الفصل السابع

ساعَدتْني الأدوية على تجاوُز الأيام القليلة التالية، وبدأتْ عملية تجديد القصر. عمِلْنا طوال الليل على نَصبِ سقَّالات حَول واجهةِ المبنى، على الرغم من أنها لن تُستخدَم للقيام بأيِّ عمل حقيقي، أردْنا فقط أن نُضفي مَظهرًا يُوحي بالتقدُّم السريع، كما أنَّني كانت لديَّ فكرة.

عملتُ مع دان جنبًا إلى جنب، مُستعينًا به كمساعدٍ شخصي لي؛ فكان يردُّ على مُكالماتي ويبحث الخُطط ويرصُد أوائل ردود الفعل المُتذمِّرة على شبكة الإنترنت بعدما بدأ مُرتادو عالم ديزني يعرِفون أن القصر يُفَكَّك لإجراء عملية تجديد كاملة. لم نكن نتبادَل الحديث إلَّا إذا اقتضت الضرورة وكنَّا نقِف كتفًا إلى كتِفٍ دون أن ينظُرَ أيٌّ مِنَّا في عَين الآخر. لم أكن أشعُر بالإحراج وأنا مع دان على أية حال، ولم يدَعْ ذلك يحدُث، وعلاوةً على ذلك فقد كُنَّا مُنشغِلين بصرف الزُّوَّار المُحبِطين بعيدًا عن القصر. وكان عددٌ كبير منهم يتوجَّه إلى قاعة الرؤساء مُباشرة، وهو ما كان مُحبِطًا.

لم نُضطرَّ للانتِظار طويلًا حتى وَصلَنَا أولُ ردِّ فعلٍ مُطوَّلٍ ومذعور حول القصر في ثوبه الجديد، وقد قرأه دان بصوتٍ عالٍ عبر شاشته الذهنية: «مرحبًا! هل سمِع أيٌّ منكم أيَّ شيءٍ عن أعمال الصيانة التي تَقرَّر إجراؤها في القصر المسكون؟ لقد مررتُ به منذُ قليلٍ في طريقي إلى قاعة الرؤساء الجديدة ويبدو أن عملًا ضخمًا يَجري مَجراه؛ سقَّالات وحشود من أعضاء طاقم العمل يدخلون ويخرجون، ألقوا نظرة على الصور. أتمنَّى ألَّا يكون فيما يفعلونه إفساد لشيءٍ جميل. بالمناسبة، لا تُفوِّتوا زيارة قاعة الرؤساء الجديدة، إنها تجسيد حقيقي لمجتمع الروعة.»

قلت: «حسنًا، مَن صاحِب هذا التعليق؟ وهل هو لدَينا على القائمة؟»

تأمَّلَ دان للحظةٍ ثم قال: «إنها كيم رايت، وهي على قائمتنا. لدَيها رصيد جيِّد من الووفي، وتقوم بالكثير من أنشطة المُعجَبين، كما أنها من القُرَّاء النَّهِمِين.»

قلت: «اتَّصِل بها.»

كانت هذه هي الخطة: نُعيِّن المهووسين من المُعجَبين على الفور ونُسلِّمهم زِيًّا يَرتدونه ثم نَضعُهم على السَّقَّالات، ونُعطيهم مُعدَّاتٍ ضخمة مُزيَّنة بالوطاويط ونجعَلهم يقومون بأداءٍ تمثيليٍّ صامِتٍ وهم يتحرَّكون بصخَبٍ في أعمال البناء. وفي الوقت المُناسِب، سيتفاجأ سانيب وعصابته بدفْعةٍ من روبوتات الحضور المرئي عن بُعدٍ تعمل وتتحرَّك بالفعل، وسنتوَجَّه إليها، ونجعلها تتجوَّل في منطقة طوابير الانتِظار وتتفاعل مع الزوَّار الفُضولِيِّين. سيفتح القصر الجديد للعمل في خلال ٤٨ ساعة، ولكن بشكل محدود. كان استِخدام السَّقَّالات استراتيجية جيدة؛ إذ كانت عامِلَ جذبٍ بَصريًّا للحشود المُتدفِّقة إلى قاعة الرؤساء الخاصَّة بدِبرا، إذ كانت تقِفُ كي تُلقي نظراتٍ فضوليةً سريعة.

أنا رجل في غاية الذكاء.

•••

اتَّصَل دان بالمَدعُوَّة كيم وتحدَّث معها وهي تُغادِر لُعبة قراصنة الكاريبي. تساءلتُ ما إذا كانت الشخص المُناسِبَ لهذا العمل؛ فقد كانتْ مفتونةً بِشدَّةٍ بعمليات التجديد التي قامت بها دِبرا وطاقمها. لو كان لديَّ مُتَّسَعٌ من الوقت، لتحقَّقتُ بإمعانٍ من هوية وماضي كلِّ شخصٍ لدَيْنا على قائمة الأسماء، ولكن هذا الأمر كان سيَستغرِق شهورًا.

فتَحَ دان حديثًا جانِبِيًّا مع كيم وتحدَّث بصوتٍ عالٍ، مُراعاة لإعاقتي، قبل أن يدخل في صُلب الموضوع قائلًا: «لقد قرأنا مَنشورَكِ عن تجديد القصر. أنتِ أول من لاحَظَه وكُنَّا نتساءل إن كنتِ مُهتمَّة بزيارتنا للتعرُّف أكثر على خُطَطِنا.»

جفَل دان وقال لي هامسًا: «صوتُها مُرتفِع للغاية.»

حاولتُ بشكلٍ لا إرادي سحْبَ شاشةٍ ذِهنية لأستعرِضَ مَلفَّاتي المُخصَّصة للمُعجَبين بالقصر الذين كنَّا نأمُل في تَوظيفهم، ولم يحدُث أيُّ شيءٍ بالطبع. فعلتُ ذلك عشرات المرات هذا الصباح دون جدوى. وعلى الرغم من ذلك لم يَسعْني أن أُبدي أيَّ غضبٍ إزاء ذلك، ولا إزاء أيِّ شيءٍ آخَرَ في الواقع، ولا حتى أثر القُبلة الواضِح على رَقَبة دان أسفل الياقَةِ مُباشرة. كانت لاصِقَةُ مُنظِّم المِزاج، الموضوعة على عضلَةِ ذِراعي بأوامر الطبيب، هي السَّبَبُ في هذا الهُدوء.

«حسنًا، حسنًا. نحن نقِفُ بجوار مَقبرة الحيوانات الأليفة، عُضوان من أفراد طاقم العمل، رَجُلان يَرتدِيان ملابس القصر وطولُنا حوالي خمس أقدام وعشر بُوصات ونبدو في الثلاثين من عُمُرنا، لا يُمكِنُك أن تُخطئينا.»

لم تُخطِئنا. وصلَتْ مَقطوعةَ الأنفاس ومُتحمِّسةً وهي تركُض. كانت تبدو في العِشرين وكانت تَرتدي ما يُميِّز هذه الشريحة العمرية: عباءة تَحكُّمٍ بالجَوِّ شبابية عصرية مُزوَّدة بغِطاءٍ للرأس مُلتصِقة بأطرافها وتكشِف ساقَيها الطويلَتَين ذَواتي الرُّكبَتَين المُزدَوَجَتين. كانت مُفعَمَةً بالحماس الذي يُميِّز هؤلاء الشباب، بمن فيهم الفتاة التي قتَلَتْني.

ولكنَّ التَّشابُهَ بينها وبين قاتِلَتي لم يتجاوَز ملابِسَها وشكل جسدها. فلم تكن ترتدي قِناعًا مُصمَّمًا، بل كان وَجهًا به من العيوب ما يكفي للقول إنه الوجه الذي وُلِدَت به؛ إذ كانت عيناها قَريبَتَين إحداهما من الأخرى وأنفُها عريضًا وأفطَس قليلًا.

