الفصل السادس

مكانة فرانسيس بيكون

أخيرًا ظهر رجلٌ قديرٌ … بيكون، الذي اختاره ملكٌ حكيمٌ واختارته الطبيعةُ، اختاراه على قوانين الاثنين قاضيَ قضاة، فعبَرَ البرِّيَّة الماحلة، ووقف على التخوم الحقيقية للأرض الموعودة العظيمة، رآها وأرانا إياها.

أبراهام كولي
لا يختلف اثنان في أن بيكون هو واحدٌ من أمراء البيان في كل العصور، يتبين ذلك في كل ما كَتَب، وبخاصة في «المقالات» Essays، وفي «الأورجانون الجديد»، وقد تسنَّمَ قمةَ النثر الإنجليزي (واللاتيني) مثلما تَسَنَّمَ شكسبير قمَّة الشِّعر، وقد بلغ من روعة البيان مبلغًا أغرى البعض بأن ينسب إليه أعمال شكسبير المسرحية،١ وتلك إشاعةٌ تعكس حقيقةً بقدْر ما تعكس كِذبة: حقيقة أن لغة بيكون لا تقل بلاغةً وروعةً واقتدارًا عن لغة شكسبير، وقد ترك لنا بيكون إرثًا كبيرًا من المأثورات وجوامع الكَلِم، وهو القائل: «المعرفة قوة»، «ليس الإنسانُ إلا ما يَعرِف»، «لا يمكننا أن نحكم الطبيعة إلا بإطاعتها»، «الصمت فضيلة الحمقَى»، «الفرصة تخلق اللص»، «الوجه الجميل توصيةٌ صامتة»، «مَنْ أشبَعَ غيره منه رخُص»، «انتقاءُ الوقت اقتصادٌ في الوقت»، «المال أجمل خادم وأقبح سيد»، «الأمل إفطارٌ جيد وعشاءٌ رديء» … إلخ.
بَرَعَ بيكون في التصوير البلاغي وفي الاستعارة الحية براعةً قلَّما نجد لها نظيرًا في تاريخ الكتابة، انظر على سبيل المثال إلى هذه الصورة البيانية الدالة:
  • «المنطق — الذي وصل للإنقاذ متأخرًا وسُقِطَ في يده — يسهم في تثبيت الأخطاء لا في كشف الحقيقة.»

  • «إنه يلوي بالتجربة حتى تلائم أفكارَه، ويجرُّها كما يُجَر أسيرٌ في موكب.»

  • «مِن هذا المَزجِ غير الصحي لا تنبثق فقط فلسفةٌ وهميةٌ، بل ودينٌ هرطقيٌّ.»

  • «الزمنُ يجلب لنا ما هو خفيفٌ منتفخ، ويُغرِق ما هو ثقيلٌ صلب.»

  • «إن للزمن فَيافيه وقِفارَه مثلما لِأصقاعِ الأرض.»

  • «ولا عجب أنَّ تَقَدُّم الفلسفة الطبيعية قد أُوقِفَ منذ اختُطِفَ الدين — أكبر قوة مؤثِّرة في عقل البشر — بواسطة جهل البعض وحماستهم الهوجاء، وحُمِلَ على أن ينضم إلى العدو.»

  • «إن أسرار الطبيعة تكشف عن نفسها تحت مُشاكَساتِ الفن أسرعَ مما تكشف إذا تُرِكَت لشأنها.»

  • «ينبغي ألا نزوِّد الفهْمَ البشري بأجنحة، بل بأثقال مُدَلاة حتى نعقِلَه عن الوثوب والطيران.»

  • «الكشوف الجديدة يجب أن تُؤخَذ من نور الطبيعة، لا أن تُسترَد من غياهب القِدَم.»

  • «فصلُ المواد يجب ألا يُجرى بالنار بل بالعقل … علينا باختصار أن ننتقل من فولكان إلى منيرفا …»

