مدخل

١

ليس من الصعب معرفةُ ما كان يدور في أذهان الشبان المصريين الذين ابتلعَتْهم مياه البحر الأبيض المتوسط طوال سنوات التسعينيات من القرن الماضي والعُشر الأوَّل من القرن الجديد، أثناء محاولة التسلُّل إلى البلاد الأخرى؛ فلن يتعدَّى الحُلْم بالعمل والسكن والحياة الكريمة. لكن الأمر لم يكن كذلك في عام ١٩٦٩م، رغم الآثار التي تركَها العدوان الإسرائيلي قبل عامَين.

فارقٌ آخر، هو أن الخروج في الستينيات كان شديد الصعوبة على عكس الدخول (إلى البلدان الأخرى) ثم تبدَّل الحال إلى النقيض في التسعينيات.

ما كان يدور في رأس صادق الحلواني — وهو في الجو وليس الماء — لم يكن حُلمًا بالعمل والسكن والحياة الكريمة (فهو يشغل عملًا محترمًا في مكتب القاهرة لوكالة الأنباء الألمانية، ويقيم في شقةٍ مفروشة بحي الزمالك) وإنما كان حُلمًا ثقافيًّا. ولا نقصد بذلك ما يقبع بين أغلفة الكتب وجدران الجامعات. ما نقصده سيتضح بعد قليل.
حطَّ بمطار شونفيلد في برلين الشرقية مع الفجر. قادته بضع خطواتٍ إلى ضابطٍ قابع في صندوقٍ صغير قاتم اللون مُحكَم الإغلاق من كافَّة الجوانب، يفصله عن العالم لوحٌ من الزجاج السميك، بقاعدته منفذٌ ضيق يتسع بالكاد لجواز السفر، ولا يسمح بأي حوار، وفي الأعالي مرآةٌ عريضة تكشف ظهر الزبون الذي وقف في مَمرٍّ لا يزيد عرضه عن بضعة سنتيمترات لم تترك مجالًا للهاندباج التي يحملها.
رفع الضابط عينَيه وصوَّبهما إلى وجه صادق مقارنًا بينه وبين صورة الجواز. وطالع الأخير نظرة اتهام، فبدأ قلبه في الدقِّ. وبعد تدقيقٍ طويل وبحثٍ متأنٍّ على شاشاتٍ لا يراها من مكانه نطق الضابط: اسمك؟
لم يكن صادق يعرف من الألمانية كلمةً واحدة. لكن وقع الكلمة، القريب من الإنجليزية ولهجتها، أوحيا إليه بالإجابة.

السؤال التالي لم يفهَمْه: سبب الزيارة؟

لكنه حزَره، فقال بثقة: إنه يعمل في وكالة الأنباء الألمانية. وذكرها بحروفها المختصرة التي تعرف بها: «أ. د. ن» لكنه نطقها بالإنجليزية التي تختلف في النطق عن الألمانية، فطلب منه الضابط أن يتنحَّى جانبًا وينتظر.

طال انتظاره إلى أن جاءت النجدة على شكلِ ممثِّل لوكالة الأنباء؛ كهل في منتصف الخمسينيات، ممتلئ الجسم، ضاحك الوجه، حريص على تصفيف شعره الأشقر الذي يخالطه البياض. قدَّم نفسه باسم نويمان، وقال إنه رئيس القسم العربي الذي سيعمل به صادق. تحدَّث الممثل مع الضابط طويلًا ويداه متشابكتان فوق بطنه في تواضع واستعطاف، وعلى شفتَيه ابتسامةٌ معتذرة. أشار الضابط إلى صادق أن يقترب، وأعاد إليه جوازه، فعَبَر الممر الضيق، واصطدم ببابٍ مغلَق، فتحه الضابط بضغطةٍ من إصبعه على زرٍّ خاص داخل قوقعته، فأصدر صوتًا كصافرات الإنذار، ثم انغلق على الفور من خلفه بصورةٍ أوتوماتيكية. ألفى نفسه بين الحراس المسلَّحين ورجال الجمارك الذين فتَّشوا حقائبه بدقةٍ متناهيةٍ، وأخيرًا انضم إلى ١٧ مليون شخص يعيشون في الجزء الشرقي من ألمانيا، بينما يعيش ضعفا هذا الرقم في الجزء الغربي.

صحبه ممثل الوكالة في سيارته. اعتذر عن تأخره في المجيء. وأكَّدتْ رائحة الخمر التي فاحت من فمه صدق الاعتذار. لكنه ساق السيارة بحذَرٍ شديد وهو يُتمتِم بكلماتٍ حانقة موجَّهة إلى «الفأر الأبيض»، اللقب الذي استحقَّه شرطيُّ المرور الصارم. ولم يمنعه هذا من إبداء الاستغراب لتمتمات الشاب المصري المعربة عن إعجابه وانبهاره بالشوارع المقفرة التي تُطِل عليها خرائب الحرب ويغطِّيها الجليد. سبب الإعجاب مرتبط إلى حدٍّ ما بالثقافة؛ فهي أول مرة يرى فيها أوروبا والجليد، كما أنها أول مرة يضع قدمه في أحد بلدان الجنة الاشتراكية. ولم يُصدِّق أنه في المكان الذي شهد أحداثًا جسامًا قبل عشرين سنة «وسيشهد أحداثًا مماثلة بعد عشرين سنةً أخرى». وظل يُكرِّر بالإنجليزية: رائع، رائع. والكهل يتلفَّت حوله في حَيْرة بحثًا عن الروعة التي اكتشَفها هذا العربي بسهولة.

اقتاده الكهل إلى فندقٍ قضى فيه ليلته أسفل لحافٍ منتفخ. وفي الصباح صَحِبه لشراء معطفٍ صوفيٍّ ثقيل وحذاءٍ مبطَّن بالفِراء وقفَّازٍ جلدي ولفاعةٍ صوفية، ثم غطاءٍ للرأس على الطراز الروسي. وعندما اكتمل تسليحه لمواجهة الجليد، نقلَه إلى غرفةٍ مفروشة بلحافٍ منتفخ في شارع كارل ماركس ألليه. وهو شارع من البواكي والبنايات التي أُقيمت على الطراز الستاليني في كل عاصمة من أوروبا الشرقية، بعد أن حرَّرها الجيش الأحمر من النازيين؛ ولهذا صار من أهم الشوارع الرئيسة في المدينة.

كانت الغرفة بمسكن أحد العاملين في الحكومة مع زوجته وابنته. ولا بد أنه كان عضوًا بالحزب الحاكم أو بأجهزته الأمنية، وإلا ما فاز بهذه الشقَّة وعهِد إليه بإيواء الأجنبي.

حانت الفرصة الثقافية على الفور؛ فالبنت تتمتَّع بكافة المواصفات؛ طويلة رشيقة شقراء، بعينَين زرقاوَين ووجهٍ مليح. التقاها لأول مرة في الصباح عند تناول الإفطار مع الأُسرة في المطبخ. وكانت تعلم أنه لا يعرف الألمانية فحيَّته بالإنجليزية. لكن محصولها من هذه اللغة لم يسمح بالحوار معها. ولم تكَد تُنهي إفطارها على عَجلٍ حتى خرجَت إلى عملها. ولم يُتَح له أن يراها ثانيةً في هذا اليوم ولا في الأيام التالية مباشرةً.

لكنه وجد تعويضًا في الوكالة نفسها؛ فعندما دخل صالة تحرير الأقسام الأجنبية لأول مرة وجد نفسه وسط العديد من صاحبات الشَّعر الأشقر، بل والأسود أيضًا اللاتي تطلَّعن إليه في فضول. وكان القسم العربي في نهاية الصالة يفصله جدارٌ رقيق من الخشب عن بقية الأقسام. وبه ممثِّلتان للثقافة، إحداهما شقراءُ باسمةُ الوجه (تعرج قليلًا)، والثانية بضَّةٌ ممتلئة بشعرٍ أسود، والاثنتان جالستان أمام جهازَي تليبرينتر، تستقبلان الأخبار بالإنجليزية والألمانية، وتُرسِلانها بالعربية التي لا تعرفانها!
استقبلَه رئيس القسم نويمان، وقدَّمه إلى أعضاء الفريق الذين تلقَّوه بتحفُّظ ووجوم؛ ثلاثة عراقيين؛ اثنان من الأكراد، كما تبين فيما بعد (وتبيَّن أيضًا أنهما لا يتبادلان الكلام؛ لأن أحدهما يتبع حزب البرزاني — الزعيم التاريخي للأمة الكردية — بينما ينتمي الثاني لحزب الطلباني — الذي كان الذراع اليمنى للأول قبل أن ينشق عليه بدَعاوَى يسارية)؛ أحدهما قصيرٌ مدكوك الجسد، وسيم وأنيق الملبس ماجد. والثاني طويل القامة، نحيفها، أصلع الرأس فخري، أما العراقي الثالث فعربيٌّ ضئيلُ الحجم مكتئبُ الوجه شديدُ الانطواء (انقطع عن العمل في اليوم التالي دون مبرر)، والرابع لا ألماني ولا عربي، وإنما من أبٍ عربي وأُمٍّ ألمانية يُدعى «قادر». ثم الخبير لانز بيرنبك.

خلع معطفه والقفَّازَين ووضعَهما في جيبَي المعطف، ودَسَّ الكوفية في كُمَّي المعطف ثم علَّقه فوق مِشجَب في مدخل القسم وفوقه القُبَّعة. وبدأ العمل على الفور.

لم يكن للقسم من مهمةٍ غير ترجمة الأنباء من الألمانية إلى العربية. ولم يكُن المطلوب منه الترجمة، وإنما التحرير، وبعبارة أخرى: التأكُّد من سلامة الصياغة باللغة العربية. وقد بدأ على الفور بأنباء الاعتداءات الإسرائيلية على الأردن، والهجوم الشامل لثوار فيتنام الجنوبية، واحتفالات القاهرة بعيدها الألفي، حيث بلغ عدد سكانها قرابة الخمسة ملايين من ثلاثة وثلاثين مليونًا هم تعداد السكان في كل مصر.
وبالطبع كان أهم خبر في نشرة اليوم هو تصريح رئيس مجلس الدولة في «ألمانيا الديمقراطية، وزعيم حزبها الحاكم فالتر أولبريشت الذي قال فيه: إن انتصارنا برهانٌ قوي على تفوُّق النظام الاشتراكي على الرأسمالي. وتلَته تحليلاتٌ عن أهمية التصريح ومعناه، ثم تعليقاتُ الصحف المحلية والعالمية (التي لا تتعدى صحف البلدان الاشتراكية) عليه. يليه في ترتيب الأهمية تصريح للأدميرال جورشكوف قائد الأسطول السوفييتي بمناسبة وجود الأسطول في البحر الأبيض، قال فيه: إن علَم الأسطول السوفييتي يُرفرِف اليوم بفَخارٍ فوق بحار العالم، وسوف تدرك الولايات المتحدة — إن عاجلًا أو آجلًا — أن السيادة على البحار لم تعُد وقفًا عليها. ثم تقرير عن تدهوُر الموقف العسكري الأمريكي في فيتنام بعد أن أصبح الثوار على وشك اقتحام العاصمة سايجون، يليه خطاب للرئيس جمال عبد الناصر تحدَّث فيه بصراحة عن المعاناة النفسية القاسية منذ هزيمة ٦٧.
خبران حَفِظهما عن ظهر قلب؛ لأنهما تكرَّرا في الأيام التالية عدة مرات؛ الأول عن برج التليفزيون في برلين الذي بلغ ارتفاعه النهائي٣٦٥ مترًا في أكتوبر الماضي، وصار أعلى برجٍ من نوعه في العالم بعد برج تليفزيون موسكو، وسيُفتتَح مطعمه في مناسبة الذكرى العشرين لإنشاء جمهورية ألمانيا الديمقراطية التي تحل في السابع من أكتوبر القادم.
الخبر الثاني عن معرض لايبزيج الربيعي القادم الذي يشارك به أكثر من عشرة آلاف عارض، من خمسة وستين بلدًا بينهم أربعة آلاف وخمسمائة عارض من ج. أ. د (الحروف المختصرة لجمهورية ألمانيا الديمقراطية).
اكتشف صادق أن المترجمين لا يعرفون غالبًا الفارق بين صيغتَي المضارع والماضي في اللغة العربية، ولا بين المفرد والجمع، خاصةً عند كتابة الأرقام بالحروف. ملأ الصفحات بتصحيحاته وظَهرتْ علامات الامتعاض على وجوه أصحابها، ثم انتقلَت إلى الخبير الذي اعتمد الترجمة، وتأكَّد من أن تصحيحات صادق لم تُخِل بالمعنى. وناولها بدوره لعاملتَي التليبرينتر.
بعد أيامٍ قليلة صار في وسعه أن يراجع الأخبار وهو مغمَض العينَين، فماذا يفعل ٢٠ مدرسًا من الجمهورية العربية المتحدة (الاسم الذي عُرفَت به مصر في تلك الفترة) جاءوا في دورةٍ دراسية لمدة عشرة شهور؟ ليس غير التعرُّف على الحياة الثقافية والمنجزات الاشتراكية للجمهورية الألمانية الديمقراطية، والإعراب عن إعجابهم بنجاحاتها. ومثلهم فلاحون سوريون يُصرِّحون أيضًا بإعجابهم وبأن التخطيط العلمي للإدارة والعلاقات الممتازة بين الناس هما من أهم أسباب التغييرات الحاصلة في ألمانيا الديمقراطية. لكن هذه النمطية في الأخبار لم تفُلَّ من عزم الخبير الألماني الذي كان يعمل في مثابرة تستحق الحسد.
كان قصيرًا بدينًا، بعُوَيناتٍ طبية، ووقارٍ جلي، وساقٍ معطوبة من شَلل أطفال، ومعرفةٍ بعدة لغاتٍ بينها العربية التي ترجم منها عدة مؤلَّفات «عَبْر الترجمات الفرنسية». وتميَّز أيضًا بثقافةٍ موسوعية، وكان يعمل مديرًا للنشر الأجنبي بدارِ نشرٍ تُسمَّى فورهوت فرلاج؛ أي «دار الطليعة». وأُعير إلى القسم العربي بالوكالة ليتولَّى مراجعة ما يترجمه المترجمون من الألمانية إلى العربية، ويتحمل المسئولية عن ركاكة أسلوبهم. وقُيِّض له أن يتحمل مسئوليةً جديدة.

