مقدمة تاريخية فيمن ولي الخلافة الإسلامية قبل ملوك الدولة العلية العثمانية

الخلفاء الراشدون

انتقلت الخلافة إلى بني عثمان سنة ٩٢٣ هجرية، حين فتح السلطان سليم الأوَّل العثماني مصر، كما تجده مفصلًا في هذا الكتاب. وأول من وليها بعد موت النبي في ١٢ ربيع الأول سنة ١١ من هجرته عليه الصلاة والسلام أبو بكر الصديق — رضي الله عنه — بويع له بالخلافة بعد خُلف طفيف وقع بين الصحابة، وتُوفِّيَ في مساء ليلة الاثنين ٢٢ جمادى الآخرة سنة ١٣ بعد أن عهد بالخلافة بعده لعمر بن الخطاب — رضي الله عنه — وفي أيامه كان ظهور مسيلمة الكذاب الذي ادَّعى النبوة؛ فأرسل إليه من حاربه وقتله، وكذلك ادَّعت سجاح بنت الحارث النبوة، وبقيت على غيها وضلالها إلى خلافة معاوية بن أبي سفيان فأسلمت وحسن إسلامها، وفي خلافته فُتحت مدينة الحيرة بالأمان على الجزية.

وعمر بن الخطاب أول من سُمِّي بأمير المؤمنين، وكان أبو بكر يُخاطَب بخليفة رسول الله، وامتدَّت فتوحات الإسلام في أيامه امتدادًا عظيمًا حتى وصلت جيوشهم إلى بلاد المغرب وإلى حدود الهند شرقًا وإلى بلاد سيبيريا شمالًا، ففُتحتْ مصر وبلاد الشام والعراق وإيران وبخارى ومرو، وزالت مملكة الأعجام من الوجود السياسي بعد انهزام يزدجرد آخر ملوك بني ساسان. وفي خلافة سيدنا عمر — رضي الله عنه — دُونت الدواوين، وأنشئ البريد (البوسطة) لنقل المراسلات بكل سرعة، ووضع التاريخ الهجري. وفي ٢٤ ذي الحجة سنة ٢٣ طعنه أبو لؤلؤة بسكين وقت الصلاة، وتوفي — رحمه الله — في يوم السبت آخر ذي الحجة سنة ٢٣، فكانت مدة خلافته عشر سنين هجرية وستة أشهر وثمانية أيام، ودفن في الحجرة الشريفة النبوية.

وبويع بعده عثمان بن عفان — رضي الله عنه — وأشهر ما حدث في خلافته فتح إفريقيَّة (ويعنى بها تونس والجزائر ومراكش)، وغَزْو بلاد الأندلس وجزيرة قبرص، ونَسْخ القرآن الذي جُمع في خلافة أبي بكر، وكان مودوعًا عند السيدة حفصة زوجة النبي ، وإرسال نسخ منه إلى جميع البلاد وحرق ما سواه من النسخ، وبذلك حُفِظ القرآن من التغيير والتبديل إلى يومنا هذا، وسيبقى كذلك إلى آخر الدهر. ثم عَزَلَ عثمان أغلب الولاة وعيَّن بدلهم أقاربه؛ فولى الكوفة الوليد بن عقبة وكان أخاه من أمه، وعزل عمرو بن العاص عن مصر وولاها عبد الله بن أبي السرح العامري، وكان أخا عثمان من الرضاعة، وعزل أبا موسى الأشعري عن البصرة وولاها ابن خاله عبد الله بن عامر؛ فنقم عليه كثير من الناس وأتت المدينةَ وفود من مصر والكوفة والعراق، وبعد مسائل يطول شرحها في هذه المقدمة حصلت فتنة كانت نتيجتها قتل عثمان في داره ليلة ١٨ ذي الحجة سنة ٣٥، فكانت مدة خلافته اثنتيْ عشرة سنة إلا أيامًا قلائل، ودفن مع النبي وعمر — رضي الله عنه — وبعد موته حصلت البيعة لسيدنا علي بن أبي طالب — كرم الله وجهه — وابتدأ الخُلف والانقسام في الإسلام.

وطلبت السيدة عائشة بنت أبي بكر زوجة النبي الأخذ بثأر عثمان، وانضمَّ إليها طلحة والزبير بن العوام، وساروا ومن تبعهم إلى البصرة للاستيلاء عليها؛ فلحقهم عليٌّ، وحصلت بين الفريقين وقعة الجمل المشهورة في نصف جمادى الآخرة سنة ٣٦؛ فانتصر عليٌّ ومن معه وقتل طلحة، وولَّى الزبير ومن بقي معه إلى المدينة، وأرسل عليٌّ السيدة عائشة إلى المدينة مع أخيها محمد بن أبي بكر، وبذلك انتهت الفتنة في هذه الجهة، وجمع عليٌّ جيوشه لمحاربة معاوية بن أبي سفيان والي بلاد الشام؛ لامتناعه عن مبايعته ومناداته بأخذ ثأر عثمان، فحصلت بينهما وقعة صفين الشهيرة في صفر سنة ٣٧، وبعدها اتفق عليٌّ مع معاوية على أن يعيِّن كل منهما حكمًا من طرفه ليفصلا الخلاف، وتهادنا على ذلك، وحررا به عهدًا في ليلة الأربعاء ١٣ صفر سنة ٣٧ بين أبي موسى الأشعري بالنيابة عن علي — كرم الله وجهه — وعمرو بن العاص بن وائل بالنيابة عن معاوية، وأجَّلا القضاء إلى شهر رمضان من هذه السنة بمحَلٍّ يقال له دومة الجندل، وإن لم يجتمعا فيه اجتمعا في السنة التالية بأذرج، فاجتمع أبو موسى وعمرو بن العاص في الموعد ومع كل منهما أربعة أنفس من أصحابه، واتفقا على أن يعزل كل منهم موكله وينتخب المسلمون من يرونه كفؤًا لتولي شئونهم، وعلى هذا الاتفاق قام أبو موسى في الجمع وقال: «قد خلعت عليًّا ومعاوية فاستقبلوا أمركم وولوا عليكم من رأيتموه لهذا الأمر أهلًا.» ثم قام عمرو وقال: «إن هذا قد قال ما سمعتم وخلع صاحبه، وإني أخلع صاحبه كما خلعه وأُثْبِت صاحبي؛ فإنه وليُّ عثمان والطالب بدمه وأحق الناس بمقامه.» فقال أبو موسى: ما لك — لا وفقك الله — غدرت وفجرت؟! وانفض الجمع بعد ذلك، وعاد عمرو ومن معه إلى معاوية، وسلموا عليه بالخلافة، ومن ذلك الحين أخذ أمر عليٍّ في الضعف وأمر معاوية في القوة، فأرسل معاوية عمرو بن العاص في سنة ٣٨ إلى مصر لمحاربة محمد بن أبي بكر المعيَّن عليها من قبل سيدنا علي — كرم الله وجهه — واستخلاصها منه، فأتى إليها وقتل محمد بن سيدنا أبي بكر — ضي الله عنه — وهو أخو السيدة عائشة زوجة النبي وصارت مصر تابعة لمعاوية، ثم بَثَّ سراياه في البلاد التابعة لعليٍّ لإكراه سكانها على مبايعة معاوية.

واستمر الحال على ذلك إلى سنة ٤٠، وفيها اتفق ثلاثة من الخوارج وهم: عبد الرحمن بن ملجم المرادي، وعمرو بن بكر التميمي، والبرك بن عبد الله التميمي على قتل معاوية وعلي وعمرو بن العاص، وتواعدوا على ليلة سبعة عشر رمضان من هذه السنة، ثم سافر كل منهم إلى وجهته؛ فسافر ابن ملجم إلى الكوفة لقتل علي ومعه وردان بن تيم الرباب وشبيب بن أشجع، وسافر البرك إلى دمشق لقتل معاوية، وعمرو بن بكر إلى مصر لقتل عمرو بن العاص. وفي اليوم المتفق عليه وثب ابن ملجم ومن معه على سيدنا علي عند خروجه لصلاة الغداة في صبيحة ليلة الجمعة ١٧ رمضان سنة ٤٠، وضربه شبيب ضربة لم تصبه، ثم ضربه ابن ملجم فأصاب جبهته ومات بعد قليل، وضبط ابن ملجم فقط وفرَّ الآخران.

هذا؛ أما عمرو بن بكر فترصَّد لعمرو بن العاص فلم يخرج للصلاة، وأمر خارجة بن أبي حبيبة صاحب شرطته ليصلي بالناس؛ فوثب عليه عمرو بن بكر وقتله ظانًّا أنه يقتل عمرو بن العاص. وكذلك لم يقتل البرك بن عبد الله معاوية، بل أصابه بجرح غير خطر، وقُتل هؤلاء الخوارج الثلاثة، واختُلف في المحل الذي دفن فيه عليٌّ — كرم الله وجهه — لكن المجمع عليه والذي ذكره ابن الأثير وأبو الفداء أنه دفن في النجف ببلاد العراق، وهذا هو الأصح.

دولة بني أمية

وبعد قتل الإمام علي — رضي الله عنه — رابع الخلفاء الراشدين بويع لابنه الحسن في العراق والحجاز وباقي البلاد الإسلامية ما عدا الشام ومصر، ثم جمع معاوية جيشًا لمحاربته، واستعد الحسن كذلك للقتال، لكن ثارت الفتنة بين عساكره وتسحب كثير ممن كان حوله. فلما رأى ذلك كتب إلى معاوية أنه مستعدٌّ للتنازل إليه عن حقه في الخلافة بشرط أن يعطيه ما في بيت مال الكوفة وخراج دارا يجرد من فارس، وأن لا يسب عليًّا، فأجابه معاوية على الشرطين الأوَّلين ولم يقبل الثالث؛ فطلب منه الحسن أن لا يسبه وهو يسمع، فأجابه ولم يفِ بذلك فيما بعد.

وبعد ذلك تنازل الحسن لمعاوية، وكتب إلى قيس بن سعد قائد جيوشه بأن يبايع معاوية، ودخل معاوية الكوفة، وصارت له الخلافة على جميع الأقاليم بدون مشارك أو منازع، واستمرت الخلافة في عائلته لسنة ١٣٢ ثم انتقلت لبني العباس. أما سيدنا الحسن فعاد إلى المدينة وأقام بها إلى أن توفي في ربيع الأوَّل سنة ٤٩، وكانت ولادته في السنة الثالثة من الهجرة، وقيل إنه مات مسمومًا. وأهمُّ ما حصل في أيام معاوية حصار مدينة القسطنطينية في سنة ٤٨، وتأسيس عقبة بن نافع مدينة القيروان بتونس الخضراء سنة ٥٠، ودخول سعد بن عثمان بن عفان مدينة سمرقند في سنة ٥٦. وفي هذه السنة بايع معاوية الناس لابنه يزيد بولاية العهد؛ فامتنع الحسين بن عليِّ بن أبي طالب وتبعه بعضهم.

