الفصل الثالث

١

طلبتُ من سائق التاكسي التوقُّف، وانتظرتُ حتى نظر في العداد، وحسب بعض الأرقام على قطعة من الورق المقوَّى، ثم طلب مني ثلاثة ماركات.
أعطيتُه المبلغ وقلتُ: فيدرزيهن.

حملتُ حقيبتي وترجَّلتُ. سِرتُ فوق الرصيف وقد مال جسمي مع الحقيبة. توقَّفتُ ونقلتُها إلى اليد الأخرى. كانت الساعة قد تجاوزَت منتصف الليل. والمباني التي أسير بجوارها مظلمة هي ومثيلتها على الجانب الآخر من المدينة، الذي يفصلني عنه سياجٌ من الأسلاك الشائكة والحائط الشهير.

نقَّلتُ البصر بين أربعة جنود بعرض الشارع، وآخر يخطو حاملًا مدفعه الرشاش على كتفه وهو يتفحَّص المكان الذي أضاءته الكشَّافات العالية. استقرَّت عيناي على كلبٍ مقيَّد بسلسلةٍ معدنية إلى الأسلاك الشائكة وتُتيح له أن يجري بمحاذاة الحائط فيصل لأي نقطة في لمح البصر. لن يستطيع هو الآخر العبور إلى الناحية الأخرى.

توقفتُ أمام الباب الخشبي العريض. ووضعتُ الحقيبة على الأرض وجذبتُ المقبض فوجدتُه مغلقًا. مِلتُ فوق الحقيبة وفتحتُها وبحثتُ في أركانها حتى وجدتُ المفتاح. فتحتُ الباب ودفعتُه وجذبتُ الحقيبة إلى الداخل ثم أغلقتُه. وضعتُ المفتاح في الحقيبة وجذبتُ سوستتَها لكنها تعطَّلتْ ولم أتمكَّن من إغلاقها. حملتُها كما هي وعبَرتُ المدخل المظلم إلى الفِناء المكشوف. تطلَّعتُ إلى أعلى. كانت نافذة مخدع إنجمار مفتوحةً والضوء ينبعث منها.

دفعتُ باب المبنى وأضأت نور السلَّم. صعدتُ ثم توقَّفتُ أمام باب شقتها وضغطتُ الجرس. فتحَت لي بعد بُرهة. دفعتُ المصراع الخارجي ناحيتي بينما كانت تُدير مفتاح القفل وتجذب المصراع الآخر.

قالت وهي تجذب رداءً خفيفًا حول جسدها: سهرتُ أنظِّف النوافذ وأغسل الملابس حتى فقدتُ الأمل في مجيئكَ وغفَوتُ. ظننتُ أنكَ عُدتَ مباشرةً إلى منزلك.

قلتُ: لقد وعدتُكِ بالمجيء. كما أني اشتقتُ إليك.

تركتُ الحقيبة بجوار الباب. وعبَرتُ الردهة إلى الصالة التي تقع غرفة النوم الصغيرة في نهايتها.

سألَتني: جائع؟ أعددتُ لك سبانخ مفروكة مقلية وبطاطس مسلوقة.

أجبتُ: أكلتُ في القطار. أين جون؟

قالت: نام عند الجارتَين.

أحضرَت لي زجاجة بيرة وجلسَت بجواري على الأريكة.

سألت: قابلتَ فتياتٍ جميلات؟

أشعلتُ سيجارة وأجبتُ: لا.

قالت: ضاع اليومُ مني بسبب رجلٍ عجوز وجدتُه جالسًا في منتصف الطريق. كان هاربًا من دار المسنين القريبة. ويُريد أن يمشي لكنه عجز عن ذلك. وكان لا يفتأ يردِّد أنه يريد أن يأكل قطعة لحم ويشرب لترًا من البيرة في مطعم. تجمَّع البعض، وقالت واحدة من السكان إنها تعرفه، وإنه كان في المستشفى وهرب منها. وقال آخر: إن الدار ليس بها كفايتها من العاملين، وإن كل عجوز بها يجب أن يعتني بغرفته ويُعِد طعامه بنفسه.

لم أعلِّق، فقامت وأحضرَت خطابًا من صديق أختها الذي يُوجد الآن في ألمانيا الغربية لعملٍ ما.

– يقول: إن الشك يعذِّبه لأن أختها لا تكتب له. وإنه منذ حادثة الطبيب التركي لم يعُد يثق بها ويشُك دائمًا في سلوكها.

سألتُها: ماذا حدث؟

– كانت تريد الإجهاض وحاول الطبيب اغتصابها.

كان الخطاب من أربع صفحاتٍ طويلة. سألَتني: ماذا تظن يجب أن أفعل؟

قلتُ: ابعثي إليه ببرقية.

– ماذا أقول فيها؟

– قولي إنه مخطئ في ظنونه.

طوَت الخطاب، وقالت: إن أصدقاء صديقاتها وأقاربها يلجئون إليها دائمًا. ثم قالت: إن الطفل ازداد وزنه؛ لأن الجيران يَحشُونه بالطعام والحلويات. وإن أحد رؤسائها في الوكالة انتقد شرودها.

انهمكَت في الكتابة إلى صديق أختها ثم نظرَت في الساعة، ولاحظَت أننا يجب أن نستيقظ في الغد مبكِّرين.

دخلتُ المطبخ/الحمَّام وغسلتُ أسناني. حاولتُ أن أتذكَّر مواعيد دورتها الشهرية لأحسب أيام الأمان. ثم أطفأنا نور الصالة وذهبَت إلى الحمام تغتسل بعد أن أحضرَت لي شبشبًا (لم تكن تُحب أن أستعمل شبشبها الأحمر).

مضيتُ إلى المخدع وخلعتُ ملابسي. دخلتُ فراشها الضيق. وانضمَّت إليَّ وتمدَّدَت بجواري. تحسَّست ثديَيها بأصابعي ثم بفمي. كان لحمها ساخنًا ناعمًا. ثم امتدَّت يدي بين فخذَيها. انتظرتُ اللحظة التي تكون فيها مستعدة فتجذبني إليها. وسرعان ما بدأ الفراش يهتز تحتنا. لم يبقَ إصبعي داخلها سوى لحظاتٍ ثم أخرجتُه ومسحتُه في جسمها، وأحطتُ رأسها بساعدي مبعدًا إصبعي عن أنفي. وأدخلتُ نفسي في جسمها ببطء. ظلَلتُ أرهز في رقة أحيانًا، وسرعة وعنف أحيانًا أخرى، وهي تئن تحتي وتتلاشى. وتطلب مني أن أتقدَّم أكثر إلى الداخل وأفعل حتى تلاصق جسدانا تمامًا واصطدم رأسها بالحائط عدة مرات، بينما كنتُ أبذل جهدي للسيطرة على نفسي، فأبطئ ثم أتوقَّف فجأة ثم أُعاود.

طلبَت مني أن أعضَّ ثديها، ثم ارتعشَت وصاحت: إيش، إيش، أنا، أنا …
فكَّرتُ: هل تُريد أن تقول: إيش ليبه ديش، أنا أحبك، أم ماذا؟ وشعرتُ بها ترتعش، فتركتُ نفسي في لذةٍ قوية هزت كل جسدي وجعلَتني أكُف عن التفكير لحظة وأشُد شعرها، ثم استكنتُ على صدرها وغفوتُ لحظات.

قالت بعد برهة: إن الأمر جميلٌ للغاية. ومدَّت يدها أسفل وسادة الفراش، واستخرجَت منديلًا من القماش.

سألَتني: هل استمتعتَ؟

قلتُ: بالطبع.