أعجبتْني طريقتها في التنقُّل عبر الحشود: سريعة ومُنخفِضة ولكن دون تدافُع. نادَيتُ وهي تقترِب قائلًا: «كيم، ها هنا.»

أطلقَتْ صيحةَ سعادةٍ وتوَجَّهَت نحوَنا مُباشرة. على الرغم من أنها كانت تتحرَّك بأقصى طاقتها، فقد كانت ماهِرة في اجتِياز الحشود دون مُلامَسةِ ولو شخص واحد. عندما وَصَلَتْ إلينا وجدتُها قصيرة وكانت تَثِبُ قليلًا. «مرحبًا، أنا كيم!» هكذا قالت وهي تهُزُّ ذِراعيَّ لأعلى وأسفل بالعُنف المُمَيِّز لذوي المفاصِل الإضافية. أجبت: «جوليوس.» وانتظرتُ وهي تُعيد الكَرَّة مع دان.

قالت: «إذن، ما العَرْض؟»

أخذتُ يدَها قائلًا: «لدَيْنا فُرصة عمَلٍ لكِ يا كيم، إذا كُنتِ مُهتمَّة.»

اعتصرَتْ يَدي بقوَّةٍ ولمَعَتْ عَيناها وقالت: «سوف أقبَلُها!»

ضَحِكتُ وضحِكَ دان أيضًا. كانت ضحكة مُهذَّبة تُميِّز أفراد طاقم العمل، ولكن كان وراءها شعور بالارتِياح. أردفتُ قائلًا: «أعتقِد أنَّ من الأفضل أن أشرح لك الأمر أولًا.»

أجابت وهي تعتَصِر يدي مرة أخرى: «تفضل!»

سحبتُ يدي من يدِها واستعرضتُ سريعًا نُسخةً مُختصرة من خطط التجديد دون التطرُّق إلى أيِّ شيء يخصُّ دِبرا وأتباعها. أنصَتَتْ كيم بتعطُّشٍ جَمٍّ وكانت تُومئ برأسها نَحوي في انبِهار وهي تَستعرِض الخطط. كان الأمر مُقلِقًا، وأخيرًا سألتُها: «هل تُسجِّلين ما أقوله؟»

تورَّد وَجهُها خَجلًا وقالت: «أرجو أن يكون ذلك مَقبولًا! لقد بدأتُ في إعداد دفتر قُصاصات جديد عن القصر. لديَّ دفترٌ مُخصَّص لكل لُعبةٍ بالمُتنزَّه على حِدة، ولكن هذا الدفتر بالذات لن يكون له مثيل!»

لم أفكر في هذا الأمر. لقد كان نَشرُ ما يقوم به أفراد طاقم العمل داخل المُتنزَّه محظورًا، حتى إنَّني لم يخطُر ببالي أن أفراد طاقم العمل المُستجدَّين الذين أتَيْنا بهم سيَرغبون في تسجيل كلِّ تفصيلةٍ صغيرة ونَشْرها على الإنترنت، وهي وسيلة قديمة لجمع الكثير من نقاط الووفي.

قالت كيم: «يمكنني إيقاف تشغيله.» كانت تبدو قلقة، وبدأتُ أستوعبُ كم كان القصر مُهمًّا للأشخاص الذين نُوظفُهم، وكم كان ما نُقدِّمه لهم شرفًا كبيرًا.

أجبتُ قائلًا: «اتركيه يعمَل. دَعينا نُرِ العالَم كيف يَجري الأمر.»

قُدْنا كيم إلى أحدِ أنفاق المَرافق نزولًا إلى قِسم الملابس. كانت شِبْهَ عارية حينما وَصلْنا إلى هناك، وكانت تمزِّق ملابسها، حرفيًّا، استعدادًا لتقمُّص الشخصية الجديدة. وكانت سونيا، وهي أحد أفراد لجنة ساحة الحرية كنَّا قد أخفَيْناها عن الأعيُن في قِسم الملابس، قد جهَّزَت لها بالفعل زيَّ خادِمةٍ رثًّا وحِزام أدوات ضخمًا.

تركنا كيم على السَّقَّالة وهي تَضعُ على الحائط بديلًا للأسمنت ذا قاعدة مائية وتُسَوِّيه بنشاطٍ ثُمَّ تكشُطه وتنتقِل إلى بُقعةٍ جديدة. بدا لي الأمر مُملًّا، ولكن كان بإمكاني تصديق أنه حينما يَحين الوقت، سيكون علينا أن نُجبِرَها على المُغادَرة.

عُدْنا إلى البحث على الإنترنت عن المُرشَّح التالي.

•••

بِحُلول وقت الغَداء، كان هناك عشرة أفراد طاقم عمل مُستجدِّين فوق السقَّالات هنا وهناك، يقومون بالحفر والدقِّ وتَسويَةِ بديل الأسمنت ويدفعون عَرَبات النقل اليدوي السوداء، وهم يُغنُّون أغنية «الأشباح المُبتَسِمة المُروِّعة» ويَقضُون وقتًا مُمتِعًا بشكلٍ عام.

قلتُ لدان: «هذا يكفي.» كنتُ مُنهكًا وأتصبَّب عرَقًا، وكانت اللاصِقة أسفلَ الزِّيِّ الذي أرتدِيه تُسبِّب لي الحكَّة. على الرغم من السعادة الغامِرة التي كنتُ أشعُر بها بداخلي، إلَّا أن دفقة من النَّزَق غير المعهود في طباع أفراد طاقم العمل تسلَّلَت إلى مِزاجي. كنتُ بحاجةٍ إلى الخروج من المسرح.

ساعَدَني دان على الخروج وأنا أعرُج، وبِمُجرَّد خروجنا إلى نَفَق المرافق همَس في أذُني قائلًا: «كانت فكرة عظيمة حقًّا يا جوليوس.»

قفَزْنا بأحد القِطارات المُتجِّهة إلى مَجمَع المُبتكِرين وأنا أشعر بالفخر الشديد. كان لسانيب ثلاثة من مُساعديه يعملون على الجيل الأول من روبوتات الحضور المرئي عن بُعدٍ المُتحرِّكة للسطح الخارجي، بعد أن قطَع وَعدًا بتقديم نموذج أوَّليٍّ بَعدَ ظُهر هذا اليوم. كانت الروبوتات سَلِسةً بما فيه الكفاية — فهي من الأشياء الجاهزة المُتاحة في السوق — ولكن الأزياء والبرامج الكينيماتيكية كانت شيئًا مُختلفًا. أسعدَني قليلًا التفكير فيما سيخرُج به هو وعصابة سانيب مُفرِطة الإبداع من العباقرة الفائقين، كما أسعدَني كَوني بعيدًا عن عيون الجمهور.

بدا مَعمل سانيب وكأنَّ إعصارًا قد ضربه؛ فقد كانت تدخل وتخرُج منه أفواج من المُبتكِرين يحمِلون آلاتٍ غامِضةً أو يُشكِّلون دوائر نِقاش صغيرةً في الزوايا وهم يَصيحون كلما عرَضَت شاشاتهم الذهنية شيئًا أيًّا كان. وفي وَسط ذلك كلِّه وقَفَ سانيب، الذي بدا يَمنَع نفسه بالكاد من الصُّراخ فرَحًا! كان واضِحًا أنه في أفضل حالاته.

فتح ذِراعَيه عن آخِرِهما حينما لمَحَني أنا ودان، حتى بدا وكأنه مُستعِدٌّ لاحتِضان الجمع الفوضوي المُثرثِر بأكمله. صاح بِصوتٍ ارتفعَ فوق صوتِ الضجيج قائلًا: «يا له من جُنون رائع!»

