركيز هيكله المخروطي بشكل أفضل.

رفعتُ المُسدَّس وصوَّبته تِجاه صدْغي وثَبَّتُّه، ووَجَدَ إبهامي طريقَه إلى مِسمار الزناد.

توقفتُ قليلًا. هذا لن يَقتُلني، ولكنه قد يُغلِق الواجهة إلى الأبد ويُصيبُني بالشَّلَل ويُحوِّلُني إلى مجنونٍ مُهتاج. علمتُ أنَّني لن أتمكَّن أبدًا من الضغط على الزناد، ولا بُدَّ أن الطبيب كان يَعلَم ذلك أيضًا؛ كانت هذه هي طريقته لإقناعي بأن أدَعَه يقوم بعملية الاستِرجاع.

فتحتُ فمي لأستدعي الطبيب ولم يَخرج منه إلَّا صوتُ التأوُّه.

لقد بدأتِ النوبة. تَشنَّج ذِراعي وضغَط إبهامي على مِسمار الزناد وكان هناك نَكهة أوزون قوية. ثم توقَّفَتِ النوبة.

لم يعُد لي واجهة بعدَ الآن.

•••

بدا الطبيب نَكِدَ المِزاج ومُتوتِّرًا بِشحوبٍ حينما رآني جالسًا على النقَّالة وأفرُك عضلاتِ ذراعي، فأخرَج أداةً تشخيصية يَدويَّة ووجَّهها نحوَ رأسي، ثم أعلَنَ أنَّ كلَّ جزءٍ صغير من الدوائر الرقمية الدقيقة فيه قد ماتت. وهكذا ولأول مرة منذُ كنتُ في العشرين من عمري لم أعُد أكثرَ تَطوُّرًا مما خُلِقتُ عليه.

تركَتِ القيود كدَمَاتٍ أرجوانية على مِعصميَّ وكاحِلَيَّ حيث كنتُ أناضِل لأتحرَّر منها. خرجتُ من قفص فاراداي وأنا أعرُج وَصار المَعملُ تحت سُلطتي، ولكن فقط بالكاد؛ إذ كانت عضلاتي تَئنُّ من الحركات العنيفة المُقاوِمة التي كنتُ أقوم بها لا إراديًّا أثناء النوبة.

كان دان يَنتظِر في نفقِ الخدمات جاثمًا قُبالة الحائط وقد غلَبَه النُّعاس. هزَّه الطبيب مُوقِظًا إيَّاه وطقطق رأسَه وأمسكَتْ يدُه بِذراع الطبيب لا إراديًّا بِسرعة البرْق. كان من السهل نِسيان العمل الذي كان يُمارِسه دان سابقًا هنا في المملكة السحرية، ولكنني تذكرتُ حينما قَبضَ على ذراع الطبيب بسلاسةٍ وانتفض واقفًا بِعَينَين مُنتبِهَتَين حادَّتَين. إنه صديقي القديم الذي كان كأبطال أفلام الحركة والإثارة.

ترَك دان الطبيب بسرعة واعتذَرَ منه. قيَّمَ حالتي الجسدية وثبَّتَ كتِفَه أسفل إبطي دُون أن ينبِس ببِنت شَفَة ليَسنُدَني. لم تكن لديَّ القوة لمَنْعِه؛ فقد كنتُ أحتاج إلى النَّوم.

قال: «سأصطحِبُك إلى المنزل، سنُحارِب دِبرا غدًا.»

أجبتُ قائلًا: «بالتأكيد.» ثم ركبتُ القطار الذي كان يقِف مُنتظِرًا.

ولكنَّنا لم نذهَب إلى المنزل. فقد اصطحبَني دان إلى الفندق الذي كنتُ أُقيم به مرَّة أخرى، فندق كونتمبراري، وأوصلَني إلى باب غُرفَتي. فتح قُفل الباب عبر بطاقة الدُّخول الإلكترونية ووقفَ مُرتبكًا وأنا أعرُج إلى داخل الغُرفة الخاوية التي صارت منزلي الجديد، ثم أسقُطُ راقدًا على السرير الذي أصبَحَ ملكي الآن.

انسلَّ خِلسةً وفي عينَيه نظرةُ اعتِذار، ليَعود إلى ليل وإلى المنزل الذي كُنَّا نَتَشارك فيه.

ضغطتُ على لاصِقةٍ تحتوي على مُهدِّئٍ ينتقِل عبر الجِلد أعطاني إيَّاها الطبيب، وأضفتُ مُنظِّمًا للمِزاج كان قد أوصى باستِخدامه ليُساعِدَني على السيطرة على «تقلُّبات الشخصية»، وفي ثوانٍ خلدْتُ إلى النوم.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