وتتميَّز استعارات بيكون بالخصب والغزارة، ويكفي أن يتأمَّل المرء في استعارات مثل: «أوهام القبيلة»، «أوهام الكهف»، «أوهام السوق»، «أوهام المسرح»، «صيد بان»، «كرات أتالنتا»، «دار سليمان»، «أطلنطا الجديدة» … إلخ، وكذلك الأسماء التي يطلقها على «الشواهد المُميَّزة» مثل: شواهد الشفق، الصولجان، المصباح، البوابة، المسطرة، الطلاق، المضمار، السِّحر، جرعات الطبيعة … إلخ، يكفي أن يتأمَّلها المرء ويدرك كفايتها الدلالية لكي يُسَلِّم لبيكون بخصوبة الخيال وعمق الرؤية وجلال الفكر؛ ذلك أن الاستعارة الحية — كما يقول بول ريكور — ليست زينةً وليست زخرفًا يمكن أن يقوم القولُ بدونه وتتم الدلالة بمعزلٍ عنه. إن تدمير المعنى الحَرفي في الاستعارة يتيح لمعنًى جديدٍ أن يظهر، وبنفس الطريقة تتبدَّل العمليةُ الإشاريةُ في الجملة الحَرفية وتحُل محلَّها إشارةٌ ثانيةٌ هي التي تجيء بها الاستعارة، وقد يبدو أن الاستعارة لا تفعل أكثر من تحطيم العملية الإشارية؛ غير أن هذا في الظاهر فقط، فالاستعارة المبدِعة الحية تخلق إشارةً جديدةً تتيح لنا أن نصف العالم أو جزءًا من العالم كان متمنعًا على الوصف المباشر أو الحَرفي؛ فالاستعارة وسيلة سيمانتية (دلالية) للإمساك بقطاعات من الواقع ومن خبايا النفس لا يطالها التعبيرُ الحَرفي ولا يملك منفذًا إليها. بوسع الاستعارة أن تقبض على مستوياتٍ عديدةٍ للمعنى في وقتٍ واحد، وتربط المعنى المجرَّد بالمعنى الحسي البدائي المشحون بالعاطفة والانفعال، وتَعقِد بينهما وصلًا مُثريًا وتكامُلًا صحيًّا، والاستعارة إذ تهيب بالخيال الصُّوَري فهي تدعم «الذاكرة البعيدة» وتنمِّي الإنتاج اللفظي، وتحفِز الفهمَ التكاملي، والاستعارة إذ تجلبُ كل ملحقات المشبَّه به وتلصقها بالمشبَّه فهي تتيح كمًّا معلوماتيًّا كبيرًا بمبذولٍ لفظيٍّ صغير، وهي بهذا الاقتصاد الذهني تجعل الفكر أبعدَ مرمًى وأكثرَ طموحًا. لقد عَرَض بيكون في كتابه الأسبق «نهوض المعرفة» لأوهام العقل، ولكنه لم يُجمِلها في استعاراتٍ حية إلا في «الأورجانون الجديد»، وهذه الاستعارات الحية (أوهام القبيلة، الكهف، السوق، المسرح) هي التي عاشت في ذاكرة الأجيال بفضل سطوة الاستعارة ومزاياها السيمانتية التي ألمحنا إليها.

حظيَ بيكون بإطراء الكثيرين من أعلام زمنه والقريبين من زمنه: ديكارت، جاسندي، روبرت هوك، روبرت بويل … إلخ، أمَّا ليبنتز فقد رفع بيكون فوق كل منزلة، وقال: إنه حتى عبقريةٌ عظيمةٌ مثل ديكارت لتَخِرُّ زاحفةً على الأرض إذا قُورنت ببيكون من حيث اتساع النطاق الفلسفي والرؤية الرفيعة.

وحظي بيكون أيضًا بتمجيدٍ من معظم مفكري عصر التنوير اللاحق — أمثال الموسوعيَّيْن الفرنسيَّيْن دالمبرت وديدرو وغيرهما — الذين اعتبروه أبا العهد الحديث، ومجَّدوا اسمه في الغلاف الأمامي ﻟ «الموسوعة»، لقد أهدوا «الموسوعة» إلى فرانسيس بيكون، وقال ديدرو: إننا إذا انتهينا من وضعها بنجاح نكون مَدينين بالكثير لبيكون الذي وضع خطة معجمٍ عالميٍّ عن العلوم والفنون في وقتٍ خلا من الفنون والعلوم، لقد كتب هذا العبقري الفذ عن الأشياء التي ينبغي تعلُّمها في وقتٍ تَعَذَّر فيه وضعُ تاريخ للأشياء المعروفة، وأطلق دالمبرت على بيكون اسم «أعظم وأبلغ وأوسع الفلاسفة».

ومثلما أهدى الموسوعيون «الإنسيكلوبيديا» الفرنسية إلى بيكون، أهدى إيمانويل كانْت كتابه الأكبر «نقد العقل الخالص» إلى بيكون، معتبرًا إياه المعماري الأوَّل للحداثة.