وافقتُه قائلًا: «بكلِّ تأكيد، ما أخبار النموذج الأولي؟»

لوَّح سانيب بِلا مُبالاة وأصابعه القصيرة ترسُمُ تَفاهات في الهواء وقال: «في الوقت المناسب، في الوقت المناسب. لقد كلفتُ هذا الفريق بشيءٍ آخر: تصميم برنامج كينيماتيكي لفئة من الأشباح الطائرة تَستخدِم أكياس الغاز لتظلَّ مُحلِّقة عاليًا؛ صامتة ومُرعِبة. إنها تقنية تجَسُّس قديمة، والتعديل يَسير على نَحوٍ رائع، انظر!» وأشار بإحدى أصابعه إليَّ وأطلَقَ دفقةً من البيانات نحوي مُفترِضًا أنَّني سأتمكَّن من رؤيتها.

ذكَّرتُه بِلطف: «أنا غير مُتَّصِل بالشبكة.»

خبَط على جبهته واستغرَق بُرهةً ليُزيح شَعْره من على وَجهِه ولوَّح لي مُعتذِرًا ثم قال: «بالطبع، بالطبع، إليك هذا.» فَرَدَ شاشة عرضٍ بلُّورية (إل سي دي) وأعطاها لي. رقَصَ سِربٌ من الأشباح على الشاشة في مُواجهة مَشهد قاعة الرقص، كانوا يَتناسَبُون من حيث الموضوع مع أشباح القصر الموجودين بالفعل، وكانوا مُضحكين أكثر منهم مُخيفين وكانت وجوههم مألوفة؛ نظرتُ حولي في المُختبَر وأدركتُ أنهم كانوا نُسَخًا كاريكاتيرية للعديد من المُبتكِرين.

قال سانيب وهو يفرُك يدَيه معًا: «هاه! لقد لاحظت! مُزْحة جَيِّدة بحق. أليس كذلك؟»

قلتُ بحذر: «هذا رائع! ولكنَّني أحتاج حقًّا إلى بعض الروبوتات الجاهزة للتشغيل غدًا مساءً يا سانيب. لقد ناقَشْنا هذا. هل تتذكَّر؟» بدون روبوتات الحضور المرئي عن بُعد، ستكون تَعييناتي مقصورة على المُعجَبين أمثال كيم مِمَّن يعيشون بالمنطقة. وقد كانت مُخطَّطاتي أكبر من ذلك.

بدا سانيب مُحبَطًا وقال: «بالطبع ناقشْناه. فقط لا أُحبُّ أنْ أوقِفَ زُملائي حينما يكون لدَيهم أفكار جيدة، ولكن ثمَّةَ مُتَّسعٍ من الزمان والمكان. سأجعَلهم يَبدءون العمل على هذا الموضوع فورًا، اترك الأمر لي.»

استدار دان ليُحيِّي أحد الأشخاص، نظرتُ لأعرف من هو. كانت ليل، بالطبع. كانت الهالات السوداء تُحيط بِعَينيها المُتعَبَتَين. مدَّت يدَها لتُمسِك بيد دان، ولكنَّها حينما رأتْني، غيَّرَت رأيها.

قالت بعَفْوِية حَذِرة: «مرحبًا يا رِفاق.»

ردَّ سانيب: «أوه مرحبًا!» أشار بإصبعه نحوَها ربما ليُرِيَها الأشباح الطائرة، كما أعتقد. استدارتْ عَينا ليل إلى أعلى لوهلَةٍ ثُمَّ أومأت له بِوَهَن.

قالت: «جيد جدًّا، لقد بَلغَتْني أخبار للتوِّ من ليزا. تقول إن أفراد طاقم العمل الذين يعملون بالداخل يَسيرون وفق الجدول المُحدَّد. لقد فكَّكوا مُعظم الدُّمى الآلية المُتحرِّكة ويُنزِلون الآن اللوح الزُّجاجي في قاعة الرقص.» نُفِّذَتْ مُؤثرات الأشباح البصرية بقاعة الرقص، عن طريق لَوحٍ عملاق من الزجاج المصقول، قسَّم الغرفة بشكل جانبي إلى قِسمين، وبُني القصر حوله؛ كان ضخمًا للغاية بدرجةٍ تَحُول دون تَفكيكه كقطعةٍ واحدة. أردفَتْ ليل قائلة: «يقولون إنهم سيحتاجون إلى بضعة أيام حتى يُقَطِّعوه ويصير جاهزًا للنقل.»

خيَّم علينا صمتٌ غير مُريح تَبارى المُبتكِرون في كسْرِه بضجيجهم.

وأخيرًا قال دان: «لا بُدَّ أنَّك مُرهَقة.»

قلت: «هذا صحيح.» وفي نفس اللحظة قالت ليل: «نعم، أعتقِد ذلك.»

ابتَسَم كِلانا ابتسامةً باهِتة. وَضَع سانيب ذِراعيه حول كتِفِ ليل وكتِفِي واعتَصَرَهُما. كانت تَفُوح منه رائحة مَزيجٍ غريب من زُيوت التشحيم والأوزون وسُموم الإرهاق.

قال سانيب: «يجِب أن تعودا أنتما الاثنان إلى المنزل ويَدلُك أحدكما الآخر. أنتما تَستحقَّان بعض الراحة.»

التقَتْ عَينا دان بِعينيَّ وهزَّ رأسه مُعتذرًا. أفلتُّ من أسفل ذِراع سانيب وشكرتُه بهدوء، ثم انسللتُ خِلسة إلى مُنتجَع كونتمبراري لأحظى بحمَّامٍ ساخِنٍ وساعتَين من النوم.

•••

عُدتُ إلى القصر عند غروب الشمس. كان الجوُّ باردًا بما يكفي، فسلكتُ أحد الطرق البَرِّية، واضعًا ثياب العمل مَطوِية في حقيبة كتِف، بدلًا من القيادة عبر جَلَبة أنفاق المرافق المُكيَّفة المُريحة.

حينما هبَّت نِسمة هواء مُنعِشة نَحوي، شعرتُ بحنينٍ مُفاجئٍ إلى الجوِّ الحقيقي، وبهذا النوع من المناخ الذي ترعرعتُ فيه بتورونتو. كنَّا في شهر أكتوبر، ولكن بعد قضاء عمرٍ كامل في الأجواء المكيفة كنتُ أشعر أننا في شهر مايو. توقَّفتُ وانحنيتُ على أحد المقاعد للحظةٍ وأغلقتُ عينيَّ. من تلقاء نفسي، وبنفس وضوح رؤية الشاشة الذهنية، رأيتُ مُتنزَّه هاي بارك في تورونتو في ردائه الخريفي المُلوَّن بدرجات الأحمر والبرتقالي النارية ودرجات الخُضرة الدائمة واللون البُني الترابي. يا إلهي! كنتُ في حاجة إلى إجازة.

فتحتُ عينيَّ وأدركتُ أنني أقف أمام قاعة الرؤساء، وأن أمامي صفًّا يمتدُّ لمسافة طويلة في انتظار الدخول. حسبتُ العددَ الكليَّ للحشد سريعًا في ذِهني وسحبتُ بعض الهواء بين أسناني: كان لديهم ما يكفي من الأشخاص لملء خمسة أو ستة منازل ينتظرون هنا؛ أي ببساطة، ساعة كاملة من الانتظار … لم تجتذب القاعة كلَّ هذه الحشود من قبل. كانت دِبرا تُحرِّك الأبواب الدوَّارة مُرتدية زيَّ بيتسي روس المصنوع من قماش الجِنْهام ذي النقوش المربَّعة، ولمَحتْني وأومأت لي إيماءة سريعة.

غادرتُ مُتجهًا نحو القصر. تشكلتْ جوقة من الزومبي من المُستجدِّين الذين عينَّاهم حديثًا أمام البوابة، يمشون بتثاقُل وهم يتأوَّهون على أنغام «الأشباح المبتسمة المروِّعة» بشكل جديد من أسلوب النداء والاستجابة الموسيقي. شارك جمهور قليل بعدما حثَّهم العاملون المُستجدُّون الواقفون على السقَّالات.