٢

وجد لانز بيرنبك في الشاب العربي تربةً صالحة وأرضًا بكرًا لزرع أفكار الثقافة التقدَّمية والكلاسيكية أيضًا؛ فلم يكن الشاب يعرف مثلًا أن باخ كتب موسيقاه وسط الضجَّة الصادرة عن أطفاله الاثنَي عشر، أو أن الشاعر الروسي العظيم بوشكين من أصلٍ أفريقي.
انطلقَت البداية من مكانٍ ملائم، مطعم النادي الروسي بشارع أونتر دين ليندن بجوار الجامعة؛ حيث اصطحبه بعد العمل للاستمتاع بحَساء السوليانكا اللذيذ مع كأس فودكا وبعض المعلومات عن حياة لينين. وفي اليوم التالي إلى مطعمٍ قديم يقدِّم الأكلة الشعبية الكلاسيكية المؤلَّفة من كوارع الخنزير الشهية، أضاف إليها معلوماتٍ قيمة عن توماس مان. وعظماء برلين؛ ليسنج وهومبولت وهيجل، وكارل ماركس بالطبع. ولا بد أنه كان يفكِّر في أنه يواصل التقليد القديم الذي يتولَّى فيه أحد المثقَّفين الكبار احتضان شابٍّ أجنبي وتثقيفه ليقوم بعد ذلك بنشر الثقافة في بلده الأم.
دارت عمليات التثقيف بوسط المدينة حول مقر الوكالة بطبيعة الحال؛ الشارع الطويل هو فريدريش شتراسه. قلب المدينة وبه محطة القطار ونقطة عبور إلى برلين الغربية، ويعلوه جسر المترو القادم من الجزء الغربي، وفي جدار الجسر لوحةٌ مضيئة بالأخبار المتحركة لا يبالي بها أحد، بسبب أخبارها التي لا تُجاوِز تصريحات رئيس الدولة والحزب واجتماعاتٍ رسمية مع ممثلي دولٍ أخرى لا تُسفر إلا عن «التفاهُم المتبادل». وعلى بعد خطوات مسرح برلينر انسامبل الذي قدَّم عليه بريخت أشهر أعماله قبل الحرب، وهناك أيضًا الرايخستاج، مبنى البرلمان، الذي استغل هتلر حريقه ليفرض قبضَته الحديدية على البلاد ملصقًا تهمة الإحراق بالشيوعيين.
وعلى الجانب الآخر من الشارع منزل أقام به كارل ماركس بعض الوقت، تليه وكالة الأنباء، ثم أشهر نقطة هي التقاطُع مع شارع أونتر دين ليندن (تحت شجر الزيزفون)؛ حيث الفندق الذي يحمل نفس الاسم (والذي أخذَت ردهتُه وبارُه وقتًا طويلًا منه، وهُدِم بعد ذلك في عام ٢٠٠٦م).
كان هذا الشارع الذي يقطعه حائط برلين في المنتصف يُمثِّل مركز المدينة في برلين ما قبل الحرب. أُقيمت فيه العروض العسكرية البروسية، ومن بوابة براندنبورج، التي تنتصب فوقها عربةٌ مُذهبَة تجرُّها أربعة خيول، مر نابليون في موكب النصر، وعندها تحصَّن الثوريون عام ١٨٤٨م، وعام ١٩١٨م. وعَبْرها انطلَق الآلاف لخوض الحرب العالمية الأولى وهم يُهلِّلون ويُطلِقون صيحات النصر، وأشعل النازيون عام ١٩٣٣م أكوامًا من الحطب لحرق الكتب، وتقدَّم جنود الجيش الأحمر في نهاية الحرب الثانية وهم يخوضون المعارك الضارية من بيت إلى بيت. وربما لهذا أُقيم قرب البوابة مبنى السفارة السوفييتية وعلى صارية العلم المنتصبة فوق برجٍ يُشبه المعبد رفرفَت النجمة السوفييتية، واستقر لينين في تمثالٍ نصفي في الحديقة الأمامية خلف سياجٍ من القضبان الحديدية الغليظة. ولم يلبث الجدار الذي أحاط برلين أن وضع نهاية للشارع عند بوابة براندنبورج حتى سقط في عام ١٩٩٠م، كما سقطَت الجمهورية الديمقراطية نفسها، واحتفل الألمان بتحقيق الوحدة بين الشرق والغرب.
بعد التقاطُع الشهير يمتد شارع فريدريش شتراسه إلى نقطة الحدود الأمريكية، شارلي شك بوينت، المخصَّصة لعبور السيارات؛ حائطٌ عالٍ من الأسمنت على طوله أبراجُ مراقبةٍ مزوَّدة بالأنوار الكاشفة، حواجزُ ملوَّنة بالأحمر والأبيض، يتخلَّل كل مترٍ منها حُراسُ حدودٍ وجمارك في أرديتهم العسكرية الرمادية. وعلى جانبَي الشارع منازلُ وحوانيتُ متهالكة تظهر آثارُ طلقاتِ المدافع الرشَّاشة في جدرانها، بينما تغطِّي نوافذَها صُورُ أبرز ممثلي العمل الاشتراكي. ولا يكاد يظهر أثَر المارَّة (فيما عدا سيارات المرسيدس والفورد والرينو القادمة من الشطر الغربي) فلا أحد يجرؤ على الاقتراب من النقطة التي تبدو منها تفاصيل الجانب الآخر إلى حيث يتطلَّع قاطنو الجزء الشرقي في شَجَن.
بدأ بيرينبك برنامجه بدروس في اللغة الألمانية، واستخدم أسلوبًا ثوريًّا؛ فبدلًا من كتب تعليم اللغة التقليدية استعمل رواية هينريش مان الكلاسيكية، البروفيسور أونرات التي مثَّلَتْها فيلمًا مارلين ديتريش باسم «الملاك الأزرق». وفي صحبة البيرة والكوارع — في المطعم القريب من ميدان كارل ماركس بلاتز — بدأ تعليم السطر الأول الذي تميَّز بإيقاعٍ جميل (لأنه كان يُسمَّى رات (أي المستشار) لقَّبَتْه المدرسة بأجمعها أونرات (أي الوسخ)).
وستستمر هذه الدروس في مطاعم برلين المتنوِّعة، تدور خلالها مناقشاتٌ عديدة، وبالأحرى إيضاحات من لانز لوجهة النظر الحزبية بشأن أحداث تشيكوسلوفاكيا ولعملية البناء المستمرة في الجمهورية الديمقراطية. وتتخلَّلها معلوماتٌ موسوعية من قبيل أن كارل ماركس وقع في حب فتاةٍ أرستقراطية تَكبره بأربع سنواتٍ وعمره ١٦ سنة، ثم تزوَّجها بعد ثماني سنوات، ونشط في الحركة الاشتراكية السرية، ثم انتقل للحياة في لندن وكانت النقود مشكلته؛ فقد رفض أن يكون آلة لجمع المال، وعاش هو وأسرته على عائد كتاباته ومساعدات الأصدقاء. وانتحر اثنان من أبنائه السبعة. وكان يستحم في النادر؛ ولذا عانى طوال العشرين سنة الأخيرة في حياته من البثور. وكان سعيدًا في زواجه الذي لم تَمسَّه فضيحةٌ واحدة عدا علاقته بخادمة المنزل، التي أثمرت طفلًا لم يعترف بأُبوَّته. وكان ضد الزواج البورجوازي؛ لأنه يضع المرأة في حالة عبودية، وتُثير حنقَه دائمًا عادة ضرب الزوجات.
ومن الطبيعي أن يحتل أدولف هتلر مكانًا طليعيًّا في موسوعة لانز؛ فأشهَر علاقةٍ عاطفية له كانت مع إيفا براون التي تزوَّجَها قبل انتحارهما معًا. وكانت تصغره بثلاث وعشرين سنة، لا يعيبها سوى صغر فَرجها الذي يحول بينها وتحمُّل الجنس العادي؛ فتحمَّلَت عدة جراحاتٍ وعلاجاتٍ لفترةٍ طويلة، لكن حبه الحقيقي هو ابنة أخته غير الشقيقة ذات الواحد والعشرين ربيعًا، التي اشتكت لأصدقائه قائلة: «إن خالي وحش، ولا يمكن أن تصدِّقوا ما يُجبرني على فعله.» ومع ذلك تحمَّلَته عامَين كانت خلالهما تقيم علاقاتٍ جنسية مع أي شابٍّ تتاح لها فرصة معرفته بدءًا من الحرس الخاص بها. وأخيرًا أطلقَت النار على نفسها من مسدس الخال. ولم تكن أولى ضحاياه؛ فقد كانت له علاقاتٌ متعددة انتهت نهاياتٍ فاجعة، لكنه لم يَسلَم من شائعاتٍ بأن تَفانِيَه في العمل راجعٌ إلى عنَّته. وراجت نكتةٌ تعليقًا على الوضع الذي يأخذه أثناء الخطابة؛ إذ يضع يدَيه فوق منفرجه، مفادها أنه يخفي آخر عاطلٍ في ألمانيا.
من هتلر إلى لينين. أنصَت صادق في شغَف وتلهُّف، لكن البروفيسور بدا مُتردِّدًا، ثم قال في ابتسامةٍ غامضة وهو يتجنَّب النظر إلى تلميذه: إن الزعيم الروسي وهَب كل حياته للثورة.
إنسيكلوبيديا البروفيسور تضمَّنتْ عديدًا من الرموز الفنية؛ فالموسيقار الشهير برامز كان شديد الارتباط بأمه، وأُغرم بزوجة أستاذه الموسيقار شومان وبكثير من النساء، إلا أنه لم يمارس الجنس مع أيٍّ منهن، وإنما كان ينام مع العاهرات، وظل أعزبَ حتى وفاته. والرسام جوجان كان متزوجًا ويعمل بنجاح في بورصة باريس، عندما قرَّر وعمره ٣٦ عامًا التفرُّغ للرسم، فدَمَّر زواجه وحكَم على نفسه بحياة من الفقر المدقع، وهاجر إلى تاهيتي؛ حيث عاش حياةً نشطة جنسيًّا حتى وفاته بالزهري وهو في الخامسة والخمسين من عمره. وتُنسَب إليه أقوالٌ مضيئة حقًّا، منها أن المرأة ستُصبِح حرة، وربما أكثر صحة أيضًا عندما لا يكون شرفُها تحت عانتها، وأن الخطيئة الوحيدة هي أن يبيع رجلٌ أو امرأةٌ الجسد.
ومن جوجان إلى شارلي شابلن الذي كان يعشق الفتيات الصغيرات، ونتج عن ذلك أربع زيجاتٍ و١١ طفلًا وحريمٌ من العشيقات. وكان يُلقِّب نفسه بأعجوبة العالم الثامنة، ويزهو بسمعته في هوليوود عن حجم عضوه، وأنه آلةٌ جنسيةٌ قادرة على ستِّ مراتِ قذفٍ متتالية لا يفصل بينها غير دقائق راحة!
لكن أحايث لانز التثقيفية لم تصرف صادق الحلواني عن هدفه الثقافي الأسمى، بل أجَّجَته. وكان كل ليلةٍ عندما ينام ويطفئ النور يترك الباب مردودًا دون أن يغلقه بالمفتاح ليسهل على شقراء المنزل الدخول بالليل طبقًا للسيناريو التقليدي في الأفلام وحكايات الصحاب. ولم يَخِب ظنه مطلقًا؛ ففي إحدى الليالي طُرِق بابه، وعندما فتَحَه وجدَها أمامه في قميصِ نومٍ كشف جانبًا كبيرًا من ثديَيْها. قالت بضع كلماتٍ بالإنجليزية لا بد أنها تدرَّبتْ عليها طويلًا: بابا يُبلغكَ أنه في حاجة إلى الغرفة ابتداءً من الغد، وعليك الانتقال إلى مكانٍ آخر.

٣

نقلَته الوكالة إلى غرفةٍ مفروشة في أحد منازلِ ما قبل الحرب — التي تتميَّز بمتانة البناء ورسوخه — بضاحية برنسلاوربرج العمالية في مسكنِ أرملةٍ تُدعى فراو فرويليش؛ أي «السيدة المرحة». لم يكن بها شيء من المرح. كانت في الستين من عمرها، ذات عينَين مجنونتَين وشَعرٍ أشقرَ قصير. وظن أنه سيتعلَّم اللغة من الحوار معها. لكنها لم تكن تُكلِّم إلا نفسها بصوتٍ عالٍ وهي في مطبخها الفسيح. وتوتَّرتِ العلاقات بينهما مرةً عندما اعترضَت على استحمامه قبل النوم في ساعةٍ متأخرة؛ ذلك أن المواسير قديمةٌ متهالكة، وانسياب المياه يُحدِث ضجةً كبيرة، وهناك اتفاقٌ عام بين السكان على عدم إحداث أي ضجَّة بعد العاشرة مساءً ليتمكَّنوا من النوم ويستيقظوا منتعشين للمساهمة في البناء الاشتراكي.

وذات يومٍ وجدها قد اعتنت بشعرها عند الكوافير، ووضعَت شيئًا من الروج على شفتَيها، وقالت: إن رجلًا سيزورها، وربما تزوَّجا وانتقل للحياة معها هنا. وجاء الرجل الذي كان في السبعين أو أكثر قليلًا، وبعد أن جلس في حجرتها بعض الوقت قام يتفقَّد أنحاء الشقة ويتفحَّص المقاعد وأدوات المطبخ. ولم يعُد بعد ذلك.

أعد الحلواني لنفسه برنامجًا ثقافيًّا من الدرجة الأولى؛ أن يتعلم اللغة، ويتكيف مع الطعام المكوَّن من نباتَين رئيسيَّين هما الكرنب والبطاطس، ويخلو من خضراواتٍ طازجة للسَّلَطة، وعلى الشاي والبن المحليَّين؛ لأن الشاي والبن الممتازَين ومعهما بقية اللذائذ مثل السجائر الأمريكية والفول السوداني المملَّح والخمور المحترمة لا تُوجد إلا في الإنترشوب الذي لا يتعامل بغير المارك الغربي والدولار (المارك الغربي في السوق السوداء بثلاثة ماركاتٍ شرقية)؛ أي يعيش كما يعيش الألماني العادي؛ يشرب البيرة البلسنر، ويدخِّن سيجارة كلوب التي لا تختلف كثيرًا عن البلمونت التي كان يدخِّنها في القاهرة، وتكون مثلها مثقوبةً أو مكتومة، ويستخدم ورق التواليت.

ككل المصريين والعرب والشعوب المتخلِّفة عمومًا كان يعتمد على المياه في تنظيف نفسه بعد الانتهاء من طقس التواليت؛ ولهذا السبب توافَر صنبورٌ خاص يُرسِل رشَّاش المياه إلى المكان المطلوب، وفي حالة عدم توافُر هذا الصنبور تُوجد زجاجةٌ مملوءة بالمياه جاهزة للاستخدام. لكن الألمان لم يعهدوا هذه الطريقة، وكانوا يعتمدون على ورقٍ خشنٍ داكن اللون.

وفي أحد الأيام اكتشف الحلواني بقعًا من الدم في الكيلوت. ذهب منزعجًا إلى طبيبة الوكالة، وبعد أن دسَّت يدها المقفَّزَة في استه لتتأكَّد من الشكوك التي خامَرتْها، ابتسمَت ونصحَتْه بأن يشتري ورقًا ناعمًا من برلين الغربية؛ لأنه غير متوافرٍ في الشرقية.

هكذا اضطُر إلى كسر التزامه والعودة إلى زجاجة المياه المتخلِّفة. لكنه حافظ على بقية الالتزامات، وعلى رأسها مواعيد العمل، خاصةً بعد ما تعرَّض له من حرج.

فقد استيقظ مرةً متأخرًا على غير العادة، وانتفض يتفحَّص المنبه. وجد أنه نسيَ ضبطه على السادسة صباحًا. وكانت الساعة السادسة والربع. هُرع إلى الحمام، ارتدى ملابسه بسرعة، بما فيها المعطف والقبَّعة والوشاح والقفَّاز، وأسرع إلى الخارج. ركب الترام، ووضع عشرين فينيجًا (مليمًا) في صندوق التذاكر. وغادره في شارع فريدريش شتراسه.
مشى بسرعة محاذرًا الانزلاق فوق طبقة الثلج الأملس الخفيف التي غطَّت الأرض. وصل مبنى الوكالة في الثامنة وعشر دقائق. خاطب الحارس: جوتن مورجن، صباح الخير، فرمقَه هذا في لوم. أبرز بطاقة هويته للحارس الذي يعرفه جيدًا، لكنه لم يسمح له بالمرور إلا بعد أن تفحَّصها وقارن بين وجهه وصورته. صَعِد إلى الطابق الثاني وهُرع إلى القسم العربي.

استوقفَته شقراءُ طويلة تعمل بالقسم الإسباني. سألَته بابتسامةٍ خبيثة: لماذا تأخَّرتَ؟

لجأ إلى إجابةٍ مصرية: المترو هو الذي تأخر.

قالت: ابحث عن حُجةٍ أخرى. منذ إنشائه عام ١٩٣٦م، لم يتأخر مرةً واحدة. وضحكَت.