ولما بويع ليزيد بعد موت أبيه أصرَّ الحسين على امتناعه وسار من المدينة إلى الكوفة لمحاربة يزيد، فالتقى بعسكره في الموضع المعروف بكربلاء، وقُتل الحسين في يوم ١٠ محرم سنة ٦١، وبقي عبد الله بن الزبير بمكة ممتنعًا عن مبايعة يزيد، ثم اتفق أهل المدينة في سنة ٦٤ على خلع يزيد فخلعوه وطردوا نائبه، فأرسل يزيد مسلم بن عقبة فحاربهم ودخل المدينة عنوةً وأباحها لعسكره ثلاثة أيام يفعلون بأهلها ما يشاءون من قتل ونهب وهتك، وبعد أن أكره سكان المدينة على البيعة ليزيد قصد مكة لمحاربة عبد الله بين الزبير فمات قبل أن يصلها وأقام على الجيش مكانه الحصين بن نمير السكوني، فحاصرها ورمى البيت الحرام بالمنجنيق وأحرقه بالنار، ثم أتاه خبر موت يزيد فعاد إلى الشام. وقيل إنه عرض على الزبير أن يبايعه فامتنع الزبير، وتوفي يزيد ليلة ١٤ ربيع الأوَّل سنة ٦٤ وعمره ثمان وثلاثون سنة، وكانت أمه ميسون بنت مجدل الكلبية، وبويع بعده لابنه معاوية بن يزيد بن معاوية، ولم تستمرَّ خلافته إلا بضعة أشهر ثم خلع نفسه واعتكف في منزله حتى مات وسنه إحدى وعشرون سنة، وجمع الناس قبل الانعكاف وأوصاهم بأن يختاروا للخلافة من أحبوا.

هذا؛ ولما مات يزيد بن معاوية حصلت البيعة بمكة لعبد الله بن الزبير، وبايعه كذلك أهل العراق واليمن، وذلك في مدَّة خلافة معاوية بن يزيد. ولما مات معاوية الثاني بايع أهل الشام مروان بن الحكم، ثم بايعه أهل مصر، وتزوَّج مروان بأم خالد زوجة يزيد بن معاوية حتى يأمن جانب خالد؛ فأتاه الشرُّ من حيث كان يريد النفع وقتلته أم خالد يوم الثالث من رمضان سنة ٦٥ وعمره ثلاث وستون سنة.

وبويع للخلافة بعده لابنه عبد الملك، وفي خلافته خرج المختار بن عبيد الثقفي لأخذ ثأر الحسين، وقتل شمر بن ذي الجوشن وعمر بن سعد بن أبي وقاص الذي كان قائد الجيش الذي حارب الحسين، وقتل ابن عمر المذكور واسمه حفص، ثم حارب عبد الله بن زياد الذي كان واليًا على البصرة من قِبل معاوية بن أبي سفيان وأمر بقتل الحسين، فانتقم الله للحسين. وفي سنة ٦٧ أرسل عبد الله بن الزبير أخاه مصعبًا لمحاربة المختار، فحاربه وقتله في رمضان، وفي سنة ٧١ جهز عبد الملك بن مروان جيشًا وقصد العراق لمحاربة مصعب بن الزبير؛ فانتصر عليه وقتله في جمادى الآخرة فبايعه أهل العراقين. ثم أرسل الحجاج بن يوسف الثقفي إلى مكة في جيش جرار لمحاربة عبد الله بن الزبير، فحاصره الحجاج بمكة، ورمى البيت الحرام بالمنجنيق، وأبى ابن الزبير أن يسلم نفسه، واستمر في الدفاع عن مكة حتى قُتل في جمادى الآخرة سنة ٧٣، فبايع أهل الحجاز واليمن عبد الملك بن مروان، وبذلك استتبَّ الأمر لبني أمية، وتوحدت الخلافة الإسلامية بعد الانقسام، ثم توفي عبد الملك في منتصف شوَّال سنة ٨٦ وعمره ستون سنة.

وبويع بعده لابنه الوليد، وهو سادس خلفاء بني أمية، ومن أهمِّ أعماله أنه عيَّن ابن عمه عمر بن عبد العزيز على المدينة، وأمره بهدم مسجد رسول الله وبيوت أزواجه وإدخال البيوت في المسجد لتوسيعه، وشرع في بناء الجامع الأموي بدمشق، وفي أيامه فتحت بلاد الأندلس غربًا وما وراء نهر جيحون (سرداريا) شرقًا، ودخل محمد بن قاسم الثقفي بلاد الهند، وتوفي الوليد بن عبد الملك في جمادى الآخرة سنة ٩٦ وعمره اثنتان وأربعون سنة ونصف.

وبويع بعده لأخيه سليمان سابع الخلفاء الأمويين؛ فاتخذ عمر بن عبد العزيز وزيرًا له، وفي أيامه أرسل أخاه مسلمة لمحاصرة القسطنطينية؛ فأقام الجيوش حولها حتى أتاه خبر موت سليمان، وفي سنة ٩٨ فتح يزيد بن المهلب — والي خراسان — بلاد جرجان وطبرستان.

وفي صفر سنة ٩٩ توفي سليمان بن عبد الملك، وبويع بعده لابن عمه عمر بن عبد العزيز ثامن خلفاء بني أمية، ومن أعماله التي يمدح عليها إبطاله لسبِّ سيدنا عليِّ بن أبي طالب — كرم الله وجهه — على المنابر يوم الجمعة، وإبدال السب بقراءة قوله تعالى: إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ. وتوفي يوم الجمعة ٢٤ رجب سنة ١٠١، وكان حسن السيرة متبعًا في أعماله وأوامره خطة الخلفاء الراشدين.

وبويع بعده يزيد بن عبد الملك بن مروان بعهد من سليمان بن عبد الملك إليه بعد عمر بن عبد العزيز، وهو تاسع الأمويين. وأهمُّ ما حصل في أيامه إقماعه الثورة التي أهاجها يزيد بن المهلب ليستقلَّ بملك خراسان، أرسل إليه أخاه مسلمة فحاربه وقتله هو وجميع من كان معه من آل المهلب.

ثم توفي يزيد بن عبد الملك في ٢٥ شعبان سنة ١٠٥، وحصلت البيعة بعده لأخيه هشام بن عبد الملك عاشر خلفاء بني أمية. وفي أيامه غزت قوَّاد جيوشه بلاد فرغانة وبلاد الترك النازلين فيما وراء خوارزم، وفي سنة ١٢٢ بايع بعض أهل الكوفة زيد بن عليِّ بن الحسن بن علي بن أبي طالب بالخلافة، فحاربه يوسف بن عمر الثقفي — والي الكوفة من قبل هشام — وقتله؛ فانتهت الفتنة.

ثم توفي هشام في ٩ ربيع الأول سنة ١٢٥ وعمره خمس وخمسون سنة، وهو الذي بنى مدينة الرصافة، وبويع بعده الوليد بن يزيد بن عبد الملك بن مروان، وهو حادي عشرهم، ولم يلتفت لأمور المسلمين وشئونهم، بل انكبَّ على اللهو والشرب وسماع الغناء ومنادمة العشاق؛ ولذلك هاج عليه بنو أعمامه وقرابته فقتلوه في ٢٧ جمادى الآخرة سنة ١٢٦، وكان عمره اثنتين وأربعين سنة، وبلغت مدَّة خلافته سنة واحدة وثلاثة أشهر.

ثم بايعوا يزيد بن الوليد بن عبد الملك، ولم تطل مدَّته، بل توفي في ٢٠ ذي الحجة من هذه السنة، وكانت مدته كلها حروب داخلية وفتن مستمرة، وبعده بويع أخوه إبراهيم قاسم فلم يستتبَّ له الأمر، بل ظهر مروان بن محمد بن مروان بن الحكم ودعا الناس لمبايعته؛ فبايعه أهل قنسرين وحمص وغيرهما، ثم سار في جيش عظيم إلى دمشق لمحاربة إبراهيم بن الوليد فهزمه، ثم اختفى إبراهيم، ودخل مروان إلى دمشق وبايعه الناس، وصار هو الخليفة دون إبراهيم، وتم له ذلك في النصف الأوَّل من سنة ١٢٧، ولم تُعلم مدة خلافة إبراهيم بن الوليد؛ فقيل أربعة أشهر، وقيل أقل من ذلك، ثم استأمن إبراهيم فظهر وبايعه.

ظهور دولة العباسيين

ومروان هذا هو رابع عشر خلفاء بني أمية وآخرهم؛ إذ ظهرت في أيامه الدعوة للعباسيين في خراسان بمسعى أبي مسلم الخراساني؛ وذلك أنه كان يوجد بالأقطار الإسلامية أحزاب قوية ضدَّ بني أمية، فمنها حزب يقول بأحقية أولاد سيدنا علي بن أبي طالب بالخلافة، وآخر يقول باستحقاق أولاد العباس عم النبي ، وظهر حزب العلويين أكثر من مرة في مدة الأمويين فعاد بالخيبة لظهوره في أوائل خلافتهم وقوة شوكتهم، فقُتل الحسين سنة ٦١، وقُتل زيد بن علي بن الحسين سنة ١٢٢، وفي هاتين الواقعتين قتل كثير من أولادهم وأقاربهم حتى ضعف حزبهم وتفرق من حولهم.

أما بنو العباس فاستعملوا التؤدة والصبر، ولم يفاجئوا الأمويين في بدء ظهورهم، بل بثوا أعوانهم في جميع الجهات لاستمالة الناس إلى بيعتهم، ووجهوا همتهم إلى جهات الشرق — مثل العراق وإيران وخراسان وما جاورها — لبعدها عن مركز خلافة الأمويين وعدم تعلقهم بهم تعلُّقَ أهل الشام ومصر. وثابروا على هذه الخطة إلى أن ضعف حال الأمويين وتضعضع شأنهم ووقع الشقاق والانقسام بينهم حتى تولى الخلافة ثلاثة في سنة واحدة، وهم: الوليد بن يزيد بن عبد الملك، ويزيد بن الوليد بن عبد الملك، وأخوه إبراهيم.

ولم يُقعد العباسيين عن هذا الثبات موت القائم بهذه الدعوة وهو محمد بن علي بن عبد الله بن عباس، بل قام بها بعده ولده إبراهيم الإمام. ولما شاع خبر مساعيهم قبض مروان على إبراهيم المذكور وحبسه في حران حتى مات، وكان ذلك في سنة ١٢٩؛ فقام بالدعوة أخوه أبو العباس الذي لقب فيما بعدُ بالسفاح، وفيها أظهر أبو مسلم الخراساني الدعوة للعباسيين ببلاد خراسان، وحارب نصر بن سيار العامل عليها من قبل الأمويين، وانتصر عليه ودخل مدينة مرو.

وفي صفر سنة ١٣٢ أتى أبو العباس إلى الكوفة، واختفى بها إلى يوم الجمعة ١٢ ربيع الأوَّل، وفيه خرج إلى الجامع وبايعه الناس بالخلافة، ثم أتى مروان لمحاربته فهُزم بالزاب، وتبعه عساكر العباسيين إلى أن قُتل في بوصير بمصر في أواخر ذي الحجة سنة ١٣٢، وبذلك تم انتقال الخلافة إلى بني العباس، ولم يجعلوا مقر ملكهم مدينة دمشق، بل أقام أبو العباس بالكوفة، وكذلك أخوه أبو جعفر المنصور إلى أن بنى مدينة بغداد، وذلك لعدم ثقتهم بأهل الشام لميلهم إلى بني أمية، لكن انتقال مقر الخلافة إلى العراق كان سببًا في فصم عرى الروابط بين الخلافة والولايات البعيدة مثل الأندلس وإفريقية (تونس والجزائر) فانفصلت تدريجيًّا كما ترى.

ولم يهدأ بال العباس من جهة الأمويين إلا بعد أن قتل منهم نحو تسعين رجلًا، قتلوا ضربًا بالعمد، ثم بسطت عليهم الأنطاع ومدت الموائد وأكل الناس وهم يسمعون أنينهم حتى ماتوا، وأمر بنبش قبورهم وإحراق عظامهم، ولم يفلت من بني أمية على ما قيل إلا من هرب إلى الأندلس، وكان من ضمنهم عبد الرحمن بن معاوية بن هشام بن عبد الملك بن مروان بن الحكم فاستولى على الأندلس، وبقيت في عقبه لسنة ٤٢٠.

