الفصل الثامن

أجاب الطبيب بيت، صوتيًّا فقط، على اتِّصالي بعد الجرس الثالث. سمعتُ في الخلفية جَوقة من الأطفال الباكين والجلَبة التي كانت تُسمَعُ في خلفية مشفى المملكة السحرية دائمًا.

«مرحبًا يا دكتور.»

أجاب تحت غِطاءٍ مُزيَّف من المِهَنية الطبية والودِّ الذي يُميِّز أفراد أعضاء طاقم العمل حجَب غضبًا شعرتُ به، قائلًا: «مرحبًا يا جوليوس، كيف يُمكنني مُساعدتك؟»

كان لسان حالي يقول: أصلِحْ كلَّ شيءٍ ليصير كما كان. «لستُ مُتأكدًا في الواقع، كنتُ أريد أن أعرِف إذا كان يُمكنني مناقشة الأمر معك؛ فأنا أعاني من بعض المشاكل الضخمة.»

«لديَّ مُناوَبة عمل حتى الساعة الخامسة. ألا يُمكن أن نؤجِّل الأمر حتى ذلك الحين؟»

في ذلك الوقت لم يكن لديَّ فكرة ما إذا كانت لديَّ الشجاعة لرؤيته: «لا أظن، كنتُ آمُل أن نتقابَل على الفَور.»

«يُمكنني أن أُرسِل لك سيارة إسعاف إذا كان الأمر طارئًا.»

«إنه أمرٌ مُهم، ولكنه ليس طارئًا. أحتاج للتحدُّث معك بشأنه وَجهًا لوجه، أرجوك.»

تنهَّد بأسلوب لا يتماشى مع سِمات الأطباء وسِمات أفراد أعضاء طاقم العمل وقال: «لديَّ أشياء مُهمَّة للقيام بها هنا يا جوليوس. هل أنت مُتأكد أنها مسألة مُلحَّة لا يُمكن تأجيلها؟»

ابتلعتُ شهقة بكاء كادت تُفلتُ منِّي قائلًا: «مُتأكد يا دكتور.»

«حسنًا إذن. متى يُمكنك القُدوم؟»

أوضحَتْ ليل بمُنتهى الصراحة أنها لا تُريد رؤيتي في المُتنزَّه: «هل يُمكنك أن تأتي لمُقابَلتي؟ لا أستطيع حقًّا القدوم إليك، أنا أُقيم بفندق كونتمبراري، برج «ب»، غرفة ٢٣٣٤.»

«أنا لا أقوم بزيارات منزلية يا بُنَي.»

قلتُ وأنا كاره لنبرة الشفَقة التي بدَت في صوتي: «أعلم، أعلم. هل يُمكنك أن تستثنيني؟ لا أعرِف أيَّ شخصٍ آخَر يُمكنني اللجوء إليه.»

«سآتي بأسرَع ما يُمكن. سوف أُضطَرُّ للاستعانة بشخصٍ آخر ليحلَّ محلي في أثناء غيابي؛ فدعنا لا نجعل من هذا الأمر عادة مُتكرِّرة، اتفَّقْنا؟»

زفرت بارتياح قائلًا: «أعدك بذلك.»

أنهى الاتِّصال فجأةً ثم وجدتُ نفسي أتَّصِل ﺑ «دان».

أجاب بحذَر: «أجل.»

«دكتور بيت قادِم الآن يا دان. لا أعلم ما إذا كان يُمكنه مُساعدتي، لا أعلم ما إذا كان أيُّ شخصٍ يُمكنه ذلك. فقط أردتُ أن أُخبرك.»

فاجأني حينئذٍ وجعلني أتذكَّر لماذا كان لا يزال صديقي حتى بعدَ كلِّ ما حدَث: «هل تُريدني أن آتي إليك؟»

قلتُ بهدوء: «سيكون ذلك لطيفًا منك للغاية، أنا بالفندق.»

أجاب: «أمهِلني عشر دقائق.» ثم أغلق الهاتف.

•••

وجدَني بالشُّرفة أتأمَّل القلعةَ وقِمَم جبل الفضاء. امتدَّت إلى يساري المياه اللامِعة لبُحيرة البحار السبعة، وإلى يميني امتدَّت العقارات الملونة ميلًا بعد ميل. كانت الشمس دافئة على بشرتي وسُمِعَتْ آثار ضحِكات خافتة حملتْها الرياح معها، وكانت الورود مُزهِرة. سيكون الجوُّ في تورونتو مُمطرًا مُتجمِّدًا، والأبنية رمادية، وأصوات المرور صاخِبة — مرَّ أحد القِطارات الكهربائية المُعلقة مُصدِرًا أزيزًا — ووجوه الغُرَباء المُتجهِّمة، كم كنتُ أفتقِدها!

سحب دان كرسيًّا وجلس بِجانبي دون أن ينطِق بكلمةٍ واحدة، وراح كِلانا يُحدِّق إلى المشهد بالخارج لفترةٍ طويلة.

قطعتُ الصمت أخيرًا قائلًا: «ثمَّةَ شيء آخر. أليس كذلك؟»

أجاب قائلًا: «أعتقِد ذلك، أريدُ أن أُخبرَك بشيءٍ قبل أن يأتي الطبيب يا جوليوس.»

«تفضَّل.»

«لقد انتهى الأمر مع ليل. لم يكن يجِب أن يحدُث هذا في المقام الأول، وأنا لستُ فخورًا بنفسي. حتى إذا كنتما في طريقكما للانفِصال في ذلك الوقت، وهذا ليس من شأني، لم يكن يَحقُّ لي أن أتعجَّل الأمر هكذا.»

قلت: «حسنًا.» كانت قُواي مُستنزَفة تمامًا لأتعامَل مع أيِّ عواطف.

«لقد حجزتُ غُرفةً هنا ونقلتُ أغراضي.»

«كيف تتقبَّل ليل الأمر؟»

«إنها ترى أنَّني وغد، وأعتقِد أنها مُحقَّة.»

صحَّحتُ له قائلًا: «أعتقد أنها مُحقَّة جزئيًّا.»

وَكَزَني برفقٍ في كتِفي قائلًا: «شكرًا.»

انتظرنا في صمتٍ مؤنِس حتى وَصل الطبيب.

دخل مُسرِعًا زامًّا شفتَيه بقوَّةٍ وانتظر في ترقُّب. تركت دان بالشُّرفة وذهبتُ للجلوس على السرير.

حدَّثتُه قائلًا: «إنني أنهار أو ما شابَه. لقد صرتُ أتصرَّف بعصبيةٍ وبعُنف أحيانًا. لا أعلم ما الذي أصابني.» كنتُ قد أعددتُ هذا الكلام مُسبقًا، ولكن البَوح به كان لا يزال صعبًا.