لم يكن قد تناول إفطاره بعدُ، فانتهز أول فرصة للنزول إلى الكانتين في الطابق الأرضي؛ حيث تتواجد الشقراوات والسمراوات، وتتيح الفساتين القصيرة تأمُّل الرُّكب والأفخاذ. وقف في طابورٍ طويل أمام عجوزٍ شمطاءَ تبيع شرائح الخبز المغطَّاة بالسلامي أو الجبن أو شرائح الخيار والفجل الأحمر اللذَين لا يتوفَّران إلا في المناسبات، مع أكواب السائل الشبيه بالقهوة.

في هذا الكانتين تعرَّف بأول كاترين؛ لم تكن شقراء، وإنما بشعرٍ أسود ووجهٍ خمري وعينَين مُسبلتَين. ولحظَ بعد أيامٍ أنها تهبط إلى الكانتين في مواعيد تواجُده. وكان محصوله من اللغة قد ازداد بسرعة؛ مما سمح له أن يدعُوها لزيارته في منزله، فوافقَت على أن تخرج معه من الوكالة إلى منزله مباشرةً، ولكن في يومٍ آخر؛ لأنها تأخذ طفلَيها من دار الحضانة التابعة للوكالة عندما تنتهي ساعات العمل.
في اليوم الموعود خرجَت معه وركبا الترام. وأعفاه جهلُه باللغة (بالكاد كان يقول: جوتين مورجن، صباح الخير، وفيدرزيهين، إلى اللقاء، ودائمًا بسهولة، إيش كنت نيشت، لم أعرف) أو جهلها بالإنجليزية من حوارٍ لا معنى له. وكان مذهولًا من البساطة واليسر اللذَين تم الأمر بهما دون الحاجة المصرية للبحث عن مكان أو التفكير في وسيلة لتجنُّب الجيران. ولم تكن فراو فرويليش في المنزل عندما وصل، فسحبَها إلى حُجرته وألقاها فوق الفراش، ثم رفع رداءها إلى بطنها.

أمينًا لبرنامجه الثقافي والالتزام بأن يعيش كما يعيش الألمان طبَّق ما تخيَّلَه تصرفًا ألمانيًّا — أو على الأقل أوروبيًّا — فدفَن رأسَه بين فخذَيها وأخذ يُقبِّلهُما صاعدًا إلى أعلى. وسواء أكان السبب عدم الاغتسال أو مشاكلَ صحيةً ما، فإن الرائحة الشنعاء التي صادفَته أبعدَت رأسه وأفقدَته رغبته، بل ودفعَتْه إلى الإقلاع في مستقبل حياته — ولو لفترة — عن هذا الدرب الثقافي.

لم تفقد الفتاة رغبتَها، وبدأَت تتردَّد على القسم العربي بحُججٍ مختلفة وتتطلَّع إليه بعيونٍ والهة دون فائدة.

التجأ صادق إلى مفكِّرته، وقرر أن يتصل ﺑ «ليز». ولم يكن يعرفها، وأعطاه أحد الأصدقاء في القاهرة رقمها ليتصل بها مشفوعًا بوصفها بأنها مثل قطعةِ قشدة. وكانت قد زارت مصر في رفقة وفدٍ صحفي كمترجمة؛ لأنها تعرف العربية.

تلفن لها وتواعدا على اللقاء، ودعاها إلى أحد المطاعم القريبة من الوكالة. وتعرَّف عليها على الفور؛ لأنها فعلًا قشدة. ووجد معها شابًّا ألمانيًّا وسيمًا، قالت: إنه زوجها. وتحدَّثا بالإنجليزية؛ لأن عربيتها تكشَّفتْ عن مكسرة. ولم يتمخَّض اللقاء ولو عن وعد بلقاء ثانٍ.

لم ييأس أو يمل، وكما في الأفلام جاء الفرج.

ففي أمسية قضاها في المنزل يراجع دروس اللغة الألمانية ويتمنى أن يحدُث شيء (كما هو مألوف في مصر)؛ تهبط جارةٌ طالبة بعضًا من الملح أو تأتي بائعة زبدة أو فاكهة أو لبن. وكأنما استُجيب إلى طلبه؛ فقد دقَّ جرس الباب ولم ترُدَّ الفراو، السيدة أو المدام، على الطارق، واكتشف أنها ليست بالمنزل، ففتح الباب الذي يقع إلى جوار غرفته مباشرة. وجد أمامه عجوزًا قصيرةً باسمة سبعينية متبرِّجة بمكياجٍ ثقيل. سألَت عن الفراو، فقال لها: إنها غير موجودة، ودعاها للانتظار في غرفته، ثم عرض عليها كأسًا من زجاجة النبيذ الأبيض التي أعدَّها لهذه المناسبات. وبدأ يتحدَّث معها بألمانيةٍ مكسرة، وهي تُجاريه في الشراب حتى أوشكا على الانتهاء من الزجاجة.
ما حدث بعد ذلك يحتاج إلى تفسير؛ فإما أن العجوز أثارت فيه مشاعر الطفولة أو أن النبيذ الرديء «لأنه محلي» قد أدار رأسه، المهم أنه وجد نفسه يحتضن العجوز ويُحاول تقبيلها وهي تدفَعه عنها. أكد لها أنه أحبَّها من أول نظرة، واتفق معها على أن يذهبا إلى الزوو، حديقة الحيوان، في يوم الأحد، وأعطاها رقم تليفونه في الوكالة.

وقبل أن يحل يوم الأحد دق تليفون الوكالة. وكان هو المطلوب، فتناول السماعة ليأتيه صوتٌ ضعيف.

– أنا فراو إيلين.

قال مرحبًا: ماذا أفعلُ لكِ؟

قالت: أنسيتَ؟ ألم تعِدني بأن نذهب سويًّا إلى الزوو يوم الأحد؟
لأنه كان في كامل وعيه اعتذَر بارتباطه بموعدٍ سابق. ولم يذهب إلى الزوو. وإنما هبط إلى الكانتين حيث كانت فتاةٌ بميني جيب من قماشٍ قطيفة بني اللون وساقَين رائعتَين، تأتي كل يوم في نفس الموعد مع شابٍّ بدين كالخنزير لا يكف عن الكلام بجدية وهي تُنصِت إليه في اهتمام، بينما يتفحَّص صاحبنا — صادق — ساقَيها وفخذَيها المكشوفتَين. وما يلبث بقية رفاق القسم أن يلحقوا به.
أحاديث الكانتين كانت تدور حول المعلومات المتوافرة عن الفتيات (فعرف أن كاتيا، قطة القسم ذات الشعر الأسود العاملة على التليبرينتر متحفِّظة وبعيدة المنال، لا تستسلم للمداعبات أو الدعوات، وخاصة لأنها متزوجة من مدير أمن المبنى الذي تُحتِّم عليه وظيفتُه المرور بأنحائه، وخاصة القسم الذي يُوجد به عددٌ من الذئاب العربية)، وعن مشاكل التعامُل مع الألمان، وخُلاصة تجاربِ سنينَ طويلة قضاها أصحابها طَلبةً أو لاجئين ثم محرِّرين في الوكالة. ولم تكن أولى المشاكل التي واجهها مع الألمان وإنما مع الأكراد.

٤

في بادرة تعبير عن حسن النية أخذه فخري الكردي في إحدى الأمسيات إلى مرقص التليفونات، قُرب نهاية الطرف الثاني من فريدريش ستراشه. مبنًى قديم من طابقَين يعود إلى بداية القرن، شأنُه شأنُ المرقص ذاته. موائد عليها أجهزةُ تليفونٍ متصلة ببعضها بعضًا. تَرفَع السماعة وتطلُب رقم إحدى الجالسات إلى أي مائدة وتعرف هي على الفور الرقم الذي يطلُبها، فتتطلَّع إلى صاحبه وإذا أعجبَها أعلنَت موافقتها، فيتقدَّم إليها وينتقلان إلى حلبة الرقص.

قضى وقتًا طويلًا في استعراض الموجودات. وعندما استقر على واحدةٍ شقراءَ بالطبع ذات رداءٍ قصير للغاية تظهر منه ساقان بديعتان خاطَبها. ويبدو أنه لم يعجبها أو كانت مرتبطة بالرقصة التالية فقد اعتذَرتْ. اختار واحدةً ثانية كانت أطول منه قليلًا وقام يرقص معها، ولأنه لا يُجيد الرقص داس على قدمها فطلبَت منه غاضبةً أن ينتبه، فأكمل الرقصة بغير حماس وعاد إلى مقعده كسيفَ البال.

كانت هذه هي اللحظة التي قرَّر فيها أن يتعلَّم الرقص على الأصول. عاونَه فخري في اختيار مدرسة للرقص من إعلانات الصحف. وكانت قريبة من منزله. ذهب في موعد الدرس. قاعةٌ واسعة في منزلٍ قديم، وبار في جانب، وحوالي عشرين شابًّا نصفُهم فتيات ويجمع بينهم جميعًا أنهم يصغرونه بعشر سنوات على الأقل. وبدأ المُدرِّس، صاحب المدرسة، وهو كهلٌ ذو عويناتٍ مقعرة، حديثًا قصيرًا عن قواعد السلوك عند الرقص، ثم باع لهم كُتيبًا صغيرًا في حجم الكف من ٤٦ صفحةً يحمل تحذيرًا بعدم النقل، أصدره الاتحاد المركزي لمعلِّمي الرقص في جمهورية ألمانيا الديمقراطية، وغلافًا عليه رسمٌ بدائي لشابٍّ ينحني أمام فتاةٍ بسطت جوبتها حولَها وانحنَت بدورها استعدادًا للرقص معه.
أقبل على الكُتيِّب يدرسُه بمعونة فخري؛ قواعد التحضُّر والتهذيب: كن مضبوطًا لكن طبيعيًّا. كن مستعدًّا للمساعدة. كن دقيقًا في مواعيدك. احترم المرأة والكبار. كيف تتعرَّف بالآخرين، السلوك المهذَّب عند الرقص، كيف تخاطب النادل، أصول الشراب والتدخين، والملابس وكتابة الخطابات وقواعد السلوك في قاعات الموسيقى والمسرح.

وقبل أن يبدأ الدرس أخرج المدرب صندوقًا من زجاجات البيرة الخفيفة، وبدأ يبيعها للشبان الذين كانوا في الغالبية خجولين، ويحتاجون إلى رافعٍ للمعنويات مثله تمامًا، ثم بدأ الدرس ورافقَته فيه فتاةٌ قصيرة ممتلئة في السابعة عشرة.

تردَّد على المدرسة بعض الوقت وتلقَّى دروسًا في التانجو والفالس والرقصات الحديثة زاملَته فيها نفس الفتاة. وبعد فترة شعر بأنه أصبح قادرًا على المجازفة، واشتاق إلى تطبيق ما تعلَّمه. لم تكن فتيات الدرس يفين بمطلبه؛ لأنه كان يتطلَّع إلى النساء الناضجات.
وجد بغيته في القسم الإنجليزي الذي يقع خلف الفاصل الخشبي مباشرة. كان العاملون به ثلاثة «يتقنون الإنجليزية بالطبع» أحدهم رجل. اتجه إلى إيزولدا، الشقراء الطويلة الرقيقة الرشيقة، وعرض عليها أن يدعُوها للعَشاء والرقص في عطلة الأسبوع، فاحمرَّ وجهها وقالت: هذا الأسبوع عندي عمل، والأسبوع القادم ستأتي أختي من برلين الغربية، والأسبوع الذي بعده سيأتي عمي، والأسبوع التالي سأسافر إلى أمي في درسدن. لا بأس إذن بعد شهر ونصف!

لم يكن التخطيط طويل الأمد من طبيعته الشرقية التي تتعجَّل النتائج، فشكَرها ولم يقترب منها بعد ذلك ولا بعد شهر ونصف.

لكنه وجد في القسم الإنجليزي شيئًا آخر؛ فلأن الصحف العربية والإنجليزية لم تكن متوافرةً إلا في برلين الغربية، دفعَتْه الرغبة في معرفة أنباء العالم الخارجي إلى الاعتماد على الصحيفة الإنجليزية الوحيدة المسموح بها وهي مورنينج ستار الصادرة عن الحزب الشيوعي الإنجليزي؛ ولهذا السبب لم تلحقها المصادرة، رغم أنها كانت تُعارِض التدخُّل السوفييتي في تشيكوسلوفاكيا. كل ما لحقها هو منعُ تداوُلها وقَصْر قراءتها على دائرةٍ ضيقة من الموثوق بهم، والذين تتطلب مِهنُهم ذلك، ومنهم العاملون في القسم الإنجليزي فقط. اختار منهم الفتاة الثانية، أولريكا، وهي متوسطة الطول والجمال ذات شعرٍ أسود قصير «ألا جرسون»، وخاتم زواج في إصبعها. طلب منها أن يستعير الصحيفة، فذكَرتْ له أن قراءة الصحيفة الإنجليزية ممنوعة لغير العاملين الثلاثة في القسم. لمس حَرجَها فوعد بألا يقول لأحد. وطوى الصحيفة وأخفاها خلف ظهره وعاد بها إلى مقعده.
قرأ التعليقات المستمرة عن الإصلاحات التي اقترحَها الحزب الشيوعي التشيكوسلوفاكي بزعامة دوبتشيك، ثم لفت نظره تعليق نقلًا عن الصنداي تايمز يتحدَّث عن بزوغ نجم المنظَّمات الفلسطينية التي أصبحَت منذ حرب الأيام الستة عاملًا يُحسب حسابه.

تكرَّر اقتراضه للصحيفة في اليوم الثاني والذي بعده، إلى أن تشجَّع ذات يوم وعرض عليها أن يلتقيا خارج العمل. لم يبدُ عليها أي انفعال، وإنما اكتسحَت القاعة ببصرها في حذَر لترى إذا كانت هناك عيونٌ ترقبهما، ثم سألت: لماذا؟

قال: لنتبادل الحديث.

قالت: لا أظن أن الحديث معي مهم.

لم يفُلَّ الردُّ البارد عزيمته.

قال: لا أجد من أتحدَّث معه؛ فلا أحد يعرف الإنجليزية.

قالت: عندكَ رفاقُكَ العرب.

قال: لكني أريدُ أن أتحدَّث معكِ أنتِ.

قالت في حسم: ليس عندي وقت.

انسحَب يلعق جراحه كما يحدُث في الغابات، وعاد إلى رفاقه العرب وإلى موقعة الاثنَي عشر (لا الأمعاء وإنما الأرقام).