ولقب العباس بالسفاح لكثرة سفكه الدماء، ومات في ذي الحجة سنة ١٣٦ ودفن في الأنبار، وقد عهد بالخلافة بعده إلى أخيه أبي جعفر المنصور، ثم من بعده إلى عيسى ابن أخيه موسى، وفي سنة ١٣٧ بايع عم المنصور — وهو عبد الله بن علي — لنفسه، فأرسل إليه المنصور أبا مسلم الخراساني فهزمه وهرب عبد الله وبقي مختفيًا إلى سنة ١٣٩ حتى ظفر به المنصور وقتله. وفي شعبان سنة ١٣٧ قتل المنصور أبا مسلم الخراساني — مع أنه سبب حصول العباسيين على الخلافة بسعيه واجتهاده — قتله لخوفه من امتداد نفوذه والخروج عليه واختلاس الخلافة لنفسه.

وفي سنة ١٤١ حصلت فتنة الراوندية الذين قالوا بألوهية أبي جعفر المنصور، فحاربهم حتى قتلهم عن آخرهم. وفي سنة ١٤٥ بايع أهل المدينة محمد بن عبد الله بن الحسن بن الحسين — الملقب بالنفس الزكية — بالخلافة، فأرسل إليه أبو جعفر عيسى بن موسى فحاربه وقتله مع كثير من أهل بيته في رمضان من السنة المذكورة. وفي أثناء ذلك كان أخوه إبراهيم قد قصد البصرة وطلب البيعة من أهلها لأخيه محمد النفس الزكية فبايعوه، ثم أرسل من استولى على الأهواز وواسط، ولما أتاه خبر قتل أخيه سار بجموعه قاصدًا الكوفة، فلاقاه عيسى بن موسى وكان قد عاد من المدينة بعد موت محمد فحاربه حتى قتله. وبذلك انتهت هذه الفتنة وأَمِن المنصور جانب العلويين. وفي أثناء هذه الفتن تُوفي ببغداد الإمام الأعظم أبو حنيفة النعمان — رضي الله عنه — ثم تفرَّغ المنصور لبناء مدينة بغداد وانتقل إليها، وتوفي في ٦ ذي الحجة سنة ١٥٨ وعمره ثلاث وستون سنة، ولم يتبع ما أوصى به العباس، بل أوصى بالخلافة لابنه محمد المهدي، وخلع عيسى ابن أخيه موسى من ولاية العهد.

ومن أهم أعمال محمد المهدي تنظيمه البريد، وتعميمه بين المدائن العظيمة، وغزو الروم مرتين بمعرفة ابنه هارون الرشيد. وفي أيامه ظهر بعض الزنادقة في حلب؛ فجمعهم المهدي وقتلهم عن آخرهم ومزَّق كتبهم، واستمرت خلافته عشر سنين وشهرًا، وتوفي في ٢٢ محرم سنة ١٦٩ بماسندان وعمره ٤٣ سنة، فأخذ ولده هارون البيعة لأخيه موسى الهادي الذي كان يحارب بجرجان، وفي خلافة موسى الهادي بن محمد المهدي ظهر الحسين بن علي بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب، وادعى الخلافة بالمدينة؛ فاجتمع عليه كثير وبايعوه، فحاربه العباسيون وقتلوه مع كثير من رفقائه وأهل بيته في ذي الحجة سنة ١٦٩، وفرَّ من القتل إدريس بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب إلى بلاد المغرب، وهو مؤسس عائلة الإدريسيين بمراكش. وتوفي موسى الهادي في ١٤ ربيع الأول سنة ١٧٠ وعمره أربعة وعشرون سنة، فتولى بعده أخوه شقيقه هارون الرشيد وعمره ٢٢ سنة، وكانت ولادته بالري في ذي الحجة سنة ١٤٨، وأمهما الخيزران، وهي أم ولد.

وهارون الرشيد هو خامس خلفاء بني العباس، وفي مدته بلغت دولتهم أعلى درجات الكمال، وفي أيامه ظهر يحيى بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب وبايعه خلق كثير في سنة ١٧٦، فأرسل إليه هارون الرشيد الفضل بن يحيى البرمكي في جيش عظيم، ففضل الفضل المسالمة على الحرب، وكاتب يحيى وأمَّنه على نفسه، فطلب أن يكتب له الرشيد بالأمان بخطه ففعل، وعلى ذلك حضر يحيى إلى بغداد فأكرمه الرشيد ثم سجنه حتى مات. وفي هذه السنة حصلت بدمشق فتنة عظيمة بين المضرية واليمنية قتل فيها كثيرون، وفي سنة ١٧٩ تُوفي الإمام مالك — رضي الله عنه — وهو ثاني الأئمة الأربعة.

وفي سنة ١٨٤ ولِّيَ إبراهيم بن الأغلب على إفريقية، وبقيت له في ذريته إلى أن ظهر الفاطميون واستقلوا بملك إفريقية ومصر كما تراه في آخر هذه المقدمة.

وفي سنة ١٨٧ تحول الرشيد عن البرامكة لمَّا رأى امتداد نفوذهم وزيادة أموالهم وأملاكهم وميل الناس إليهم وكثرة عطاياهم؛ فخشي من أن تطمح أنظارهم إلى ما فوق ذلك أو يقصدوه وعائلته بسوء طمعًا في تولِّي الخلافة، فلهذه الأسباب أصرَّ على الإيقاع بهم، فقَتَل جعفر بن يحيى في الأنبار عند عودة الرشيد من الحج في أول صفر سنة ١٨٧، وأرسل رأسه وجثته إلى بغداد فنصبت بها أيامًا. ثم أرسل من أحاط بيحيى البرمكي وولده الفضل وصادرهم في جميع أموالهم من منقول وثابت. وبذلك انقضت وزارة البرامكة بعد أن بقيت فيهم سبع عشرة سنة، وأما ما يذكره بعض المؤرخين ويجعلونه سببًا للإيقاع بالبرامكة فغير صحيح.

وفي سنة ١٩٠ توفي يحيى بن خالد بن برمك بالحبس، وكذلك توفي بالحبس ولده الفضل في محرم سنة ١٩٣، وفي ٣ جمادى الثانية من هذه السنة توفي الخليفة هارون الرشيد في مدينة طوس أثناء سفره، فصلى عليه ابنه صالح وأخذ البيعة لأخيه محمد الأمين وأرسل يخبره بذلك. وكان الرشيد قد عهد بالخلافة بعده لولده الأمين ثم للمأمون ثم لابنه القاسم ولقَّبه بالمؤتمن، لكن جعل أمر استمراره في ولاية العهد وعزله في يد المأمون، إن شاء استخلفه وإن شاء عهد بالخلافة لغيره، فلم يتبع الأمين هذا العهد، بل أبطل ذكر أخيه المأمون في الخطبة في سنة ١٩٥، وأمر بأن يخطب لابنه موسى، ولقبه الناطق بالحق، وكان المأمون بخراسان، فلما بلغه خبر هذا التغيير لم يقبله، واجتمع حوله وبايعه كل من تحول عن الأمين، لانهماكه في الملاذِّ واحتجابه عن الناس وصرفه أوقاته فيما لا يعود على الخلافة بخير، فجهز الأمين جيشًا لمحاربة أخيه المأمون، واستمرت هذه الفتنة إلى سنة ١٩٧ﻫ، وفيها تغلبت جيوش المأمون على جيوش الأمين، وحوصر الأمين في بغداد مدة، وقُتل أخيرًا في ٢٥ محرم سنة ١٩٨ وعمره ثمان وعشرون سنة، وبويع بالخلافة لأخيه المأمون وهو سابع بني العباس.

وكان من أعماله خلع أخيه القاسم من ولاية العهد بما له من الحق بمقتضى عهد أبيه الرشيد، وأقام مكانه في سنة ٢١٠ عليَّ الرضا بن موسى الكاظم بن جعفر الصادق بن محمد الباقر بن زين العابدين بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، وخلع شعار بني العباس — وهو السواد — ولبس الخضرة — شعار العلويين — وأمر جنده بذلك، فنقم عليه العباسيون بإخراجهم عن الخلافة، وتآمروا على عزله، وكان بمرو فعزله أهل بغداد وبايعوا إبراهيم بن المهدي العباسي في محرم سنة ٢٠٢، ولما بلغ المأمون خبر خروج أهل بغداد عليه سار إليها من مرو ومعه عليُّ الرضا، وفي صفر سنة ٢٠٣ توفي علي الرضا فجأة بالطريق بمدينة طوس فصلى عليه المأمون ودفنه بجوار قبر والده الرشيد، ثم أرسل إلى أهل بغداد يخبرهم بموته وبعودته إلى ما عهد به أبوه؛ فتفرَّق الناس من حول إبراهيم بن المهدي ودخلها عسكر المأمون، لكنهم لم يظفروا به، بل اختفى وبقي مختفيًا إلى أن ضبط في ربيع الآخر سنة ٢١٠ وعفا عنه المأمون، وتوفي في رمضان سنة ٢٢٤.

وفي أوائل سنة ٢٠٤ عاد المأمون وانقطعت الفتن وترك الخضرة وعاد إلى لبس السواد شعار بني العباس، وعادت الأحوال إلى ما كانت عليه. وفي هذه السنة توفي بمصر الإمام محمد بن إدريس الملقب بالشافعي ثالث الأئمة الأربعة. وفي سنة ٢١٢ قال المأمون بخلق القرآن، وجبر الناس على القول بذلك واضطهد كل من خالفه، وهو الذي أمر محمد بن آلوسي بن شاكر وأخويه أحمد والحسين بتحقيق طول خط نصف النهار لمعرفة مقدار محيط الكرة الأرضية بالضبط، فقاموا بهذه المأمورية العلمية خير قيام، وقاسوا أحد خطوط الطول في سهل سنجار، ثم أعادوا المقاس ثانيًا في وطأة الكوفة، وهذا دليل على سبق العرب للإفرنج في معرفة كروية الأرض.

وفي أيامه تُرجمت أغلب كتب اليونان العلمية والفلسفية، وبلغ التمدن أعلى الدرجات. وفي سنة ٢١٦ زار مصر، وتوفي في ١٩ رجب سنة ٢١٨ بعد أن أوصى لأخيه أبي إسحاق محمد المعتصم بالله، ودفن بطرسوس وسِنُّه سبع وأربعون سنة، ومدة خلافته عشرون سنة ونصف تقريبًا، فبايع الناس المعتصم إلا بعض الجنود فبايعوا العباس بن المأمون، فاستدعى المعتصم العباس فبايعه، وخرج للجند ونصحهم بمبايعة المعتصم فبايعوه، وهي أول مرة تداخل الجند في أمر الخلافة.

ومن أعمال المعتصم بناء مدينة سامراء، وفتح عمورية التي كان يقدسها الروم. وفي أثناء عودته من عمورية بلغه أن العباس بن المأمون يَكيد له وينوي قتله؛ فأمر بسجنه، فسجن ومات بعد قليل، قيل إن الموكَّل بحراسته منع عنه الماء حتى مات، وأرسل المعتصم أحد قواد جيوشه واسمه الإفشين خيذر لمحاربة بابك المجوسي الذي استولى على جبال طبرستان مدة عشرين سنة تقريبًا، فحاربه وقبض عليه وأحضره أمام المعتصم فقتله، وفي سنة ٢٢٦ غضب المعتصم على الإفشين فقتله.

وفي ١٨ ربيع الأول سنة ٢٢٧ توفي المعتصم وعمره ثمانٍ وأربعون سنة تقريبًا، وهو أول من أضيف اسم الله تعالى إلى لقبه، وبويع بعده ابنه الواثق بالله هارون. ولما تولى الواثق حصلت فتنة بدمشق؛ فأرسل إليها جيشًا أعاد السكينة إليها، وكان له وزير تركي اسمه أشناس أعطى إليه الواثق علامات الإمارة وهي تاج ووشاحين؛ ومن ثم ابتدأ وفود قبائل الترك إلى بلاد العراق ودخولهم في الوظائف العالية خصوصًا الجندية؛ الأمر الذي أوجب تدخلهم في أمور الخلافة واستيلاءهم على السلطة الفعلية، وتوفي أشناس التركي سنة ٢٢٩، ومما أوجب ضعف دولة العباسيين جعلهم بلاد خراسان وراثية تقريبًا في عائلة طاهر بن عبد الله.