ردَّ الطبيب بنفادِ صبر: «كِلانا يعلم ما الخطبُ يا جوليوس. أنت بحاجةٍ إلى إعادة تحميلك من نُسختك الاحتياطية والحصول على مُستنسَخٍ جديد والتخلِّي عن هذا الجسد. لقد تحدَّثنا في هذا الأمر من قبل.»

قلتُ وأنا أتحاشى النظر في عَينيه: «لا يُمكنني القيام بذلك، لا يُمكنني، ألا تُوجَد أيُّ طريقة أخرى؟»

هزَّ الطبيب رأسه قائلًا: «إن الموارد التي لديَّ لتخصيصها محدودة يا جوليوس. ثمَّةَ علاجٌ جيد تمامًا لما تُعاني منه، وإذا كنتَ لن تَقبلَه فليس لديَّ الكثير يُمكنني فِعله لمُساعدتك.»

«ولكن ماذا عن العقاقير؟»

«مشكلتك ليست خللًا كيميائيًّا، بل تلفًا عقليًّا. إنَّ دِماغك مُحطَّم يا بني، كلُّ ما ستفعله العقاقير هو إخفاء الأعراض في حين تزداد حالتُك سوءًا. لا يُمكنني أن أخبرَك بما تُريد سماعه للأسف. الآن، إذا كُنتَ مُستعدًّا لقَبول العلاج، فيُمكنني أن أتخلَّص من جَسدِك الحالي على الفور وأُعيد استرجاعَك في جسدٍ جديد في غضون ٤٨ ساعة.»

«ألا تُوجَد طريقة أخرى؟ أرجوك! لا بُدَّ أن تُساعدني، لا يُمكنني أن أفقِد كلَّ هذا.» لم أتمكن من الاعتراف بالأسباب الحقيقية وراء ارتِباطي الشديد بهذا الفصل من حياتي بكلِّ ما به من بؤسٍ فريد، ولا حتى لنفسي.

نهَض الطبيب ليهمَّ بالذهاب قائلًا: «اسمَعْ يا جوليوس، لم يعُد لدَيك رصيدٌ كافٍ من الووفي يستحقُّ من أيِّ شخصٍ إهدار وقتِه في البحث عن حلٍّ لمُشكلتك خلاف الحلِّ الذي نعرفه جميعًا. يُمكنني أن أصِف لك مُثبِّطات للتقلُّبات المِزاجية، ولكن ذلك ليس حلًّا دائمًا.»

«لمَ لا؟»

بدا مُتردِّدًا. «لا يُمكنك أن تتناوَل المُهدِّئات لبقية حياتك يا بُنَي؛ ففي نهاية المَطاف سيُصيب هذا الجسدَ شيءٌ ما، ومن واقِع ملفِّك، أرى أنك عُرضة للسَّكَتات الدِّماغية، وسيُعاد تحميلك من نُسختك الاحتياطية. وكلَّما انتظرتَ لمدَّة أطول، صار الأمر أكثرَ إيلامًا. إنك تَستنزِف ذاتك المُستقبلية من أجل ذاتك الأنانية الحالية.»

لم تكن هذه هي المرة الأولى التي تخطُر فيها الفِكرة ببالي. فمع كلِّ يومٍ يمرُّ كان قَبول العلاج يَصير أصعب، ومعه يصعُب أن أستلقي في الفِراش وأستيقظ صديقًا لدان وحبيبًا لليل مرَّة أخرى؛ أن أستيقِظ لأجِدَ القصر كما أتذكَّره وأجِد ليل في قاعة الرؤساء مُنحنية ورأسُها مدفون في قلب دُمية آلية لأحد الرؤساء بعد الظهر؛ أن أستلقي وأستيقِظ دون شعور بالعار، دون أن أعرِف أن حبيبتي وأعزَّ أصدقائي سيُخونانِني؛ أو خاناني بالفِعل.

لم أقوَ على القِيام بذلك، ليس بَعدُ على أيِّ حال.

دان، كان دان سيقتُل نفسه قريبًا، وإذا أعدتُ تحميل نفسي من نُسختي الاحتياطية القديمة، فسأفقِد آخِرَ سنةٍ قضيتُها معه؛ سأفقِد آخِرَ سنة في حياته.

«دعنا نؤجِّل ذلك يا دكتور، أَتَفَهَّم ما تقول، ولكن تُوجَد مُضاعَفات لذلك. أعتقِد أنَّني سألجأ لمُثبِّطات تقلُّب المِزاج في الوقت الراهن.»

رمقَني بنظرةٍ باردة وقال: «سأُعطيك روشتة إذن؟ كان يُمكنني فعل ذلك دون القدوم إلى هنا؛ من فضلك لا تتَّصِل بي بعدَ الآن.»

صدَمَني غَضبه الواضح، ولكنَّني لم أستوعِبِ الأمر حتى ذَهبَ وقصصتُ على دان ما حدَث.

قال دان: «نحن القُدَماء اعتدْنا الاعتِقاد أنَّ الأطبَّاء هم مِهنيُّون تلقَّوا تدريبًا على مُستوًى عالٍ؛ كلُّ هذه الأمور المُتعلقة بكلية الطب قبل ظهور مجتمع الروعة، من فترات التدريب العملي الطويلة والتدريبات المُختلِفة على التشريح … والحقيقة هي أن الطبيب العادي اليوم يتلقَّى تدريبًا على مهارات التعامُل مع المرضى أكثر من ذلك الذي يتلقَّاه في العلوم البيولوجية. إن «دكتور» بيت فني، وليس طبيبًا مُتخصِّصًا، ليس بالشكل الذي نَعنيه أنا وأنت. أو أي شخصٍ يحظى بنوعية المَعرفة التي تبحَث عنها، إنما يعمَل باحثًا تاريخيًّا وليس طبيبًا.

لكن ليس هذا هو مَربَط الفرَس؛ إذ يُفترَض أن يكون الطبيب هو من له السُّلطة فيما يتعلق بالمسائل الطبية، حتى ولو لم يكن في جَعبتِه سوى خُدعة واحدة ألا وهي إعادة التحميل من النُّسخة الاحتياطية. أنت تُذَكِّر بيت بذلك، وهو غير سعيد بذلك.»

•••

انتظرتُ أسبوعًا قبل أن أعود إلى المملكة السحرية مرة أخرى وأتشمَّسُ على الشاطئ ذي الرمال البيضاء في مُنتجَع كونتمبراري وأركضَ في لعبة جولةٍ حول العالم، وأستقلَّ زَورقًا إلى جزيرة ديسكَفَري البرية ذات الأشجار الكثيفة وأستجِمَّ بشكلٍ عام. كان دان يأتي في المساء، وكُنَّا نقضي الوقت كما كُنَّا نفعل في الماضي: نَستعرِض إيجابيَّات وسَلبيَّات الووفي، وأسلوب الحياة في مجتمع الروعة والحياة عامَّةً ونحن نجلِس في شُرفَتي يتوسَّطنا إبريق من عصير الليمون المُثلَّج.