٥

صحبه فخري أيضًا إلى برلين الغربية بعد تردُّدٍ كبيرٍ من جانب صادق؛ فقد كان الألمان العاديون محرومين من الانتقال إلى هناك على عكس الأجانب. ولم يشأ صادق، أمينًا لبرنامجه الملتزم، أن يتمتَّع بما يُحرم منه الألماني العادي. رغم هذا فإن الإغراء كان قاهرًا، فذهب بعد أن استبدل ماركاتٍ شرقية بالغربية، من فخري بالطبع، الذي لم يمنعه انتماؤه إلى حزبٍ يساري — على علاقة وطيدة بمثيله الألماني — من تحقيق بعض المكاسب الجانبية.
عَبَرا من نقطة الحدود في محطة فريدريش ستراسه، واستقلَّا قطار ألاس بان، المترو العلوي، وغادراه بعد محطاتٍ معدودة في محطة الزوو، وخرجا إلى شارع كورفستردام الشهير، وإلى حشودٍ هائلة من الشباب، ترفع الأعلام الحمراء.
وجدَا نفسَيْهما وسط مظاهرةٍ كثيفة من أجل فيتنام يقودها شابٌّ بشاربٍ ضخم يُردِّد في ميكروفونٍ محمول: «هو هو هو»، إشارة إلى هوشي منه. تأمل صادق الفتيات اللاتي ارتدين معاطفَ سوداءَ طويلة، ماكسي، وأحطن جبهاتهن بعصَّاباتٍ بيضاءَ عريضة، والشبان مُرسِلي الشعور في بنطلوناتٍ ضيقة وبلوفرات بياقاتٍ مطوية حول الرقبة (الذين لم تمُر سنواتٌ قليلة إلا وكانوا قد قصَّروا شعورهم وارتدَوا ملابسَ كاملة على أحدث موضة، وأمسكوا بحقائب السامسونايت، بعد أن نجحت المؤسَّسة في استيعابهم).
تابع بعينَيه فتاةً طويلة بدت في منتهى الأناقة بمعطفٍ أسود ماكسي وبوت، وتُمسِك بمسدَّس أطفال، وتمشي بخطواتٍ عسكرية بجوار شابٍّ طويل الشعر يلتحف ببطانية. كانا يرفعان لافتةً تقول: «لنمارس الحب لا الحرب»، ويطلقان فقاعات الصابون من دائرتَين بلاستيكيتَين صغيرتَين. وخلفهما جماعةٌ رفعَت رايةً سوداءَ موشَّاة بالمطرقة والمنجل، شعار الفوضويين من أتباع باكونين. وعلى جوانب الطريق وقف كبار السن وأصحاب الحوانيت يهزُّون رءوسهم في استنكار.
التقت عينا صادق بعينَي صاحب أحد هذه الحوانيت الذي لوَّح له صائحًا: عُد إلى بلادك.
استجاب صادق للنداء وجذب فخري بعيدًا عن المظاهرة، ليقعا فريسة مظاهرةٍ أخرى قليلة العدد من شبَّانٍ وفتياتٍ حليقي الرءوس يلتحفون بملاءاتٍ بيضاءَ ويدقُّون دفوفًا صغيرة على وقع نداءاتٍ إيقاعية تبيَّن منها صادق لفظة كريشنا. دفع أحدُهم في يده بورقةٍ مطبوعةٍ معنونة: «إعلان الجمعية الدولية لمريدي كريشنا. وتضمَّن الإعلان حديثًا عن «الحقيقة المطلقة» التي ينشدُها المريدون المذكورون.
انفصلا عن أصحاب الحقيقة المطلقة، وجذب صادق صاحبه إلى حانوت لبيع الكتب لمح فيه جانبًا باللغة الإنجليزية. قلَّب طويلًا بين أحدث المطبوعات واختار رواية نورمان ميلر الجديدة بعنوان «جيوش الليل»، ثم خرجا من جديد إلى الشارع الحافل، وإلى الكنيسة المزدوجة.
فالكنيسة الأصلية التي بناها القيصر فيلهلم على الطراز القوطي دمَّرتْها غارات الحلفاء، ورأت الحكومة الألمانية الغربية بعد الحرب أن تُبقيَها على حالها المدمَّر تذكرةً لمن يتفهَّمون، وألصقَت بالبقايا كنيسةً جديدة من الرخام والزجاج. وانتصر الزجاج مرةً أخرى، مصحوبًا بالصلب هذه المرة، في ناطحة سحابٍ تعلوها عبارة أوروبا سنتر» وتُكلِّلها نجمةٌ دوارة؛ شعار مرسيدس بنز.
اتجها إلى جامعة برلين الحرة. ووجدا مدخلَها مكتظًّا بحشود الطلبة. ومن مكبرات الصوت تردَّدتْ أغاني البيتلز وبوب ديلان. وتعرَّف صادق على أغنية الأخير؛ لم أحصل على شيء بالمرة يا أمي/إني أعيش متعبًا خائر القوى.
كانت القاعة الرئيسية للجامعة ممتلئة عن آخرها. وإلى منصةٍ صغيرة في صدرها أحاط ثلاثةٌ من الشبان ذوي الشعور الطويلة بفتاةٍ ضئيلة الحجم في ملابسَ من الجلد الأسود انطلقَت تتحدَّث في حماس. وأعلنَت في ثقة (والعهدة على الترجمة التي قام بها فخري) أن عصر المؤلَّفات الأدبية والفلسفة قد انتهى، وأن العمل السياسي هو الفن الوحيد.
وضح أن العنصر النسائي هو المسيطر على الموقف؛ فلم تكد الفتاة تنتهي وتعهَد بقضيب الميكروفون إلى أحد الشابَّين حتى انتزعَتْه فتاةٌ أخرى أكبر سنًّا وأقوى عضلًا وانطلقَت تبُث جوانحها: كنتُ أدهن جدران منزلي فعنَّفَتني إحدى اليساريات، مستنكرة لامبالاتي بالآلاف الذين تقتلهم قنابل النابالم في فيتنام وملايين الجياع والمعذَّبين في معتقلات الدول النامية. ودعَتْني إلى الكفاح من أجل تقويض النظام المتحجِّر والسلطوية اللاعقلانية للدولة والجامعة والمدرسة، وهوس الاستهلاك. هكذا قرَّرتُ أن أُنهي الحياة البورجوازية الزائفة، وأتحمَّل كل تبعاتِ الكفاح المستمر.

توقَّفتْ لحظة وجالت بعينَيها بين الوجوه المُشرئبَّة، ثم أعلنَت القول الفصل: هذه المراوغة التي يتبعها يساريُّو الصالونات لن تُفضي إلى شيء. ما نحتاج إليه هو العنف الثوري المضاد.

تردَّد صوتٌ من بين الحاضرين يوجِّه سؤالًا ويستوضح شيئًا، فصاحت الفتاة: شعارنا نحن النسوة هو النعومة في السرير والعنف ضد رجال الشرطة.

سأل صادق: أتشهد برلين الشرقية مظاهراتٍ مماثلة؟
ضحك فخري: أنت تمزح ولا شك. ألم تكتشف بعدُ أن التظاهر محظور؟ ثم إنهم أدانوا الحركة الطلابية في الغرب على أساس أنها فوضوية، لا تُغرِي سوى أبناء البورجوازية الصغيرة.
غادرا الجامعة وسارا مع آلاف من سيارات المرسيدس والبيجو والفولكس بموازاة الحوانيت العامرة باللحوم والأسماك والخضراوات والفواكه والملابس، وأخرى عامرة باللحوم البشرية، تَصدَّرتْها لافتةٌ عريضة بمؤخرةٍ عارية لفتاةٍ شقراءَ تعلو إعلانًا عن «الأفلام الزرقاء»، إياها، ومجموعات من الشبان والفتيات في ملابسَ سوداء، زُيِّنتْ أنوفُهم وآذانُهم بالخواتم وشُعورُهم بالألوان الخضراء والحمراء، بصحبة كلابٍ ضخمة، يفترشون صناديق من الكرتون فوق الأرصفة.
علَّق فخري: إنهم يعيشون في الشارع، ولن تجد مثلهم في ألمانيا الشرقية؛ فكل واحد من مواطنيها له مسكن.
فكَّر صادق أن هؤلاء الشبان ملتزمون بشعار «ممارسة الحب لا الحرب». ولم يتصوَّر صعوبة الأمر والتعقيدات المحفوفة به إلا عندما بلغا دار أوزي.
كان حانوتًا كبير الحجم يحتل ناصيتَي شارع بواجهاتٍ زجاجية، حفلَت بصورٍ عارية لشبان وفتيات في أوضاعٍ مغرية، وادعاءاتٍ بأن الطلبات عليه ترد مرة كل ٦ ثوانٍ، وأن له فروعًا في عشرين مدينةً ألمانية. اتجه صادق إلى المدخل في فضول وحماس، وتبعه فخري متظاهرًا بعدم المبالاة. ولجا كهفًا بإضاءةٍ حمراءَ خافتةٍ أعطت الجو المناسب. مرَّا من أمام صناديقَ زجاجيةٍ تعلوها لافتاتٌ توضيحية لخصائص المنتجات الواعدة بالسعادة؛ سوتيان يُبرِز الثديَين، ومايوهاتٌ ساخنة، وكيلوتات بفتحاتٍ أمامية. ثم الأهم؛ حبوب تجلب ذكورةً مؤكدة. مشروبات تُوقظ الرغبة في الرجل والمرأة. رشَّاش يعطِّر الجو من خلال رائحةٍ تثير الحواس. أنواع من الواقي الذكري بغلافٍ داخلي يمنع القذف السريع. أجهزة تساعد المرأة على بلوغ نشوتها، وأخرى تمثل أعضاءً صناعية، بعضها في أحجامٍ تُناسِب الجياد والحمير، تُساعِدها على قهر البرودة. دهان يضاعف نشاط الرجل ويزيد انتصابه وحساسيته حتى يصبح أكثر حماسًا ويمكنه أن يشبع أكثر النساء مطالبة. دهانٌ آخر من الصين يقوِّي الانتصاب ويؤخِّر القذف. أجهزةٌ مساعدة تُسرِّع الإثارة الجنسية لدى المرأة، ولها تأثيرٌ مباشر على منطقة البظر. هزَّازٌ حديث للمرأة العصرية دون وصلةٍ كهربائية، بحيث يمكنها أن تحمله معها — في حقيبة يدها — إلى أي مكان.
لم يشترِ أحدهما شيئًا بالطبع (سواء لعدم الاحتياج أو لاستحالة العودة إلى برلين الشرقية بإحدى هذه المواد المتفجِّرة). لكن قلب صادق لم يطاوعْه على مغادرة الحانوت دون تذكارٍ ما، فاشترى علبةً صغيرة من الفول السوداني المملَّح لزوم البيرة، وقصافةَ أظافرٍ معدنية جلبَت تعليقًا من فخري، مُبطَّنًا بسخرية عن عدم توافُرها في «مصر»، وباقتراحٍ خبيث: يمكنكَ الحصول على سيارةٍ مستعملة في حالةٍ جيدة في حدود ٤٠٠ مارك، غربي بالطبع.
ولأنه كان عليمًا بأن صادق لا يملك مصدرًا للعملة الصعبة، أبدى استعداده لأن يُقرِضه المبلغ ويسترده بالماركات الشرقية على دفعاتٍ من الراتب الشهري. وأبدى صادق (الملتزم بأن يعيش مثل غالبية الألمان) رفضًا قاطعًا للفكرتَين؛ السيارة والقرض.
اكتملَت الرحلة الثقافية بسندوتش براد فورست مع بيرة وكيتش أب من كشكٍ نظيف، ثم فيلم عن فتاة تُعاني من الاكتئاب فتذهب إلى طبيبٍ نفسي. وبعد أن تخلع ملابسها ويفحص استجابتها الجنسية ينصحها بأن تستمتع بحياتها. هكذا فعلَت طَوال الفيلم مع كل من قابلَتهم من رجال ونساء.
غادرا المدينة بشعورٍ من الإحباط لم يُدرِك صادق سببه. وقرَّرا تكرار الزيارة في موعدٍ حالت التطورات السياسية دونه؛ ففي تحدٍّ واضح قرَّرَت ألمانيا الغربية إجراء انتخابات رئاستها في برلين الغربية، مما جلب وعيدًا من الجانب الشرقي بفرض الحصار على المدينة، دَعمَته مناوراتٌ عسكرية شارك فيها نصفُ مليون جندي من السوفييت والألمان الشرقيين. هكذا انفسح المجال للصراع العربي الكردي.

٦

كانت معرفة الأكراد باللغة العربية تشوبها اللكنة العراقية فضلًا عن الكردية. كما كانوا يكرهونها بسبب ما تعرَّضوا له من اضطهاد على أيدي المتعصِّبين من أبنائها كالبعثيين، ومن تجاهُل الحركات الوطنية العربية عمومًا لقضيتهم وتركيزها على القضية الفلسطينية. وأوشكَت إقامتهم الطويلة في ألمانيا ودراستُهم بها ثم زواجُهم بألمانيات أن تمحُوَ معرفتهم بقواعدها. وكانوا على عكس صادق بلا خبرةٍ صحفية؛ إذ التحقوا ﺑ «أ. د. ن» لكسب العيش والحصول على الإقامة؛ لهذا صارت مهمة صادق اليومية عند مراجعة ترجماتهم هي تصحيح رفع الفاعل ونصب المفعول وجر المجرور، فضلًا عن إدخال الأساليب الحديثة في الكتابة الصحفية؛ الأمر الذي كان يثير امتعاضهم. وبلغ الامتعاض ذروته عندما أشارت إحدى التعليقات الصحفية إلى مرور ١٩ عامًا على ثورة يوليو المصرية وكتبها فخري بالحروف: «تسع عشرة عامًا».
رغم كراهية صادق للقواعد المعقَّدة لكتابة الأعداد بالحروف وخاصة تلك المركَّبة من شطرَين، ولجوئه دائمًا إلى كتابتها بالأرقام، فإنه كان يحفظ عن ظهر قلبٍ القواعد الأساسية. ووجد أمامه فرصة لسحق المعارضة.

القاعدة في البداية تبدو بسيطة للغاية؛ فالعددان ١ و٢ يوافقان المعدود تذكيرًا وتأنيثًا، سواء أكانا مفردَين أو مركَّبَين مع ١٠، مثل: «كان هناك اثنا عشر طبيبًا واثنتا عشرة مريضة». وبالتالي لا توجد مشكلة.

تبدأ المشكلة من العدد ٣ حتى ٩. هنا تُخالِف الأعداد المعدود تذكيرًا وتأنيثًا، فإذا كان العدد مؤنثًا كان المعدود مذكرًا: «حضر تسعة أطباء وسبع مريضات».

تتعقد المشكلة مع العدد ١٠، فإذا كان مفردًا خالف المعدود تذكيرًا وتأنيثًا «عشرة أطباء وعشر مريضات». أما إذا رُكِّبَ مع غيره فيوافق المعدود: «عشر مريضات وأحد عشر طبيبًا».

شطب صادق أعوام فخري وكتب بثقة: «تسعة عشر عامًا».
لم يقبل فخري التشكيك في درجة إتقانه للعربية، كما رفض صادق التراجع عن موقفه وتضامن معه الكردي الآخر (استنادًا لرؤيته الحزبية المعادية لحزب رفيقه الكردي) بينما عارضه العراقي الضئيل الحجم (كان صدام حسين حاكم العراق الدموي — من موقعه كالرجل الثاني إلى جوار الرئيس حسن البكر — قد عقد تحالفًا مؤقتًا مع الحزب الكردي الذي ينتمي إليه فخري). ونهض الأخير في عصبية ومزَّق الورقة التي جلَّلها صادق بتصحيحاته. نَشبَت مُشادَّةٌ تابَعها الخبير الألماني في حَيرة. وحسم الأمر اتصالٌ تليفوني بمؤلِّف القاموس الألماني العربي، دكتور شولتز، الذي انتصر ﻟ صادق.
لم يستسلم فخري تمامًا؛ فقد غَمغَم بشيء عن هزيمة جمال عبد الناصر في ١٩٦٧م. هنا اندفعَت الدماء في عروق صادق، وأعلن أن الزعيم المصري قدَّم للشعوب العربية ما لم يُقدِّمه أحد لها من قبلُ. أدرك أنه استبعد الأكراد من المديونية، فاستدرك قائلًا: إن شعوب العالم كلها وفي مقدِّمتها الشعوب المُستعمَرة ستظل مدينةً له إلى الأبد.
دخل الكردي الآخر ماجد، على الخط ليؤكِّد ثوابته؛ ﻓ عبد الناصر في رأيه هو الداعم لحزب البعث المجرم في العراق. تفجَّر الصراع الكردي/الكردي. وتابع نويمان الشجار الناشب في حَيرة؛ لأنه لم يفهم شيئًا من الكلمات المتطايرة حوله. وأخيرًا هزَّ رأسَه ودفنَه في أوراقه وهو يُغمغِم لنفسه متعجبًا، في الغالب، من هذه الشعوب المتخلِّفة.

هدأ الجوُّ أخيرًا، لكنه ظلَّ متوترًا حتى حان موعد الغداء، فهدَّأ نداء البطون من فوران النفوس. مؤقتًا.