وتوفي الواثق في ٢٤ ذي الحجة سنة ٢٣٢، واختلف فيمن يعيَّن بعده، فقال فريق بمبايعة ابنه محمد، وقال آخر بعدم صلاحيته لصغر سنه. وأخيرًا اتفق على مبايعة المتوكل جعفر بن المعتصم، وهو عاشر خلفاء بني العباس، وفي مدته توفي الإمام أحمد بن حنبل أحد الأئمة الأربعة في سنة ٢٤١. وشرع المتوكل في نقل مركز حكومته إلى دمشق ونقل إليها دواوينه، ولم يقم بها إلا شهرين في سنة ٢٤١، ثم عاد إلى سامراء، وقُتل المتوكل سنة ٢٤٧؛ قتله بعض مماليكه باتفاق مع ابنه المنتصر وبغا الصغير الشرابي، وقيل: إنه قُتل في مجلس شرابه، وقتل معه وزيره الفتح بن خاقان في ليلة الأربعاء ٣ شوال سنة ٢٤٧، ومدة خلافته خمس عشرة سنة تقريبًا وعمره نحو أربعين سنة، ثم حصلت البيعة لابنه المنتصر لكن لم تطل مدته، بل توفي في يوم الأحد ٤ ربيع الأول سنة ٢٤٨ وعمره خمس وعشرون سنة ونصف، ومدة خلافته ستة شهور.

وبويع بعده أحمد المستعين بالله بن محمد المعتصم، ولم يرغب رجال الدولة — خصوصًا الأتراك — في مبايعة أحد أولاد المتوكل، وبذلك ازداد تداخلهم في انتخاب الخلفاء وعزلهم، بل وقتلهم، حتى صار الأمر بيدهم، وزادت الفتن بين العرب والأتراك في خلافة المستعين، وتأيَّد نفوذ عائلة طاهر بن عبد الله بخراسان. ولما توفي طاهر بن عبد الله بن طاهر بن عبد الله في رجب سنة ٢٤٨ عيَّن المستعين ولده محمد بن طاهر، وكذلك لما توفي بغا التركي ولَّى ابنه موسى مكانه؛ فصارت الوظائف وراثية تقريبًا في بعض العائلات الأجنبية.

وفي خلافة المستعين ظهر يعقوب بن الليث الصفار، وتحرك من سجستان قاصدًا هرات للاستيلاء عليها، وكذلك ظهر الحسن بن زيد بن محمد بن إسماعيل بن زيد بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب بطبرستان، واستقل بها إلى أن توفي سنة ٢٨٧، وكان يلقب بالداعي إلى الحق، وحكم بعده الناصر للحق الحسن بن علي، وكان يعرف بالأطروش، وتوفي سنة ٣٠٤، وانقرض بموته ملك العلويين بطبرستان.

فكانت الأحوال في غاية الاضطراب مدة حكم المستعين، وكثر الفساد، وسعى كل عامل في الاستقلال بما ولي عليه، وضعفت الحكومة حتى صارت ألعوبة في يد أصحاب الدسائس، وزادت الفتن بين أحزاب الأتراك في سنة ٢٥١ حتى حاصروا المستعين بقصره بسامراء، فهرب منها إلى بغداد، فبايع العصاة المعتز بالله بن المتوكل، وهو أرسل أخاه أبا أحمد طلحة في خمسين ألف تركي لمحاربة المستعين ببغداد، ثم اتفق كبار الدولة على خلع المستعين حسمًا للمشاكل وحقنًا للدماء؛ فخلعوه وأخبروه بذلك، فقبل وبايع المعتز بالله، وخُطب له في بغداد يوم الجمعة ٤ محرم سنة ٢٥٢، ثم قُتل المستعين بأمر المعتز بعد أن مُنع من السفر إلى مكة وحبس.

وفي مدة المعتز حصلت جملة فتن بين العسكر الأتراك فقتلوا قائدهم «وصيف» سنة ٢٥٣، ولم يعاقبهم الخليفة، بل أعطى كل ما كان له إلى بغا الشرابي، ثم أمر بقتله سنة ٢٥٤. وفي هذه السنة ولي أحمد بن طولون على مصر فاستقلَّ بها مع حفظ السيادة الاسمية للعباسيين، إلى أن توفي سنة ٢٧٠، وخلفه ابنه خمارويه الملقب بأبي الجيوش. وفي سنة ٢٥٥ استولى يعقوب الصفار على كرمان ثم على بلاد فارس، ودخل شيراز، وكتب للخليفة يعترف له بالسيادة، وأرسل إليه هدايا عظيمة، فاكتفى الخليفة، وفَقَد بذلك جميع أملاكه الواقعة شرق بغداد تقريبًا، كما فقد مصر، وكما استقلَّ الأمويون بالأندلس والإدريسيون بالمغرب الأقصى، بحيث صارت الأقاليم التابعة للعباسيين لا تزيد عن ربع ما كان قبلهم لدولة بني أمية.

وفي ٢٦ رجب سنة ٢٥٥ ثار عليه الأتراك من الجند لعدم مقدرته على أداء ما يطلبونه من الأموال؛ فأهانوه وأشهدوا على خلعه، وبايعوا المهتدي محمد بن الواثق، وهو رابع عشر العباسيين. وفي ٢ شعبان من السنة المذكورة مات المعتز جوعًا بمنع الطعام والشراب عنه. وفي مدته ابتدأ ظهور شخص اسمه علي بن محمد، وادعى الانتساب للعلويين، وجمع قبائل الزنوج النازلين بالقرب من البصرة، وصار يعثو هو ورجاله في الأرض إلى أن قُتل سنة ٢٧٠. ولم تطل خلافة المهتدي، بل حصلت حروب بينه وبين الأتراك بسبب قتله أحد قوادهم المدعو بايكيال، وظفروا به أخيرًا وقتلوه في ١٨ رجب سنة ٢٥٦، وأخرجوا أبا العباس أحمد بن المتوكل من السجن وبايعوه، ولُقِّب المعتمد على الله، وهو خامس عشرهم، وفي مدته توفي الإمام البخاري في ليلة عيد الفطر سنة ٢٥٦، والإمام مسلم في سنة ٢٦١. واستفحل أمر يعقوب الصفار فاستولى على بلخ وكابل والأهواز، ثم توفي في ١٩ شوال سنة ٢٦٥، وخلفه أخوه عمرو، وكتب للخليفة بالطاعة؛ فولاه جميع البلاد التي كانت تحت يد أخيه، وعظم شأن الحسن بن زيد العلوي بطبرستان، واستولى على جرجان، ثم توفي سنة ٢٧٠، وتولى أخوه محمد بن زيد، وعصى العرب في حمص حاكمهم التركي وقتلوه، واستولى الزنوج على البصرة وقتلوا كثيرًا من أهلها، ودخلوا مدينة واسط، ووصلت طلائعهم إلى بغداد نفسها، فازدادت الخلافة ضعفًا على ضعف وتخللت الفوضى جميع أجزائها، واستبدَّ القوَّاد والحكام لعدم وجود رادع أو مراقب.

بنو طولون بمصر

وفي خلافته أشهر كذلك أحمد بن طولون استقلاله، ومنع ذكر اسم الخليفة في الخطبة، وسار إلى بلاد الشام، وفتح أكثر مدائنها، وعظمت سطوته، ثم مات سنة ٢٧٠، وخلفه ابنه خمارويه. وكان أبو أحمد طلحة الموفق أخو الخليفة المعتمد هو قائد جنوده وصاحب الكلمة في البلاد حتى ضيَّق على الخليفة في المصرف، وتوفي في ٢٢ صفر سنة ٢٧٨، وحيث كان بويع له بولاية العهد بعد المفوض جعفر بن المعتمد اجتمع القواد وبايعوا أبا العباس المعتضد بولاية العهد مكان أبيه الموفق، ثم عزل المعتمد ابنه جعفر قبل وفاته، وأوصى بولاية العهد لأبي العباس المعتضد.

وفي آخر خلافة المعتمد ظهر أصحاب مذهب القرامطة بالكوفة.١ وتوفي في ١٩ رجب سنة ٢٧٩ بعد أن حكم ثلاثًا وعشرين سنة. وبويع لأبي العباس أحمد المعتضد بالله ابن الموفق بن المتوكل، وهو سادس عشرهم، وفي مدته زادت شوكة بني سامان المستقلين ببلاد ما وراء النهر مع اعترافهم بالسيادة للخليفة، وسار إسماعيل الساماني إلى خراسان لمحاربة عمرو أخي يعقوب الصفار؛ فهزمه وقبض عليه وحبسه حتى مات، وانقرض بموته مُلك الصفار. ثم حارب الساماني محمد بن زيد العلوي صاحب طبرستان؛ فهزمه وجرح العلوي جراحًا بليغة مات بسببها سنة ٢٨٧، وخلفه ابنه الناصر للحق.

وفي أيام المعتضد قُتل خمارويه بن طولون صاحب مصر سنة ٢٨٢، وخلفه ابنه جيش الملقب بالأفضل، ثم خلعه الجند وعيَّنوا أخاه هارون، وضعف أمر بني طولون وقارب الزوال. وفي ٢٢ ربيع الآخر سنة ٢٨٩ توفي المعتضد، وكانت خلافته عشر سنوات تقريبًا وعمره سبعًا وأربعين سنة. وخلفه ابنه المكتفي بالله، وهو سابع عشر خلفاء العباسيين، وفي أيامه افتتح العباسيون مصر ثانيًا من هارون بن خمارويه، وهزمت القرامطة عدة مرات، وتوفي إسماعيل الساماني، وتولى بعده ابنه أبو النصر أحمد فأقره الخليفة، ثم توفي في ١٢ ذي القعدة سنة ٢٩٥، فكانت خلافته ست سنوات ونصفًا وعمره ثلاثًا وثلاثين سنة. وبويع بعده أخوه أبو الفضل جعفر المقتدر بالله بن المعتضد وعمره ثلاث عشرة سنة، وهو الثامن عشر، وامتدت مدة خلافته إلى سنة ٣٢٠؛ أي بلغت خمسًا وعشرين سنة، إلا أنه خلع في خلالها مرتين؛ الأولى في سنة ٢٩٦ خلعه القضاة والقواد لصغر سنه، وبايعوا عبد الله بن المعتز، ولقبوه الراضي بالله، لكنه لم يلبث إلا ليلة واحدة، ثم قُتل أثناء الفتن والحروب التي قامت بين أتباع المقتدر وأتباعه وأعيد المقتدر ثانيًا، والثانية في سنة ٣١٧ خلعه الجند والقواد بسبب تسليمه أمور الخلافة للنساء والخدام واشتغاله بما لا يفيد الأمة؛ فحاصروه في داره وحملوه وأولاده ووالدته إلى دار مؤنس الخادم أحد القواد الذي كانت له اليد الطولى في هذه الفتن، وأكرهوه على أن يخلع نفسه ففعل، وبايعوا أخاه محمد بن المعتضد، ولقبوه القاهر بالله، ثم أعيد بعد ثلاثة أيام من خلعه، وأمَّن أخاه القاهر بالله، وبقي حيًّا إلى أن خلفه بعد قتله سنة ٣٢٠.

ولم يعدَّ المؤرخون عبد الله بن المعتز في عداد الخلفاء؛ لأنه لم يحكم إلا ليلة واحدة، لكن اعتبرته تاسع عشر خلفائهم بما أنه حصلت مبايعته وتولى الحكم. وفي أيام المقتدر حصلت عدة حروب بين جنوده وبين القرامطة كان النصر فيها غالبًا لجنود الخليفة.