قالت: فييل؟ كثيرًا؟
قلتُ: فييل.
نهضتُ واقفًا وأحضرتُ سيجارة وعلبة ثقاب ومطفأة. أشعلتُ السيجارة. ولجأتُ إلى فراش الطفل. نادَتْني طالبةً أن أُقبِّلُها. غادرتُ الفراش، وانحنيتُ فوقها وقبَّلتُها قائلًا: جوت ناخت، ليلة طيبة.

عُدتُ إلى فراشي واستأنفتُ التدخين، ثم دعستُ السيجارة في المطفأة. ونمتُ.

٢

سألَني نويمان بعينَين باسمتَين: كيف كانت العطلة؟

قلتُ: رائعة.

قال: قابلتَ فتياتٍ جميلات؟

قلت: طبعًا. كنت قريبًا من معسكر اعتقال بوخنفالد. ذكَّرني بمعتقلاتِ الشيوعيين في مصر.

وجم وتلاشت الابتسامة من عينَيه وهبط بهما إلى ورقةٍ أمامه. كان يتجنَّب أي حديث يمسُّ البلاد العربية التي اعترفَت لتوِّها ببلاده.

ابتسم فخري وأطرق برأسه في سعادة.
خاطبه نبيل: هر نويمان. نحتاج إلى تليفون في المنزل.

أجاب في غير حماس: سأُكلِّم الإدارة.

غادرتُ مكتبي إلى التواليت. عند عودتي التقيت أولريكا في الطرقة الضيقة المؤدية إلى كلٍّ من القسم العربي والصالة الرئيسية.

حيَّيتُها قائلًا: لم أركِ من مدة.

قالت: وعندما رأيتَني تجاهلتَني.

كانت تشير إلى اليوم السابق على بداية العطلة. وكانت قد وفدَت على القسم العربي عدة مرات بذرائعَ واهية، لكني تجاهلتُها.

قلتُ: أبدًا. كنتُ مشغولًا بالتفكير في السفر.

قالت وهي تتطلَّع حولها في حذَر لتتبيَّن ما إذا كان أحدٌ يتابعنا: كيف كانت العطلة؟

قلتُ: رائعة.

قالت: كنتَ وحدكَ؟

قلتُ: أجل. لم أتصوَّر أنكِ تقبلين المجيء معي.

احمر وجهها وانصرفَت مسرعة. عُدتُ إلى مكتبي فوجدت خطابًا من سعد، أحد أصدقائي في القاهرة، يطلب مني أن أبعث إليه بحذاء مقاس ٤٣ وخيمة! تذكَّرتُ أنه أعطاني قبل السفر عشرين دولارًا، وظننتُ وقتها أنها مساعدةٌ ودية فيما أنا مقبل عليه من مغامرة.
تصفَّحتُ النشرات السابقة التي تكوَّمَت في غيابي. وقرأتُ خطاب عبد الناصر في ذكرى ٢٣ يوليو: هاجم الولايات المتحدة وشكر الاتحاد السوفييتي وطالب الاتحاد الاشتراكي بأن ينشَط بين الجماهير، واقترح ألا تزيد الملكية الزراعية عن خمسين فدانًا للفرد.
حانت ساعة الغداء فدعاني فخري إلى مطعم الدجاج المشوي أسفل محطة فريدريش شتراسه. وقفنا في طابورٍ طويل أمام المطعم تلفُّنا رائحته. تقدَّمنا ببطء ونحن نتأمل الجالسين في حسدٍ من خلال بوابته الزجاجية وهم يلتهمون الدجاج في شبَق. وكانت أمامنا امرأة ترتدي قبعةً خضراء مضحكة تشبه موضة العشرينيات والثلاثينيات، ورداءً ملوَّنًا يغطي ركبتَيها وبرفقتها ثلاثة رجالٍ ذوي ملامحَ عربية.
سألني فخري: كيف كانت الفتياتُ في العطلة؟

قلتُ: لا بأس.

قال: هل كانت هناك برلينيات؟

قلت: لأ.

– ولا واحدة من الوكالة؟

أدركت أنه يلمِّح ﻟ إنجمار.

قلتُ: أبدًا. كلهن من الأقاليم، ومن هيئاتٍ أخرى.

قال: خسارة. البرلينيات لا يُعوَّضن.

سألتُه: وأنت ماذا فعلتَ؟

أجاب: سآخذ عطلتي في الشهر القادم.

ثم أضاف بغير حماس: سأقضيها مع زوجتي والأولاد لدى أهلها في لايبزيج.

اقتربنا من الباب وأصبحنا أخيرًا على عتبته. ثم أشار إلينا نادلٌ متعجرف بالدخول والجلوس إلى مكانَين حول مائدةٍ لأربعة أشخاص.

واجهنا سيدةً متقدمة في السن برفقة شابٍّ يبدو من ملامحه ابنًا لها. كان في العشرينيات ويتمتع بوسامةٍ بالغة لفتت انتباه فتاةٍ جميلة حول المائدة المجاورة. لم ترفع عينَيها عنه، وما لبثَت أن غادرت مقعدها إلى التواليت.

علَّق فخري الذي لم يغب عنه المشهد: الشاب الجميل أثارها. ستَستمني الآن.

بعد انتظارٍ طويل وضع النادل نصف دجاجة مع البطاطس المحمَّرة وكوبًا من البيرة أمام كلٍّ منا. وأقبلنا نلتهم الدجاج الشهي.

عادت الفتاة الجميلة وتابعها فخري ببصره ثم قال: تعرَّفتُ أخيرًا على كوافيرةٍ فاتنة.

سألتُه: نمتَ معها؟

قال: طبعًا. تعشق الجنس. تُحب أن تُجرِّب معها؟

قلتُ: هل هذا ممكن؟

قال: حدِّد الموعد فقط وأنا أُحضرها لك. لا يمكن الذهاب إلى منزلها لأنها متزوجة.

جرعتُ من كوب البيرة ثم سألتُه: ماذا تنوي في المستقبل. هل ستعود ﻟ العراق؟

– أنت ترى ما يحدُث للأكراد. التحالُف الحالي مع البعثيين ألا ينقلب علينا في أي وقت فهذا تاريخهم. أظن أني سأقيم هنا إلى الأبد. زوجتي ألمانية وتعمل في التمريض. وهي مهنةٌ جيدة. وهناك أولادي أيضًا. التعليم والصحة متوفِّران لهم. ومستقبلهم مضمون.

عُدنا على مهل إلى مبنى الوكالة وقد تشبَّعَت ملابسنا برائحة الشواء. تركتُ «فخري» في الطابق الأول لأمرَّ على إنجمار. وجدتُها جالسة إلى مكتبها في غرفةٍ ضيقة تضم مكتبَين آخرَين. وكان أحدهما مشغولًا بزميلٍ لها يُدعى شاخت، فجلستُ إلى المكتب الخالي.
كان شاخت طويلًا مثلها لكنه نحيفٌ وطيب المعشر. علَّقتُ على ما بدا عليه من حيوية وانتعاش.
قال: إنها الأورلاوب، العطلة. قضيتُ ثلاثة أسابيع في المجر بمفردي تمامًا. كانت تجربة هيرليش، رائعة.

سألتُه: كيف؟

قال: الناس هناك ودودون وكل شيء موجود، الكتب والسلع المختلفة؛ لأنهم يستوردون الكثير.

كان في يده إصبع من أقراص النعناع وعرض عليَّ منه؛ بعد تردُّد فقبلتُ.