تستمر فسحة الغداء ساعة، فيرتدي صادق معطفه، ويلفُّ الكوفية حول عنقه ويضع القبَّعة على رأسه ويدُسُّ أصابعه في القفَّاز. ويخرج العاملون في القسم في طابور يعبُر الميدان إلى حيث يُوجَد مطعمٌ كبير مخصَّص للعاملين في المؤسَّسات القريبة، فيخلع المعطف والكوفية والقفَّاز وغطاء الرأس، ويأكل الكارتوفيل، البطاطس، مع قطعة لحم وتفاحة، متجنبًا الحَسَاء المصنوع من دماء الخنازير، لا عن عَداءٍ للحيوان المحرَّم في دينَين من الأديان السماوية الثلاثة، وإنما عن استبشاع لمنظر الدماء، ثم يرتدي معطفه والكوفية والقفَّاز وغطاء الرأس. ويعود الجميع في خطواتٍ متمهِّلة إلى الوكالة حيث يخلع المعطف والقفَّاز والكوفية وغطاء الرأس، ثم يستأنف العمل في غير حماس، حتى تحين ساعة الانصراف في الخامسة.
تكرَّر طقس الملابس فارتدى «صادق» من جديد الكوفية والمعطف وغطاء الرأس، وحمل مظلَّته. وتقدم طابور القسم العربي إلى الخارج. وعند مدخل المبنى اقترح أحدهم الذهاب إلى أونتر دين ليندن فاتجهوا إليه. كان الظلام قد خيَّم وهطَل مطرٌ مفاجئ حال دون تبيُّنهم لشريط الأخبار المضيئة أسفل كوبري المحطة. وكانوا يعرفونها على أية حال؛ فلم تتجاوز ما ترجموه وأذاعوه في الصباح.
كان الفندق حديث البناء بديكوراتٍ حديثة ذات خطوطٍ بسيطة. خصَّص بطابقه الأرضي إلى جوار المدخل ركنًا زُوِّد بفوتياتٍ عصرية وبارٍ صغير، يُطِل — من وراء حوائطَ زجاجية — على شارع فريدريش شتراسه من جانب، وعلى شارع أونتر دين ليندن من الجانب الآخر.
في هذا الوقت من اليوم يبدأ عرب وأكراد وأتراك برلين الغربية في التوافُد سعيًا وراء الثقافة، مسلَّحين ﺑ المارك الغربي. وجدوا منهم ثلاثة في موقعٍ استراتيجي يواجه المدخل. أحدهم رتَّب شعره في خُصلتَين على جانبَي جبهته ألصقهما برأسه. والثاني تباهى بسترة دون ياقة تحتها قميصٌ أحمر. والثالث ببزَّةٍ كاملة وربطةِ عنقٍ ضخمة، لم تنجحا في إخفاء تورُّم أصابعه وما عليها من آثار المهنة؛ شحم السيارات. كما تواجدَت أيضًا القطط المحلية.
في مجال بصر صادق جَلسَت إحداهن بجوبةٍ قصيرة — وحزامٌ حول وسطها يُضاعِف من القصر — فاستطاع أن يلمح ملابسها الداخلية. وجَّهتْ إليه نظرها ثم تبادلَت مع رفيقة لها الضحك. ظن أنهما تسخران منه؛ فلم يكن مدربًّا بعدُ على أفانين الاصطياد من قِبَل العاهرات.

لكن بار الفندق لم يقتصر على النشاط الثقافي؛ فإلى إحدى الموائد القليلة جلسَت عجوزتان احتفظَت إحداهما بقبَّعةٍ بيضاء اللون فوق رأسها. وإلى مائدة في الجانب الآخر راحت أخرى تتكلَّم في ثقةٍ كاملة، وبصورةٍ متواصلة، وصوتٍ مرتفع، مع رجلٍ ألماني لم يبدُ منه غير قفاه وشعره المصفَّف بعناية.

غطَّى الصوت العالي للمرأة — بالإضافة إلى أغاني الراديو — على أصواتهم الخافتة التي تداولَت المسكوت عنه طُول اليوم. هكذا عرف صادق أن السفر إلى أي مكان في الغرب غير ممكن بالنسبة للألمان. السفر فقط إلى البلدان الاشتراكية؛ لهذا السبب كان الشباب يحُجُّ إلى «براغ» المنفتحة (قبل التدخُّل السوفييتي)؛ حيث سمحَت السياسة الجديدة للحزب بوجود أسطوانات الجاز وأفلام هوليوود والمجلات الغربية وقصائد فولف بيرمان المحظورة في ألمانيا الشرقية.
عرف أيضًا أن مثقَّفين في ألمانيا الشرقية تطلَّعوا إلى إمكانية تجديد الماركسية فوصفَتهم الصحف بأنهم طائفةٌ منشقَّة تنشُر الهرطقة بين صفوف الشبيبة. كما تظاهر — منذ شهور — كثيرٌ من أعضاء الحزب احتجاجًا على قيام حلف وارسو بغزو براغ. وتم تداول منشوراتٍ تهتف: عاشت براغ الحمراء. وجرى اعتقال عدة مئاتٍ بعد سقوط دوبتشيك، الزعيم التشيكي المُتمرِّد.
لم تكن أمسيات الأونتر دن ليندن تنتهي على خيرٍ؛ فبعد ساعة عندما لا يظهر في الأفق ما يُبشِّر بغزوٍ ثقافي يعود الجميع إلى منازلهم، ويأوي العراقيون الثلاثة «الكرديان والعربي» إلى زوجاتهم اللاتي كن السبب غالبًا في المحاولة. شيءٌ واحد اختلف هذه المرة؛ فعندما أراد صادق أن يدفع حساب البيرة للجميع أصَرَّ فخري على أن يتولَّى هو الدفع.

بادرةُ حُسن نية ستَتكرَّر في صورةٍ أخرى في القريب، لكنها أنهت — مؤقتًا — الصراع العربي الكردي والصراع الكردي الكردي، وأفسحَتِ المجال للصراع الرئيسي؛ الألماني العربي.

٧

بدأَت المشاكل مع نويمان قبل أن تمتد إلى الألمانيات. صَحِبه الرجل في أول الشهر إلى اجتماعٍ دوري يعقده الحزب للأجانب المقيمين في برلين، بعد انتهاء ساعات العمل بالطبع، لشرح سياساته والاستماع إلى آرائهم وتعليقاتهم. جلسَا في الصف الثاني وأنصتا إلى كهلٍ باسم، تناول فيما يبدو غَداءً وفيرًا متأخرًا للتو؛ إذ كان يتجشَّأ بين الحين والآخر. وبعد أن انتهى من الدفاع عن سياسة ألمانيا الديمقراطية السلمية، هاجم السياسة العدوانية ﻟ ألمانيا الغربية المتحالفة مع إسرائيل وجنوب أفريقيا العنصريتَين.
كان محصول صادق من اللغة ما زال ضئيلًا لكنه — بخبرته في الوكالة — تمكن من تبيُّن الاتجاه العام للحديث مع تكرار حروف إزموس، التي تنتهي بها في الألمانية كلمات الإمبريالية والرأسمالية والاشتراكية والعنصرية وكل الأسماء في القاموس السياسي المعاصر؛ لهذا انصرف إلى تأمُّل الحاضرين ووقعَت عيناه على مرسي سليمان في الصف الأول.
كان قد سمع عنه في مصر قبل أن يتعرَّف إليه في بار أونتر دين ليندن؛ شيوعيٌّ قديم من طلائع شيوعيِّي الأربعينيات، هاجر بعد أول اعتقال، واستقر في ألمانيا الشرقية؛ حيث تزوَّج — ألمانية بالطبع — وأكمل دراسته، وصار أستاذًا في الجامعة، ولم تلمس قدماه أرض مصر منذ تركَها أول مرة. رآه الآن بقامته القصيرة وجسده الممتلئ يغفو وعلى شفتَيه ابتسامةُ استحسانٍ لما يسرُدُه الخطيب، ثم يفتح عينَيه ويهزُّ رأسه مؤمِّنًا، وسرعان ما يعود إلى غفوته محتفظًا بابتسامته.
نجح صادق في تجنُّب الاجتماع الشهري التالي بحُجَّة عدم تعمُّقه في فهم اللغة بما يمكِّنه من استيعاب الأفكار العميقة للمتحدِّث. لكن حُجَّته لم تُفلِح مع نويمان في حالة الاجتماع الآخر الذي تعقده اللجنة الحزبية بالوكالة للعاملين مرةً كل أسبوع.
عبثًا حاول تجنُّب نويمان؛ فقد ألحَّ عليه الرجل في استعطاف، واضعًا يده على بطنه، ثم طارده في إصرار من يتوقَّف مستقبله المهْني على إحضار العربي العاصي إلى الاجتماع المقدَّس. نزل إلى الكانتين، وفكَّر في الخروج إلى الشارع، لكن درجة البرودة أجبَرتْه على العودة إلى مكتبه لإحضار المعطف والكوفية والقبَّعة والقفَّاز. سمع صوت نويمان يسأل عنه. فهُرع إلى التواليت. اختبأ فيه بعض الوقت حتى ملَّ، ففتح الباب ليجده أمامه. قلَّده بوضع يده على بطنه وتأوَّه قائلًا: إنه يعاني إسهالًا مفاجئًا. عندئذٍ شاهد ما يُشبِه الظواهر الطبيعية.

التَمعَت العينان الصفراوان وتقلَّص الوجه الطفولي الباسم في غضبٍ عنيف مُدمِّر، لم يلبث أن اختفى ثم زفَر صاحبه في يأس واستدار مبتعدًا.

تكرَّرتْ هذه المواجهات كلما حان موعد الاجتماع الحزبي حتى يئس منه نويمان وتركَه في حاله. لكن صادق لم يتركه.
كانت جلُّ سياسات جمهورية ألمانيا الديمقراطية موجَّهة إلى إقناع البلدان العربية بالاعتراف بها كجمهوريةٍ مستقلة إلى جوار ألمانيا الغربية. هذا كان السبب في تصريحات التأييد والدعم وتوجيه الدعوات لكلِّ مَن هبَّ ودبَّ من ممثلي الهيئات والنقابات والبرلمانات في البلدان العربية، ثم إنشاء القسم العربي في الوكالة التي تحتلُّ مديرتها مركزًا هامًّا في قيادة الحزب. وفي كل هذه المساعي كانت ألمانيا الديمقراطية تسعى إلى ربط الكيانات العربية المحلية بمثيلاتها الألمانية. ومن الطبيعي أنْ كان على رأس هذه الكيانات الحزب الاشتراكي الألماني الموحَّد «الشيوعي»، وهو الحزب القائد (التسمية التي اقتبسها كل من صدام حسين وحافظ الأسد) لمجموعة الأحزاب الكرتونية التي تألَّف منها ما سُمِّي بالجبهة الوطنية.
تمتَّعتْ جريدة نويس دويتشلاند (ألمانيا الجديدة) بوضع الجريدة القائدة بين الصحف الألمانية الشرقية بصفتها لسان حال الحزب القائد، فمع أي الصحف المصرية تعقد أواصر الصلة؟ بالطبع مع الجريدة المتحدِّثة بلسان الحزب الحاكم في «مصر»، وهي الجمهورية، لسان حال الاتحاد الاشتراكي العربي.
لم تكن الجمهورية هي الجريدة الأولى في مصر، بل الثالثة بعد الأهرام والأخبار. ولعل ذلك كان شأن نويس دويتشلاند. ولم يكن الاتحاد الاشتراكي نفسه في منزلةٍ شعبية أفضل من الحزب الحاكم في ألمانيا الشرقية، رغم الملايين المسجَّلة في عضوية كلٍّ منهما.
على أية حال، فإن التعاون بين الصحيفتَين شمل دعواتٍ للصحفيين المصريين المتعطِّشين للثقافة الألمانية للزيارة، وتبادُل الأنباء والتقارير الصحفية. وهنا جاء دور وكالة أ. د. ن.
فإذا نشَرتِ الصحيفة الألمانية تصريحًا لأحد قادتها أو نبأً عن التواطؤ الألماني الغربي مع إسرائيل، بثَّتْه أ. د. ن، وسارعَت الجمهورية إلى نشره نقلًا عنها. كل هذا يبدو أمرًا طبيعيًّا. لكن ما يحدُث بعد ذلك هو غير الطبيعي، مِهنيًّا على الأقل.
إذ يتلقَّف مراسل الوكالة في القاهرة ما نشَرَتْه الجمهورية ويُرسِله إلى المركز الرئيسي في برلين، فتبُثُّ أنَّ الجريدة المصرية نشَرتْ عن نويس دويتشلاند الخبَر المعيَّن، وتتلقَّف الجريدة الألمانية الخبر — الذي تَعدَّل قليلًا فأصبح عن قيام الصحيفة المصرية بالنشر نقلًا عن الألمانية لا مجرَّد التواطؤ الإسرائيلي — فتنشُره، وتبُثُّ الوكالة النبأ الجديد فتتلقَّفه الجمهورية وتنشُره، وهكذا دوالَيكَ.
أوضح صادق لرئيسه أن ما يحدُث يفتقر إلى المِهْنية الصحفية، فوضَع هذا يده على بطنه، وابتسم في تبسُّط قائلًا: أنتَ لا تُدركُ بعدُ أبعاد المهنة.
لم يقتصر الأمر على المِهْنة الحويطة؛ فقد تعدَّاها إلى السياسة العامة للبلاد؛ فقد أسفرَت الانتخاباتُ التي جرت في برلين الغربية لرئاسة الجمهورية عن فوز الزعيم الاشتراكي الديمقراطي جوستاف هانيمان بأغلبية ستة أصواتٍ على خصمه الديمقراطي المسيحي جيرهارد شرويدر وزير الدفاع الذي يُعتبَر من أبرز ممثِّلي السياسة الرجعية في ألمانيا الغربية. وبدلًا من أن تُرحِّب الميديا الألمانية الشرقية بهذه النتيجة صبَّت جام غضبها على الرئيس الجديد. وأعرب صادق عن عدم منطقية هذا الموقف.
لم تُفلِح الحفلة التي أقامها نويمان في منزله لأعضاء القسم العربي في تخفيف التوتُّر الناشب، وإن أضافت إلى معرفة صادق بكتاب قواعد السلوك إياه، عندما حضر الكرديَّان دون زوجتَيهما الألمانيتَين (كي لا يُعرِّضاهما للذئاب العربية)، وعندما تعمَّد نويمان تجنُّب النظر إلى زوجته الخمسينية الطيبة وهي في رقصةٍ حميمية مع محرِّر من القسم الاقتصادي، وعندما اعتذَرَت سكرتيرةٌ شقراء من الإدارة عن عدم مراقصة صادق دون أن تُخفي تأفُّفها، ثم ألقت بنفسها بين ذراعَي نويمان الثَّمِل الذي ضمَّها بعنف، فتبسَّمَت زوجته في طيبة، وربما إدراكًا لقدرات زوجها الحقيقية.
استمرَّت المجادلات بين صادق ونويمان دون جدوى حتى استسلم الأول ممتعضًا. لكنَّه حمل امتعاضَه إلى كفيله الثقافي لانز.