ظهور الدولة الفاطمية بتونس

وابتدأت دولة الفاطميين بتونس في سنة ٢٩٦، وأولهم المهدي أبو محمد عبيد الله. وكان القائم بالدعوة له أبو عبد الله الشيعي، فاستقلَّ بإفريقية (تونس والجزائر) بعد أن انتزعها من بني الأغلب الذين حكموا مدة مائة واثنتيْ عشرة سنة، أولها سنة ١٨٤ التي ولَّى فيها هارون الرشيد إبراهيم بن الأغلب على إفريقية، ثم فتح المهدي سجلماسة وتاهرت. وبفتح الأولى — أي سجلماسة — انقرض ملك بني مدرار بعد أن استمرَّ مائة وثلاثين سنة، كما انتهى ملك بني رستم بفتح تاهرت بعد أن دام مائة وستين سنة، وبنى مدينة جديدة على البحر وسماها المهدية، ونقل مركز حكومته بعد أن حصَّنها. ولما استتب له الحال في إفريقية حوَّل عبد الله أنظاره إلى مصر وأرسل إليها جملة حملات في أيام المقتدر عادت بالفشل والخيبة.

وفي سنة ٣١٧ تعدى القرامطة على الحجاج بالإيذاء الشديد ونقلوا الحجر الأسود من مكانه، وقتلوا الحجاج في البيت الحرام. وفي سنة ٣٢٠ حصلت وحشة بين الخليفة ومؤنس الخادم، فسار مؤنس إلى الموصل فصادره الخليفة في جميع أملاكه، ثم جمع مؤنس جيشًا جرارًا وقصد بغداد وحارب جند الخليفة وانتصر عليه، وقتل الخليفة في المعركة في ٢٨ شوال سنة ٣٢٠، وبويع بعده أخوه محمد القاهر بالله ابن المعتضد الذي بويع وخلع أول مرة في سنة ٣١٧، وهو العشرون من بني العباس.

دولة بني بويه

وفي أيام القاهر كان ابتداء دولة بني بويه ببلاد فارس واستيلاء عماد الدولة بن بويه على شيراز، ولم تَطُلْ مدة القاهر، بل تألَّب عليه الجند بمسعى الوزير ابن مقلة بسبب قتله مؤنسًا الخادم وبعض القواد الأتراك، فقتلوا الخليفة في ٥ جمادى الأولى سنة ٣٢٢، وأخرجوا أبا العباس أحمد بن المقتدر وبايعوه بالخلافة في ٦ منه، ولقبوه الراضي بالله. وهو حادي عشريهم.

الإخشيديون بمصر

وفي خلافته ولي الإخشيد مصر سنة ٣٢٣ فاستقلَّ بها واستطال إلى بعض جهات الشام. وكذلك منع ابن رابق — عامل واسط والبصرة — إرسال الخراج، ومنع البريدي إرساله من الأهواز؛ فضاق الحال ببغداد، ثم عاد ابن رابق إلى طاعة الخليفة فعيَّنه أمير الأمراء وهو حارب البريدي وهزمه. وبعد ذلك بقليل ثار بجكم القائد وقصد بغداد وهزم ابن رابق الذي خرج لمحاربته. واستولى بجكم على بغداد فعينه الخليفة أمير الأمراء وصار هو الحاكم فعلًا. ولما هرب ابن رابق قصد الشام واستولى على دمشق وحمص، وقصد مصر فحاربه الإخشيد وصده عنها.

ثم توفي الراضي بالله في منتصف ربيع الأول سنة ٣٢٩، ولم يبايع المتقي بالله إبراهيم بن المقتدر إلا في ٢٠ منه بعد أن أبلغ بجكم الذي كان بواسط موت الخليفة واستصوابه مبايعة المتقي، فكان الحاكم الحقيقي هو أمير الأمراء؛ يعزل ويولي مَنْ يُرِيد من الخلفاء، واقتصرت الخلافة مع كونها اسمية فقط على بغداد وبعض البلاد المجاورة لها. وفي أوائل حكمه قُتل بجكم أثناء الصيد، فقصد ابن البريدي بغداد واستولى عليها، وقلَّده الخليفة إمارة الأمراء، فهاجت عليه الأهالي لظلمه وأخرجوه من المدينة؛ فعين الخليفة كورتكين أحد القواد. ولما بلغ خبر موت بجكم إلى ابن رابق بالشام قصد بغداد وحارب كورتكين فهرب، وقُلد هو إمارة الأمراء، وفي سنة ٣٣٠ قصد ابن البريدي بغداد ثانيًا فهرب الخليفة وابن رابق إلى الموصل، فاستقبلهما صاحبها ناصر الدولة بن حمدان وأكرمهما، ثم قتل ابن رابق فعيَّنه الخليفة أميرًا للأمراء وعاد معه إلى بغداد فهرب ابن البريدي. وفي سنة ٣٣٢ ثار قائد تركي اسمه تورون فقلده الخليفة الإمارة في رمضان، وبعد مدة ضجر من معاملته وخرج من بغداد قاصدًا الموصل ليحتمي ببني حمدان؛ فكاتبه تورون وأغلظ له الأيمان وجدد العهود والمواثيق فعاد الخليفة، وفي أثناء عودته قبض عليه تورون الخائن وسمل عينيه وحبسه. ولما دخل بغداد بايع المستكفي بالله أبا القاسم عبد الله بن المكتفي في صفر سنة ٣٣٣، وهو الثالث والعشرون من بني العباس.

وفي خلافته استولى سيف الدولة بن حمدان — صاحب الموصل — على مدينتيْ حلب وحمص وقصد دمشق، فرده عنها الإخشيد صاحب مصر. وفي محرم سنة ٣٣٤ توفي تورون — أمير الأمراء — فانتخب الجند أحد القواد المدعو ابن شيرزاد، فأقره الخليفة مكانه. ولما بلغ خبر موته معز الدولة بن بويه بالأهواز قصد بغداد للاستيلاء على إمارة الأمراء، فهرب ابن شيرزاد ولم تبلغ مدته إلا ثلاثة أشهر وأيامًا. ثم دخل معز الدولة بن بويه إلى بغداد في جمادى الأولى سنة ٣٣٤، وقلده الخليفة الإمارة، وأمر أن يضرب اسمه على العملة. وبعد ذلك بشهر عزل الخليفة بدسيسة ابن بويه في ٢٢ جمادى الآخرة سنة ٣٣٤، ثم سملت عيناه وبقي مسجونًا إلى أن مات سنة ٣٣٨، وبويع بعده المطيع لله بن المقتدر، وفي مدته توفي الإخشيد سنة ٣٣٤، وولي الأمر بعده ابنه الأمير محمود. ولصغر سنه استولى على الأمر كافور السوداني أحد خدم الإخشيد، ثم توفي سنة ٣٤٩، فأقام كافور أخاه عليَّ بن الإخشيد فتوفي سنة ٣٥٥، واستقلَّ كافور بمصر وملحقاتها من بلاد الشام إلى أن توفي في السنة التالية، وبعد وفاته اختلف فيمن يعين، وبقي الخلاف مدة، ثم اتفق على تنصيب أبي الفوارس أحمد بن علي بن الإخشيد، وخطب له في جمادى الأولى سنة ٣٥٧، وفي خلافة المطيع توفي عبد الرحمن الناصر الأموي بالأندلس في رمضان سنة ٣٥٠ وعمره ثلاث وسبعون سنة بعد أن حكم خمسين سنة ونصفًا، وهو أول من تلقَّب بالأندلس بأمير المؤمنين، وكانوا قبلًا يلقَّبون بالأمراء وأبناء الخلفاء، واستمرَّ الحال كذلك إلى سنة ٣٢٧، وضعف العباسيون ببغداد، وظهر الفاطميون في تونس، وادعوا الخلافة، ولُقِّبوا بأمراء المؤمنين؛ فأمر عبد الرحمن الأموي بأن يلقب بالناصر لدين الله ويخطب له بأمير المؤمنين. وفي سنة ٣٥٦ توفي معز الدولة بن بويه، وكانت إمارته اثنتين وعشرين سنة. وقبل وفاته عهد بالإمارة إلى ابنه بختيار ولقبه عز الدولة، فأقره الخليفة أميرًا للأمراء، وفي إمارة معز الدولة حصلت عدة حروب بينه وبين ابن المقداد وغيره من الأمراء، خصوصًا سيف الدولة بن حمدان — صاحب الموصل — مما يطول شرحه، ويدل على امتداد الفوضى إلى جميع أجزاء الخلافة حتى اجترأت الروم وتعدت الحدود مرارًا وسبت ونهبت وقتلت في بلاد الإسلام.

الفاطميون بمصر

وفي سنة ٣٥٨ أرسل المعز لدين الله الفاطمي جوهر القائد الصقلي الأصل بجيش كثيف لفتح مصر لما بلغه خبر الاختلاف الذي وقع بها عقب موت كافور الإخشيدي، فوصل إليها جوهر وفتحها وخطب فيها للمعز في شوال من هذه السنة، ثم سافر جوهر إلى بلاد الشام ففتح البلاد التي كانت تابعة للإخشيديين، وقطعت الخطبة للعباسيين، ثم عاد إلى مصر وشرع في بناء مدينة القاهرة. وفي شوال سنة ٣٦١ سار المعز من تونس إلى مصر فوصل الإسكندرية في شعبان سنة ٣٦٢، ودخل القاهرة في ١٥ رمضان سنة ٣٦٢ وجعلها مقر خلافته، واستعمل بعض عماله على إفريقية وصقلية.

وفي سنة ٣٦٣ سافر بختيار عز الدولة بن بويه إلى الأهواز، فثار عليه أحد قواد الأتراك — واسمه سبكتكين — ونهب داره، وجَبَرَ المطيع لله على أن يخلع نفسه، فاستقال في منتصف ذي القعدة سنة ٣٦٣، ومدة خلافته تسع وعشرون سنة ونصف. وبويع بعده لابنه عبد الكريم أبي بكر، ولقب الطائع لله، وهو الخامس والعشرون من بني العباس. وفي خلافته حصلت عدة حروب داخلية لا أهمية لذكرها؛ لأن الفتن والحروب وتغلب الولاة على بعض واستقلالهم بولاياتهم صار أمرًا عاديًّا حتى يمكننا القول بأن جميع الولايات صارت مستقلة تتوارثها بعض العائلات، وتنتقل من عائلة إلى أخرى بدون علم الخليفة. وفي خلافته ملك سبكتكين — أحد قواد السامانيين — مدينة غزنة، ثم سار إلى بلاد الهند واستولى على بعض بلادها. وسبكتكين هذا هو غير سبكتكين التركي الذي كان ببغداد ومرَّ ذكره.