وربما يكون أكمل وصف وأصدقه أتى من عصر التنوير عن إنجاز بيكون ومنزلته في التاريخ هو مقال فولتير في «رسائل عن الإنجليز»، الذي يُمَجِّد فيه بيكون ويسميه أبا الفلسفة التجريبية، وينتقل إلى تقييم مواهبه الأدبية ويَعدُّه كاتبًا رائعًا وتنويريًّا وألمعيًّا (وإن أخذ عليه انجرافه الكثير إلى المُحَسِّنات).

وأمَّا الأنثروبولوجي لورن إيسلي Loren Eiseley فيُسَمِّي بيكون «الرجل الذي يَرَى خلال الزمن»، ويصوِّره كبطل ثقافي بروميثي. إنه المبتكِر العظيم لفكرة العلم كمشروعٍ شعبيٍّ ومبحثٍ عمليٍّ في خدمة الإنسانية.٢
لم يَسلَم بيكون رغم ذلك — شأنه شأن كل الرءوس الكبيرة في التاريخ — من سهام النقد اللاذع؛ فهذا باروخ سبينوزا — القريب منه زمنيًّا — يرفض عمل بيكون جملةً وتفصيلًا، وبخاصة نظرياته الاستقرائية، بل ينكر أن الثورة الفلسفية العظيمة التي قادها بيكون وأيَّدها مناصروه؛ ينكر أنها حدثت على الإطلاق! وأمَّا هيجل في كتابه «محاضرات في تاريخ الفلسفة»، فيغبط بيكون على حنكته الدنيوية ودهائه العقلي، ولكن يَعُدُّه في النهاية شخصًا فاسد الشخصية ومجرَّد «ناحت شعارات». إن بيكون في رأيه فيلسوفٌ متواضع الذهن، تعاليمه تلائم مستخدَمي الحكومة وأصحاب الدكاكين. وأمَّا ألكسندر كواريه فيرى «أن اقتران اسم بيكون بحركة العلم الحديث سخافةٌ لا معنى لها.»٣ ولا نعدم طائفة من الكُتَّاب أمثال تيودور أدورنو، وماكس هوركهايمر، ولويس ممفورد، وكُتَّابًا أحدث مثل جيريمي ريفكين، والكاتبة النسوية الإيكولوجية كارولين ميرشانت؛ يرون بيكون واحدًا من المذنبين الكبار المسئولين عن الإرث العلمي الغربي الدائب في الاستلاب والاستغلال وقهر البيئة.

•••

موقعٌ بين التأليه والشيطنة يحتله بيكون الحقيقي، الذي عاش عصر انتقال، فكان يَنشُد جديدًا بينما قدماه واقفة على رُكامٍ قديمٍ لم يتم زوالُه، فلم يكن له مَحيدٌ عن أن يفكر في إطاره ويتحدَّث بلغته، فكان كما قال عن نفسه «نافخ بوق» يؤذِّن بالمعركة ويُحرِّض عليها وإن لم ينخرط فيها ويَخُض غِمارَها، «لقد جعل من نفسه صوتَ التفاؤل البليغ وشارحَ عصر النهضة، ولا نجد له نظيرًا من الناس أثار الهِمَمَ في غيره من المفكرين، وإن أعماله — رغم قلة مطالعتها الآن — قد حَرَّكت العقولَ التي حركت العالم.»٤ وكم يَصدُق عليه ما قاله أدونيس عن جبران خليل جبران: «… قيمتُه ليست فيما قاله بقدْر ما هي في صوته، في نبرته ومداها … إنه شاعرٌ بصوته أكثر منه بِنتاجه، شاعرٌ بالبُعدِ الذي أشار إليه لا بالمسافة التي قطعها.»٥
د. عادل مصطفى
١  أول مَنْ زعم ذلك هو جيمس ويلموت في أواخر القرن الثامن عشر، وهو قَس إنجليزي من وارويكشاير.
٢  بروميثيوس في الميثولوجيا الإغريقية هو التيتن الذي سرق النار من الآلهة وأعطاها البشر، وقد عُوقِبَ بأن رُبِطَ إلى صخرة وجُعل نَسرٌ عظيمٌ ينهش كبده، ورغم هذا العذاب أبى بروميثيوس الإذعان وبقيَ على تمرُّده، وقد نجا في النهاية على يدي هرقل، وقد ظل بروميثيوس رمزًا للمقاومة الباسلة والمتفردة لكل سلطة.
٣  د. يُمنى طريف الخولي: فلسفة العلم في القرن العشرين، ص٦٦.
٤  ول ديورانت: قصة الفلسفة، ص١٧٩.
٥  أدونيس: مقدمة للشعر العربي، دار العودة، بيروت، الطبعة الرابعة، ١٩٨٣، ص٨٣.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