٨

كانت دروس اللغة التي تولَّاها الخبير الألماني قد توقَّفَت بعد أن عيَّنتِ الوكالة للمصري مدرسًا مخصوصًا، ثم عاد البروفيسور إلى قواعده في دار «الطليعة»، إما لانتهاء فترة انتدابه أو لانتفاء الحاجة إليه. لكنه لم يتَخلَّ عن مهمَّته التثقيفية، فوجَّه الدعوة ﻟ صادق كي يتناول معه طعام الغداء يوم أحد في منزله المُطِل على بُحيرة في أطراف المدينة.
حاملًا زجاجة فودكا روسية مستوردة، لحق صادق باﻟ إس بان المتجه إلى إيركنر، قبل الظهر، في اللحظة التي انتهى فيها السائق من ندائه: إينشتايجن بيته، اصعدوا من فضلكم، وقبل أن يعلن في حسم: تور شليسن، الباب يتم إغلاقه. وغادره قبل نهاية الخط بمحطتَين، ثم استقل الأوتوبيس القديم من موقفه خارج المحطة؛ حيث سجلَتْ مواعيده الدقيقة في لوحة على عمود، بجوار موقفٍ صغير للدراجات. وغادره في نهاية الخط الدائري، ومشى بين الغابات وحدائق المنازل، حتى بلغ المنزل الذي يقيم به لانز (وظل مقيمًا به مقابل ١٥٠ ماركًا في الشهر حتى تمت الوحدة الألمانية واختفت ألمانيا الديمقراطية في ١٩٩٠م، فارتفع الإيجار البسيط إلى خمسمائة، ثم جاء اليوم الذي ظَهرَت فيه سيارة مرسيدس سوداء أمام باب الحديقة، نزل منها مواطنٌ ألماني غربي يحمل المستندات التي تؤكِّد أنه كان يملك هذا المنزل قبل أن تستولي عليه الحكومة الشرقية عند إنشاء ألمانيا الديمقراطية في نهاية الأربعينيات وتؤجِّره ﻟ لانز).
دفع بوابةً صغيرةً مائلة، وعَبَر ممرًّا وسط حديقةٍ غير معتنًى بها إلى مبنًى صغيرٍ أقرب إلى الكوخ، انتظر لانز أمامه في اعتزاز. قاده عدة خطواتٍ وهو ينقلُ قدمه المعطوبة في حذَرٍ إلى شاطئ البُحيرة الصغيرة، ليجد نفسه داخل أحد المَشاهد التي تُصوِّرها لوحات الفنانين التقليديين المعلَّقة على جدران حجرات الصالون في أنحاء العالم؛ القارب المحتوم والمياه المتجمِّدة وكوخ الحارس والحسناء الفاتنة.
كان هناك بالفعل كوخ حارس، تجنَّب لانز الحديث عن ساكنه العجوز، وعَلِم صادق فيما بعدُ أنه جارٌ للبروفيسور، استأجر الكوخ من الدولة مثلما فعَل لانز.

لكن السيدة التي انضمَّت إليهما لم تكن فاتنةً بأي حال؛ فهي في عُمر زوجها، شعرها أسودُ لكن حوافه تشي بالصبغة، وصوتها الرفيع يشي بمشكلة في الأنف، وأسنان فكِّها العلوي بارزةٌ من فمها تشي بهواية الافتراس.

تناولَت منه زجاجة الفودكا شاكرة، بإنجليزيةٍ سليمةٍ تقوم بتدريسها، وحملَتْها إلى الداخل. ولم يظهر للزجاجة أثَر بعد ذلك سوى حديثها المتهوِّر.
حول مائدة الطعام — في غرفةٍ ضيقة وأثاثٍ قديم داكن اللون — التي توسَّطَتها زجاجةٌ من النبيذ المحلي، انطلق لانز يتحدَّث في وقار — غير مبالٍ بتهكُّم زوجته — عن آخر كُتبه الذي تجري طباعته، وهو ترجمةٌ ألمانية لروايةٍ مصريةٍ كلاسيكية «تُرجمَت من قبلُ إلى الفرنسية التي يُجيدها». وظَهرَتْ علامات الامتعاض على وجه زوجته، التي ربما ملَّت الاستماع، فسارع يُغيِّر اتجاه الحديث ويُعلِن أنه سيحُج قريبًا. إلى أين؟ موسكو بالطبع.
لم يُحدث هذا الإعلان الأثَر المطلوب؛ فأضاف: وبعد ذلك أفريقيا.
وتمهَّل قليلًا، ثم قال: طوكيو أيضًا. لكني لا أحبُّها. وربما بولندا بعدها.

انتهَزَت الفاتنةُ الفرصة كي تُدلي بدَلْوها. قالت: إنه لن يجد من يُقابِله؛ لأن المثقَّفين هناك يعارضون كل ما هو رسمي.

ردَّ البروفيسور في حزم: مشكلة بولندا أن شعبها لا يُحب العمل، أما المثقَّفون فقد تم تضليلهم بواسطة الدعاية الإمبريالية، وتأثَّروا بالاتجاهات العدمية غير المسئولة في الثقافة الغربية؛ الموسيقى الشبابية، الانحطاط الأخلاقي، الروح التشكيكية، الشعور الطويلة، الفوضوية، الفن الداعر المكشوف.
قادت بولندا إلى تشيكوسلوفاكيا والتدخُّل العسكري فيها، ووجدَت زوجته — المتأثرة غالبًا بالدعاية الإمبريالية — الجرأة لتُعلِن رأيها: الناس في حاجة أيضًا إلى الحرية. لماذا لا يُسمَح بحزبٍ شيوعي آخر؟ بصوتٍ معارض، وجهة نظرٍ أخرى.
انبَرى البروفيسور مدافعًا عن «أحكام الضرورة» و«الصورة الكلية». وعن الخطر الإمبريالي المتمثِّل في الإذاعات الموجَّهة إلى البلدان الاشتراكية، والدعوات الخبيثة إلى «نقاباتٍ مستقلة» و«مجتمع التعدُّدية» و«اشتراكية أفضل»، بل و«اشتراكية بلا شيوعيين». احمرَّ وجهه انفعالًا. وأراد صادق أن يُخفِّف التوتُّر، فروى نكتةً رائجة في كانتين «أ. د. ن» محورها أن ألمانيا الديمقراطية هي أعظم ألمانيا ديمقراطية في العالم.
لم تترك الزوجة الفرصة. قالت: كان هتلر يقول للألمان: إنهم أفضل شعوب الأرض، وهو ما يحدُث الآن عندنا.
لم ينخدع الحلواني بثورتها، وأرجعها إلى الفودكا المختفية — التي انبعثَت رائحتها مع كل زفرة من زفراتها — والرفض المتراكم داخلها لا للنظام الشيوعي، وإنما لمُمثِّله المحلي، زوجها (وهذا ما جعلَها تتحوَّل إلى النقيض بعد سقوط النظام وانتقالهما — بعد استعادة الألماني الغربي لملكيته — إلى غرفة وصالة في بلوك سكني وسط المدينة؛ فبينما انسحب البروفيسور من النشاط السياسي كليةً، صارت هي مدافعةً نشطة عن الشيوعيَّة).
عرض البروفيسور على صادق التمشية بعد الأكل، فارتديا المعاطف والكوفيَّات والقبَّعات والقفَّازات. قال وهما يخترقان الحديقة في الطريق إلى الخارج: بوسعنا أن نمشيَ الآن فوق جليد البُحيرة. لكن ساقي لا تُسعِفني. عندما تأتينا في الربيع ستسمع صوت تكسُّر الجليد. ستستمتع أيضًا بالزهور والروائح. أنا محظوظٌ حقًّا بوجودي في هذا البيت.
أعاده الحظُّ السعيد إلى بيوتٍ سابقة. تورينجيا؛ حيث وُلِد، وقبلَه أيضًا الشاعر العظيم جوته، أيقونة الألمان والبروفيسور بالتبعية. أعفاه شلَل الأطفال من الاشتراك في معارك الحرب الهتلرية، وهيَّأ له عملًا في مصنعٍ للآلات الكاتبة تُشرِف نوافذه على معتقل بوخنفالد الشهير.

– هل كنتَ ترى المعتقلين؟

– أحيانًا. كان بينهم عددٌ من أهالي المنطقة قضَوا به خمس سنواتٍ ثم خرجوا. لم يفوهوا بكلمةٍ عما جرى لهم إلى أن انتهت الحرب.

ولجا غابةً من أشجار الصنَوبَر. وأقبلَت عليهما من الناحية المضادة درَّاجتان فوقهما سيدة وابنتها. تبادلوا التحية، وتوقَّف البروفيسور ليُفسِح الطريق. وهنا وجد صادق الفرصة ليعرض شكواه من نويمان.

استمع إليه البروفيسور مُطرِق الرأس باسمًا، ثم ربتَ على كتفه، وعاد يتحدَّث عن الضرورات السياسية، و«الصورة الكلية». وأوصاه بالصبر بكلماتٍ مماثلة لِما صَبَّر المصريين أربعين عامًا بعد ذلك: «كبَّر دماغك».

هكذا انتقل الحديث إلى المستقبل. وسأله البروفيسور عما ينوي أن يصنع بحياته. أجاب بأنه سيُواصِل مهنة الصحافة، ويزور أماكنَ أخرى في العالم ليكتُب عنها. اقترح البروفيسور عليه أن يُدوِّن ملاحظاتٍ عن لقاءاتهما وما يدور خلالها من أحاديثَ ثقافية، أملًا أن تدخل التاريخ ذات يوم. وكأنما ليُحذِّره من مصير الكُتَّاب، ذكَر أن أغلب المشهورين منهم أُصيبوا بأمراضٍ تناسلية.

شملَت القائمة لورد بايرون الذي أُصيب بالسيلان، ألكساندر دوماس الأب الذي مات مصابًا بالزهري، جيمس جويس الذي أُصيب بالزهري في بداية شبابه ونجح في علاج الأعراض بالكي، لكن المرض لم يتلاشَ نهائيًّا، ولعلَّه المسئول عن متاعب عينَيه المزمنة، جي دي موباسان، ستندال، أوسكار وايلد، ثم لمزيد من التحذير كازانوفا الذي أُصيب بالسيلان ١١ مرة، وفقد قواه الجنسية قبل أن يبلغ الأربعين.
المسافة قصيرة بالطبع بين الإصابة بالمرض والعلاقة بالمرأة؛ فزوجة جويس مارسَت معه دور المسيطرة، ولم تكن تُخفي استهزاءها به بعد أن تمتع بشهرةٍ عالمية. وصرَّحتْ مرةً لأحد أصدقائها بأنه يريدها أن تُضاجع غيره «لكي يجد ما يكتبه». وبلزاك استمر ١٥ سنة مع مدام دي باري التي كانت تكبره باثنين وعشرين عامًا، وخلال ذلك لم تتوقَّف علاقاته بالعاهرات حتى وفاته في الواحدة والخمسين من العمر. والأيقونة الألمانية جوهان فولفجانج جوته عانى من سرعة القذف في شبابه، ولم يعاشر امرأةً جنسيًّا إلا في السادسة والثلاثين من عمره. وغالبًا ما كانت النساء اللاتي يُحبِبهن عسيرات؛ إما مخطوبات أو متزوجات بأصدقائه. وهانز أندرسون، العملاق الذي لم يتناسب طولَ ذراعَيه وساقَيه مع جسده حتى سُمِّي عمود الإنارة، لم يمارس الجنس أبدًا مع امرأة أو رجل، وظل مخلصًا للاستمناء. ودستويفسكي الذي وجد التعويض في المقامرة.
لم تخلُ القائمة من الكاتبات. وأبرزُهن في ثقافة البروفيسور جورج إليوت. كانت غير جميلة، ورغم ذلك عَشِقَت رجلَين — عاشت مع أوَّلهِما دون زواجٍ أربعًا وعشرين سنة — مستخدمةً طريقةً ما لمنع الحمل ناقشَتْها مع أصدقائها. وفي نفس الوقت كانت تكتب لصديقةٍ لها مخاطبةً إياها ﺑ «زوجي الحبيب» وتبادلَت معها هذه الطريقة في المخاطبة إلى أن استقرَّت هي في دور الزوج الحبيب.
شحنةٌ ثقافيةٌ قوية حملَها صادق معه في طريق العودة في الأوبان الخافت الضوء، الكئيب بالمقاعد الجلدية القديمة ذات اللون الأحمر. وتداعت إلى ذهنه وهو يتأمَّل العائلات العائدة من يوم العطلة؛ عجوز يبتسم كل دقيقةٍ بصورة طفلة، شقراء ملتهبة البشرة بشفتَين طازجتَين، وعربي تلتصق به فتاةٌ ألمانية مَلُولة، بينما ينتظره — صادق لا العربي — الفِراش البارد في مسكن المرح.

٩

مع نفاد صبر جمهورية ألمانيا الديمقراطية من تأخُّر اعتراف الدول العربية بها، تسارعَت عملية تعريب القسم العربي في الوكالة، فانضَم إليه شابٌّ أردني — تبيَّن أنه فلسطيني — يُدعى عدنان، في العشرين من عمره. ومثل صادق كانت أول مرة يرى فيها بلدًا أوروبيًّا. ولم يكن مُدرَّبًا بعدُ على نفاق الهيئات الدولية والدول الغربية، فاستهول تصريح السكرتير العام للأمم المتحدة أوثانت، عن تزايد خطورة الموقف في الشرق الأوسط نتيجة «استمرار عمليات إطلاق النار على القوات الإسرائيلية»، لا العكس. كما لم يكن مُدرَّبًا أيضًا على المزاح المصري.
فعندما استفسر عن مكانٍ لحلاقة شعر الرأس، قال له صادق: إن الحلاقة تقوم بها النساء، ولا تقتصر على شعر الرأس، وإنما تشمل بقية أجزاء الجسم، فاستَهوَل الكشف عن خصوصياته، وقرَّر ألا يحلق أبدًا. لكنه لم يتردَّد في الكشف عنها للأغراض الثقافية.
فبينما لم يُكلَّل نشاط صادق الثقافي بالنجاح، وشمل ممرضةً مغرمة باستفزاز الرجال، علَّقتْ على كِبَر أُذنَيه في سذاجةٍ مصطنعة (لم تكن خبراته الثقافية تسمح له بأن يتبيَّن ما إذا كانت سحاقيةً معادية لصنف الرجال أو مازوكية تهوى الضرب)، كان عدنان أكثر توفيقًا، ربما بسبب صغر سنه، والأغلب بسبب وسامته؛ وجه بدوي، رجولي، وعينان سوداوان واسعتان، وشعر ناعم غزير، وجسد نحيف ممشوق، خصائص كانت تجذب عيون قطط الكانتين وكل مكانٍ يذهب إليه، بما فيه حانوت لأدوات التجميل؛ حيث التقطَتْه بائعة تُدعى ريناتا. وكان ما زال في مرحلة فندق الليلة الأولى، فلم يجرؤ على دعوتها إلى غرفته، ولم تكُن هي تقيم في مكان محدَّد، فتأجَّل الاحتكاك الثقافي إلى أن وفَّرَتْه الوكالة.
تضمَّنت الخطة الألمانية منذ البداية حلًّا لمشكلة سكن العمالة الوافدة بتخصيص شقةٍ مشتركة لهم. وعندما اكتمل إعدادها صحب نويمان الشابَّين، المصري والفلسطيني الأردني، إليها في سيارة فارتبورج تابعة للوكالة، نقلَتْهما بحاجياتهما القليلة إلى ضاحية فريدريش فيلده الجديدة عند نهاية خط الأوبان، مترو الأنفاق، ثم شارع شفارتس مير شتراسه، البحر الأسود، المؤلَّف من بلوكاتٍ حديثةٍ بيضاء متشابهة في صفوفٍ متوازية تفصل بينها خطوطٌ من الخضرة.
أوضح نويمان في زهو أن الضاحية صُمِّمَت على ضوء التصوُّر الحديث — الاشتراكي بالطبع — للتجمُّعات السكنية، سواء من حيث تصميم المنازل ومجمع خدماتٍ لها يتكوَّن من عيادةٍ طبية وسوبر ماركت حديثٍ لكل الاحتياجات من طعام وأدواتٍ منزلية ثم مغسلةٍ أتوماتيكية عمومية ومكتبة ومَرقَص. كل شيء تقريبًا، بحيث لا يحتاج المقيم إلى الانتقال إلى وسط المدينة. وانكسر زهو نويمان عندما ظهَرتْ مجموعةٌ من الجنود الروس قرب محطة الأوبان، وأجاب باقتضاب على استفسار صادق بأن هناك حاميةً روسية بالقرب في كارلسهورست.