قال: في برلين عندما تقبل عليك فتاة في الطريق تصنع نصف دائرةٍ حولكَ كي تتجنَّبكَ. أما هناك فتشُق طريقك بين الجموع بيدَيكَ قائلًا هالو، وتعرض المظلَّة على فتاة كي تسير معك فتقبل.
التقط قرصًا من النعناع بشفتَيه واستطرد: أول يومٍ التقيت شخصًا عرض عليَّ غرفةً في مسكنه. قال لي: تعالَ شوفها؛ إذا أعجبَتكَ فخذها وإذا لم تُعجبك فلا تأخذها. الطريقة التي تكلَّم بها الرجل جعلَتني أقبل ضاحكًا وأخذتها راضيًا رغم أني دفعتُ ٦٠ فلورنت أي حوالي ٢٠ ماركًا.
لم تُحوِّل إنجمار عينَيها عن شفتَيه وهو يرفع عينَيه إلى السقف مضيفًا: الآن أعمل منذ أسبوع، مأساة. أشعر بالحاجة إلى شهرٍ آخر. أليست العطلة في السويد شهرَين؟ أنا أكره الغرب. لكن كل واحدٍ هنا صنع حدودًا حوله، جزيرة. في بولندا والمجر حياةٌ أخرى ودودة.

هزَّ رأسه: أنا أفهم جيدًا كيف يقاسي الأجانب هنا لأنني أيضًا أقاسي …

انتقل الحديث إلى سنوات الشباب والجامعة؛ الحماس والأفكار والمشروعات، الثقة في أنك ستفعل شيئًا أو تكون شيئًا، ثم التخرج والانزواء في ركن، أو ترسًا في عجلةٍ ضخمة. وتدرك أنه يتعيَّن عليك أن تقبل بقوانين «الحياة» وتمضي الأيام سريعة ومع كل عامٍ تتنازل عن أحد أحلامك القديمة أو مُثُلكَ أو رغباتكَ أو أفكارك.

أمَّنتُ على كلامه واستأذنتُ في الانصراف قائلًا: أربايت، العمل.
خاطبَتْني إنجمار: نلتقي عند الانصراف لنذهب معًا؟

فكَّرتُ أنها رسمَت خطة لكل شيء. نذهب سويًّا لنشتري شيئًا، ثم منزلها والطفل والعشاء، وأخيرًا النوم لنستيقظ مبكِّرين.

قلتُ: لن أستطيع فلديَّ أمرٌ ما.

غضبَت وتركتُها محرجة أمام صديقها. وكنتُ هادئًا، ولم أشعر بأي رغبة في أن أكون رقيقًا.

٣

توقَّفتُ في يوميات الشاعر الإيطالي سيزار باتيس عند قوله إنه يُحب أن تمتلكه المرأة لا أن يمتلكها هو.
وضعتُ الكتاب الذي اقترضتُه من كاسترو جانبًا. أصغيتُ لضجَّة يوم الأحد القادمة من شاطئ البُحَيرة. نهضتُ وخرجتُ إلى الحديقة. كانت إنجمار ممدَّدة بالمايوه فوق العُشب تقرأ. رفعت عينَيها إليَّ.
قلتُ لها: باتيس في أيامه الأخيرة كان يتساءل عن جدوى الحياة ويتحدَّث عن الانتحار.

شيءٌ ما في لهجتي جعلها تتطلَّع إليَّ في تساؤل.

كانت حرارة الجو خانقة بلا نسمة هواء.

قلتُ كأنما أحدِّث نفسي: مثل جو القاهرة في هذا الوقت من السنة.
سألَتني: حدِّثني عن الفتاة التي كنتَ تُحبها في مصر. أما زلتَ على علاقة بها؟

– تركتُها عندما أرادتِ الزواج.

– ولماذا لم تتزوَّجها؟

– لم أكن جاهزًا وقتها للفكرة.

حوَّلَت نظراتها إلى الأرض: والآن؟

– ما زلت. هناك أشياءُ أريد عملها، وأماكنُ أريد أن أزورها.

وجمَت وفكَّرتْ لحظةً ثم قالت: يمكنك أن تفعل كل هذا مع زوجتك.

ظهرَت فتاة بعويناتٍ طبية فوق دراجة على مدخل الحديقة. ترجَّلت وركنَت دراجتها جانبًا وتقدَّمَت منا.

نهضَت إنجمار ورحَّبَت بالفتاة وعرَّفَتني بها: صديقتي روزي. إنها تدرُس اللاهوت.

كانت قمحية البشرة طويلةً يتدلى شعرها على وجهها طليقًا لتُزيحه بالطبع كل برهة، فتكشف عن شفتَين ممتلئتَين ووجهٍ مستطيل وعينَين عسليَّتَين مكحَّلتَين. وترتدي بنطلونًا كحلي اللون وبلوزةً بيضاء لها رقبةٌ مطوية وكُمَّان مطويان إلى المرفقَين. وأحاط برقبتها وشاحٌ أحمر معقودٌ من الأمام.

أبديتُ تعجُّبي من أن تكون هناك مدرسة للدين في بلدٍ اشتراكي.

قالت: هناك كليةٌ متخصصة في جامعة هومبولت يتخرَّج فيها القسس. سوف أؤدي الامتحان النهائي هذا العام.
جلسنا حول المائدة وأحضر جون الزهور البنفسجية الصغيرة فوضعَتْها أمه أمامنا في إناء.
قالت: عائلة تسان التي تسكُن بجوارنا تذهب كل أحد إلى الكنيسة.
قالت روزي: الناس في عصرنا تعساء لأنهم فقدوا إيمانهم بالدين.

تطلَّعتُ إلى قدمَيها البارزتَين من حذاء صندلٍ عقدَته برباطٍ دار حول مقدمةٍ ساقها في دوراتٍ حلزونية. وكانت أظافرها مصبوغة بلونٍ أحمرَ قانٍ.

قلتُ: الشيوعيون أيضًا. كانوا أكثر سعادةً منذ عشرين سنةً أو أكثر عندما كانت الشيوعية كالدين.

قالت: الشعور الديني قوي. بعض الرفاق كانوا يحضُرون قدَّاسًا في كنيسة فانفعلوا وألفَوا أنفسَهم يرسمون الصليب.

حدَّثتُهما عن صلاة عيد الأضحى والنشوة التي أشعر بها عندما أسمع ترنيم آلاف المصلين في الفجر: الله أكبر كبيرًا …

اقترحَت إنجمار القيام بجولة بالدراجات. هلَّل جون وارتقى درَّاجته. واعتذرتُ قائلًا إن الحرارة شديدة وأُفضِّل القراءة.
قالت إنجمار: إذن تُعِد لنا الأبند بروت، طعام العَشاء.
انصرفوا موجِّهين التحية للهر تسان في حديقته. واستقرَّت عيناه على مؤخرة روزي في اهتمام.
ولجتُ الكوخ وأشعلتُ النور وأغلقتُ الباب لتلافي البعوض. تناولتُ مذكِّرات بافيس. قرأتُ بعض الوقت وتوقفت عند قوله إن أهم مادةٍ هي التي يظُن الكاتب أنها أبعد ما تكون عن مادةٍ أدبية وهي حياته اليومية. ثم قمتُ وأخرجت وعاء الخبز من الخزانة المزوَّدة بمصاريع من السلك المخرَّم. وضعتُه بجوار لوح التقطيع الخشبي. أضفتُ إليه السكين المشرشرة الطويلة ثم الإناء البلاستيك الشفَّاف الذي يحتوي على الجبن المحفوظ والليبر فورست. أعددتُ عدة شطائر ثم استأنفتُ القراءة.
سمعتُ صوت الدرَّاجات، فأطفأتُ النور وفتحتُ الباب ووقفتُ منتظرًا. جاءت إنجمار أولًا ثم الفتاة في أعقابها. وظل الطفل في الخارج.
خاطبتُ روزي وهي تقترب متسائلًا: فييل شباس، متعة كثيرة؟
قالت: تزير فييل، كثيرًا جدًّا.
أسندَت الدراجة إلى سور الحديقة. وظهر تسان عند مدخلها فرحَّبَت به إنجمار. انضم إلينا موجهًا اهتمامه إلى روزي. وكان يرتدي الشورت وقميصًا بنصف كُم أبرز عضلات ساعدَيه.
قالت إنجمار وهي تضرب ساعدَيها بكفيها لتقتل البعوض: الأفضل أن نجلس في الداخل.
أدخلنا المقاعد. وأغلقتُ الباب ثم أضأتُ النور. ووقفتُ مستندًا إلى الحائط. دعت إنجمار تسان إلى الجلوس وسألَته: كيف الأمور مع القارب؟

قال: ما زال في المرسى.