غمغمت لنفسي قائلًا: «حسنًا، على الأقل الأمر يسير على نحوٍ صحيح.» وكان الأمر كذلك فعلًا، فيما عدا أنني كنتُ أرى بعض أفراد اللجنة ينظرون من الخطوط الجانبية، ولم تكن نظراتٍ بريئة. يُعتبَر المُعجبون الشديدو الهوس مقياسًا جيدًا لمدى شعبية أيِّ لعبة، إلَّا أنهم مُزعِجون للغاية أيضًا. فهم يُحرِّكون شفاههم بالتزامُن مع الأغنية، ويتسوَّلون للحصول على التذكارات، ويُضايقونك بأسئلةٍ استعراضية مُتملِّقة، فيبدأ حتى الأعضاء الأكثر بهجةً بين أفراد طاقم العمل في فُقدان صبرهم والشعور بنفور تلقائي منهم.

اقتنع أفراد لجنة ساحة الحرية الذين يعملون على القصر بالموافقة على التجديد، ودُفِعوا دفعًا للعمل عليه، وكانوا مُجبَرين الآن على تحمُّل صحبة هؤلاء المُعجبين المهووسين المُحبين للفْتِ الأنظار. لو كنتُ هناك حينما بدأ الأمر كله — بدلًا من النوم! — فلربما تمكنتُ من تخفيف آلام غرورهم المجروح، ولكني أتساءل الآن ما إذا كان الوقت قد فات لفعل ذلك.

لم يكن هناك مفرٌّ من القيام بذلك. تواريتُ في أحد أنفاق المرافق وبدَّلتُ ملابسي، مُرتديًا الزيَّ الخاصَّ بي وعُدتُ إلى المسرح مرة أخرى. انضممتُ بحماس إلى جَوقة الغناء بأسلوب النداء والاستجابة ومررتُ على أفراد اللجنة لأحثَّهم على الانضمام، على مَضضٍ أو خلاف ذلك.

بحلول الوقت الذي توقَّف فيه أعضاء الجَوقة عن الغناء وهم مُتعَبون ويتصبَّبون عرقًا، كانت مجموعة من أفراد اللجنة جاهزة لتحلَّ محلَّهم، ورافقتُ المُستجدِّين إلى إحدى غرف الاستراحة خارج المسرح.

•••

مرَّ أسبوع كامل ولم يُسلِّم سانيب النماذج الأولية للروبوت، وأخبرني أنني لن أتمكن من الحصول على شيء ولو حتى خمس وَحدات إنتاج قبل أسبوع آخر. على الرغم من أنه لم يقُلْ ذلك، فقد انتابني شعور بأنَّ هؤلاء الرجال كانوا خارج السيطرة وأنهم كانوا سعداء للغاية بالتحرُّر من مُراقَبة أفراد اللجنة حتى فلَتَ زمامُهم. كان سانيب نفسه في حالة مُزرية وكان عصبيًّا ومُتقلِّب المِزاج. فلم أُلِحَّ في الأمر.

إلى جانب ذلك، كانت لديَّ مشاكلي الخاصة؛ فقد تضاعفت أعداد المُستجدِّين، وحرصتُ على مُتابَعة ردود فعل المُعجَبين إزاء عملية التجديد أولًا بأول من محطة إرسال ركبتُها في غرفتي بالفندق. كانت كيم وزملاؤها المحليون يقومون بملايين الزيارات عبر شبكة الإنترنت يوميًّا، وكان رصيدهم من الووفي يتضاعف كلما وَلَج المُعجبون الغيورون من جميع أنحاء العالم إلى الشبكة ليشاهدوا التقدُّم الذي أحرزوه فوق السقَّالات.

كان كلُّ شيء يسير وفق الخطة المرسومة، وكان الاستثناء الوحيد هو المستجدين؛ فقد كانوا يُعيِّنون أشخاصًا جددًا من تلقاء أنفسهم، ويرسلون الدعوات لأصدقائهم على الإنترنت ليأتوا إلى فلوريدا، ويشاركوهم المَبيت على الأرائك والأسِرَّة المُخصَّصة للضيوف ثم يُقدِّمون أنفسهم لي ليتسلَّموا مهامَّ عملهم.

حينما تكرَّر الأمر للمرَّة العاشرة، توجَّهتُ إلى كيم في غرفة الراحة. كان حلقُها يتحرَّك وعيناها تتابِعان كلماتٍ غير مرئية عبر مُنتصَف المسافة. كانت بلا شك تكتُب رسالة أخرى لاهِثة حول سِحر العمل في القصر، حدثتها قائلًا: «مرحبًا. هل لديك دقيقة لنتحدَّث معًا؟»

رفعَت إصبعًا واحدًا ثم، بعد لحظة، ابتسمَت لي ابتسامةً مُشرِقة.

قالت: «مرحبًا جوليوس! بالطبع!»

«لماذا لا تُبدِّلين ملابسك وترتدين الملابس غير الرسمية؟ سنأخذ جولة عبر المُتنزَّه ونتحدَّث معًا.»

كانت كيم ترتدي زيَّ العمل كلما واتتها الفرصة، إلا أنني كنتُ حازمًا جدًّا في هذا الأمر وكنتُ أُصرُّ على أن تضع الزيَّ في المَغسلة في نهاية كل ليلة بدلًا من أن تعود إلى المنزل مُرتدِيةً إياه.

دخلتْ إلى إحدى غرف تبديل الملابس على مَضضٍ وارتدت عباءتها الطويلة. سلكنا نفق المرافق مُتجهَين إلى مخرج أرض الخيال، ومَشينا عبر ازدحام ما بعد الظهيرة إذ اصطفَّ الكبار والصغار في طوابير انتظار كثيفة لمشاهدة عروض سنو وايت، ودامبو، وبيتر بان.

سألتها: «هل يُعجبك العمل هنا؟»

وثبتْ كيم وثبةً خفيفة وقالت: «أوه يا جوليوس، إنها أفضل أوقات حياتي بحق! إنه حلم تحوَّلَ إلى حقيقة. فأنا أقابل العديد من الأشخاص المُثيرين للاهتمام وأشعُر بالقُدرة على الإبداع حقًّا. لا أطيقُ صبرًا حتى أُجَرِّبُ روبوتات الحضور المرئي عن بُعد أيضًا.»

«حسنًا، أنا مسرورٌ حقًّا بما تقومين به أنتِ وأصدقاؤك هنا. إنكم تعملون بجدٍّ وتقدِّمون عرضًا جيدًا. أحبُّ الأغنيات التي كنتم تعملون عليها أيضًا.»

قامت بواحدةٍ من حركات المُراوَغة المزدَوَجة التي كانت أساس العديد من فيديوهات الإثارة في تلك الأيام، ووجدتُها تقِف أمامي فجأةً واضعة يدَها على كتفي وتنظر في عينَي. كانت تبدو جادَّة.

«أتوجَد مشكلة يا جوليوس؟ إذا كان الأمر كذلك، أُفضِّل أن نتحدَّث عن الأمر بكلِّ بساطة، بدلًا من الانخراط في مُحادثات سطحية.»

ابتسمتُ وأزحتُ يدَها عن كتِفي وسألتها: «كم عمرُك يا كيم؟»

«تسعة عشر. ما المشكلة؟»

تسعة عشر! يا إلهي! لا عجَب في أنها مُتقلِّبة إلى هذا الحد. ما عُذري إذن؟

«ليست مشكلة يا كيم، بل مجرَّد شيء كنتُ أرغَب في مُناقشته معك: كل هؤلاء الناس الذين كنتم تُحضرونهم إلى هنا ليعملوا لحسابي، إنهم جميعًا رائعون.»

«لكن!»