كان المسكن في الطابق الأول، ويتكوَّن من مطبخٍ على يمين الداخل (مزوَّد ببرَّاد وبوتاجاز بأربع عيون والأواني والأدوات الضرورية) وغرفةٍ صغيرة على اليسار بجوارها غرفةٌ أصغر (للأطفال عندما يَفِدُون)، ثم حمَّامٍ واسع به سخَّانٌ كهربائي وبانيو، بجواره غرفةٌ كبيرة ﻟ «الأب والأم» في مواجهة باب المسكن عَبْر صالةٍ صغيرة تُطِل عليها مرآةٌ كبيرة. وفي مواجهة الحمَّام غرفةٌ ثالثة كبيرة للمعيشة ببلكونة تُطِل على ظهر المنزل.

بنظرات إعجاب وحسَد ومصمصة شفاه من نويمان (الذي يقيم في منزلٍ قديم، ويحلُم بالانتقال إلى العلب الحديثة، وبأثاثٍ جديد كل الجدَّة) تفقَّدوا الأثاث العصري البسيط والعملي من الخشب على الطراز الاسكندنافي؛ أَسرَّة ومكاتب وخزائن خشبية، يمكن فكُّها وتركيبها ونقلُها من مكان إلى آخر بسهولة، وشوفاج (مِدفأَة من مواسيرِ غازٍ مثبَّتة في الحائط، ومعلَّق بها الأواني الفخارية التي تُوضع بها مياهٌ تمتصُّ الرطوبة، والتي سيستخدمها بعد ذلك كمجفِّف، يُعلِّق فوقها القميص النايلون الشائع بعد غسيله ليلًا لِيرتديَه في الصباح دون كيٍّ). وفي غرفة المعيشة أو الصالون أريكةٌ (يُمكِن بسطُها في يُسرٍ لتتحوَّل إلى فراشٍ لاثنَين)، إلى جوارها مصباحٌ أرضي على حامل في مستوى ارتفاع الأريكة، وفوتيان بينهما طاولةٌ زجاجية، ثم التليفزيون فوق قاعدةٍ خشبية، وسجَّادٌ صناعي من الحائط للحائط مثبَّت في الأرض الخشبية. وكل شيء خارجٌ للتَوِّ من مصنعه بما في ذلك الأغطية والألحفة المنفوخة.
اختار صادق الغرفة الصغيرة المجاورة للباب الخارجي. واختار عدنان الغرفة الأكبر وبَقيَت الثالثة، الأصغر، فارغةً في انتظار المرحلة التالية من التعريب. واستقَر كلٌّ منهما في عرينه. هكذا تم إعداد المسرح، ودَعمَه صادق بجهاز بيك أب — اشتراه من ألكسندر بلاتز — لسماع الموسيقى. ولم يتَبقَّ سوى الافتتاح.
كانت الوكالة قد دعت أحد محرِّري وكالة الأنباء العراقية لزيارة مقرِّها والتعرُّف إلى أعضاء القسم العربي. وبالأَرْيحية العربية الشهيرة دعاه صادق وعدنان للعَشاءِ في منزلهما الجديد. وتلقَّت ريناتا دعوةً رسمية.
كانت مزوَّقة على الآخر بشعرٍ طويلٍ أقامته فوق رأسها كبرج التليفزيون، ورموشٍ طويلة وأصابعَ ذات أظافرَ طويلة ووجناتٍ مُحمرَّة، وصدرٍ ممتلئ؛ مما أثار إعجاب العراقي. كان من قيادات حزب البعث، ويتصرف على هذا الأساس، مدعومًا بجسده الضخم، فاقترح أن يلعبوا ستربتيز بوكر. رفضَت ريناتا بشدَّة، كما رفضَت دعوتَه إلى فندقه. لم يكن معتادًا على الرفض، فانصرف غاضبًا.
قضت ريناتا الليلة في غرفة عدنان. وفي الصباح عرف سِرَّ رفضها لعرض الاستربتيز عندما رآها خارجةً من الحمام بغير شعرها الطويل التليفزيوني، وبغير رموشها الطويلة، وأظافرها الطويلة، وبصدرٍ ممسوحٍ تخلى عن امتلائه، وبوجهٍ طفولي بريء عارٍ من كل تجميل.

١٠

تكرَّر حجُّ صادق أيام الآحاد إلى كوخ البروفيسور قبل أن تنتقل راية التثقيف إلى إنجمار. وكان قد رآها عدة مرات في مدخل الوكالة، وأعجَبْته قامتها الممتلئة الطويلة، وعيناها الزرقاوان، وشعرها الأسود الفاحم الذي فرقَته من المنتصف وتركَته يحيط بوجهها وينسدل على كتفَيها؛ الأمر الذي أشعل أمنياته.
تحقَّقتْ أمنياته بأسرعَ مما توقَّع؛ فقد وجد نفسه يُحادِثها في الكانتين، واكتشَف أنها تُجيد الإنجليزية، فصار الحوار ممكنًا. كما اكتشف أنها أكبر منه بعامَين، فزاد احترامه لها. وتضاعف هذا الاحترام — فيما بعدُ — عندما عرف من زلةٍ لِلسانها أنها أكبر منه بثلاثة أعوام. دعاها إلى العَشاء في مطعمٍ فوافقَت في الحال دون أن تتعلَّل بزيارات الأقارب. وبعد كأسٍ من النبيذ الأبيض — المحلي بالطبع — عَلِم أن لها طفلًا صغيرًا في الخامسة من عمره من أبٍ أفريقي اختفى. سألَتْه عن معنَى لقبه فأجاب بالردِّ التقليدي: إن جده هو الذي بنى مصر، وإنه — أي جده — قَدِم من المغرب؛ حيث يُطلَق الاسم على أصحاب ميولٍ جنسية معينة، بينما هو أصلًا صفةٌ لصانع الحلوى. احتاجت إلى كأسٍ ثانية لتستوعب المعلومة، وتحت رعاية فرانك سيناترا وموسيقى «غرباء في الليل»، بدأ التثقيف.
سألَته في تردُّدٍ عما إذا كانت له أُسرة في القاهرة. وأدرك مغزى السؤال، فأجاب بأنه غير متزوج، وإن اعترف بوجود حبيبة، تُدعى لبنى. بدا عليها الانزعاج، فقال: إنهما انفصلا عندما أرادت الزواج.

كان قد عَهِد إليها بطلب طعامهما كاختبارٍ لها. ولعلها فطنت لذلك، فتأمَّلتْ قائمة الأطعمة ثم اختارت أقلَّها سعرًا؛ شريحة من اللحم، جاءت مع خضراواتٍ مسلوقة «بطاطس وكرنب»، فوق ورقة من نبات الخَسِّ.

يعشق صادق هذا النبات ويحتفظ بأجمل ذكريات الطفولة عندما كانت أسرته تجتمع عصر كل يوم — مع بدء الربيع — حول صينيةٍ تمتلئ به، فيلتهمونه وهم يثرثرون. مدَّ شوكتَه بصورةٍ تلقائية وتناولَ ورقة الخسِّ ودفعَها إلى فمه. لم تُجارِه، بل تأمَّلَته في صمتٍ لحظة، ثم قالت: دار نقاشٌ في إحدى المجلات منذ يومَين حول هذا الخَس.
تعجَّب من المكانة التي يتمتَّع بها هذا النبات في بلاد جوته.

استَطردَت: قال أحد القراء: إنه في الأصل للديكور وليس للأكل، واضطررنا إلى أكله أثناء الحرب وبعدها، ولم نعُدِ الآن في حاجة إلى ذلك مع ارتفاع مستوى معيشتنا. وتجب إعادته إلى مكانته الديكورية السابقة.

عادت بها الذاكرة إلى سنوات الحرب وما بعدها مباشرة: تُبادل السكر عند بوابة براندنبورج بالسجائر الأمريكية، ثم تُسافر إلى بوتسدام، وتُبادل السجائر بخبزٍ روسي، تُقطِّعه شرائح وتدهنُها بدبس السكر ليُباع للمستحمِّين على شواطئ البُحيرات، ثم تشتري الحطب في محطة هرمان شتراسه، وفي الشتاء تُبادله بالقدَّاحات، ثم تذهب إلى ماجدبرج لتبادله بالسُّكر، وتعود لتُبادِله بالسجائر الأمريكية، وهلُم جرًّا.

أعادَتْها ورقة الخس إلى الحاضر المزدهر، ثم فاجأَته بأن مدَّت شَوكتَها والتقطَتْها ودفعَت بها إلى فمها قائلة: لا يهمُّني لغو المتبرجزين.

أكبر موقفَها، فدعاها في الأسبوع التالي لتناول العَشاء في منزله مع عدنان وصديقته الجديدة. كانت ريناتا قد اختفت سريعًا، وظهَرتْ هيلدا؛ بائعةٌ أخرى في نفس الحانوت، متوسِّطة الطول ذات ملامحَ جميلة، يزيدُها المكياجُ المتقَن جمالًا. في البداية اكتفَت بالزيارة وقضاء الليلة في غرفة عدنان ثم استقرَّت فيها.
استقبلَت إنجمار المسكن بذات التعبير الذي بدَر من نويمان. وكان المضيفان جاهزَيْن بالنبيذ والبيرة والموسيقى، وعَشاءٍ تفنَّن عدنان في إعداده من نبات القرنبيط المعروف في المشرق العربي ﺑ الزهرة، وهو للغَرابة نفس اسمه لدى الألمان. أبدت الألمانيتان إعجابهما بالأكلة العربية المُعدَّة بالصلصة والتقليَّة على عكس موقفهما من الموسيقى التي استقبلاها بوجوم؛ أم كلثوم وعبد الوهاب، بالإضافة إلى أسطوانة الموسيقى العربية العتيدة (أحد المنجزات الثقافية للعهد الناصري). لكن موقف هيلدا تغيَّر عندما أدار عدنان أسطوانةً حديثة ﻟ شادية بأغنية «خدني معاك ياللي انت مسافر». فما إن عرفَت معنى كلمات الأغنية حتى طلَبتْها مرارًا وتكرارًا، قائلة: إن لها صديقةً تزوجت سوريًّا وتعيش في دمشق، في منزلٍ فخم بسيارة، وتشاهد الأفلام الأمريكية.
كان الوقت متأخرًا فعرض على إنجمار أن تقضيَ الليلة في حجرته. وأخذ بطانيةً ووسادةً ونام فوق أريكة الصالون (ستقول له فيما بعدُ إنها تعجَّبتْ ليلتَها من عدم انضمامه إليها).

وفي الأسبوع التالي كان صبرها قد نفَد، فدعَته إلى حفل موسيقى في الأوبرا.

رغم أنه سبق أن تردَّد على «متحف الفن الحديث» ﺑ القاهرة عندما كان يقع في ميدان التحرير (قبل أن يتم هدُّه ويتحول إلى جراج للسيارات)؛ حيث كان المغرمون يستمعون مجانًا إلى تسجيلات الموسيقى الكلاسيكية، إلا أن غرامه اقتصر على مقطوعاتٍ تغلب عليها الميلودي، وككل المصريين كان يعرف موسيقى كورساكوف التي تُستخدَم في المسلسل الإذاعي ألف ليلة وليلة، وكأغلبهم يعرف السيمفونية الخامسة ﻟ بيتهوفن. وكانت هذه هي المرة الأولى التي يستمع فيها إلى عرضٍ «حي» ولموسيقى مَنْ؟ باخ دون غيره.

روت له قصة الموسيقار العظيم، أول من كتب كونشرتو للبيانو في التاريخ. لكن موسيقاه بدت غريبة على أذنه، شأنها شأن الغناء الذي أدَّاه مغنٍّ شهير وُضعَت صورته على برنامج الحفل، وصفَّق له الناس واستعادوه مرة. كما بدا أفراد الكورال الذين ملئوا خشبة المسرح، أكثر غرابة؛ نساءٌ عجفاوات، وواحدةٌ عمياء، وأخرى عرجاء، ورجل بجبهةٍ عريضة جدًّا وأنفٍ مفلطحة، وآخر بجبهةٍ ضيقة جدًّا وأنفٍ قصيرة. كأنما أتَوا من مُتحف.

عندما انتهى العرض سارا سويًّا بعض الوقت. لم يكتُم نفوره من الكورال وباخ نفسه. انفعلَت واتهمَته بالجهل. وردَّ بغطاءٍ ثقافي لموقفه. قال: إن الأرغن آلة من الماضي؛ الأُسر الكبيرة العدد والحياة الروتينية الخالية من الراديو والتليفزيون. وعارضَته بحمية، فهو يذكِّرها بطفولتها وحياة الأُسرة عندما تجتمع وتُغنِّي، فضلًا عن رقة الموسيقى وروعتها وطريقة بنائها. أَوشكَت الأمسية على نهايةٍ مأساويةٍ لولا أن الربيع كان على الأبواب.

كان الجليد قد ذاب وانقطع المطر. وعندما توقَّف الكلام بينهما فترةً قالت فجأة: لماذا تتجنَّب تقبيلي؟ عندئذٍ قبَّلها. ولمست شفتاه شفتَين رفيعتَين رقيقتَين في قُبلةٍ أخويةٍ للغاية.

لكنها أدَّت دورها فقد صحبها إلى منزلها.

لم يكن منزلًا بالمعنى الحديث؛ ففي منطقةٍ مهجورة قرب الحائط الفاصل بين شطرَي المدينة الذي بنَته برلين الشرقية في ١٩٦١م، لتحول بين أبنائها والهرب إلى الشطر الغربي، دلفَا من بوابةٍ خشبيةٍ ضخمة فتحتها بمفتاحٍ كبير الحجم، إلى فناءٍ واسع تُطِل عليه ثلاث بنايات، لكلٍّ منها أربعةُ طوابق. وبمفتاحٍ آخر ولجا إحدى هذه البنايات وصعدا سُلمًا خشبيًّا أَنَّ تحت أقدامهما، إلى الطابق الثاني، ومسكنٍ مقتطَع من شقةٍ كبيرة (تمامًا كالمنزل التي قضى به سنوات مراهقته) ويتألَّف من مطبخ، وصالةٍ واسعة بها مائدةٌ وأريكة ومدفأة من الحجر المغطَّى بخزفٍ بني اللون، وبوفيه فوقه راديو مستطيل الشكل بادي الجِدَّة، تحيط به سمَّاعتان، ثم غرفة صغيرة بها فراشان ضيِّقان؛ واحدٌ لها، والثاني لطفلها. وعندما استفسر عنه قالت: إنه سيقضي الليلة عند الجيران (وبذلك خلا لهما الجو). ولم يكن هناك تليفزيون. علَّق على الظاهرة الغريبة، فقالت: إنه جهازٌ غبي. على الأقل هنا في ألمانيا الشرقية.
استقرَّا في الصالة، وأدارت الراديو على الفور وهي تقول إنها لا تُطيق الأغاني الحديثة المبتذلة؛ لهذا فهي تضع مؤشِّر الجهاز على محطةٍ دائمة للموسيقى الكلاسيكية. ثم ضحكَت؛ فقد تصاعدَت من الجهاز موسيقى مألوفة؛ باخ.
أعدَّت عشاءً بسيطًا من الجبن والزبد واﻟ فورست البارد والنبيذ الأبيض. وجلسا متجاورَيْن فوق الأريكة. قالت وهي ترفع الكأس إلى فمها الصغير: عندما تخرَّجتُ من الجامعة في الجنوب جئت إلى برلين محملة بالآمال. أراد أن يُعقِّب قائلًا: من منَّا لم يكن. لكنه ترك لها الميكروفون. أقامت في منزل صديقة بالجزء الخاضع للجيش الروسي، والذي صار فيما بعدُ برلين الشرقية، واشتَرتْ كلبًا مُنع من دخول غرفتها كي لا يُلوِّث السجادة. وتعوَّدتِ الصديقة ضربه عندما يختطف الجوارب المعلَّقة في حبال الغسيل بالمنازل المجاورة. فكانت تصحبه إلى التواليت — هربًا من القمع — ويجلس أمامها هازًّا ذيلَه وعيناه معلَّقتان بعينَيها. ويتبادلان حديث العيون إلى أن تستعجلهما الصديقة. وأخيرًا باعته وصارت تختفي في التواليت وحدها لتبكي.
توالت الإحباطات. كانت عضوةً نشطة في الحزب، وعُهِد إليها بأن تتردَّد على الأجزاء الأخرى من المدينة التي تديرها جيوش أمريكا وفرنسا وإنجلترا، والتي صارت فيما بعدُ برلين الغربية، لتقرعَ الأبواب وتدعُوَ للحزب. لكن الأهالي كانوا يطردونها.