اعتلى الطفل مقعده وأخذ يهز ساقيَه وهو يدندن لنفسه. أعدَّت له روزي قطع الخبز المغطَّاة بالزبد فطلَب جبنًا. وانطلَق الهر تسان في كلامٍ بلا توقف موجَّهٍ غالبًا إلى روزي. ورأيتُها تمسك بكوب وترفعه ثم تعيده إلى مكانه. وكرَّرَت هذه الحركة عدة مرات.
سألَتني إنجمار أن أُعِد الشاي فملأتُ الأبريق من صنبور الحديقة ووضعتُه فوق قطعةٍ صغيرة من الرخام، ثم دسَستُ فيه القضيب المعدني وغطيتُه. وثبَّتَّ مقبس القضيب في الحائط.
عُدتُ أقف عند المدخل. والطفل ما زال يهز ساقَيه ويُحدِّق في ظلام الحديقة، غارقًا في عالمه، بينما الهر تسان يتحدَّث بلا كللٍ عن قاربه وبطارياته.
وأخيرًا انسحب. رافقتُه إلى الخارج وأحضرتُ إناء الزهور. وضعتُه وسط المائدة ثم نقلتُه إلى حافتها عندما رأيتُ أنه يحول بيني وبين وجه روزي الأسمر الممتلئ.

قلتُ لها: للوهلة الأولى لم أظنك ألمانية.

زمَّت شفتَيها وتطلَّعَت إلى أعلى ثم نظرت إليَّ وقالت: أنا من أصلٍ إيطالي. تطلعت إنجمار إلى الساعة فوجدَتها الثامنة والنصف. طلبَت من الطفل أن يغسل قدمَيه ويدخل الفراش. ورافقَته إلى الداخل.
سألَتني روزي: هل تُعجبكَ الحياة هنا؟

لم أعرف بماذا أجيب.

قالت: لا بأس. البعض لا تعجبهم برلين ومبانيها.

قلت: المباني ليست مهمة.

انضمَّت إنجمار إلينا. واستأنفَت حديثًا سابقًا مع روزي عن حفل أقامه طلبة فرانكفورت في ألمانيا الغربية. فهمتُ بعد قليل أن طالبة خلعَت ملابسها في نهاية الحفل ورقصَت عارية تمامًا ثم مارسَت الجنس مع شابٍّ لا يرتدي غير الجوارب.
قالت إنجمار لي: انتهى طبعًا بسرعة على عكسها. وهنا أكملَت بيدَيها ما عجز هو عن تحقيقه. تصرُّفٌ غير أخلاقي بالمرة.
أمَّنَت روزي في استهجان.

قلتُ: الأخلاق نسبيةٌ حسب الزمان والمكان.

تثاءبَت إنجمار فنهضَت روزي قائلة: سأنصرف الآن. أراكم غدًا.

٤

غطت أنباء الثورة الليبية على وفاة هوشي منه وحريق المسجد الأقصى وغارات الطائرات الإسرائيلية على جنوب لبنان وشحنة طائرات الفانتوم التي سلَّمَتها الولايات المتحدةإسرائيل. وأبرزَت التعليقات قرار إغلاق القواعد العسكرية الأمريكية والبريطانية في ليبيا.
انتهت نشرة الصباح فتناولتُ الخطاب الذي وصلَني من هايدي وأعدتُ قراءته:

«العزيز صادق

كيف حالك؟ نحن جميعًا في حالٍ جيدة. أبي لديه عملٌ كثير. أما أنا فما زلتُ في عطلة. أفكِّر فيك كثيرًا. تعارفنا ومضى الوقت سريعًا … ماذا تفعل الآن؟ هل ستبقى عامًا آخر في برلين؟ ربما نراك مرةً أخرى. أرجو أن تكتب لي عندما يكون لديك وقت. قبلاتٌ كثيرة.»

أشعلتُ سيجارة. وقرأت الخطاب مرةً ثالثة.

تطلَّعتُ حولي في ضجر. وبدأ صوت آلات التليبرينتر يصيبني بصداعٍ خفيف.
خاطبَني نويمان بجديةٍ شديدة: مستر سَلمان الزويني من مكتبنا في بيروت وصل اليوم. ما رأيكَ في أن نذهب لاستقباله؟

– في المطار؟

– لأ. في الفندق الذي يقيم فيه. أونتر دين ليندن.

– الآن؟

أخفيتُ حماسي للخروج بجهدٍ خارق.

قال بلهجة استنكار لفكرة الانتقاص من وقت العمل: في نهاية اليوم.

قلتُ: لا بأس.

اعتذر العراقيون عن الذهاب بدعوى الالتزامات العائلية. وفي الخامسة تمامًا غادرنا الوكالة. ورأيت إيزابيلَّا وإيزولدا يتبادلان حديثًا هامسًا عند المدخل، ثم تأبطَت الأولى ذراع الثانية وانصرفَتا. ولاحظتُ أن علامات الحمل تبدو على إيزولدا.
تقدَّمَنا نويمان في هيئة الجنرال وتَبِعناه، أنا ونبيل، نحو الفندق. قال لي عندما أشرفنا عليه: إنه صديقٌ قديم ﻟ ألمانيا الديمقراطية.
فكَّرتُ أنه يعتذر عن التفرقة في المعاملة بين فندق الدرجة الخامسة أو السادسة الذي أقمتُ به عند وصولي وبين فندق الدرجة الأولى الذي أُعطي للمستر سلمان.
ونحن أمام مكتب استقبال الفندق سمعتُ من ينادي على اسمي. استدرتُ لأجد مديحة حسين.
كانت صحفيةً مصرية في الأربعين، متزوجة صحفيًّا شهيرًا ومشهورة هي أيضًا بغرامها بشباب الصحفيين والكُتاب، وتعرَّفتُ بها قبل سفري من مصر مباشرة. كانت سمراءَ ضئيلة، ذات وجهٍ مليح بعينَين واسعتَين وشعرٍ أسودَ مجعَّد، ملمومٍ خلف رأسها في ذيل حصان. وترتدي تاييرًا رماديًّا من سُترة وجوبة.
تركتُ نويمان واتجهتُ إليها. صافحتُها ورحَّبتُ بها متسائلًا: ماذا تفعلين هنا؟ سياحة أم عمل؟
أرسلَت ضحكةً طويلة: عمل طبعًا. من سيأتي هنا للسياحة؟ أنا في وفد. معي فتحي عبد الرازق وبهاء.

تلَفتُّ حولي: أين هما؟

قالت: في برلين الغربية. يشتريان سيارة … وأنتَ؟ ما الذي جاء بكَ؟

– أعمل هنا. في وكالة الأنباء.

قالت: تعالَ نجلس قليلًا.

قلتُ: أنا الآن في مهمة عمل.

قالت: متي تنتهي؟

– لا أعرف. بعد ربع ساعة وربما أكثر.

قالت: أوكي. كلِّمني عندما تكون جاهزًا. لا بد أن أراك الليلة لأني سأُسافر غدًا.