أهداني دان في الليلة الماضية جهازًا يَدويًّا صغيرًا، عبارة عن قطعةٍ مُتحفيَّة تذكرتُها بشغف، وكانت تعود إلى الأيام الأولى لمجتمع الروعة. كان يتمتَّع بالكثير من الوظائف التي يفتقِدها نظامي المُعطَّل، وكان موضوعًا في عُبوة يُمكنني وضعُها في جَيب قميصي بكلِّ سهولة. كان يبدو وكأنَّه جُزء من زيٍّ تمامًا كساعات الجَيب التي كان يرتديها فنانو الشارع الذين يؤدُّون دَور بِين فرانكلين في ملاهي عالَم المُغامرات الأمريكية.

سواء كان قِطعةً مُتحَفِية أم لم يكن، فقد كان وجوده يعني أنَّني صرتُ مؤهَّلًا مرة أخرى للانخِراط في مجتمع الروعة، وإن كان ببطءٍ وكفاءة أقلَّ ممَّا كنتُ عليه ذات يوم. أخذتُه معي في صباح اليوم التالي ونزلتُ الدَّرَج وقدْتُ سيارتي مُتوجِّهًا إلى ساحة انتظار السيارات بالمملكة السحرية المخصَّصة لأفراد طاقم العمل.

كانت تلك هي الخطة، على الأقل. حينما نزلتُ إلى ساحة انتِظار السيارات الخاصَّة بفندق كونتمبراري لم أجِد سيارتي. تفقَّدتُ الأمر سريعًا باستِخدام الجهاز اليدَوي واكتشفتُ ما هو أسوأ: كان رصيدي من الووفي مُنخفِضًا بما فيه الكفاية حتى إنَّ شخصًا آخَرَ استقلَّ سيارتي وانطلق بها بعيدًا، مُدركًا أنَّ بمقدوره أن يستفيد من استخدامِها أكثر منِّي.

اعتَراني شعورٌ مُقبض وأنا أصعد بتثاقُلٍ إلى غرفتي وأُمَرِّر مِفتاحي عبر القُفل، فأطلقَ طنينًا ناعمًا رافضًا وأضاء: «يُرجى التوجُّه إلى مكتب الاستقبال.» لقد أخذ شخصٌ آخَرُ غرفتي أيضًا. لقد كنتُ في أسوأ أوضاعي فيما يتعلَّق برصيد الووفي.

على الأقلِّ لم يكن ثمَّةَ فحصٌ إلزامي للووفي على رصيف انتِظار القِطار الكهربائي المعلَّق، إلَّا أنَّ من كانوا معي بالعرَبة لم يكونوا وَدُودين على الإطلاق، ولم يَسمح لي أيٌّ منهم بالحصول على بُوصة إضافية من المساحة الشخصية أكثر من الضروري. لقد وصلتُ إلى الحضيض.

•••

سلكتُ المدخل المُخصَّص لأفراد طاقم العمل لدخول المملكة السحرية، وأرفقتُ بطاقة تعريفي بقميصي البولو الخاصِّ بإدارة عالم ديزني وتَجاهلتُ حمْلقةَ أقراني من أفراد طاقم العمل الذين كانوا يمرُّون في أنفاق المرافق.

استخدمتُ الجهاز اليدويَّ لأتَّصِل بدان، الذي قال بإشراق: «مرحبًا.» عرفتُ على الفور أنه يُحاوِل التخفيف عنِّي.

سألته: «أين أنت؟»

«أوه، في الساحة، بجانب شجرة الحرية.»

استعرضتُ أوضاع الووفي يدويًّا باستِخدام الجهاز اليدوي وأنا أمام قاعة الرؤساء. كان رصيد دِبرا مُرتفِعًا للغاية حتى بدا أنها لن تُهزَم أبدًا، وكذلك الحال بالنسبة لتيم وفريقها بالكامل. كانوا يَنالون الملايين من نِقاط الووفي من الزوَّار، ومن أعضاء طاقم العمل، وممن قرءوا قِصَصهم الشعبية حول كفاحِهم ضِدَّ قُوى الغِيرة والتَّخريب البائسة؛ أي أنا.

شعرتُ بالدُّوار، فهُرعتُ نحوَ قسم الملابس وبدَّلتُ ثِيابي وارتديتُ زِيَّ القصر الأخضر الثقيل، ثم صعدتُ الدَّرَج مُتَّجِهًا إلى ساحة الحرية.

وجدتُ دان يرتشِف القهوة ويجلس على أحد المقاعد أسفل شجرة الحرية العِملاقة المعلَّق بها فانوس، وكان معه كوب آخَر بانتِظاري، وربَّتُّ على المقعد لأجلس إلى جانبه. جلست معه وارتشفتُ القهوة في انتظار أن يَبوح بالأخبار البغيضة التي كان يحمِلها لي هذا الصباح، كنتُ أشعُر بها تحوم كغُيوم العواصف.

ولكنه لم يتحدَّث إلا حينما انتهَينا من القهوة؛ إذ وقفَ حينئذٍ ومشى في اتِّجاه القصر. لم يكن قد حان وقتُ إنزال الحِبال إيذانًا بدخول الزوَّار، ولم يكن يُوجَد أيُّ زوَّار بالمُتنزَّه، وهو ما كان الأفضل في ظلِّ ما هو آتٍ.

سألني أخيرًا ونحن نقِف بجانب مَقبرة الحيوانات الأليفة، نتأمَّل السقَّالات الفارِغة: «هل ألقيتَ نظرة على رصيد دِبرا من الووفي مُؤخَّرًا؟»

هممتُ بسحْب الجهاز اليدوي ولكنه وَضع يدَه على ذِراعي قائلًا بعبُوس: «لا تهتم، يكفي القول بأن عصابة دِبرا هي رقم واحد بلا مُنازِع. منذ أن انتشرَتْ أخبار ما حدَث للقاعة وهُم يَحصُدون تلالًا من النقاط. يُمكنهم أن يفعلوا أيَّ شيءٍ تقريبًا يا جولز ويُفلِتون به.»

تقلَّصَت مَعِدتي ووجدتُ نفسي أضغطُ على ضُروسي غيظًا. سألتُ دان وأنا أعلم الإجابة بالفعل: «ما الذي فعلوه إذن يا دان؟»

لم يكن عليه الرد؛ إذ خرَج تيم في هذه اللحظة من القصر مُرتدِيًا ملابس عمل واسعة قطنية خفيفة. كان يبدو مُستغرِقًا في التفكير، ولكنَّه حينما رآنا ابتَسم ابتسامته القَزمية العريضة وأقبل نَحونا.