«ولكن مواردنا محدودة هنا وليس لديَّ عدد كافٍ من الساعات يوميًّا لأُتابع هؤلاء المُستجدِّين عن كثَب، وأعمال التجديد، وكل الأشياء الأخرى. ناهيك عن أننا لن نستطيع سوى استخدام عددٍ محدودٍ من العمَّال الإضافيين حتى يَحين موعد افتتاح القصر الجديد. وأخشى أن ندفع بشخصٍ لم يَتلقَّ التدريب الكافي على خشبة المسرح أو أن يَنفدَ مَخزوننا من الأزياء الرسمية، كما أخشى أن يقطع الناس كلَّ هذه المسافة ليكتشفوا عدم توافُر أي مُناوبات عملٍ لهم.»

نظرتْ لي نظرة ارتياحٍ وقالت: «هل هذا كلُّ شيء؟ لا تقلق بهذا الشأن. لقد كنتُ أتحدَّث إلى دِبرا هناك في قاعة الرؤساء، وقالت إنها يُمكنها أن تأخُذ أيَّ عددٍ من الأشخاص ممَّن لا يُمكن إلحاقُهم بالعمل في القصر، حتى إننا يُمكننا أن نتبادَل العمالة!» كان يبدو جليًّا أنها فخورة ببُعد نظرها.

طنت أذُني. إنها دِبرا التي تَسبقني بخطوة دائمًا. على الأرجح أنها اقترحت على كيم أن تُعيِّن عمالة إضافية منذ البداية. ستأخُذ من أتَوا لينضمُّوا إلى العمل بالقصر وتُقنِعهم أن أفراد طاقم العمل المسئولين عن ساحة الحرية كانوا يُرهِقونهم بالعمل الشاق، ثم تَستدرِجُهم إلى مزرعة الووفي الصغيرة الخاصة بها، وهذه هي أفضل طريقة للاستيلاء على القصر والمُتنزَّه وعالم والت ديزني برمَّته.

قلتُ بحذَر: «لا أعتقد أن الأمر سيصِل إلى هذا الحد. أنا مُتأكد من أن بإمكاننا أن نجِد لهم جميعًا شيئًا ليقوموا به في القصر. كلَّما كان العدد أكبر، صارت المُتعة أكبر.»

مالت كيم وقد ارتسمَتْ على وجهها الحيرة، ولكنها تجاهلَت الأمر. عضضتُ لِساني، فأعادني الألم إلى أرض الواقع وبدأتُ أخطط لإنتاج الأزياء، وإعداد جداول التدريب والمبيت. يا إلهي! فقط لو نجح سانيب في الانتهاء من تجهيز الروبوتات!

•••

قلتُ بعصبية: «ماذا تعني بلا؟»

عقدَتْ ليل ذِراعيها ونظرت لي بغضبٍ قائلة: «لا يا جوليوس، لن يحدُث. إن المجموعة تشعُر بالضيق بالفعل من أن المُستجدِّين هم من سيحصدون المجدَ كلَّه، ولن يَسمحوا لنا أبدًا بجلْب المزيد منهم. كما أنهم لن يوقِفوا العمل في عملية التجديد من أجل تدريبهم، وإلباسهم، وإطعامهم، ورعايتهم. إنهم يفقدون رصيدًا من الووفي كل يوم ما دام القصر مغلقًا، ولا يُريدون أيَّ تأخيرات أخرى. لقد انضمَّ ديف بالفعل إلى دِبرا، وأنا متأكدة أنه لن يكون الأخير.»

ديف، ذلك الأحمق الذي أغضبه تجديد القصر بشدَّة في الاجتماع. بالطبع انضمَّ لها. كان ليل ودان يقِفان جنبًا إلى جنبٍ في شُرفة المنزل الذي كنتُ أعيش فيه. قُدتُ سيارتي في تلك الليلة وذهبتُ إلى ليل لأُقنِعها بأن تَستميل الأعضاء الآخرين للموافقة على جلب المزيد من المُستجدِّين، ولكن لم يكن الأمر سيسير وفق الخطة المرسومة. لم يَسمحا لي حتى بدخول المنزل.

«ماذا أقول لكيم إذن؟»

ردَّت ليل: «قل لها ما تُريد، أنت من أحضرَها، تولَّ أمرها، تحمل بعض المسئولية مرة واحدة في حياتك.»

لم يكن ليتحسَّن الأمر بأيِّ شكل. نظر لي دان بأسَفٍ في حين حدَّقَت ليل فيَّ غاضبة لبُرهة ثم دخلَتِ المنزل.

قال دان: «إن دِبرا تُبلي بلاءً حسنًا بحق. إنها حديث الشبكة بأسرِها. إنه أهمُّ حدَث على الإطلاق. إن التخليق السريع يَحظى بشعبيةٍ في النوادي الليلية؛ إذ يمتزِج الرقص بالنُّسخة الاحتياطية لمُنسِّق الأغاني ويُدفَع بها في دفقات سريعة إلى أذهان الراقصين.»

قلت: «يا إلهي! لقد أخفقتُ يا دان. لقد أفسدتُ كلَّ شيء.»

لم ينبِس ببِنت شَفةٍ كأنه يُوافِقني الرأي.

قرَّرتُ وأنا في طريق العودة إلى الفندق أنني بحاجة للتحدُّث مع كيم. كانت مشكلة لا أحتاجها، ولكنها مشكلة ربما يُمكنني حلُّها. انعطفتُ بسيارتي الصغيرة بعُنف، فأطلقَتْ صوتًا مُرتفعًا واتَّجهتُ إلى منزلها، كانت شقَّةً صغيرة في أحد المُجمَّعات السكنية المُتهاوِية التي كانت قرية مُسوَّرَة مُخصَّصة للمُسنِّين في الماضي قبل ظهور مجتمع الروعة.

كان من السهل التعرُّف على منزلها. فقد كانت كلُّ الأنوار مُضاءة وسُمعَت أصوات حديثٍ خافتة قادمة عبر الباب السِّلكي.

سمعتُ دِبرا تقول: «أوه بالطبع، بالطبع! إنها فكرة رائعة! في الواقع، لم أفكر من قبل في الاستِعانة بفنَّاني الشارع لإضفاء البهجة على المنطقة المُخصَّصة لطوابير الانتظار، لكن ما تقولينه فيه كثير من المنطق. إنكم تقومون بأفضل عمل مُمكن بالقصر يا رفاق، جِدوا لي الكثير من أمثالكم وسآخذهم للعمل في القاعة في أيِّ وقت!»

سمعتُ كيم وأقرانها الشباب يتحدَّثون بحماسٍ وفخر. اعتَراني الغضب والخَوف من رأسي حتى أخمَص قدَمي، ثم شعرتُ فجأة بالخِفَّة والهدوء وبأنني مُستعدٌّ للقيام بشيءٍ رهيب.

ترجَّلتُ الدَّرَج في هدوءٍ دون أيِّ صوت واستقللتُ سيارتي الصغيرة.

•••

بعض الناس لا يتعلَّمون من أخطائهم أبدًا، وأنا واحدٌ من هؤلاء، كما يبدو.

ضحكتُ ضحكةً خافتة على بَساطة خُطَّتي المضمونة وأنا أتسلَّلُ عبر مدخل طاقم العمل مُستخدِمًا بِطاقة الهوية التي حصلتُ عليها، حينما انقطع اتِّصال أنظِمتي بالشبكة، وصرتُ غيرَ قادرٍ على تمرير بطاقة التصريح الخاصَّة بي عند باب الدخول.

بدَّلتُ ملابسي في أحد الحمامات الموجودة بالشارع الرئيس وارتديتُ عباءة سوداء ذات غطاء للرأس حجبَتْ ملامحي تمامًا، ثم انسللتُ عبر الظِّلال بمُحاذاة واجهات المحلَّات حتى وصلتُ إلى الخندق المائي الذي يُحيط بقلعة سندريلا. حرصتُ على البقاء خفيًّا عن الأنظار وأنا أعبُر السياج، وسرتُ مُنحنيًا أسفل الجسر ثُمَّ انزلقتُ في الماء وخضتُ فيه وصولًا إلى الجانب الذي تقَع فيه أرض المُغامرة.