أعطتني رقم غرفتها وعُدتُ إلى نويمان. جلسنا في ركن من البهو التقليدي، وقد أحطنا به حسب مستوياتنا الوظيفية؛ أنا على اليمين ونبيل على اليسار. وسرعان ما انضم إلينا المستر سلمان.

كان أربعينيًّا طويل القامة عريضها، ذا وجهٍ يميل إلى السمرة بابتسامةٍ متكلَّفة وعينَين صفراوَين. وكانت له ذراعان قصيرتان لا تتناسبان مع حجم جسمه.

تولَّى نويمان مهمة التعارف. وعامل المستر سلمان نبيل باستخفاف وشيء من الاستعلاء. أما أنا فقد عاملَني بحذر.
انتهز نويمان الفرصة ليتناول الشراب فطلَب لنا كئوس البراندي الروماني. وظهر التأثير فورًا على المستر سلمان الذي لم ينَم لحظة منذ مساء الأمس بسبب السفر. وكرَّر نويمان طلب البراندي مُذكِّرًا النادل بأن يضيف الحساب على غرفة سلمان ثم استأذن في الانصراف ليلحق بزوجته.
استرخى سلمان في مقعده بعد انصراف نويمان. وتطلَّع حوله بعينَين زائغتَين من تأثير الشراب حتى استقرَّتا على فتاتَين تجلسان إلى مائدةٍ قريبة.

كانت إحداهما تُواجهنا مباشرة، شقراء ذات عينَين شديدتَي الزرقة، ومَلاحةٍ ظاهرة شابَتْها مسحةٌ من الحزن. وكانت الأخرى ذات ملامحَ عادية وجسمٍ ذكوري.

رفع مستر سلمان كأسه إلى شفتَيه، وأومأ للشقراء محييًا فلم تستجب.
مال عليَّ وقال وهو يدقِّق النظر إليها: صادق، أهي جميلة؟

أجبتُ على الفور: فاتنة.

ابتسَم راضيًا وحاول القيام ليذهبَ إليها لكنه لم يستطع. أشار إليها لتنضَم إلينا، فتجاهلَته ومالت على رفيقتها وهمسَت لها بشيءٍ ما.

خاطبَهما بالألمانية التي يُجيدها، فاستجابت الشقراء في تردُّد. وجرى حديث التعارف التقليدي: من أين ونوع العمل أو الدراسة ومكان الإقامة. وفهمتُ أنهما طالبتان في معهدٍ موسيقي ومن سكان برلين.

طلب لهما كأسَين من البراندي فاحتستاهما، ثم عرض عليهما الصعود إلى غرفته حيث يُوجد لدَيه براندي فرنسي أطيب مذاقًا. تهرَّبتا من الإجابة لكنهما ظلَّتا جالستَين كأنما تنتظران أحدًا أو شيئًا. ولحظتُ أن يد الشقراء ترتعش وهي ممسكةٌ بكأسها.

ران علينا الصمت. وشعرتُ به على وشك النعاس فقلتُ: يحسُن بكَ أن تصعَد لتنام.

نظر إليَّ في غضبٍ تلاشى بعد لحظة ونهض واقفًا. ترنَّح فسندتُه بساعدي. وتناول نبيل ذراعه ورافقناه حتى المصعد.
قلتُ ﻟ نبيل وهما يدخلان المصعد: لا تتركه قبل أن يدخل فراشه. سأنصرف الآن.

حانت مني نظرةٌ إلى البهو ولمحتُ الفتاتَين تتجهان إلى باب الفندق، ولحظتُ أن الشقراء تجرُّ ساقًا يسرى معطوبة.

اتجهتُ إلى مكتب الاستقبال، واستخدمتُ التليفون لأتصل بمديحة.

جاءني صوتها على الفور: اصعد.

أخذتُ المصعد إلى غرفتها. فتحَت لي الباب. جذَبَتْني إلى الداخل في أُلفةٍ وقادتني إلى الفوتي الوحيد بينما اقتعدَت حافة الفِراش الذي تناثَرَت أغطيتُه في فوضى. أخذَت تحكي انطباعاتها منذ وصولها قبل ثلاثة أيام. وأُنصِت إليها متأملًا.

كانت قد خلعَت سترتها كاشفةً عن صدريةٍ بيضاء بكُمَّين قصيرَين، يكمُن خلفها صدرٌ عامر. واستقرَّت عيناي على شفتَين رفيعتَين جافَّتَين.

فكَّرتُ في إجراء حوارٍ للوكالة معها. وفكَّرتُ في أشياءَ أخرى. ولحظتُ أنها لم تُعنَ بتنظيف أسفل أظافر يدَيها.

تطلَّعتُ إلى ساعتي وقلتُ: لا بد أن أنصرف الآن. أمامي مسافة حتى منزلي.

نهضَت واقفة واقتربَت حتى وقفَت أمامي مباشرة وقالت مُستنكِرة: هو احنا مش عاجبين ولَّا إيه؟

وقفتُ وعيناي ملتصقتان بأظافر يدَيها وابتعدتُ خطوة قائلًا: أشعر بالتعب، ثم لا بد أن أنام مبكرًا. تعرفين هؤلاء الألمان. سأُكلِّمكِ غدًا.

رافقَتني حتى باب الغرفة وفتحَته قائلة: لن تجدني. سأكونُ مشغولةً بالاستعداد للسفر.

خطوتُ إلى الممر الخارجي قائلًا: مع السلامة إذن. سنلتقي مرةً أخرى بالتأكيد.

٥

علَّقتُ الكاميرا في كتفي وخرجتُ مع إنجمار من الوكالة. عرجنا إلى حانوت للأدوات المكتبية في نهاية شارع فريدريش شتراسه قرب نقطة حدود شارلى شك بوينت. اشترت للصبى علبة أقلام رصاص وحبرًا وممحاةً وكيسًا ضخمًا على شكل قمع السكر ليُملأ بالحلوى والهدايا عندما يأخذه معه في أول أيام الدراسة. أرادت أن تشتري مقلمةً جلدية فمنعتُها قائلًا: إني أحضرتُ له واحدة من برلين الغربية بها أقلامٌ ملوَّنة من النوع الفوسفوري، أضفتُ إليها تميمة مفتاح الحياة الفرعونية التي جلبتُها معي من مصر.
استقلَلنا الأوبان حتى منزلها. ولحقَت بنا العجوزتان برفقة الطفل، تحملان هديَّتَهما له بهذه المناسبة؛ بنطلون ومعطف مطر بكاب.

قالت إحداهما: عندما ذهبتُ إلى المدرسة لم يكن هناك شيءٌ من هذا كله. فقط لوح إردواز ومقلمة.

تجمَّعنا حوله في الصالة وهما تُلبِسانه البنطلون. اكتشفَتا أنه أطولُ مما يجب، فانحنتا عليه وركعتا على الأرض، واحدة إلى يمينه والأخرى إلى يساره تطويان طرفَيه وتشبكانه بالإبر تمهيدًا لحياكة التعديل.

أحضرتُ الكاميرا والتقطَت لهم عدة صور.

قالت إنجمار: سأذهب لأُعِد الكعك.

تبعتُها إلى المطبخ وقلت: إنهما تعشقانه.

ردَّت بالإنجليزية: تريدان الاستحواذ عليه تمامًا. تشاجرتُ معهما بالأمس لأنهما تحشُوانه بالطعام طول الوقت.

لاحظتُ أن كمية الدقيق التي تستخدمها أكثر من المعتاد. علَّقتُ على ذلك، فقالت وهي تبتسم في رضًا: سأصنع ثلاث كعكاتٍ؛ واحدة ندعو إليها العجوزتَين غدًا مع القهوة، والأخريَين نأخذهما إلى الكوخ للأصدقاء الذين جلبوا هدايا للطفل.