هذا؛ ولما ثار سبكتكين على بختيار واستولى على الإمارة كاتب بختيار الأمير عضد الدولة ابن عمه ركن الدولة المستقل ببلاد فارس يستنجد به ضد الأتراك وقائدهم سبكتكين، فأتى عضد الدولة ومعه جيش جرار وحارب الأتراك؛ ففر سبكتكين ودخل عضد الدولة بغداد وعزل عز الدولة بختيار وقبض عليه، وصار هو أمير الأمراء. ولما بلغ خبر القبض على بختيار إلى ولده المرزبان بالبصرة كتب إلى ركن الدولة، فغضب هذا على ولده عضد الدولة وألزمه بأن يعيد الملك إلى بختيار، فأذعن إلى أمر أبيه وأخرجه من سجنه وأعاده إلى ما كان عليه وقفل هو راجعًا إلى بلاد فارس. وفي سنة ٣٦٦ توفي ركن الدولة بن بويه واستخلف على ممالكه ولده عضد الدولة، وعهد لولده فخر الدولة على همدان وأعمالها، ولولده مؤيد الدولة على أصفهان وأعمالها، وجعلهما تحت حكم أخيهما عضد الدولة. وفي السنة التالية سار عضد الدولة إلى بغداد ثانيًا للانتقام من بختيار عز الدولة الذي استعان عليه بأبيه فحاربه مدة ثم أسره وقتله، وصار هو الحاكم ببغداد وخلع عليه الخليفة. وفي سنة ٣٦٩ قصد عضد الدولة بلاد أخيه فخر الدولة فملكها وهرب أخوه والتجأ إلى شمس المعالي صاحب جرجان وطبرستان، فتبعه عضد الدولة وملك بلاده، ثم غزا بلاد الأكراد وصارت دولته في اتساع ونمو إلى أن توفي في ٨ شوال سنه ٣٧٢، وبعد وفاته ولي بغداد ولده كاليجار المرزبان، ولقبوه صمصام الدولة، وكان له ولد آخر اسمه شرف الدولة كان بكرمان، فلما بلغه خبر موت أبيه سار إلى فارس وملكها قبل أخيه صمصام الدولة واستقل بها. ثم في سنة ٣٧٦ قصد شرف الدولة بغداد وحارب أخاه وأسره وأرسله مسجونًا إلى بلاد فارس، واستبدَّ هو بالأمر إلى أن مات في أول جمادى الآخرة سنة ٣٧٩، فقُلِّدَ الإمارةَ بعده أخ له اسمه أبو النصر بهاء الدولة. وكثرت في هذه السنة الفتن بين الأتراك ورجال بني بويه.

وفي سنة ٣٨١ حصلت وحشة بين الأمير والخليفة، فقبض الأمير على الطائع لله وعزله وولَّى مكانه القادر بالله أبا العباس أحمد بن الأمير إسحاق بن المقتدر بالله، وهو السادس والعشرون من بني العباس، واستمر في الخلافة لسنة ٤٢٢، وفي هذه المدة الطويلة انقرضت دولة آل سامان أصحاب ما وراء النهر، وملك بلادهم يمين الدولة محمود الغزنوي بن سبكتكين، وذلك في سنة ٣٨٩، وكان ابتداء ملكهم سنة ٢٦١، فتكون مدة دولتهم مائة وثماني وعشرين سنة. وكذلك انقرضت دولة بني أمية بالأندلس، انتهى ملكهم أولًا سنة ٤٠٧ بعزل سليمان المستظهر بالله بن الحكم بن سليمان بن عبد الرحمن الناصر، ثم أعيدت لهم الخلافة سنة ٤١٤، وانتخب أهل قرطبة عبد الرحمن بن هشام بن عبد الجبار بن عبد الرحمن الناصر في رمضان، وقتلوه في ذي القعدة وبايعوا محمدًا المستكفي، ثم عزلوه وبايعوا هشام بن محمد بن عبد الملك بن عبد الرحمن الناصر، ثم عزلوه في سنة ٤٢٢، وبه انتهت دولتهم نهائيًّا، وكان ابتداؤها سنة ١٣٩، فتكون مدتهم بالأندلس مائتين وثلاثًا وثمانين سنة.

ثم امتدت أملاك محمود الغزنوي وفتح وغزا كثيرًا من بلاد الهند، وتوفي في ربيع الآخر سنة ٤٢١، وملك بعده ابنه مسعود، وكانت السلطة في أثناء خلافة القادر في قبضة بهاء الدولة بن عضد الدولة بن بويه إلى أن مات في جمادى الآخرة سنة ٤٠٣ وعمره ست وستون سنة، ومدة ملكه أربع وعشرون سنة. وولي الأمر بعده ابنه سلطان الدولة. وفي أواخر سنة ٤١١ ثار الجند على سلطان الدولة فترك بغداد واستخلف أخاه شرف الدولة، فاتحد أخوه مع الجند وحارب سلطان الدولة وانتصر عليه وصار صاحب الأمر في العراق، وخطب له بعد أخيه في أوائل محرم سنة ٤١٢، واستمرَّ في الإمارة إلى أن توفي في ربيع الأول سنة ٤١٦، وبموته ضعف أمر آل بويه ببغداد وعظم أمر الأتراك، وحصلت فتن كثيرة، وعمت الفوضى جميع أنحائها، واستمر الحال كذلك إلى أن حضر جلال الدولة بن بهاء الدولة إلى البصرة في رمضان سنة ٤١٨، فخرج الخليفة لملاقاته وسلمه قيادة الأمور.

السلجوقيون

وفي ذي الحجة سنة ٤٢٢ توفي القادر بالله وعمره يقرب من سبع وثمانين سنة، وخلافته إحدى وأربعون سنة وشهر، وبويع بعده ابنه أبو جعفر عبد الله بعهد منه، ولُقِّب القائم بأمر الله، وفي خلافته ابتدأت دولة آل سلجوق، وجدُّ هذه العائلة يسمى دقاق من رؤساء قبائل الترك التي كانت تأتي من بلاد كشغر الواقعة في غرب بلاد الصين تباعًا، وولد له سلجوق، ولنجابته قدمه ملك الترك إذ ذاك واسمه يبغو، ثم تركه سلجوق وقصد بلاد الإسلام وأسلم هو وجميع من تبعه من رجال قبيلته، ونزل بجنده بقرب بخارى وأخذ في غزو الكفار من الترك؛ فعظم أمره وكثرت جنوده، وخلَّف من الأولاد أرسلان وميكائيل وموسى، قُتل منهم ميكائيل في الحرب وخلف يبغو وطغرل بك وجغرو بك، ثم حصلت فتن بينهم وبين بغراخان — ملك تركستان في ذاك العهد — أدت إلى سفك الدماء. ولما عظم أمر السلجوقيين خشي محمود الغزنوي من تعديهم على أملاكه فحاربهم وفرَّق قبائلهم بين خراسان وأصفهان، ثم اجتمعوا ثانيًا وحاربوه وانتصروا عليه وعلى ولده مسعود من بعده، واستولوا على خراسان، وخطب لهم على منابرها في سنة ٤٣١. وفي سنة ٤٣٢ انتهز طغرل بك السلجوقي فرص الحروب الداخلية التي وقعت بين مسعود الغزنوي وأخيه محمد وابنه مودود، فاستولى طغرل بك المذكور على جرجان وطبرستان. وفي السنة التالية — أي سنة ٤٣٤ — ملك خوارزم وما حولها. وفي أثناء ظهور ونمو دولة آل سلجوق بهذه الجهات كانت الفوضى عامة في بغداد لقيام الفتن بين جنود آل بويه من الديلم والجيوش التركية، حتى لما توفي جلال الدولة بن بويه في شعبان سنة ٤٣٥ لم يتَّفِق الجند على تعيين خلف له، وبقيت دار السلام بلا حكومة (إن صح تسميتها بهذا الاسم) إلى أن قَبِلَ أبو كاليجار بن سلطان الدولة بن بهاء الدولة الإمارة وأتى إلى بغداد في صفر سنة ٤٣٦. ولم تطل مدة أبي كاليجار، بل توفي في جمادى الأولى سنة ٤٤٠ بكرمان، وتولى بعده ولده الملك الرحيم، وفي مدته وقعت عدة فتن في بغداد بين السنية والشيعة أدت إلى حرق قبور بعض الخلفاء وأمراء بني بويه، وقُتل فيها خلق كثير لعدم إمكان الحكومة قمع الفتن. وفي هذه الأثناء عظم أمر طغرل بك السلجوقي، فاستولى على أصفهان في محرم سنة ٤٤٣، ودخل تبريز سنة ٤٤٦ ثم قصد حلوان ونزل بها سنة ٤٤٧، فراسله قواد الأتراك واستدعوه إلى بغداد باذلين له الطاعة فقبل، وقبل الخليفة، وخُطب لطغرل بك في ٢٢ رمضان من هذه السنة، ثم دخل بغداد بمن أتى معه من جيوشه بعد أن أقسم للخليفة القائم وللملك الرحيم باحترام حقوقهم، لكن لم تلبث جيوشه بالمدينة حتى حصلت فتنة بينهم وبين جنود الملك الرحيم كانت نتيجتها القبض على الملك الرحيم وقواد جيوشه. وبذلك انقضت دولة آل بويه بعد أن استمرَّت مدة ملكهم مائة وثلاث عشرة سنة من تاريخ دخول معز بن بويه بغداد في جمادى الأولى سنة ٣٣٤، وابتدأت دولة آل سلجوق ببغداد. ولتوطيد أقدامهم بها زوج طغرل بك ابنة أخيه إلى الخليفة سنة ٤٤٨، وتزوَّج هو بنت الخليفة في شعبان سنة ٤٥٤.

هذا؛ وفي سنة ٤٥٠ ثار إبراهيم أخو طغرل بك على أخيه فحاربه وقتله، وفي أثناء اشتغاله بمحاربة أخيه ثار بعض الجنود ببغداد تحت قيادة من يدعى البساسيري، فخرج الخليفة منها، وخطب في الجوامع للمستنصر بالله الخليفة الفاطمي، لكن لم تدم هذه الحالة، بل عاد طغرل بك إلى بغداد وأعاد الخليفة إليها وحارب البساسيري حتى قبض عليه وقتله في ٨ ذي الحجة سنة ٤٥١، وفي رجب من هذه السنة توفي داود بن ميكائيل بن سلجوق أخو طغرل بك صاحب خراسان، وتولى مكانه ابنه ألب أرسلان، ثم توفي طغرل بك في ليلة الجمعة ٨ رمضان سنة ٤٥٥ عن غير عقب، وأخلفه ألب أرسلان السالف الذكر، فصار حاكمًا على خراسان والعراق والموصل وأصفهان وتبريز وغيرها من البلاد التي فتحها طغرل بك قبل وفاته. ثم أضاف ألب أرسلان إلى أملاكه بلادًا كثيرة، وأطاعه صاحب جَنْد وبخارى وكذلك أصحاب ديار بكر وحلب، وفتح مدينة الرملة وبيت المقدس، وحاصر دمشق ولم يفتحها، وحارب قطلومش بن أرسلان بن سلجوق لعصيانه عليه.

وقتل في الحرب، فخلفه ولده سليمان الذي أسس دولة سلجوقية بقونية استمرت إلى أن فتحها العثمانيون. واستمرَّ ألب أرسلان مالكًا لجميع هذه الجهات المتسعة إلى أن قتل في ١١ ربيع الآخر سنة ٤٥٦، وولي بعده ابنه ملكشاه، وفي ١٣ شعبان سنة ٤٦٧ تُوُفِّيَ الخليفة القائم بالله، وكانت مدة خلافته خمسًا وأربعين سنة تقريبًا. وبويع عبد الله بن ولده محمد ذخيرة الدين لوفاة ذخيرة الدين قبل أبيه القائم، ولقب عبد الله المقتدي بأمر الله، وهو الثامن والعشرون من خلفاء بني العباس.

وساس ملكشاه الأمور بغاية الحكمة، وفتح البلاد شرقًا وغربًا، وأقام ببغداد مرصدًا فلكيًّا وجامعًا عظيمًا سمي جامع السلطان، وعظم في أيامه أمر الإسلام في الشرق حتى خطب باسمه من بلاد الصين إلى الشام، ومن أقاصي بلاد الإسلام في الشمال إلى بلاد اليمن إلى الجنوب، وتوفي في نصف شوال سنة ٤٨٥.