تسللتُ بجانِب بوابة ساحة الحرية وكنتُ أختبئ في المداخل كلَّما سمعتُ صوت عُمَّال الصيانة يمرُّون من بعيد، حتى وصلتُ إلى قاعة الرؤساء، وفي طرفةِ عين، كنتُ داخل المسرح نفسه.

أخرجتُ عتلة تكسير حديدية صغيرة من جيب عباءتي المزوَّد بعُروةٍ وأنا أُدندن الأغنية الرئيسة للعبة «إنه عالمٌ صغير»، وبدأت العمل.

كانت وحدات البثِّ الأولية مَخفيَّةً وراء قماش ملوَّن فوق المسرح، وكانت مبنية جيدًا على نحو مُثير للدهشة بالنسبة إلى تكنولوجيا الجيل الأول. بذلتُ مجهودًا كبيرًا في تحطيمها، ولكنني لم أتوقَّف حتى لم يعُد جُزءٌ واحد فيها يُمكن التعرُّف عليه. كان العمل بطيئًا وصاخبًا وسط هدوء المُتنزَّه، إلا أنه أدخلني في حالةٍ من اليقظة الحالِمة الباعِثة على الاسترخاء؛ إذ أخذتُ أطوِّح العتلة ثم أضرِب بها بقوة على نحوٍ آليٍّ عدَّة مرات كأني مُنوَّم مغناطيسيًّا. أخذت وحدات التخزين وخبأتُها أسفل الوِشاح على سبيل الأمان.

كان تحديد مكان وحدات النَّسخ الاحتياطية أصعبَ قليلًا، ولكن السنوات العديدة التي قضيتُها في التسكُّع في قاعة الرؤساء — في حين كانت ليل تعمل على إصلاح الدُّمى المتحرِّكة آليًّا — ساعدَتْني. تفحَّصتُ كل ركنٍ صغير وكلَّ شقٍّ وكلَّ منطقة تخزين بشكلٍ منهجيٍّ حتى وجدتُها في خِزانةٍ كانت تُوجَد في إحدى غُرف الاستراحة فيما مضى. كنتُ قد اعتدتُ إيقاع العمل بالفعل آنذاك، فلم أستغرِق وقتًا طويلًا.

قمتُ بجولةٍ أخرى، أتلفْتُ خلالها، أيَّ شيء كان يبدو وكأنه نموذجٌ أوليٌّ للجيل القادِم أو أي مُلاحظات من شأنها أن تُساعدهم على إعادة بناء الوحدات التي أتلَفتُها.

لم يكن لديَّ أدنى شكٍّ حول مدى استعداد دِبرا؛ فمن المؤكد أنَّ لدَيها شيئًا خارج المَوقِع يُمكنها أن تُحضره وتشغِّله في أيامٍ قليلة. لم يكن ما فعلتُه سيتسبَّبُ في ضررٍ دائم، فقط كنتُ أحاول كسْبَ بعض الوقت: يوم أو اثنين.

شققتُ طريقي بهدوءٍ خارِج المُتنزَّه دُون أن يراني أيُّ شخصٍ وخضتُ طريقي عبرَ مياه الخندق المائي حتى وصلتُ إلى سيارتي والماء يتسرَّب من حذائي.

نمتُ كالأطفال لأول مرَّة منذ أسابيع.

•••

انكشف أمري بلا شك؛ فمُمارسة الخُدَع المكيافيلية ليسَتْ من طباعي في الواقع، وهو ما جعلَني أُخلِّف ورائي أثرًا امتدَّ ميلًا، بدايةً من آثار الأقدام المُوحلة في بَهوِ فندق كونتمبراري والعتلة الحديدية التي تركتُها هناك مع عباءتي ووحدات التَّخزين الخاصَّة بالقاعة، والتي نَسيتُها بالمقعد الخلفي لسيارتي.

بينما كنتُ أشقُّ طريقي خروجًا من قِسم الأزياء عبر نفَق المرافق خروجًا إلى ساحة الحرية — قبل نصف ساعة من مِيعاد فتح أبواب المُتنزَّه أمام الزوَّار — أخذتُ أصفِر بنُسختي الخاصة من أغنية «الأشباح المُبتسِمة المروِّعة» بلحنٍ سريع له طابع موسيقى الجاز.

كانت ليل ودِبرا تقِفان أمامي. كانت دِبرا تُمسك عباءتي والعتلة الحديدية وأمسكَتْ ليل بوحدات التخزين.

لم أضع لاصِقتي الجلدية هذا الصباح، وبالتالي كان الإحساس الذي شعرتُ به حادًّا وصارخًا ومُلحًّا.

ركضت.

ركضتُ مُتخطيًا إياهما عبرَ الطريق المُؤدِّي إلى أرض المُغامرة، مارًّا بغرفة التيكي حيث قُتِلتُ، وبوابة أرض المغامرة حيث اجْتزتُ مياه الخندق المائي بصعوبة حتى نهاية الشارع الرئيس. أخذتُ أركض وأركض وأنا أدفَع الزوَّار المُبكِّرين بمِرفقي وأسحَق الزهور بقدَميَّ وأرتطِم بعرَبة تفَّاح صغيرة تقِف على الجانب الآخر من متجر بيني آركيد وأُسقِطُها أرضًا.

ركضتُ حتى وصلتُ إلى البوابة الرئيسة واستدرتُ ظانًّا أنني سأتجاوَز ليل ودِبرا وكلَّ مشاكلي. كنتُ مخطئًا في ظنِّي؛ فقد كانتا هناك، خلفي بخطوة، تلهَثان وقد اصطبغ وَجهاهُما باللون الأحمر. أمسكتْ دِبرا بعتلتي الحديدية وكأنها سِلاح ولوَّحَت بها في وَجهي مُهدِّدة.

قالت لي: «أنت أحمق لَعين. هل تعلَم هذا؟» أعتِقد أنَّنا لو كنَّا وحدَنا لكانت ضربَتْني بها.

قلتُ باستِهزاء: «لا تتقبلين الأمر حينما يُلاعِبك أيُّ شخصٍ بعُنف. أليس كذلك يا دِبرا؟»

هزَّت ليل رأسَها باشمئزازٍ وقالت: «إنها على حق، أنت أحمَق. أفراد طاقم العمل يعقِدون اجتماعًا في أرض المُغامرة. سوف تأتي.»

سألتُ وأنا أشعُر برغبةٍ شديدة في العراك: «لماذا؟ هل ستكرِّمينَني على كلِّ هذا العمل الشاقِّ الذي قمتُ به؟»

أجابت ليل: «سنتحدَّث عن المستقبل يا جوليوس، ما تبقَّى لنا منه.»

«بربِّك يا ليل! ألا تَرَين ما يحدُث؟ لقد قتلوني! لقد فعلوها، والآن يُحارِب أحدُنا الآخَرَ بدلًا من أن نُحاربها! لماذا لا يُمكنك رؤية كم أنَّ هذا خطأ؟»

قالت دِبرا بهدوءٍ وحِدَّة وهي تهمِسُ تقريبًا: «من الأفضل أن تَحذَر ترديد هذه الاتهامات يا جوليوس. أنا لا أعلَم من قتلَك أو السبب وراء ذلك، ولكنَّك المُذنِب هنا؛ أنت تحتاج إلى المساعدة.»