انتهت العجوزتان من مهمتهما وانصرفتا. انهمك الطفل في رصِّ قطع بلاستيك ملونة مُشيِّدًا برجًا للتليفزيون. وأتمَّت إنجمار إعداد أول كعكة ووضعَتْها على النار وضبطَت المنبه على ساعة.

قالت متفكِّرة: كانت هناك فترةٌ فكَّرتُ فيها في الانتحار. لم أكن أشعر برغبة في القيام من الفِراش. وتغيَّر كل شيء عندما حملتُ وولدتُ.

أضافت وهي تتحاشى النظر إليَّ: لا مانع لديَّ من طفلٍ جديد.

لم أعلِّق فحوَّلَت عينَيها إليَّ وسألَتني: ألم تفكِّر في إنجاب أطفال؟

أجبتُ باقتضاب: لا.

خرجتُ إلى الصالة. تمدَّدتُ على الأريكة شاعرًا بالرغبة في النوم. ونادت عليَّ من المطبخ لأرى الكعكة التي اكتمل إعدادها.

قلتُ إني سأنام.

جلبَت الكعكة لتُريها لي. كان سطحها موزَّعًا بين اللونَين الأبيض والبني.

قلتُ: تُشبِه البقرة.

استدَرتُ معطيًا ظهري لها، فقالت إنها ستغسل بعض الثياب. وسمعتُ المنبِّه يدقُّ عدة مراتٍ ثم سمعتُها تُدير الغسالة ورحتُ في النوم.

أيقظَني الطفل مبكرًا بالضجَّة التي أحدَثَها. غادرتُ الأريكة واستحممتُ، ثم شربتُ كوبًا من الشاي، ودخَّنتُ سيجارة وأنا أُعِد الإفطار من البيض المقلي والفورست. انضمَّت إلينا بقميص النوم وجلسنا متجاورَين بينما اعتلى الطفل مقعده الصغير أمامنا.

أقبل على الطعام بلهفةٍ وأخذ يزدرد اللقيمات وهو يلهث ويُمصمِص بشفتَيه. وأكلَت هي ببطء وحرص، ومع ذلك أسقطَت نتفة بيضٍ على ساقها. وفكَّرتُ أنها مثلي تمامًا، وأننا نشترك في أننا بليدان نرتبك بسهولة أمام أبسط الأمور.

أزلتُ البقايا والصحون وحملتُها إلى المطبخ. ودار صراعٌ بينهما حول غسيل اليدَين والفم انتهى بأن أجبرَتْه على ذلك. ثم عادت إلى الفراش واحتل هو الأريكة مع برج التليفزيون.

غسلتُ الصحون ثم حلقتُ ذقني وذهبتُ إليها. وجدتُها قد تغطَّت باللحاف رافعةً ركبتَيها. ولحظتُ اختفاء يدها اليمنى أسفل اللحاف. أغلقتُ باب الغرفة بالمفتاح، وجلستُ على حافة الفراش.

قالت: أمسِ في المكتب سقطَت أشعة الشمس على فخذي فشَعرتُ بإثارةٍ شديدة وفكَّرتُ فيك.

انحنيتُ فوقها وقبَّلتُها. شَعرتُ بشفتَيها رطبتَين فتحسَّستُهما بشفَتي التحتية. أخرجَت يدها من تحت اللحاف وتحسَّسَت خدي. جاءتني رائحةُ فرجها فأبعدتُ وجهي. خلعتُ ملابسي وتمدَّدتُ فوقها.

همسَت: أطِل قليلًا.

لم أتمكَّن أو أُحاول، بل فكَّرتُ في فتاة بالوكالة تتمتَّع بفخذَين رائعتَين. وعندما أوشكتُ على القذف انسحبتُ منها وأنزلتُ فوق بطنها.

كنتُ أفعل هذا مع لبنى في نفس الموقف لكن بين ثديَيْها.

قالت منزعجة: لماذا؟ إنها فترة أمان.

لم تكن لبنى تضيق بهذا الفعل، وعلى العكس كانت تتحسَّس ثديَيْها وتوزِّع هديَّتي على جل صدرها في نَشوة.

قلتُ وما زلتُ راقدًا فوقها: أليست الحبوب أفضل؟

قالت في حدة: سبق أن ناقشنا هذا. جسمي لا يتقبَّلُها.

نفس مشكلة لبنى.

أضافت بصوتٍ أقلَّ حدة: كثير من الألمانيات يُعانين نفس المشكلة مع الحبوب. هل تعرف محرِّرة القسم الروسي؟

أومأتُ برأسي. عنَت سيدةً أربعينيةً فارعة الطول ذات وجهٍ حزين.

– عندها ستة أطفال لهذا السبب. فشلَت علاقاتها، وكلما تعرَّفَت بواحدٍ أنجبَت منه على الفور.

تحرَّكتُ محاولًا النهوض، فاستبقَتْني قائلة: هذا الصباح حلمتُ أنكَ سترحل بعد أسبوعَين أو شهر، وكنتُ أفكِّر فيما إذا كانوا سيُعطونني إجازةً لهذا السبب.

لم أعلِّق فوجمَت، ثم حانت منها نظرة إلى النافذة، فهتفَت: انظر. شمس. لنذهب إلى الكوخ.

قلتُ: وموعدنا مع العجوزتَين؟

قالت: ستأتيان في الرابعة. سنعود قبل ذلك.

نهضتُ واقفًا وسوَّيتُ ملابسي قائلًا: أنا أُفضِّل البقاء هنا.

أشاحت بوجهها غاضبةً فخرجَت إلى الصالة وجلسَت إلى جوار الطفل. شَرعتُ في قراءة رواية ألمانية بالإنجليزية بعنوان «وفاة الجنرال موروا، أحد رفاق نابليون بونابرت. تبعَتْني بعد قليل، وقالت: ليس عدلًا أن نقبع في الداخل يوم أحد والشمسُ ساطعة.

قلتُ دون أن أرفع عيني عن الكتاب: اخرجا أنتما الاثنان.

دخلَت المطبخ ثم عادت وخاطبَتْني: دعنا نلعب معه لنُعوِّضه عن سجن اليوم.

اقتعَدنا الأريكة والطفل أمامنا. أخذا يلعبان الدومينو بينما واصلتُ القراءة.

سألَتني بغتة: لماذا أنتَ الآن دائمًا ضيق الصدر؟ أول أمسِ عندما كنا مع عدنان لم تُوجِّه لي كلمةً واحدة.
أجبتُ: ماذا أقول؟ كنتِ قد بدأتِ تتحدَّثين مع هيلدا عن الهنود الحمر وتقاليدهم وأنا سمعتُ هذه القصة من قبلُ.

قالت في تحدٍّ: وماذا لو سمعتَها مرةً أخرى؟

– ثم حديث عن الجو. ثم تقولين: أَرِنا صور أختكَ وأولادها.

– عمَّ تريدنا أن نتحدَّث؟

لم أَرُدَّ فأزاحت قطع الدومينو جانبًا ونهضَت واقفة: لم تعُد تكلِّمني عندما نكون وحدنا.

مضت إلى المطبخ وعادت بطاولة الكي. بسطَتْها وسط الصالة وتناولَت ملابس الطفل. قالت: هناك شيءٌ غريب في علاقة الرجل بالمرأة. الرجال دائمًا يبدءون بالإعلان أنهم لا يريدون الزواج ويُفضِّلون الحرية. وتَقبَل الفتياتِ ذلك ثم بصورةٍ ما ينجحن في الزواج بهم.

هزَزتُ رأسي معترضًا: يكون الرجلُ قد قرَّر الاستقرار عندما يكون هدفُه في الحياة هو منزل وأطفال وسيارة والذهاب إلى الأوبرا بالملابس الكاملة.