مدَّ يده وأخذ يعبثُ بشعرها مواسيًا، ثم أزاحه من فوق وجهها، فتكشَّف عن ملامحَ جديدة؛ جبهةٍ عريضة ناتئة على الجانبين. أبعدَت يديه وهي تتطلَّع إليه في قلقٍ قائلة: هكذا أبدو ألمانية تمامًا.

تراجع إلى الخلف. لا عن اعتراض؛ وإنما لرغبته في التبوُّل. شرحَت له أن التواليت خارج الشقة، داخل صندوقٍ خشبي أُقيم على البسطة بين الطابقَين الثاني والثالث. وعند عودته وجدها اختفت في المطبخ لتغتسل من حوضه. ثم اجتمعا في غرفة النوم الصغيرة.

خلَع ملابسه، واندسَّ في الفِراش الضيِّق، وانضمَّت إليه بعد قليل. قبَّل فمها الصغير. قالت: إنها تعرف أنه ليس جميلًا. سألها: لماذا؟ قالت: الموضة الآن هي الفم الواسع والشفتان الممتلئتان.

لكن جسدَها كان على الموضة؛ فعندما تحسَّسه فوجئ بنعومته الشديدة، وفوجئَت هي عندما بادلَته الفضول بالتواء عضوه (نتيجة انكسار عضلة أثناء الختان أو الاستمناء بعده). أبدَت دهشتها، فزعم لها أنه كان يملك اثنَين، ثم فقد واحدًا في التعذيب الذي يتعرَّض له من يشتغل بالسياسة في بلده. استَقبلَت المعلومة الجديدة في حَيْرة على عكس استقبالها الحماسي لجسمه.

تحرَّك على مهل، وسرعان ما تسارعَت حركاته بينما يبذل أقصى جهدٍ للسيطرة على نفسه. أَنَّ الفراش المتهالك، فقَفزَت واقفة قائلة: إن العجوزتَين المجاورتَين ستسمعان الصوت. جذبَت لحافًا وبسطَته على الأرض ثم تمدَّدا فوقه. أمسكها بين ساعدَيه في قوة، ولأنه كان غير متورِّط عاطفيًّا، استطاع التحكُّم في نفسه إلى أن بدأَت تُحرِّك عضلاتها الداخلية حركةً دائرية. وردَّدَت: إيش، إيش. أنا، أنا. إلى أن جاءا سويًّا.

راضيًا بأنه نجح في الامتحان، انتقل إلى الفِراش الآخر، واستغرق في النوم.

في الصباح كان عليه أن يغادر الشقة ليزور التواليت، فأوشكَ أن يصطدم بعجوزٍ خارجة منه. ثم تناولا إفطارهما، وأسرعا يلحقان ﺑ الأوبان، إلى أقرب محطة من فريدريش شتراسه. ومقر الوكالة حيث ينتظره نويمان، واضعًا يده على بطنه. وفخري.

١١

تغيَّر موقف فخري من تدخُّلات صادق في نصوصه بعد ظهور شقة شفارتس مير شتراسه؛ فقد تَمثَّل الإمكانياتِ الثقافية التي تُقدِّمها. استفاض في دردشاتهما حول الأوضاع في الوكالة؛ سر عزوف قادر عن الشراب (هو في الأصل مدمنٌ للكحول، وتحت العلاج، ومنفصل عن زوجته الألمانية، وبين الحين والآخر يعود إلى الشراب بجنون، وإلى زوجته، ثم يضربها، ويتركها، ليمتنع عن الشراب من جديد)، ثم الأوضاع العربية عمومًا؛ في بغداد اغتيالاتٌ سياسية للشيوعيين والأكراد. في لبنان مصادماتٌ دامية بين المتظاهرين اللبنانيين والفلسطينيين من ناحية وقوات الأمن من ناحيةٍ أخرى. وفي الأردن إعدامات ومحاكمات للفدائيين الفلسطينيين. في دمشق انقلاباتٌ متتالية عبَّرتْ عنها مسرحيةٌ لكاتبٍ سوري، بطلها شخصٌ واحد يتغيَّر اسمه في كل انقلاب. في اليمن الجمهوريون يقتلون بعضهم بعضًا. في عدن ثلاثة انقلاباتٍ خلال سنتَين. في مصر آثار الهزيمة الساحقة على يد الإسرائيليين. لم يذكُر بالطبع الاعتداءات الإسرائيلية ولا المعارك الدموية بين الحزبَين الكرديَّين، وإنما تطرَّق إلى معركة — غير دموية — بينه وبين عدنان.
– هل تَعرِف كيف تَعرَّف عدنانهيلدا؟
بالطبع لم يكن يعرف؛ فلم يتحدث معه عدنان عن ذلك بالمرة (فقط شكا في لحظة صفاءٍ أنه سريع في الإنزال، وأن هيلدا أحضرَت له معجونًا له تأثيرٌ سحري). قال فخري إنهما ذهبا سويًّا ذات مساءٍ إلى مقهى إسبريسو القريب من الوكالة. تعرَّفا بفتاتَين تجلسان بمفردهما. وكانت هيلدا إحداهما. تجاوبَت معه حتى علمَت أنه متزوجٌ فانتقلَت إلى عدنان.
لم تحُلْ هزيمتُه أمام العربي/الفلسطيني دون التواصل مع الآخر المصري. رافقه إلى حانوت لأسطوانات الموسيقى المنتَجة في تشيكوسلوفاكيا أمام مسرح برلينر انسامبل؛ حيث اشترى مجموعةً من معزوفات باخ، وإلى آخر حديثٍ بميدان ألكسندر بلاتز لشراء كاميرا من إنتاج مصانع زايس ذات السمعة العالمية التي جاءت من نصيب ألمانيا الديمقراطية بسبب موقِعِها في مدينة يينا. وشملَتِ الملحقات التي اشتراها، عدساتٍ ومرشِّحاتٍ وجهازًا لقياس الضوء وآخر للطبع التشيكي الصنع، وعلبةً للتحميض، وصينيتَين من البلاستيك للأحماض، ثم الأحماض نفسها، وورق الطباعة، المصقول والعادي، الرقيق والسميك، ومنبِّهًا خاصًّا لقياس الدقائق والثواني، ولوحًا معدنيًّا للتجفيف، ومِلقاطًا من البلاستيك.
فكَّر صادق في تحويل الغرفة الصغيرة المجاورة لغرفة نومه إلى مكان لتحميض الصور وطباعتها، لكنه لم يتمكَّن من ذلك بسبب خطة التعريب؛ إذ انضَم نبيل حداد إلى القسم.
جاء من سوريا مباشرة بعد أن أكمل دراسته الثانوية لِتوِّه. كان في حوالي العشرين من عمره، قصيرًا بصورةٍ ملحوظة، يرتدي كل شيء على الموضة؛ نظارةً طبية بإطارٍ عريضٍ يحتل نصف الوجه، بزةً صوفية كاروهات ببنطلونٍ ذي طرفَين عريضَين، بالإضافة إلى شعرٍ أسودَ ناعمٍ مفروق من جانب، وسوالفَ طويلة، وبشرةٍ بيضاءَ ووسامةٍ واضحة، ومعرفةٍ لا بأس بها باللغة الألمانية. مؤهِّلاتٌ أخرى هامَّة: الأب من كبار العاملين في وكالة الأنباء السورية (سانا).
وصل من المطار إلى شفارتس مير شتراسه في منتصف الليل بصحبة نويمان. احتل الغرفة الصغيرة بحقائبه وعرَّفه المدير بزميلَيه في السكن، فأراهما كتابًا حملَه معه عن تاريخ الأدب العربي ﻟ جورجي زيدان (كان غالبًا من مواد دراسته الثانوية) فرح به صادق المحروم من الكتب العربية.
إذا كان جورجي زيدان مفاجأة؛ فإن نويمان نفسه تكشف عن مفاجأةٍ أكبر؛ فعندما استعد للانصراف صافحَهم واحدًا واحدًا ثم جذَب «خياط» إليه وقبَّلَه طويلًا في فمه.

بدا الانزعاج على وجه الفتى السوري. لكنه سرعان ما تمالك نفسه، وفكر أنه أمام تقاليدَ خاصةٍ بالمجتمع الأوروبي والاشتراكي بوجهٍ خاص.

خلال ذلك تواصلَت عملية تثقيف صادق على يد إنجمار. وشملَت شراء قبَّعةٍ غربية بدلًا من القلنسوة الروسية. ولحافٍ لفراشها لاستخدامه في ليالي تثقيفه. وبعد انتقادٍ لملابسه (بنطلون جينز وسترة رمادية وقميص النايلون الذي يُغسَل قبل النوم ويكون جافًّا في الصباح ولا يحتاج إلى كي) التي لا تليق بوضعه الاجتماعي الجديد (في رفقتها)، اقتادَتْه إلى حائك في حانوتٍ واسع يخلو من المشترين والباعة على السواء، بشارع أونتر دين ليندن حيث اشترى قماشًا صوفيًّا كحلي اللون حاكَه له البائع على شكل بزةٍ أقرب إلى أردية حفَّاري القبور، الحانوتية.
هكذا صار جاهزًا للقاء الطفل والعجوزتَين. ولجولة من التثقيف المضاد؛ فعندما حل الأوستر، عيد الفصح، أهدَته أسطوانةً ﻟ باخ من خمس كونشرتات على الهاربسكورد (آلة قديمة مثل البيانو)، ودعَتْه إلى تناول البطة التقليدية في منزلها. أهداها بدوره مجموعةً من خضراوات الربيع، على رأسها الخَس الديكوري، وفَّرتها الحكومة فجأةً في الأسواق على عادتها في الأعياد. وقال لها: إن العيد ابتدَعه المصريون القدماء احتفالًا بمقدم الربيع، وما زالوا يحتفلون به باسم عيد شم النسيم، ثم انتقل مع المسيحية إلى أوروبا.
أذهلَتها هذه المعلومة، ولعلها كانت صادمة، بمثل ما صدمه طفل الستة أعوامٍ عندما لوَّح في وجهه مُهدِّدًا بمسدَّس. ولم يمنعه هذا من انتزاع لوح الشكولاتة (ماركة مارسي) الذي أحضره صادق خصوصًا له من الشطر الغربي، وأقبل يلتهمه بشفتَين شهوانيتَين، بينما الأم والعجوزتان — اﻟ فراوتان جيلزر — ترمُقنَه — لوح الشكولاتة — في لوعة. وتضاعفَت اللوعة عندما قدَّمتْ إنجمار لضيوفها مع القهوة قطعةً كبيرة من الكعك الهشِّ المنفوخ الذي وضعَت في فمه كميةً كبيرة من الكريمة التهمتاها وهما تردِّدان: يا … يا … بصوت مَن يقول متفلسفًا: دنيا .. دنيا.
قالت إنجمار وهي توزِّع الكعكة: هذا النوع اسمه «حقيبة الهواء». وكانت حُلْم كل الأطفال بعد الحرب مباشرة.

تنهَّدَت العجوزتان، وهما تردِّدان في نفس واحد: يا … يا.

اكتمل تثقيف صادق الحلواني وبَقيَت خطوةٌ أخيرة؛ الويك إند.
اقتادَتْه صباح يوم أحدٍ إلى عشَّة بحديقةٍ صغيرة تستأجرها على شاطئ إحدى البُحيرات المحيطة ﺑ برلين. كانا بمفردهما؛ إذ تركا الطفل مع العجوزتَين حسب رغبته. في الطريق حكى لها تعليق جريدة مورنينج ستار، التي يحصل عليها خفيةً من صديقته في القسم الإنجليزي، على إحلال هوساك محل دوبتشيك في مركز السكرتير الأول للجنة المركزية للحزب الشيوعي التشيكي.
ذكَرتِ الصحيفة أن هذا التغيير جاء بعد وقوع مظاهراتٍ معادية للسوفييت إثْر انتصار الفريق التشيكوسلوفاكي لهوكي الانزلاق على الجليد على الفريق السوفييتي، جرى فيها الاعتداء على مكتب الطيران السوفييتي وإحراق عدد من السيارات السوفييتية. ونسبَت الجريدة ﻟ هوساك تصريحًا بأن قيادة البلاد لينة أكثر مما يجب. وقالت إن خط الحزم الذي سيتبعه هوساك استُقبِل بارتياح في البلدان الاشتراكية.
قالت بعد تردُّد: إنها حضرت اجتماع لجنة الحزب في الوكالة بالأمسِ، ولمَّح رئيس الجلسة إلى أن هوساك هو «رجلنا».

اقترب الحديث بذلك من منطقة الخطر، فلزمَت الصمت. وانهمكا في تنظيف العشَّة وتشذيب الحديقة من آثار فصل الشتاء، وإعداد حفرة لدفن الفضلات. ثم حملا غداءً بسيطًا إلى الغابة المجاورة.

علَّق على أنها لم تغلق باب العشة بالمفتاح. قالت: لماذا؟ الألمان لا يسرقون؛ فهم مشهورون بالأمانة. استدركَت: بالطبع الأمر الآن أقل من ذي قبل مع تقلُّص الملكية الفردية. انظر إلى المطاعم. سيخدَعُكَ النادل بمنتهى البساطة.

انطلقا في طريقٍ يمر بأكواخٍ متقاربة. صَعِدا هضبةً صغيرة. وامتدَّت أمامهما الأشجار العالية صفوفًا متوازيةً تتردَّد في أعلاها أصواتُ الطيور بقوة؛ البلابل والعصافير ونقَّار الشجر. استمتع الحلواني برائحة الأشجار والحيوانات، وأساسًا بغياب أي صوتٍ بشري، إلى أن توقَّفَت وتطلَّعَت عاليًا إلى قمم الأشجار بحثًا عن شيءٍ ما.
سألها عما تبحث فقالت: طائر الكوكوك النادر ذو الصوت الجَهْوَري. أنانيٌّ جدًّا وانتهازي. يضع بيضه في عش طائرٍ آخر ليهرب من تربية فراخه.

ذكَّرها هذا بما حدث معها فتداعت الذكريات. عندما كانت صغيرةً طلب منها جدُّها أن تذهب لإحضار حطبٍ من الغابة، فمَنعَها حارسها، ثم سمح لها باستكمال حمولتها على ألا تعود إلى ذلك، فوعدَته. واستغرب جدُّها الحمولة الممتلئة التي جاءت بها، فروت له ما فعلَه الحارس. تهلَّل وجه الجد، وقال لها إذن تذهبين غدًا لإحضار حمولةٍ أخرى. لكنها رفضَت احترامًا لوعدها.

ذكرى أخرى من الطفولة؛ عندما عاد الجيش النازي ظافرًا من «بولندا»، ومر بمدينتها القريبة من الحدود، وتزاحمَت الجماهير تُحيِّي المنتصرين وتقذفُهم بباقات الزهور، فمشَوا فوق بساطٍ حقيقي، منها: وقتها كان من الممكن الحصول على خادمةٍ بولندية أو فرنسيةٍ مقيمة، بشرط ألا تأكل مع أصحاب البيت ولا تتغطَّى بلحاف.
لم يكن هناك لحاف في عشَّة إنجمار. ولم يكونا في حاجة إليه؛ إذ عادا إلى برلين في المساء ليكونا جاهزَين في الصباح التالي لمواصلة البناء الاشتراكي.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