قال: «مرحبًا يا رفاق!»

ردَّ دان: «مرحبًا تيم!» أما أنا فاكتفيتُ بإيماءة من رأسي؛ خوفًا من التلفُّظ بشيءٍ خاطئ.

أردف تيم: «أمر شيِّق للغاية. أليس كذلك؟»

قال دان بلُطف مُصطنَع: «لم أخبره بعد. لماذا لا تَستعرِض أنت الأمر برمَّته؟»

أجاب تيم: «حسنًا، إنه شيء ثَوري للغاية، لا بُدَّ أن أعترِف بهذا. لقد تعلَّمْنا بعض الأشياء من العمل بالقاعة وأردْنا أن نُطبِّقها، وفي الوقت ذاته، أردْنا أن نلتقِط بعض ملامح الشخصية التاريخية في قصَّة الشبَح.»

هممتُ أن أفتحَ فمي لأعترِض، لكن دان وضَع يدَه على ساعدي وسأله ببراءة: «حقًّا؟ وما خطَّتُك لتنفيذ ذلك؟»

«حسنًا، نحن نحتفظ بروبوتات الحضور المرئي عن بُعد — إنها فكرة رائعة يا جوليوس — ولكنَّنا سنزوِّد كلًّا منها بوَصْلة إرسال بحيث يُمكنها القيام بعملية التخليق السريع. لدينا كُتَّاب قِصص رُعب لهم رصيد مُرتفِع من السمعة الجيدة يعملون على كِتابة سلسلةٍ من القِصص عن حياة كلِّ شبَح: كيف واجهوا نهاياتهم المأسوية، وما يفعلونه منذ ذلك الحين، كما تعلم.

الأسلوب الذي أعدَدْنا به القصَّة المُصوَّرة هو كالآتي: يسير الزوَّار عبر اللُّعبة، كما يفعلون الآن إلى حدٍّ بعيد، مُتجوِّلين في منطقة ما قبل العرْض، ثم يَستقلُّون عربات الموت للقيام بالجولة. ولكن هنا يكمُن التغيير الكبير، إذ نُبطِّئُ كلَّ شيءٍ ونستبدِل سَعة اللعبة من الزَّوَّار بتكثيف العرْض لنجعَله مُنتَجًا أكثرَ تميُّزًا.

لنفترضْ أنك زائر: ستُطارِدُك هذه الأشباح — روبوتات الحضور المرئي عن بُعد هذه — من منطقة الطوابير حتى منطقة إنزال الركاب، وهي مُرعبة حقًّا؛ لقد جعلت مُصمِّمي الرسوم الرقمية التصويرية الذين يعملون لدى سانيب يعودون إلى لوح الرسم ويقومون ببحثٍ بسيط عن الأشياء التي ستُثير ذُعر الزوَّار بشدَّة. حينما يُمسِك بك أحد الأشباح ويَضع يدَه عليك، بوووم، تحدُث عملية التخليق السريع! وتحصُل على قصَّته المُرعِبة في ثلاث ثوانٍ عبر فَصِّ مُخِّك الأمامي، وبحلول وقت مُغادَرتك ستكون قد تواصلتَ بالفعل مع عشرة أشباح أو أكثر، وعندما تُعاوِد الزيارة مرة أخرى، سيكون هناك أشباح جديدة تمامًا وقصص مُختلفة تمامًا. إنه نفس الأسلوب الذي تجتذِبهم القاعة به، سنُحقِّق نجاحًا ساحِقًا حتمًا.» ووضع يديه وراء ظهره ووقف على أطراف أصابعه وأخذ يتمايل مَزهوًّا بنفسه.

عندما افتُتِح مركز إيبكوت الترفيهي لأول مرَّةٍ منذ زمن طويل جدًّا، عانَينا حوالَي عقدٍ كامل من الألعاب ذات التصميم القبيح. وقد وجد قِسم الخيال الابتكاري صيغةً ناجِحة للعبة سفينة فضاء الأرض، تلك السفينة الضخمة القابِعة داخل كرة الجولف الكبيرة، ورغبة منهم في تحقيق استمرارية دائمة على مستوى الموضوع، حوَّلوا هذه الصيغة إلى صيغةٍ تكرارية أشبَهَ بقاطِعة البسكويت تُنتِج نِصف دستةٍ من القِطَع المُستنسَخة لكل منطقة ذات طابع مُميَّز بمنطقة مَعرِض المستقبل. سار الأمر على النحو التالي: في البداية كنَّا بدائيِّين، ثم جاء عصر اليونان القديمة، ثم وقَع حريق روما (الذي تُشير إليه المؤثرات التي تُحاكي رائحة الكبريت)، ثم أزمة الكساد الكبير، وأخيرًا، وَصلْنا إلى العصر الحديث. من يَعلم ما يحمِله المستقبل؟ نحن نعلم! سيكون لدَينا هواتِف مُزوَّدة بالفيديو، وسنَعيش في قاع المُحيط. في أول مرةٍ كان الأمر لطيفًا — بل جذَّابًا ومُلهِمًا — ولكنَّه كان مُحرِجًا بعد ستِّ مرات. فبمُجرَّد أن وجد المُبتكرون لأنفسهم مِطرَقةً جيدة، صار كلُّ شيء يبدو لهم مِسمارًا، مثلهم في ذلك مثل الناس جميعًا. وحتى الآن، يكرِّر أفراد فريق العمل المُتخصِّص المسئولون عن مركز إيبكوت خَطايا أسلافِهم ويختتِمون كلَّ لعبةٍ بمشهدٍ من مجتمع الروعة الفاضل.

كانت دِبرا تُكرِّر الخطأ القديم نفسه وتشقُّ طريق نجاحها في المملكة السحرية من خلال جهاز التخليق السريع الناسِف.

قلتُ وفي صَوتي رعشةٌ مسموعة لي: «تيم، أعتقد أنك قُلتَ إنك ليس لدَيك خطط بخصوص القصر وإنك ودِبرا لن تُحاوِلا انتِزاعه مِنَّا. ألم تقُل ذلك؟»

تراجَع تيم إلى الخلف وكأنِّي صفعتُه وهرَب الدَّم من وجهه وقال: «ولكننا لا نَستولي عليه! لقد دعوتمونا لنُساعدكم.»

هززتُ رأسي في حِيرة قائلًا: «نحن؟»

أجاب: «بالطبع.»