وأضفتُ بعد قليل: ليس هذا هو هدفي.

– ما هو إذن؟

– لم أُحدِّد بعدُ.

قالت وهي تُمرِّر المكواة فوق بنطلون الطفل: حبيب إحدى صديقاتي البدينات يطلُب منها أن تكُفَّ عن الريجيم وكذلك حبيب أختي.

وضعَت المكواة جانبًا وهي تتطلَّع إليَّ متسائلة. هل تسألُني عن رأيي في سمنتها؟

قالت عندما لم أعلِّق: تقول العجوزتان إن الرجال بعد سنٍّ معينة يُفضِّلون الفتيات الصغيرات.

لزمتُ الصمت. وواصلَت هي الكيَّ بتركيزٍ حتى انتهت من ملابس الطفل. أحضرَت فستانها الأسود — أفضل ما لديها — وكوَتْه ووضعَتْه على ظهر مقعد. ووضعَت أمامه حذاءها اللامع وجوربًا أسودَ شفافًا اشتريتُه لها من برلين الغربية ومظلَّة. أصبحَت بذلك جاهزة لمناسبة الغد.

نشرَت على المائدة طاقمًا خاصًا للقهوة والكعك من الخزف الأبيض. وفي الرابعة تمامًا وفدَت العجوزتان. أحطنا بالمائدة وهما تردِّدان: يا … يا.

تناولَت إحداهما قطعةً من الكعكة قائلة: جشمكت. سآكل قطعتَين فقط.
استعادت إنجمار ذكرى يومها الأول في المدرسة، وعندما نادَوا عليها لتسلُّم كتاب الحساب ثم كتاب المطالعة. وضحكَت مضيفة: بعد انتهاء طابور الصباح أعلنتُ أن الحال لم تعجبني، وأني لن أتي مرةً أخرى في الغد.
دار الحديث عن طعام المدرسة وعن فيلم في التليفزيون، بينما إنجمار تكتب اسمه على البطاقات التي ستُلصِقها فوق أغراضه. وكنتُ أفكِّر طول الوقت في مدنٍ أخرى مثل ستوكهولم وأمستردام.

سألَتني إحدى العجوزتَين وهي تلتهم القطعة الرابعة من الكعك عما إذا كانت ستقع حربٌ في الشرق الأوسط.

قلتُ: لا أعرف.

قالت إنجمار: إنها قرأت كتابًا جيدًا عن إسرائيل لصحفيةٍ فرنسية يشرح تطوُّر عملية الاستيطان اليهودي في فلسطين وشراء الأراضي العربية، وكيف ردَّدوا أن الكرباج هو الطريق الوحيد للحديث مع العربي. وعلَّقَت: الإسرائيليون مثل النازيين تمامًا.

هزَّتِ العجوزتان رأسيَهما مؤمنَّتَين. فكَّرت: إدراكٌ للحقائق أم بقايا الكراهية النازية؟

قلتُ بلهجة الحكيم: الإرهاب النازي واضطهاد الشعوب الأخرى لليهود هو الذي صنع مأساتَهم وأدَّى إلى تطرُّفهم واضطهادهم للعرب. الوحشية والتعصُّب طاقة تنتقل من شعب إلى آخر على مدى التاريخ.

استفسرَت إنجمار: وما رأيُكَ في أن يكون لهم وطنٌ قومي؟

أجبتُ: أقبل ذلك، ولكن ليس على حساب شعبٍ آخر.

أحضرتُ الكاميرا لأهرب من الحديث، والتقطتُ عدة صورٍ فردية. وعندما وجهتُ الكاميرا ناحية إنجمار كانت ساهمة، وفكَّرت أن لديها خطةً تفصيلية للمستقبل، وربما تفكِّر الآن فيما سنفعله سويًّا بعد خمس سنوات. ثم التقطتُ صورةً جماعية وفكَّرتُ أنها ربما لن تتكرَّر.

٦

دقَّ جرس الباب في السادسة. فتحتُ ﻟ فخري وفي صحبته الكوافيرة.

رحَّبتُ بهما وقُدتُهما إلى الصالون. جلسا متجاورَين على الأريكة وجلستُ أمامهما على أحد المقاعد.

قدَّمَنا إلى بعضٍ ثم سألَني عن رفاق الشقَّة. قلتُ: لم يأتوا بعدُ.

كانت كارين شقراءَ نحيفةً في أواخر العشرينيات، بوجهٍ مليحٍ دون أصباغ، وصدرٍ صغير للغاية. وكانت ترتدي جوبةً قصيرةً تنتهي عند الركبة فوق جوربٍ سميكٍ من الصناعة المحلية.

تطلَّعَت حولها بمزيجٍ من الانبهار والحسد. سألَتني: كم غرفة في هذا القصر؟

نهضتُ واقفًا وأنا أمُدُّ يدي إليها: تعالَي أُريكِ.

صحبتُها في جولة حول الشقَّة. وأبدت امتعاضها من الفوضى والفُرُش غير المرتَّبة. وازداد امتعاضُها عندما وصلنا المطبخ ولمحَت نافذته التي لم ننظِّفها مرةً واحدة.

تأمَّلَت أرضية المطبخ التي يغطِّيها كاوتشوك رمادي اللون. وكانت بقع الزيت واضحةً أسفل موقد البوتاجاز.

رفعَت أصابعها إلى شفتَيها قائلة: في بيتي يمكنكَ أن تأكل مباشرةً من فوق أرضية المطبخ.

سألتُها ماذا تُحبين أن تشربي، فاختارت الشاي.

صحتُ على فخري: شاي أم بيرة؟

اختارَ الشاي. عاونَتني في إعداده وحملناه إلى غرفة المعيشة.

لمحَت البيك أب فقالت: أي موسيقى عندك؟

قلتُ: عربية. هناك أيضًا بيتهوفن وباخ ودفورجاك.

قلبَت شفتَها: لا أغاني ألمانية؟

– للأسف لأ.

خاطبَني فخري بالعربية: هل سمعتَ عن المسرحية الجديدة في دمشق؟ مسرحية غريبة داخلها مسرحيةٌ أخرى وطنية تُشيد بالمقاومة. ثم يقف المتفرِّجون — الممثِّلون — ينفون الأحداث الواردة في المسرحية الأم، ويصفون كيف صدرَت إليهم الأوامر بمغادرة قُراهم. ثم تظهر الشرطة لتقبضَ عليهم جميعًا.
امتعضَت كارين من عدم مشاركتها في الحديث، ونهضَت واقفةً طالبة أن تذهب إلى الحمَّام. أشرتُ لها إلى مكانه، وقلتُ ﻟ فخري بعد انصرافها: ستُصدَم من مستوى نظافته. قل لي: هل هناك بغاءٌ رسمي في ألمانيا الديمقراطية؟

قال: محرَّم قطعيًّا. كل امرأة لا بد أن تكون ملتحقة بدراسة أو عمل. وتتعرَّض للملاحقة القضائية في غير ذلك. لكن القانون يتضمَّن صيغةً للمرأة التي تُباشِر علاقاتٍ جنسية أكثر من المألوف. لا بد أن تُسجِّل نفسها لدى الشرطة وتعرض نفسها على الطبيب بشكلٍ دوري.

أشرتُ بيدي إلى الحمام: هل تُعطيها شيئًا؟

قال: هديةً صغيرة. شكولاتة أو جوربًا من برلين الغربية أو من الإنترشوب.
عادت كارين في هذه اللحظة، وقبل أن تجلس قال لي بالألمانية: تدخلان أنتما أولًا.

لم أفهم. قال: سأنام معها بعدك. لا أظُنكَ ستتأخر.