وبينما كانت هذه الدولة الإسلامية ترتقي في درجات الكمال كانت الدول الإسلامية في الغرب آخذة في الانحطاط؛ فتفرقت بلاد الأندلس طوائف، وملك الإفرنج مدينة طليطلة، وعبر يوسف بن تاشفين من مراكش إلى الأندلس وضم إلى رايته بعض ولاياته، وضعف حال المسلمين بجزيرة صقلية، وتفرَّق أهلها، واستحكم الشقاق بينهم حتى استعانوا على بعضهم بملوك الإفرنج. ولما توفي ملكشاه أخفت زوجته خبر موته إلى أن استحلفت القواد لابنها محمود وعمره أربع سنين وشهور، فأنكر عليها ذلك ابنه الأكبر بركيارق وحارب جنودها، فهزمهم واستقر له الأمر، وخطب له في بغداد يوم الجمعة ١٤ محرم سنة ٤٨٧. وفي يوم السبت ١٥ منه توفي الخليفة المقتدي بأمر الله وعمره ثمان وثلاثون سنة، ومدته نحو عشرين سنة. وبويع بعده ابنه أبو العباس أحمد المستظهر بالله وسنه ست عشرة سنة.

هذا؛ وبعد موت ملكشاه تفرق ملكه ولم يضمَّ شتاته أحد من خلفائه، بل ثارت بينهم الحروب الداخلية التي أدت إلى تجزئتها واستحواذ كل فرد على جزء منها، واستمرار الحروب بين الأمراء السلجوقيين الذين استقلوا ببلاد الشام والموصل والكرد وفارس وغيرها؛ فثار تنش أخو ملكشاه على السلطان بركيارق فقتل في الحرب في صفر سنة ٤٨٨، وبعد وفاته وقع الخلف بين ولديه رضوان ودقاق ببلاد الشام، واستقل أخيرًا كل منهما ببعض المدن. وفي محرم سنة ٤٩٠ قتل أرسلان أرغول أخو ملكشاه الذي كان استقلَّ بخراسان بعد موت أخيه؛ قتله بعض غلمانه، فاستولى بركيارق على بلاده وأقطعها لأخيه سنجر.

الحروب الصليبية

وبسبب هذه الحروب المتواصلة وانقسام الحكومات الإسلامية على بعضها، طمع فيهم الإفرنج، وعقدوا النية على محاربتهم محاربة دينية؛ لاستخلاص مدينة القدس منهم، فأتوا برًّا إلى القسطنطينية قاعدة مملكة الروم الشرقية واستولوا عليها، ثم عدوا البحر وأتوا إلى بلاد الشام، وانتصروا في طريقهم على الأمير السلجوقي الذي كان مستقلًّا بقونية وما جاورها، وفتحوا مدينة إنطاكية في جمادى الأولى سنة ٤٩١، ثم دخلوا المعرة، وحمص، واستولوا أخيرًا على مدينة القدس في ليلة الجمعة ٢٣ شعبان سنة ٤٩٢ (١٥ يوليو سنة ١٠٩٩)، وولوا جودفروا الفرنساوي ملكًا عليها، وفي أثناء ذلك كان ملوك آل سلجوق لاهين عن مقاومة الإفرنج بالحروب الداخلية العائلية؛ إذ ثار على باركيارق أخ له اسمه محمد وحاربه وهزمه، فهرب باركيارق إلى خراسان فحاربه أخوه سنجر وهزمه أيضًا، فارتحل عنها قاصدًا جرجان، وكان ذلك في خلال سنتيْ ٤٩٢ و٤٩٣. ثم في السنة التالية انتصر باركيارق على أخيه محمد في ٣ جمادى الآخرة، فالتجأ محمد إلى أخيه سنجر وحاربا أخاهما باركيارق فهزماه وتبعاه إلى بغداد فدخلاها، وارتحل هو عنها قاصدًا الموصل، والخليفة المستظهر لا هَمَّ له إلا الخطبة لمن ينتصر منهم وقطعها عمن يُغلَب كأن لا ناقة له فيها ولا جمل، مع أنه لو اجتهد في التأليف بين هؤلاء الإخوة الثلاثة والاتحاد معهم على محاربة الإفرنج المهاجمين لبلادهم لما تمكَّنُوا من امتلاك قدر ذراع منها.

وبقي الحال على هذه الحالة بين أولاد ملكشاه، تارة يتحاربون وأخرى يتصالحون، إلى أن مات باركيارق في ٢ ربيع الأوَّل سنة ٤٩٨، وقبل وفاته استحلف العسكر لولده ملكشاه الذي كان عمره أربع سنوات وثمانية أشهر، فلم يقبل محمد بن ملكشاه أخو باركيارق بذلك، واتفق مع بعض القوَّاد فعزلوا ملكشاه بن باركيارق، وصارت السلطنة لمحمد بن ملكشاه بن ألب أرسلان بن داود بن ميكائيل بن سلجوق. وفي غضون هذه الحروب الداخلية ملك الإفرنج مدينة سروج من أعمال الجزيرة، وعكا، وقنسرين في سنة ٤٩٤، وفتحوا في السنة التالية مدينة طرسوس، وفي سنة ٤٩٦ فتحوا جبيل وغيرها من بلاد الشام لعدم وجود القوى الكافية لمقاومتهم، ثم دخلوا مدينة طرابلس في ١١ ذي الحجة سنة ٥٠٣، ومدينة صيدا في سنة ٥٠٤، وصالحهم أهل حلب وحماة على مقدار معين من المال.

هذا؛ وفي ٢٤ ذي الحجة سنة ٥١١ توفي السلطان محمد السلجوقي وعهد بالسلطنة لابنه محمود. وفي ١٦ ربيع الآخر سنة ٥١٢ توفي الخليفة المستظهر، وبويع بعده ابنه أبو منصور فضل، ولقب بالمسترشد بالله، وفي خلافته وقعت عدة حروب بين السلطان محمود السلجوقي وأخيه داود وبعض أعمامه سفكت فيها دماء المسلمين، وتوطَّدت في أثنائها أقدام الإفرنج في جهات الشام، وأسسوا بها إمارات مسيحية في أورشليم وحمص وإنطاكية وطرابلس، ثم وقع الخلف بين الإفرنج لتباين مقاصدهم واختلاف أجناسهم بين نورمانديين وفرنساويين وألمانيين وإيطاليانيين وإنكليز، فضعفت سطوتهم رغمًا عن توارد الجنود إليهم تقودها سلاطينهم وأعاظم قوَّادهم، ومن جهة أخرى ظهر في هذه الظروف عماد الدين زنكي — صاحب الموصل — وأيد شوكته وسطوته في البلاد المجاورة له، واستولى على عدَّة إمارات إسلامية، ثم عزم على إخراج الإفرنج من بلاد الشام، فقصد أوَّلًا مدينة حمص وفتحها عَنْوة سنة ٥٣٢، واستخلص منهم أغلب بلاد الإسلام، ثم أرسل إلى مصر أحد قوَّاده واسمه أسد الدين شيركوه، بناءً على استنجاد شاور وزير الخليفة العاضد الفاطمي؛ لمساعدته على خصومه الذين كانوا ينازعونه الوزارة، فأتى إليها شيركوه. وبعد أن هزم خصوم شاور قتله في ربيع الآخر سنة ٥٦٤ وتولى هو في الوزارة، ثم مات وتولى يوسف صلاح الدين ابن أخيه نجم الدين أيوب.

وفي ٥ ربيع الآخر سنة ٥٤١ قتل عماد الدين صاحب الموصل، فخلفه سيف الدين غازي إِلى أن توفي في أواخر سنة ٥٤٤، فتولى بعده أخوه نور الدين محمود.

ولما مات العاضد في ١٠ محرم سنة ٥٦٧ قطع صلاح الدين خطبة الفاطميين وصار هو سلطانًا على مصر، وتلقب بِالملك الناصر وخطب للخليفة العباسي. وبِذلك انتهت دولة الفاطميين بعد أن مكثت ٢٧١ سنة تقريبًا تولى الخلافة في أثنائها أربعة عشر خليفة، وهم: المهدي، والقائم، والمنصور، والمعز، والعزيز، والحاكم، والظاهر، والمستنصر، والمستعلي، والآمر، والحافظ، والظافر، والفائز، والعاضد. وصارت الخلافة للعباسيين بِدونِ منازع، ولم تفترق الخلافة إِلى الآن، وستبقى كَذَلك بِفضل الله، ولما توفي نور الدين زنكي في ١١ شوَّال سنة ٥٦٩ خلفه صلاح الدين على الشام والجزيرة وجميع البِلاد التي كَانت تَابِعة لنور الدين، واشتغل بمحاربة الإفرنج فانتصر علَيهم في عدَّة مواقع، وأخذ منهم مدينة القدس، ودخلها في ٢٧ رجب سنة ٥٨٣ (١٢ أكتوبر سنة ١١٨٧).

هذا؛ ولنرجع إِلَى ذكر آل سلجوق فنقول: إن السلطان محمود بن محمد بن ملكشاه توفي في شوال سنة ٥٢٥، وعين بعده ابنه محمود فحاربه عمه مسعود، واستمرت الحروب بينهما مدة كَان الفَوز فيها لمسعود؛ فَملك بغداد. وفي ١٧ ذي القعدة سنة ٥٢٩ قتل جماعة من الباطنية الخليفَة المسترشد أثناء محاربة وقعت بينه وبين مسعود السلجوقي المتقدم ذكره، وبويع بعده أبو جعفر المنصور ولقب بالراشد بالله، ولم يمكث في الخلافة إلا نحو سنة، ثم عزله السلطان مسعود في منتصف ذي القعدة سنة ٥٣٠، وبايع مكانه محمد بن المستظهر، ولقبوه المقتفي لأمر الله، وهو الثاني والثلاثون من بني العباس.

وفي ٢٥ رمضان سنة ٥٣٢، قتل الخليفة الراشد بن المستظهر،٢ وكثرت الفتن والقلاقل في خلافة المقتفي، وتفرَّق مُلْك السلجوقيين، واشتغل أمراؤهم بمحاربة بعضهم، فاستقلَّ الخليفة نوعًا ببغداد والعراق لعدم وجود من يزاحمه من السلجوقيين أو غيرهم، وبقي مرتاح البال بالنسبة لمن سبقه من الخلفاء إلى أن مات في فراشه في ثاني ربيع الأول سنة ٥٥٥، وبويع بعده ابنه يوسف ولقب المستنجد بالله، وفي خلافته وخلافة أبيه علا شأن آل زنكي واستخلصوا أغلب البلاد التي ملكها الإفرنج، وأتى صلاح الدين الأيوبي مصر كما مَرَّ وحارب الإفرنج وردهم عن سواحلها، وصار صاحب النفوذ الأوفر فيها.