قال دان: «أجل، لقد ذهبَتْ كيم وبعض القائمين على عملية التجديد إلى دِبرا أمس وطلبوا منها أن تُجري مُراجعة تصميم لعملية التجديد الحالية واقتِراح أيِّ تغييرات. وقد تفضَّلَت بالموافقة وخرجوا ببعض الأفكار الرائعة.» قرأتُ ما بين السطور: لقد انضمَّ المُستجدُّون الذين دعوتَهم إلى الجانب الآخر ونحن في طريقنا لخَسارة كلِّ شيءٍ بسببهم. شعرتُ بالسُّوء والاشمئزاز.

قلتُ بحذَر: «حسنًا، أعترِف بخَطَئي.» وعادت ابتسامة تيم مرة أخرى وصفَّق يديه معًا. إنه يُحِبُّ القصر فعلًا، هكذا فكرت. كان يُمكن أن يكون في صفِّنا فقط لو قُمنا بالأمر كله على النحو الصحيح.

•••

اتجهتُ أنا ودان إلى أنفاق المرافق وأخذنا درَّاجتين وانطلقنا إلى مُختبر سانيب ونحن نُطلِق أجراسنا لتنبيه أفراد طاقم العمل المُسرعين. لهثتُ قائلًا وأنا أزيد سُرعة الدرَّاجة: «ليس لديهم السُّلطة ليدْعُوا دِبرا لدخول القصر.»

ردَّ دان: «من قال هذا؟»

«لقد كان جُزءًا من الاتِّفاق. إنهم يعلمون منذ البداية أنهم قيدُ الاختبار ولم يكن مسموحًا لهم حتى أن يحضروا اجتماعات التصميم.»

أجاب دان: «يبدو أنهم قرَّروا إنهاء فترة اختبارهم.»

رمَقَنا سانيب بنظرةٍ فاترة حين دخلْنا مُختبرَه. كانت الهالات السوداء تُحيط بعينَيه وكانت يده ترتعِش من الإرهاق. كان يبدو أن جلَّ ما أبقاه مُنتصِبًا هو الغضب الشديد.

قال: «لم يعُد هناك وجود لاتِّفاقنا بشأن البناء دون تدخُّلٍ من أحد. لقد اتَّفقنا أن هذا المشروع لن يَطاله أيُّ تغيير في مُنتصف الطريق. وها هو قد تغيَّر الآن، وأنا لديَّ التزامات أخرى سوف أُضطَرُّ لإلغائها؛ لأن الأمر قد خرج عن الجدول المُحدَّد.»

أومأتُ بيدي بإشارات اعتِذار مُحاولًا تهدئته وقلت: «صدِّقني يا سانيب، أنا غاضب بسبب هذا الأمر مثلك تمامًا. لا يُعجبنا ذلك على الإطلاق.»

تنحنح بصوتٍ عالٍ وقال بانفعال: «لقد كان بيننا اتِّفاق يا جوليوس: أن أُعدَّ عملية التجديد لك شريطة أن تُبقِي أعضاء طاقم العمل بعيدًا عنِّي. لقد أوفيتُ بالاتفاق من جانبي، ولكن أين كنتَ بحقِّ الجحيم؟ إذا أعادوا تخطيط أعمال التجديد الآن، فسوف أُضطرُّ لمُسايَرَتهم. لا يُمكنني أن أترك القصر غير مُكتمل، سيقتلونني.»

بدأت بِذرة خُطةٍ جديدة تتشكَّل في عقلي: «سانيب، إن خطة التجديد الجديدة لا تروق لنا وسنوقِفُها. يُمكنك المُساعدة في ذلك، فقط ماطِلْهم؛ أخبِرْهم أنهم لا بُدَّ أن يعثروا على مُبتكِرين آخرين بغرَض الدعم إذا كانوا يريدون السير في تنفيذ الخطة، وأن جدولك مشغول تمامًا.»

رمقَني دان بإحدى نظراته الطويلة التأمُّلية، ثم أومأ إيماءة مُوافقة لا تكاد تُلحَظ، وقال مُتشدِّقًا: «أجل.» وأردف: «سيُجدي ذلك تمامًا. فقط أخبِرهم أنه لا بأس تمامًا من القِيام بأيِّ تعديلاتٍ يُريدون إدخالها على الخُطَّة، إذا كان بإمكانهم العثور على شخصٍ آخر ليُنفِّذها لهم.»

بدا سانيب غيرَ سعيد وقال: «عظيم، وعندئذٍ يذهبون ويَجِدون شخصًا آخر ليقوم بالأمر، ويذهب الفضل كله في العمل الذي قام به فريقي حتى الآن إلى ذلك الشخص، وأكون قد أضَعتُ وقتي هباءً.»

بادرتُه قائلًا: «لن يَصِل الأمر لذلك. إذا أمكنك أن تُصِرَّ على الرفض لبِضعة أيام فقط، فسنتولَّى نحن البقية.»

بدا سانيب مُتشكِّكًا.

قلت: «أَعدِك.»

مرَّرَ سانيب أصابعه القصيرة السمينة عبر شعره الأشعثِ وقال في تَجهُّم: «حسنًا.»

ربَّتَ دان على ظهره بقوَّة قائلًا: «أنت رجلٌ طيب.»

•••

كان من المُفترَض أن ينجَح الأمر، وقد نجح تقريبًا.

جلستُ في مؤخِّرة غرفة الاجتماعات الخاصَّة بأرض المُغامرة وكان دان يَستحثُّ هِمَم الجموع:

«اسمعوا، لستُم مُجبَرين على الإذعان لدِبرا وجماعتِها! هذه حديقتُكم وقد اعتنيتُم بها بشكلٍ مسئول لسنوات، ولا يحقُّ لها أن تتحكَّم بكم، لدَيكم ما يكفي من الووفي الذي تحتاجون إليه للدِّفاع عن المكان إذا تعاونْتُم جميعًا معًا.»

لا يُحِبُّ أعضاء طاقم العمل المواجهة، وقد كانت المجموعة المسئولة عن ساحة الحرية هي الأصعب في تحريضها على القيام بأيِّ تحرُّك. كان دان قد أطفأ مُكيِّف الهواء قبل ساعةٍ من بداية الاجتماع، وأغلق جميع النوافذ حتى صارت الغرفة بوتَقةً لتحويل السُّخط المُتنامي إلى غضبٍ كاسح. وقفتُ مُتواريًا بالخلْف بعيدًا عن دان بقدْر الإمكان. كان يُمارِس سِحرَه على الناس نيابة عنِّي، وكنتُ سعيدًا بتركه يفعل ما يُجيد القيام به.

حينما وصلَتْ ليل، قيَّمتُ الوضع بتعبير نَكِد: هل تجلس في الصفِّ الأمامي بالقُرب من دان، أم بالخلف بالقُرب منِّي؟ واختارت الجلوس بالمُنتصَف، ولكي أستطيع التركيز على دان كان عليَّ أن أُشيح بِبَصَري بعيدًا حتى لا أرى قَطرات العرَق المُتلألِئة على رقَبتِها الطويلة الشاحبة.