أطلقتُ ضحكة جافَّة. كان الزوَّار قد بدءوا في التدفُّق إلى المُتنزَّه الذي كان مفتوحًا أمام الجمهور الآن، وبينما أعضاء طاقم العمل الثلاثة الذين يرتدون ملابس العمل الرسمية يَصيح بعضهم في وجه بعضٍ، كان العديد من الزوَّار يُراقِبونهم باهتمام. كان يُمكنني الشعور برصيدي من الووفي وهو ينزِف. أردفتُ قائلًا: «دِبرا، أنتِ كتلة من الهُراء والزَّيف حقًّا، وعملك مُبتذَل ويفتقِر إلى الخيال. أنتِ لِصَّة لَعينة وحتى لا تَملِكين الشجاعة للاعتِراف بذلك.»

ردَّت ليل بوجهٍ قاسٍ وهي بالكاد تتحكَّم في غضبها: «هذا يكفي يا جوليوس، سنذهب.»

مشت دِبرا خلفي بخطوة وسبقتْني ليل بخطوة بطول الطريق عبر الحشود وصولًا إلى أرض المغامرة. سنَحت لي عشرات الفُرَص للانسِلال والهروب منهما عبر فجوةٍ وسط الفَيَضان البشري الذي أحاط بنا، ولكنِّي لم أُحاوِل. كنتُ أُريد فرصةً لأخبِر العالَم أجمع بما فعلتُه والأسباب وراء ذلك.

تبِعَتنا دِبرا ونحن نصعد الدَّرَج المؤدِّي لغرفة الاجتماعات. استدارت ليل قائلة بنبرةٍ مُتَّزِنة: «لا أعتقد أنكِ يجِب أن تكوني هنا يا دِبرا.»

هزَّت دِبرا رأسها قائلة: «لا يُمكنك منعي من الدُّخول، أنتِ تعلمين هذا. ولا ينبغي أن تكوني راغبة في ذلك؛ فنحن على الجانب نفسه.»

تذمرتْ بسخرية، وأعتقد أنَّ هذا هو ما جعل ليل تتَّخِذ قرارها؛ إذ قالت: «هيا إذن.»

كانت غرفة الاجتماعات تتسِع للوقوف فقط؛ فقد كانت تعجُّ عن آخِرها بكلِّ أفراد اللجنة، فيما عدا المُستجدِّين المُعَيَّنين من قِبَلي. لم يكن ثمَّةَ أيُّ عمل يتمُّ في القصر في ذلك الحين، وستكون ليبرتي بيل قابِعةً على رصيفها، حتى الأفراد العاملون بالمطاعم كانوا حاضرين. لا بُدَّ أن ساحة الحرية قد أصبحت مدينة أشباح الآن. أضفَتْ هذه الأجواء على الاجتماع شعورًا بالأهمية القصوى؛ في ظلِّ معرفة أنه يُوجَد زوَّار يتجوَّلون بلا هُدًى في ساحة الحرية ويبحثون عن أعضاء من أفراد طاقم العمل ليساعدوهم. ربما كان طاقم دِبرا مُتواجِدًا بالطبع.

كانت وجوه الحشود قاسية ومُتجهِّمة، وهو ما جعلني أُدرِك أنني في ورطةٍ كبيرة بلا أدنى شك. حتى دان الذي كان يجلس في الصفِّ الأمامي، بدا غاضبًا. كدتُ أنخرِط في البكاء عندئذٍ. دان، أوه دان، رفيقي، وكاتم أسراري، وضحيَّتي، ومُنافسي، وعدوِّي اللدود؛ دان، دان، دان. كنتُ أرغَب في أن أُبرحَه ضربًا حتى الموت وأحتضِنه في الوقت نفسه.

اعتلتْ ليل المنصَّة ووضعت بعض الشعرات الضالَّة خلف أُذنيها وقالت: «حسنًا إذن.» كنتُ أقِف إلى يسارِها فيما وقفَتْ دِبرا إلى يمينها.

«شكرًا لحضوركم اليوم. أودُّ إنهاء هذا الأمر سريعًا؛ فجميعنا لديه عمل مُهمٌّ ليقوم به. سأسرد الحقائق: ليلة أمس خَرَّبَ أحد أفراد أعضاء طاقم العمل هذا قاعة الرؤساء ولم يترُك فيها شيئًا سليمًا. ومن المُقدَّر أن يَستغرِق الأمر أسبوعًا على الأقلِّ لإعادة إصلاح القاعة وتشغيلها.

ليس من الضروري أن أُخبركم أن هذا أمر غير مقبول. لم يحدُث هذا من قبل قط، ولن يحدُث مرةً أخرى؛ سننظُر في الأمر.

أودُّ أن أقترِح عدَم القيام بأيِّ عمل إضافي في القصر حتى تعود قاعة الرؤساء للعمل بكامل طاقتها، وسأتطوَّع بخدماتي لإصلاح الأضرار.»

سرَتْ إيماءات مُوافِقة بين جمهور الحضور. لن تكون ليل هي الوحيدة التي ستعمل بالقاعة هذا الأسبوع. أردفَتْ ليل قائلة: «عالم ديزني ليس ساحة تنافُس؛ فجميع أفراد طاقم العمل على اختلافهم يعمَلون معًا ونحن نفعل هذا لنجعل المُتنزَّه في أفضل صورة مُمكنة. وإذا نسينا ذلك، فإننا نُعرِّض أنفسنا إلى الخطر.»

كنتُ على وشْك التقيُّؤ اشمئزازًا. قلتُ وأنا أحاوِل إبداء أقصى قدْرٍ مُمكن من الهدوء: «أودُّ أن أقول شيئًا.»

رمقتْني ليل بنظرةٍ قائلة: «لا بأس من ذلك يا جوليوس، يُمكن لأيِّ عضو من أفراد لجان العمل أن يتكلم.»

أخذتُ نفَسًا عميقًا وقلتُ بصوتٍ مُرتعِش: «لقد فعلتُ ذلك، حسنًا! لقد فعلتُ وليس لديَّ أيُّ عُذرٍ فيه. قد لا يكون أذكى تصرُّفٍ أتيتُ به في حياتي، ولكنَّني أعتقِد أنكم جميعًا يجِب أن تعرِفوا دَوافِعي للقِيام بهذا.

لا يُفترَض بنا أن يُنافِس بعضُنا بعضًا هنا، ولكن جميعنا يَعلم أن هذا مُجرَّد افتراض ضِمني لا يمتُّ للحقيقة بِصِلة. فالحقيقة أنَّ هناك مُنافسةً حقيقية في المُتنزَّه، وأنَّ أشرَسَ اللاعبين هم أفراد طاقم العمل الذين أعادوا تأهيل قاعة الرؤساء. لقد سرقوا القاعة منكم! فعلوا ذلك وأنتم مُشتَّتون واستخدَمُوني أنا كأداةٍ للإلهاء، لقد قتلوني!» سمعتُ صرخةً تزحَف إلى صوتي ولكنَّني لم أتمكن من القيام بأيِّ شيءٍ حِيال هذا الأمر.

«عادة ما تكون أكذوبة أنَّنا جميعًا في الجانِب نفسه مقبولة؛ لأنها تسمَح لنا بأن نعمل معًا في سلام. ولكن كلَّ ذلك قد تَغيَّر يوم أنْ قتلوني. إذا ظللتُم تُصدِّقون هذه الكذبة، فستفقِدون القصر، وليبرتي بيل، وجزيرة توم سويَرْ، والمُتنزَّه بأكمله. كل تاريخِنا مع هذا المكان — كلُّ تاريخ مليارات البشر الذين زاروه معه — سيُدَمَّر ويُستبدَل بالهُراء العقيم الأرعَن الذي سيطر على قاعة الرؤساء. وبمُجرَّد أن يحدُث ذلك لن يتبقَّى ما يجعل هذا المكان مُتميزًا. فيمكن لأيِّ شخصٍ الحصول على التجربة نفسها وهو جالس على أريكته بالمنزل! ما الذي سيحدُث بعد ذلك إذن؟ إلى متى سيظلُّ هذا المكان مفتوحًا في اعتقادكم بمُجرَّد أن يصير الأشخاص الوحيدون الموجودون هنا هم أنتم فقط؟»

ابتسمَت دِبرا بتعالٍ وسألتْني بلُطفٍ قائلة: «هل انتهيتَ إذن؟ رائع. أعلم أنَّني لستُ فردًا من هذه المجموعة، ولكن بما أنَّ عملي هو الذي دُمِّرَ ليلة أمس، أعتقِد أنني أودُّ أن أُعلِّق على ما قاله جوليوس، إذا كنتم لا تُمانِعون.» وتوقَّفَت ولكن لم ينبِس أيُّ شخصٍ ببِنت شفة.