تقدَّمتُها إلى غرفتي. دخلنا وأغلقتُ الباب. ثم أسدلتُ ستارة النافذة. وأضأتُ مصباح القراءة الضعيف.

وقفتُ مرتبكًا. وأعطتني ظهرها وبدأت تخلع ملابسها. بلوفر صوفي خفيف وتحته مباشرة قميصٌ بحمالات من النايلون الأبيض، ثم سوتيان أبيض أيضًا، نزعَته مُعرِّيةً ثديَين صغيرَين متباعدَين على شكل الكمثرى. كانت تفعل ذلك ببساطة دون خجل. جلسَت على حافة الفِراش لتخلع الكولون، ثم جاء دور الكيلوت فجذبَتْه إلى أسفل كاشفةً عن شعر عانة ذهبي اللون.

استلقت على الفِراش فخلعتُ ملابسي ورقدتُ فوقها. أغمضَت عينَيها واسترخت. قبَّلتُ شفتَيها الرفيعتَين لكنها ظلَّت مغمضةَ العينَين، وظلَّت شفتاها على جفافهما.

لم أجد صعوبة في ولوجها، لكن الأمور تعقَّدت بعد ذلك.

كانت رفيعةً مثلي. والنتيجة أن عظامنا كانت تصطدم ببعضها بصورةٍ غير مريحة. جرَّبتُ عدة أوضاعٍ دون جدوى. وأخيرًا مللتُ فتحركتُ بسرعة من أجل الانتهاء. ولأول مرة في حياتي استعصى عليَّ الأمر.

بدا الأمر كأن قضيبي تجمَّد على حالته المنتصبة رافضًا تغييرها. أما هي فبدت غارقة في عالم آخر كأنها غير موجودة أو تحلُم.

انفصلتُ عنها أخيرًا وأنا ما زلتُ منتصبًا. ووقفتُ حائرًا، ثم قلتُ: يكفي هذا.

ارتديتُ ملابسي وخرجتُ إلى الصالة وغرفة المعيشة وفوجئتُ بها خالية. وبالمثل كان الحمَّام، وأدركت أن فخري انصرف.

عُدتُ إلى غرفتي فوجدتُها قد ارتدَت ملابسها.

قلتُ: فخري انصرف.

لم تعلِّق.

سألتُها: تُحبين أن تشربي شيئًا؟

قالت: لا. يجب أن أنصرف.

داريتُ انتصابي الذي لم يتلاشَ. قلتُ: أنا متعبٌ، ولن أستطيع مرافقتكِ إلى الأوبان.

قالت: لا بأس. ومدَّت فمها إليَّ.

قبَّلتُها فابتسمَت، وقالت: خذ تليفوني، واتصل بي عندما تريد أن نلتقي.

سجَّلتُ الرقم على ورقة، ثم صحبتُها إلى الباب.

قالت: أريد أن أزور الإنترشوب. خذني معك عندما تذهب.

قلتُ: أكيد.

أغلقتُ الباب خلفها، وأسرعتُ إلى الحمَّام.

٧

ناولَتني الممرضة كأسًا فارغة، وأشارت إلى حجرةٍ جانبية وهي تداري ابتسامةً خفيفة: أعطنا عيِّنة.

حملتُ الكأس وولجتُ الحجرة وأغلقتُ بابها خلفي. كانت ضيِّقة، زحمَتْها أكياس الضمادات والقطن والملاءات، وثلاجة ودواليب زجاجية بها قوارير وكئوسٌ فارغة مختلفة الأحجام.

جلستُ فوق مقعدٍ معدني وتأمَّلتُ الكأس الفارغة في يدي، ثم قمتُ وفكَكتُ بنطلوني وأنزلتُه.

كانت الغرفة باردة، بلا تدفئة. وتبدَّت لي صعوبة المهمة التي أنا مُقدِم عليها.

استعرضتُ صور بنات الوكالة وسيقانَهن العارية في الميني جوب الضيقة. وعرجتُ على إنجمار. ثم استبعدتُهن جميعًا عندما لم أوفَّق مع إحداهن. وكُلِّلَت جهودي بالنجاح عندما تذكَّرتُ آخر مرة مع لبنى.

كانت في فستانٍ أخضر بلا خصرٍ من قماشٍ خشن، وعندما نزعَته وجدتُها عاريةً تحته. تحسَّستُ جسمها بأطراف أصابعي. قالت: مع من فعلتَ ذلك؟ فكَّرتُ أني لم أفعل ذلك من قبلُ مطلقًا. نزعتُ ملابسي والتصقتُ بها فتأوَّهَت. ضغطتُها إليَّ وحرَّكتُ جسمي حركةً مروحية. قبَّلتُها وشممتُ رائحتها. فهمسَت بكلماتٍ غير مفهومة. ولجتُها وتحرَّكتُ حتى أوشكتُ أن أتلاشى فتوقَّفتُ. انفصلتُ عنها وقمتُ وأشعلتُ النور وقلتُ إني أُريد أن أراها. فوضعَت يدَها على مُنفرجها. جلستُ بين ساقَيها وراقبتُ نفسي وأنا أتحرَّك داخلها بينما يداي تتحسَّسان ثديَيها. قلتُ: أحبُّكِ. قالت: هي فقط هذه اللحظة وأنت داخلي. شعرتُ أني سأنتهي وبدأتُ في القذف وهي لم تأتِ بعدُ. واصلتُ الحركة ثم شرعَت تأتي. قالت: تأخَّرتُ عليك. وأغرقَت وجهي بقبلاتٍ سريعة متلاحقة.

نجحَت هذه الذكرى في تحقيق المراد. وحملتُ الكأس بمحتوياتها الثمينة إلى الممرِّضة.

قالت: يمكنك أن تنتظر هنا أو تأتي بعد ساعة.

فضَّلتُ الخروج إلى الهواء الطلق. تمشَّيتُ طويلًا في شارع كارل-ليبكنخت ثم جلستُ في مقهى، وعندما اكتملَت الساعة عُدتُ أدراجي لعيادة الطبيب.

استقبلنَي في غرفةٍ واسعة عالية السقف، من آثار ما قبل الحرب. وحفلَت الجدران بالخرائط الملوَّنة للجسم البشري والجهاز التناسلي للرجل والمرأة. وأمام دولابٍ زجاجي يضم عيِّناتٍ من الأدوية جلس الطبيب الذي بدا أيضًا من مخلَّفات الحرب؛ نحيلًا، أبيض الشعر، في حوالي السبعين، ذا وجهٍ جامد التعابير.

بادرَني في صوتٍ جاف: هر خلواني، هل تستخدم الواقي الذكري؟

أجبتُ: أبدًا. لا أحبه.

تطلَّع إلى ورقةٍ أمامه ثم قال: ليس عندك شيء.

– لكني أتألم إذا ما حدَث انتصاب، ثم هناك دائمًا آثار دماءٍ في المني.

هزَّ رأسه: التحليل سلبي تمامًا. ربما تكونُ بعض الشعيرات الدموية قد تمزَّقت.

واصلتُ: كما أني شكوتُ قبل ذلك من انتصابٍ دائم.

ظهرَت في عينيه نظرةٌ حِرتُ في تفسيرها. شماتة أم حسد؟

قال: هذا شكلٌ من أشكال العنَّة. على العموم يا هر خلواني، هناك ميكروبٌ معين لا يظهر في التحاليل بسهولة. لا بد من تكرار التحليل إذا أردنا اكتشافه.

قلتُ في نفسي: لا وحياة أهلك.

سطَّر شيئًا على ورقة وهو يقول: كتبتُ لك مضادًّا حيويًّا من باب الاحتراس. إذا استمرَّت الأعراض تعالَ.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