كان دان يتنقَّل بين المَمرَّات كالوُعَّاظ بعينَين مُتَّقِدتَين بالحماس: «إنهم يسرقون مستقبلكم! إنهم يسرقون ماضيكم! إنهم يدَّعون أنهم حصلوا على دعمكم!»

ثم خفَض نبرة صوته قائلًا: «لا أعتقِد أن هذا صحيح.» وجذَب إحدى عُضوات فريق العمل من يدِها ونظر في عينَيها قائلًا بصوتٍ خفيضٍ أقربَ إلى الهمْس: «هل هذا صحيح؟»

ردَّت العضوة قائلة: «لا.»

فترَك يدَها واستدار ليُواجِهَ عضوًا آخر ورفع صوته قليلًا مُتسائلًا: «هل هذا صحيح؟»

أجاب العضو بصوتٍ عالٍ لا يتماشى مع الهمْسِ السابق قائلًا: «لا!» وسرَتْ ضحكةٌ مكتومة مُتوتِّرة بين الحَشْد.

قال وهو يَعتلي المِنصَّة، وقد صار همسُه صياحًا: «هل هذا صحيح؟»

زأَرَ الحشْد: «لا!»

فصرَخ بدَوره: «لا!»

«لستُم مُجبَرين على الاستِسلام والقَبول بالأمر الواقع! يمكنكم المُقاوَمة والاستمرار في الخطة وجعلِهم يعودون أدراجهم. إنهم يُسيطرون فقط لأنكم تَسمحون لهم بذلك، فهل ستسمحون لهم بذلك؟»

«لا!»

•••

كانت الحروب في مجتمع الروعة نادِرة الحدوث. فقبل أن يُحاول أيُّ شخصٍ الاستيلاء على أيِّ شيءٍ بفترة طويلة، يكون قد حسَب الأمر جيدًا وتأكَّد من أن أعضاء اللجنة الذين يُريد إزاحَتَهم ليس لدَيهم أيُّ أملٍ في المُقاوَمة.

كان القَرار بسيطًا بالنسبة للطرَف المُستضعَف: التنحِّي بهدوء وإنقاذ ما يمكن إنقاذه من سُمعتهم؛ فالمُقاومة بكل تأكيد ستَلتَهِم حتى تلك المكافأة الضئيلة.

لا أحد يَجني شيئًا من المُقاومة، وبالأخصِّ الشيء الذي يتقاتَل عليه الجميع. على سبيل المثال:

كنتُ في عامي الثاني من دراستي الجامعية وكنتُ قد عاهدتُ نفسي بألَّا أُثِير المتاعِب لأساتِذَتي وأن أُبقي فمي مُغلقًا. كان ذلك في الأيام الأولى لمجتمع الروعة وكان المفهوم الذي بُنِيَ عليه لا يزال غير واضحٍ لمُعظمنا.

ولكن لم ينطبِق هذا على الجميع؛ فقد كانت هناك مجموعة من خريجي قِسم علم الاجتماع المُثيرين للشغَب على شفا الثورة، وكانوا يعلمون ما يُريدون: السيطرة على القسم، والإطاحة بالأساتذة المُستبدِّين الرجعيِّين، وتأسيس مِنبر قوة يمكنهم من خلاله التبشير بأفكار مجتمع الروعة لجيل من الطلاب الجامعيين السريعي التأثر الذين كانوا يرهَبون أعباء العمل الشديدة لدرَجة الإذعان، مما جعلهم غير مُدرِكين لِكمِّ الهُراء الذي كانت الجامعة تحشو به عقولهم.

كان هذا على الأقلِّ ما قالته المرأة الضخمة المُمتلئة الجسد التي استولت على الميكروفون في برنامج علم الاجتماع ٢٠٠ الدراسي، الذي كنتُ أحضُره في قاعة حفلات التخرُّج، في نهار أحد أيام منتصف الفصل الدراسي الخاملة. كانت القاعة تعجُّ بألفٍ وتسعمائة طالب؛ كانوا كحَشْدٍ مُنهَكٍ يحتَسون القهوة وهم يَعدُّون الدقائق والثواني، استيقظوا فجأةً حينما انفجرَتِ الخطبة الرنَّانة للمرأة فوق رءوسهم.

لقد رأيتُ الأمر منذ بدايته. كان الأستاذ يقِف هناك على المسرح، تطير فوق شرائحه المعروضة نُقطة سوداء صغيرة مُرفق بها ميكروفون صغير، ثم صارت الرؤية غير واضحة في حين هُرِع نِصف دستة من الطلاب الخريجين إلى المسرح. كانوا يرتدون سراويل جامعية مُجعَّدة ذات طراز بوهيمي أنيقٍ ومعاطف رياضية مُمزَّقة، وكوَّن خمسة منهم جِدارًا بشريًّا أمام الأستاذ في حين فَكَّتْ سادِسَتُهم — الفتاة الممتلئة ذات الشعر الداكن والوَحمة البارِزة على وَجْنتها — ميكروفونه وشبَّكتْهُ في طيَّةِ صدر سُترتِها.

نادت قائلة: «استيقِظوا، استيقظوا!» وأدركتُ واقِع ما يحدُث أخيرًا: لم يكن هذا جزءًا من خطة الدرس.

«هيا، ارفعوا رءوسكم! هذا ليس تدريبًا. إن قسم علم الاجتماع بجامعة تورونتو يخضَع الآن لإدارة جديدة. إذا ضبطتُم أجهزتكم اليدوية على وضع «الاستقبال» فسنُرسِل لكم في التوِّ خطط الدروس الجديدة. إذا كنتم قد نَسيتُم إحضار أجهزتكم اليدوية، يمكنكم تحميل الخطط لاحِقًا. وسأستَعرِضُها لكم الآن على أيِّ حال.

ولكن قبل أن أبدأ، لديَّ بيان مُعدٌّ لأقرأه عليكم. ستسمَعونه بضعَ مراتٍ أخرى اليوم على الأرجح في الفصول الأخرى. إنه يَستحقُّ التكرار. إليكم البيان:

«إننا نرفُض الحُكم الاستِبدادي الرجعي لأساتذة هذا القسم، ونُطالِب بمنابر قوَّة نُبشِّر من خلالِها بأفكار مُجتمع الرَّوعة. واعتبارًا من الآن، تُسيطر اللجنة المسئولة عن قسم علم الاجتماع بجامعة تورونتو على زمام الأمور. نعِدُكم بمناهج دراسية ملائمة للغاية للعصر تركز على اقتصادات السُّمعة، والديناميكيات الاجتماعية لاقتصاد ما بعد النُّدرة، والنظرية الاجتماعية للتمديد اللانهائي للحياة. لا مزيد من نظريَّات دوركايم يا أولاد، فقط التعليق المؤقَّت للحياة! سيكون هذا مُمتعًا.»