أردفت قائلة: «أولًا: أريدُكم جميعًا أن تعلموا أنَّنا لا نُحمِّلكم مسئولية ما حدَث ليلة أمس. نحن نعلَم من هو المسئول وهو يَحتاج إلى المُساعدة. وأدعوكم إلى مُتابَعة الأمر لتتأكدوا من حصوله عليها.

ثانيًّا: أودُّ أن أقول إننا، على حسْب اعتقادي، على الجانب نفسه، ألا وهو جانب المُتنزَّه. هذا المكان مكان مُميَّز، ولم يكن من الممكن أن يكون له وجود بدون إسهاماتنا جميعًا. ما حدث لجوليوس كان فظيعًا، وآمُل من كلِّ قلبي أن يُقبَض على الشخص المسئول وأن يُقدَّم إلى العدالة، إلَّا إنَّني لستُ هذا الشخص ولا أي فرد من أعضاء فريق عملي.

ليل، أودُّ أن أشكرَك لعرضِك السخيِّ بتقديم المساعدة ونحن نقبله. وهذا يَسري على الجميع، تعالَوا إلى القاعة وسنجِدُ لكم عملًا. سنكون جاهِزين للعمل في أسرع وقت.

والآن، فيما يتعلَّق بالقصر، دعوني أقلْ هذا لمرة واحدة وبصورة نهائية: لا أرغَب أنا، ولا أيٌّ من أفراد فريق عملي، في الاستيلاء على القصر. إنه مُتنزَّه ترفيهي رائع، وهو يتطوَّر بفضل العمل الذي تقومون به جميعًا. إذا كنتم قلقِين من هذا الأمر، حسنًا، يمكنكم الاطمئنان الآن. كلُّنا على الجانب نفسه.

شكرًا لإنصاتكم لي، لا بُدَّ أن أذهب الآن لأُقابِل فريقي.»

وبينما ضجَّتِ القاعة بالتصفيق استدارتْ وخرجَتْ من القاعة.

انتظرتْ ليل حتى هدأ التصفيق ثم قالت: «حسنًا إذن، لدَينا عمل لنقوم به أيضًا. أودُّ أولًا، أن أطلُب معروفًا منكم جميعًا. أودُّ أن نُبقي على تفاصيل ما حدَث ليلة أمس سرًّا فيما بيننا؛ فإطلاعُ الزوَّار والعالَم على شيءٍ قبيح كهذا لن يكون في صالِحنا. هل يُمكِننا جميعًا أن نتَّفِق على ذلك؟»

عمَّتْ لحظة صمتٍ في حين كانت النتائج تُعرَض على الشاشات الذهنية، ثم ابتسمَتْ ليل للحشد ابتسامةً مُبتهِجة من القلب وقالت: «كنتُ أعلم أنكم لن تُخيِّبوا رجائي. شكرًا لكم يا رفاق، لنبدأ العمل.»

•••

قضيتُ اليوم بالفندق أتجوَّل حول محطة إرسالي في كسلٍ وتوانٍ. قالت لي ليل بعد الاجتماع بمُنتهى الوضوح إنَّني غير مسموح لي بالوجود في المُتنزَّه حتى «أحصُل على المُساعدة»، أيًّا كان ما يَعنيه ذلك.

انتشر الخبر بحلول الظهيرة. كان من الصعب تحديد مصدر تسريبه، ولكن يبدو أن الشُّبهات كانت تحوم حول المُستجدِّين؛ فقد أخبر واحد منهم أصدقاءه عبر الإنترنت عن الحدَث الجلَلِ الذي وقَع بساحة الحرية وذكر اسمي.

بدأت بعض المواقع في التشهير بي والطعن في شخصي بالفعل، وكنتُ أتوقَّع المزيد. كنتُ أحتاج إلى شكل من أشكال المساعدة بكلِّ تأكيد.

فكرتُ في المُغادرة حينئذٍ، أن أترُك كلَّ شيء خَلْفي وأُغادِر عالَم ديزني لأبدأ حياةً جديدة مُتواضِعة برصيدٍ فقير من السُّمعة وبلا أيِّ التِزامات.

لن يكون الأمر سيِّئًا للغاية؛ فقد كنتُ أعاني من سوء السُّمعة من قبل، منذ فترة ليست طويلة. في المرة الأولى حين كنتُ أتسكع مع دان في جامعة تورونتو؛ إذ كنتُ مِحور الكثير من الآراء المُتضارِبة من قِبَل الآخرين، وكنتُ في أقصى درجات الافتِقار إلى حُسن السُّمعة.

كنتُ أنام في تابوتٍ صغير ذي جوٍّ محكوم تمامًا داخل حرَم الجامعة. كان ضيِّقًا وكئيبًا، لكني كنتُ ألِجُ إلى شبكة الإنترنت مجَّانًا، وكان لديَّ الكثير من الأدوات للترفيه عن نفسي. وعلى الرغم من أنَّني لم أكن أتمكَّن من الحصول على طاولة بأيِّ مطعمٍ من المطاعم، فقد كنتُ أستطيعُ الانضِمام لصفوف الانتِظار الخاصَّة بأيٍّ من المنافذ المُنتشِرة في جميع أنحاء المدينة للحصول على كل ما أرغَب فيه من الطعام والشراب وقتما شئت. كنتُ أحظى بحياة مُترفة ليس لها مثيل مقارنة ﺑ ٩٩٫٩٩٩٩٩ في المائة من كلِّ من عاشوا على وجه الأرض.

لم أكن استثناءً، حتى بمقاييس مُجتمع الروعة. فقد كان عدد الأشخاص الذين يُعانون من انخفاض تقدير الذات مُرتفعًا بشكلٍ عام، وكانوا يتعاملون مع الأمر بشكل جيد: بالتجوُّل في المُتنزَّهات، والمُناقشات، والقراءة، وتمثيل المسرحيَّات، وعزْف الموسيقى.

بالطبع لم تكن تلك هي الحياة التي أردتُها لنفسي. كان لديَّ دان لأتسكع معه، وهو من القلَّةِ التي تَحظى برصيدٍ مُرتفِع من السُّمعة الجيدة ممن كانوا على استعدادٍ لمُصادَقة أحمقَ مثلي؛ فكان يدعوني لتناوُل الوجبات بمقاهي الرصيف، وحضور الحفلات الغنائية في سكاي دوم، وكان يُدافع عنِّي ضِدَّ أيِّ أحمقَ مُتغطرِس مهووس بالسُّمعة يَسخَر من رصيدي من الووفي. كان التواجُد مع دان بمثابة عملية إعادة تقييم مُستمرَّة لمُعتقداتي في مجتمع الروعة، ولم أحظَ بوقتٍ نابضٍ بالنشاط ومُثير للتفكير كهذا أبدًا في حياتي كلِّها.

كان بإمكاني مُغادَرة المُتنزَّه وأن أُعلِّق حياتي مُؤقَّتًا في أيِّ مكانٍ في العالم، ثم أبدأ من جديد. كان يُمكنني أن أترك دان ودِبرا وليل وكل تلك الفوضى العبَثية وراء ظهري.

لم أفعل.

اتصلتُ بالطبيب.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