دَرَّسَتِ البرنامج الدراسيَّ كالمُحترِفين؛ كان يُمكنك القول إنها كانت تتدرَّبُ على إلقاء مُحاضرتِها منذ فترة. كان الجِدار البشريُّ خلفَها يَهتزُّ من حينٍ لآخَرَ حينما كان الأستاذ يُحاوِل اختراقَه، فيَصدُّونه.

في تمام التاسعة وخمسين دقيقة، أنهت الدرس وصرفَتِ الحضور الذي استمع بحِرصٍ لكلِّ كلمة قالتها. وبدلًا من الخروج بتثاقُلٍ والسَّير ببطءٍ مُتَّجِهين إلى المحاضرة التالية، نهضْنا جميعًا — الألف والتسعمائة طالب — في وقتٍ واحدٍ وبدأ كلٌّ منَّا يُغمغِم للآخر غير مُصدِّقين ما حدَث، وظلَّ هذا الإحساس بالدَّهشة مُلازمًا لنا بعد خروجنا من الباب وفي لقائنا التالي باللجنة المسئولة عن قسم علم الاجتماع.

كم كان يومًا رائعًا! كان لديَّ مُحاضرة أخرى في علم الاجتماع — عن «بناء الانحراف الاجتماعي» — وتلقَّيْنا نفس المحاضرة هناك، ونفس الدِّعاية المُثيرة، ونفس المشهد الكوميدي لأحد الأساتذة الدائمين، وهو يضرِب بجسَدِه قُبالة الجِدار البشريِّ المكوَّن من أعضاء اللجنة.

انقضَّ المراسلون علينا حينما غادَرْنا الصف، وهم يَلكِزوننا بميكروفوناتهم ويُمطِروننا بِوابِلٍ من الأسئلة. فأشرتُ لهم بإبهامي بسعادةٍ وقلتُ بفصاحة الطلاب الجامعيين المعروفة: «روعة!»

شَنَّ الأساتذة هجومًا مُضادًّا الصباح التالي، فبينما كنتُ أغسِل أسناني، سمعتُ تحذيرًا في نشرة الأخبار: صرَّح عميد قسم الاجتماع لأحد المُراسِلين أن دَورات أعضاء اللجنة لن تكون مُعتمَدة، وأنهم عصابة من البلطجية غير المُؤهَّلَين تمامًا للتدريس. وفي مُقابَلة مُضادَّة، أكدَّ مُتحدِّثٌ رسميٌّ باسم أعضاء اللجنة أنَّ جميع المُحاضِرين الجُدُد كانوا يكتُبون خطط الدَّورات الدراسية ومُذكِّرات المُحاضرات للأساتذة الذين استبدلوهم لسنوات، وأنهم كانوا يكتُبون لهم أيضًا مُعظم مقالاتهم الصحفية.

استعان الأساتذة بأمن الجامعة ليُساعدوهم على استعادة منصَّاتهم، إلَّا أنَّ حُرَّاس الأمن المُوالِين لأعضاء اللجنة الذين يَرتَدون ملابِس مَنزلية الصُّنع لم يَستجيبوا لهم. لقد فَهِمَ أمن الجامعة الرسالة: أيُّ شخصٍ يُمكن استبداله، ومن ثَمَّ لم يَعودوا يتدخَّلون.

اعتصَمَ الأساتذة ودَرسوا فُصولهم الدِّراسية بالخارج أمام مبنى الجامعة، وكان يَحضُرها الطلَّاب المُتملِّقون الذين كانوا على وشْك التخرُّج ممن تشكَّكوا في أنَّ حِصص أعضاء اللجنة ستجعلُهم يحصُلون على شهاداتهم الدِّراسية. أمَّا الحمقى أمثالي فكانوا يَتنقَّلون بَين الحِصص التي تُعقد بالداخل والخارج، فلم نتعلَّم ما يكفي عن أيِّ شيء.

ولم يتعلَّم أحدٌ أيَّ شيء. فقد قضى الأساتذة وقتَ مُحاضراتهم في استِجداء نِقاط الووفي، وكانوا يُديرون حلقاتهم الدِّراسية كمجموعات مُناهِضة لأعضاء اللجنة، وليست كمُحاضرات، في حين قضى أعضاء اللجنة الوقت يَسبُّون الأساتذة وينتقِدون مُقرَّراتهم الدراسية.

حصل الجميع في نهاية الفصل الدراسي على شهاداتهم وقرَّر مجلس إدارة الجامعة حلَّ برنامج علم الاجتماع لصالِح عرْض تدريس عن بُعد من جامعة كونكورديا بمونتريال. سُوِّيَت المعركة للأبد بعد أربعين عامًا، فبمُجرَّد أن تأخُذ نسخةً احتياطية وتُجري عملية الاسترجاع، تتوالى تجلِّيات الروعة تلقائيًّا مُتمثِّلة في نِظامٍ قَيِّمٍ يُحيط بك.

ربما اعترض هؤلاء ممَّن لم يقوموا بعملية النَّسخ الاحتياطي والاستِرجاع، ولكن هيهات، فقد ماتوا جميعًا!

•••

سار أعضاء اللجنة المسئولون عن ساحة الحرية كتفًا بكتِف عبْر أنفاق المرافق بشكل جماعي واستعادوا القصر المسكون. كنتُ أنا ودان وليل في المقدِّمة، حريصين على ألَّا يُلامِس بعضنا بعضًا ونحن نَسير مُسرِعين عبرَ باب المسرح الخلفي، ثم كَوَّنَّا سلسلةً بشرية لتمرير المُعدَّات التي خبَّأها أتباع دِبرا هناك، عبر خطٍّ امتدَّ إلى الشُّرفة الأمامية لقاعة الرؤساء، حيث يُلقى بهذه المواد في ازدِراء.

بمُجرَّد إخلاء المُعدَّات الأساسية المُخبَّأة، انقسمْنا وتجوَّلنا عبر أرجاء اللعبة وأروِقة خدماتها، ومُجسَّمات الدُّيوراما ثلاثية الأبعاد، وغُرفة الاستراحة، والمَمرَّات السريَّة نجمَع كلَّ قِطعة صغيرة مُتبقِّية من مُتعلقات دِبرا القَذِرة ونُمرِّرها إلى الخارج.

قابلتُ في مشهد الغرفة العلوية كيم وثلاثةً من أصدقائها الضاحِكِين الصغار، الذين كانت عيونهم تلمَع في الضوء الخافِت. انقبضَتْ مَعدتي من الجلَبة التي يُثيرها الأطفال المُنتمون للبشر المُتحوِّلين؛ إذ جعلتْني أفكر في زِد وليل وفي مُخِّي الحقيقي غير المُعدَّل، ثم شعرتُ برغبةٍ مُلحَّة مفاجئة في مهاجمتهم لفظيًّا بضراوة.

لا.

لا، ليس في هذا الطريق إلَّا الجنون والحرب. وقد كان الأمر كله يكمُن في استعادة ما هو لنا، وليس مُعاقَبة المُتطفِّلين. قلتُ بهدوء: «أعتقد أنك يجِب أن تذهبي يا كيم.»

تذمَّرَت ورمَقتْني بنظرةٍ مُخيفة وقالت: «مَن نصَّبَك مسئولًا؟» رأى أصدقاؤها فيما قالته شجاعةً كبيرة وعبَّروا عن ذلك بنظراتهم المُتَّقِدة والضغط القوي على أفخاذِهم مُزدَوَجة المفاصل.

«يمكنك المُغادرة الآن أو لاحقًا يا كيم. ولكن كلما انتظرتِ، ازداد الأمر سوءًا بالنسبة لك ولرصيدك من الووفي. لقد أفسدتِ الأمر، ولم تعودي جُزءًا من القصر بعد الآن. عودي إلى المنزل، اذهبي إلى دِبرا. لا تَبقَي هنا ولا تَعودي مرة ثانية، أبدًا.»

أبدًا، فلتَخرُجي من هذا الشيء الذي تُحبِّينه، الشيء الذي يَستبِدُّ بعقلك، الشيء الذي كُنتِ تعملين من أجله. قلتُ بهدوءٍ وتهديد وأنا بالكاد أسيْطِر على أعصابي: «الآن.»

مَشوا بتُؤَدَةٍ عبر المقبرة وهم يتهامسون بشتائم لاذِعة مُوجَّهة لي. كان لدَيهم الآن الكثير من الموضوعات الجديدة التي يُمكنهم نشرُها على المواقع الإلكترونية المُناهضة لي، والرسائل التي ستُكسِبُهم رصيدًا أكبر من الووفي لدى من يظنُّون أنَّني حُثالة العالَم، وهو ما كان رأيًا سائدًا في تلك الأيام.

خرجتُ من القصر ونظرتُ إلى السلسلة البشرية وتتبعتُها إلى مُقدِّمة القاعة. كان المُتنزَّه قد فُتِحَ منذ ساعة، وكان مجموعة من الزوَّار يُتابِعون ما يدور في ارتِباك. مرَّر أعضاء اللجنة المسئولون عن ساحة الحرية أحمالَهم في حرَجٍ واضح، لمَعرفتهم أنهم يَنتهِكون جميع المبادئ التي يحرِصون عليها.

وبينما كنتُ أشاهِد ما يحدُث، ظهرت ثغَرات السلسلة البشرية؛ إذ كان أعضاء من طاقم العمل يَنسلُّون من الصفِّ بوجوهٍ مُخضَّبة بحُمرة الخَجل والخِزي. في قاعة الرؤساء، كانت دِبرا تُشرِف على عملية نقلٍ مُنظمة لأغراضها؛ إذ كانت مجموعة مَرِحة من أفراد طاقم عملها تعمل على نقلها جميعًا بسرعة خارج المسرح. لم أكن أحتاج للجوء لجهازي اليدوي لأرى ما كان يحدُث لرصيدنا من الووفي.

•••

عُدنا بحلول المساء إلى جدولنا الزمني. أشرَفَ سانيب على نَصْب روبوتات الحضور المرئي عن بُعد الخاصَّة به، وراجعَتْ ليل كلَّ الأنظمة بشكلٍ دقيق ومُفصَّل، على رأس مجموعة من أفراد طاقم العمل الذين تَبِعوها في كلِّ مكان وهم يتحقَّقون من كلِّ شيءٍ مرَّتَين وثلاثًا.

ابتسم لي سانيب حينما لمَحَني وأنا أنفُض التراب بيدي بالرَّدهة.

قال وهو يُصافِحني: «تَهانِينا يا سيدي. لقد تمَّ العمل ببراعة.»

«شكرًا يا سانيب. لستُ مُتأكدًا من مدى البراعة التي تمَّ بها، ولكننا أتمَمْنا المُهمة وهذا ما يُهِم.»

«شريكاك أكثر سعادةً من أيِّ وقتٍ رأيتُهما فيه منذ بدأ هذا الأمر برمَّته. أعلم شعورهما!»

شريكاي؟ أوه، نعم. دان وليل. ترى كم كانوا سُعداء؟ هل كانا سعيديان كفاية ليعود أحدهما إلى الآخر؟ ساء مِزاجي، على الرغم من أنَّ جُزءًا منِّي كان يُخبِرني أن دان لن يعود إليها أبدًا بعد كلِّ ما مَررْنا به معًا.

«أنا سعيد لسعادتك. لم نكن لنفعل الأمر بدونك، ويبدو أننا سنكون مُستعدِّين لإعادة تشغيل القصر في غضون أسبوع.»

«أوه، أعتقِد ذلك. هل ستأتي إلى الحفل الليلة؟»

حفل؟ ربما كان شيئًا يُنظمه أعضاء اللجنة المسئولون عن ساحة الحرية. سأكون شخصًا غير مرغوبٍ فيه بلا شك. فأجبتُه بحذَرٍ قائلًا: «لا أعتقِد ذلك. سأعمل هنا حتى وقتٍ مُتأخِّر على الأرجَح.»

وَبَّخَني لأنني أُرهِق نفسي في العمل بشدَّة، ولكن فورَ أن أدرك أنني لا أنوي الذَّهاب إلى الحفل تحت تأثير الضغط، ترَكني وذَهَب.

وهكذا بقيتُ في القصر حتى الساعة الثانية صباحًا، وفي صباح اليوم التالي غلَبَني النُّعاس في غرفة استراحةٍ خلف الكواليس حينما سمِعتُ ضجَّةً آتِية من الرَّدهة. كانت أصواتًا احتفالية صاخِبة تُشِعُّ بالسعادة، واعتقدتُ أن أعضاء اللجنة المسئولين عن ساحة الحرية قد عادوا من حفلهم.

أجبرتُ نفسي على النهوض ودخلتُ الرَّدهة.

كانت كيم وأصدقاؤها هناك، يدفعون شاحناتٍ يدوية تحمِل عدَّة دِبرا. تأهَّبتُ للصياح فيهم بأشياء مُريعة حينما دخلَتْ دِبرا. خفَّفتُ الصياح إلى مُجرَّد نبرةٍ انفعالية وفتحتُ فمي لأتحدَّث ثم توقَّفت.

كان والدا ليل يَقِفان خلف دِبرا بعد سنواتٍ طويلة من قُبوعِهما مُتجمِّدَين داخل أوعِيَتِهما الكانوبية في كيسيمي.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