وفي ٩ ربيع الآخر سنة ٥٦٦ توفي المستنجد وبويع ابنه أبو محمد الحسن، ولقب المستضيء بأمر الله، واشترط عليه عضد الدين أبو الفرج الذي كان أستاذ دار أبيه أن يكون وزيرًا له، وابنه كمال الدين أستاذ داره والأمير قطب الدين أميرًا للعسكر، فقبل المستضيء بذلك ووقع في حجرهم، وفَقَدَ ما كان لأبيه المستنجد وجده المقتفي من بعض الحرية والاستقلال. وفي خلافته انقرضت دولة الفاطميين في مصر بموت العاضد، وخطب للعباسيين بها في ثاني جمعة من محرم سنة ٥٦٧؛ أي في ١٤ منه، واستقل بها صلاح الدين بن أيوب، ولم يترك للعباسيين سوى الخطبة، وفتح شمس الدولة توران شاه بن أيوب أخو صلاح الدين بلادَ اليمن، ولما توفي نور الدين في ١١ شوال سنة ٥٦٩ استولى صلاح الدين على أغلب بلاده وأقطعها لإخوته وأولاد عمومته، وفتح كثيرًا من البلاد التي ملكها الإفرنج حتى لم يبقَ لهم إلا مدينة القدس وبعض قرًى صغيرة. وفي ٢ ذي القعدة سنة ٥٧٥ توفي الخليفة المستضيء، وبويع ابنه الناصر لدين الله، وفي خلافته استردَّ صلاح الدين الأيوبي أغلب البلاد التي كانت في يد الإفرنج، واستخلص منهم القدس الشريف ودخله يوم الجمعة ٢٧ رجب سنة ٥٨٣ (١٢ أكتوبر سنة ١١٨٧). واستمر على الفتح والغزو إلى أن مات بدمشق يوم الأربعاء ٢٦ صفر سنة ٥٨٩ (٣ مارس سنة ١١٩٣)، وبموته تفرَّقت أملاكه وانفرط عقد انتظامها واستقل كل من أولاده — وكانوا سبعة عشر — بجزء منها؛ فاستقل بمصر الملك العزيز عماد الدين عثمان، واستقلَّ الأفضل نور الدين عليٌّ بدمشق، فضعف حال الإسلام بعد ما بلغه من القوة أيام الناصر صلاح الدين الأيوبي، ثم وقع الخلف بين أولاده، وطمع كل منهم فيما في يد أخيه ولو بالحرب والقتال، فاتحد العزيز صاحب مصر مع عمه العادل صاحب الكرك على محاربة الأفضل صاحب دمشق، فحاربوه وأخرجوه منها، وبقي فيها العادل، وعاد العزيز إلى مصر مكتفيًا بالخطبة والسكة، ثم توفي الملك العزيز في محرم سنة ٥٩٥ وخلفه ابنه الملك المنصور، وكان عمره تسع سنين، ولصغر سنه ارتأى أمراء الدولة استدعاء أحد أمراء بني أيوب ليكون وزيرًا له، فاختاروا الأفضل الذي كان صاحب دمشق، وكاتبوه فحضر مسرعًا، ثم قصد دمشق للانتقام من عمه الملك العادل، واتحد مع أخيه الظاهر — صاحب حلب — على محاربة العادل، فحاصرا دمشق مدة، ثم وقع الخلف بينهما وعاد كل منهما إلى بلاده، فتبع العادل الأفضل وجيوشه إلى مصر وهزمه وأكرهه على الخروج منها، وصار هو وزيرًا للملك المنصور بن العزيز، ثم غدر بالمنصور وأخرجه من مصر سنة ٥٩٩، واستقل هو بمصر ودمشق وما حولها، وصار له أغلب بلاد أخيه الناصر صلاح الدين، وبقي ملكه في ازدياد وشأنه في ارتقاء إلى أن توفي في ٧ جمادى الآخرة سنة ٦١٥ وعمره خمس وسبعون سنة قضاها في محاربة الإفرنج وصدِّ غاراتهم عن بلاد الإسلام. وخلفه في مصر ابنه الملك الكامل، وفي دمشق الملك المعظم عيسى، وخلَّف من البنين ستة عشر ولدًا غير البنات.

وفي ١٠ رمضان سنة ٦١٥ (٣٠ نوفمبر سنة ١٢١٨) ضايق الإفرنج الصليبيون ثغر دمياط وفتحوه عَنوة، وجعلوا الجامع كنيسة، فابتنى الملك الكامل قلعة حصينة بالقرب منها سماها المنصورة (وهي مدينة المنصورة مركز مديرية الدقهلية الآن) ليراقب حركات الإفرنج ويمنع تقدمهم داخل الديار المصرية، فلم يجسر الصليبيون على مهاجمتها، ولبثوا ينتظرون المدد من بلادهم إلى أن ارتفعت مياه النيل في صيف سنة ٦١٨ فقطع المسلمون جسوره وطغى الماء على معسكر الإفرنج، وحال بينهم وبين دمياط قاعدة أعمالهم، وصاروا في ضيق شديد؛ فأخذوا يخابرون الملك الكامل على أن يردوا إليه ثغر دمياط بشرط أن لا يفتك بهم، فقبل الكامل بذلك وسلمت إليه مدينة دمياط في ١٩ رجب سنة ٦١٨ (٨ سبتمبر سنة ١٢٢١)، وأقيمت شعائر الإسلام في جوامعها كما كانت عليه قبل.

هذا؛ وفي أول شوال سنة ٦٢٢ توفي الخليفة الناصر لدين الله، وكانت مدته نحو سبع وأربعين سنة، وكان مستقلًّا بالعراق صارفًا همته للمحافظة عليه، ولم يحارب الإفرنج أصلًا. وفي مدته ظهر التتر وخرجوا من بلادهم الواقعة غرب بلاد الصين في سنة ٦١٧ هجرية تحت قيادة رئيسهم جنكيز خان، فقصدوا أولًا بلاد خوارزم وفتحوها، وملكوا بخارى وسمرقند وغزنة بعد محاربات عنيفة، ثم سارت فرقة إلى بلاد الروس الشمالية وملكوها، وبقيت في ملكهم إلى أواخر القرن الخامس عشر للميلاد، ويقال إن الخليفة الناصر هو الذي استدعاهم من بلادهم لمحاربة خوارزمشاه؛ فجرَّ بذلك على الإسلام أجمع من المصائب ما لم يطرأ عليه أبدًا؛ لأنهم كانوا يقتلون المسلمين ويسبُون نساءهم، ويخربون الجوامع، ويحرقون الكتب النفيسة، ويرتكبون أنواع المنكرات جهارًا.

وبعد موت الخليفة الناصر لدين الله بُويِع ابنه أبو النصر محمد ولُقِّب الظاهر بأمر الله، ولم تطل مدته؛ فإنه توفي في ١٤ رجب سنة ٦٢٣، وبويع بعد موته ابنه أبو جعفر المنصور ولقب المستنصر بالله. وفي خلافته أخذ أمر الإسلام في الضعف بعد أن بلغ من القوة مبلغًا عظيمًا حتى استخلصوا مدينة القدس من الإفرنج. وسبب هذا الضعف انقسام أولاد صلاح الدين الأيوبي وإخوته ومحاربتهم بعضهم بعضًا طمعًا في امتلاك مدينة أو قرية، غير ناظرين إلى الأجانب المحتلِّين بعضَ بلاد الشام يتربصون الفرص للانقضاض عليهم واسترجاع مدينة القدس ثانيًا. فلما توفي الملك المعظم بن الملك العادل بن أيوب في ذي القعدة سنة ٦٢٤ — صاحب دمشق — وخلفه ابنه الناصر داود، اتَّحَد الملك الكامل — صاحب مصر — وأخوه الملك الأشرف على انتزاع دمشق من يد الناصر ابن أخيهما المعظم. وليتمكن الكامل من التفرغ لمحاربة الناصر ويأمن جانب الإفرنج في أثناء محاربته له كاتب الإمبراطور فريدريك إمبراطور الألمان وصاحب صقلية على أن يهادنه ستَّ سنوات ويسلِّمه مدينة القدس وبعض المدن الأخرى بشرط عدم التعرُّض للجامع الأقصى ولا لجميع المسلمين. واتفق مع الإمبراطور على ذلك، وسلمه مدينة القدس في ربيع الآخر سنة ٦٢٦ (مارس سنة ١٢٢٩) بدون حرب، مع أن الملك الناصر صلاح الدين بذل النفس والنفيس في استخلاصها منهم سنة ٥٨٣، وسلمها هو إليهم غنيمة باردة ليحارب ابن أخيه وينتزع بعض بلاده منه.

وبعد أن تم تسليم القدس إلى الإفرنج بهذه الكيفية التي تُلحِق العار بالملك الكامل مدى الدهر وتسوِّد صحائف تاريخه، جمع جيوشه حول مدينة دمشق واستولى عليها في جمادى الأولى؛ فتمَّت له أمنيته ونال بغيته بعد أن ضحى البلاد التي صرف صلاح الدين عمره في استخلاصها من يد الإفرنج. فانظر أيها القارئ نتيجة الانقسام أمام العدو ونبذ الاتحاد والتضافر ظهريًّا! ثم قضى الملك الكامل بقية عمره في محاربة إخوته وأقاربه، ومات في ٢١ رجب سنة ٦٣٥ فعين الجند والأمراء بعده ابنه الملك العادل، فأتى إلى مصر لكن لم تطل مدته، بل قبض عليه في ٨ ذي القعدة سنة ٦٣٧ بدسيسة أخيه الملك الصالح أيوب.

ووصل الصالح إلى مصر في ٢٤ منه واستقرَّ بها، واستمرَّ الملك العادل مسجونًا إلى أن توفي سنة ٦٤٥. وفي هذه الأثناء تقدم التتر في بلاد الإسلام، وامتلكوا جميع بلاد فارس، ووصلت طلائعهم إلى العراق. وفي ١٠ جمادى الآخرة سنة ٦٤٠ توفي الخليفة المستنصر بالله أبو جعفر المنصور، وبويع بعده ابنه أبو أحمد عبد الله، ولقب المستعصم بالله، وهو الثامن والثلاثون من بني العباس بعد عبد الله بن المعتز، والسابع والثلاثون لو أسقط ابن المعتز من عدادهم، والمستعصم بالله هو آخر من ولي الخلافة الإسلامية من العباسيين ببغداد، وفي خلافته انتصر الصالح أيوب على الإفرنج بقرب غزة سنة ٦٤٢ هجرية (سنة ١٢٤٤م)، واستخلص مدينة القدس التي كان سلَّمها الملك الكامل إليهم سنة ٦٢٦، فحولوا أنظارهم إلى القطر المصري، وأتى إليه لويس التاسع — ملك فرنسا — ومعه جيش عظيم، واحتل ثغر دمياط بدون كثير عناء في ٢١ صفر سنة ٦٤٧ (٥ مايو سنة ١٢٤٩)، فتحصَّن الصالح أيوب في المنصورة لردهم عن القاهرة. وفي أثناء الاستعداد للقتال توفي الصالح في ليلة الأحد ١٤ شعبان سنة ٦٤٧؛ فأخفت زوجته شجرة الدر خبر موته إلى أن حضر من الشام ولده توران شاه الذي خلفه في ملك مصر، وفي أوائل محرم سنة ٦٤٨ (أبريل سنة ١٢٥٠) انتصر المسلمون على الإفرنج بقرب المنصورة، وأخذوا ملك فرنسا أسيرًا مع كثير من أمراء الفرنساويين، وحجز الملك في دار فخر الدين بن لقمان كاتب الإنشاء، ووكل به «طواشي» يسمى صبيح.

دولة المماليك البحرية بمصر

وبعد ذلك بقليل قتل توران شاه بفارسكور في ٢٨ محرم سنة ٦٤٨، قتله ركن الدين بيبرس — أحد المماليك الذين جمعهم والده السلطان الصالح لحراسته وسماهم البحرية — واتفقوا على تولية أَمَتِهِ شجرة الدر فخطب باسمها، ثم في صفر حصل الاتفاق بين المسلمين وملك فرنسا على إطلاقه من الأسر بشرط رد مدينة دمياط إليهم؛ فدخلها المسلمون في صفر سنة ٦٤٨ (مايو سنة ١٢٥٠م)، ونزل ملك فرنسا إلى البحر مع من بقي من رجاله في اليوم التالي عائدين إلى بلادهم، وبذلك انتهت الحروب الصليبية، وبقي بيت المقدس في يد المسلمين إلى الآن.

هذا، ثم عُزِلَتْ شجرة الدر وولي مكانها المعز أيبك التركماني مملوك زوجها السلطان الصالح، وهو أول المماليك البحرية، في ٣٠ جمادى الآخرة سنة ٦٤٨ وتزوج بشجرة الدر، وبذلك انتهى ملك الأيوبيين بمصر، ثم قتل بإيعاز شجرة الدر في ٢٣ ربيع الأول سنة ٦٥٥، فلم يولِّها المماليك، بل ولوا نور الدين علي بن المعز أيبك، وحبسوا شجرة الدر ثم قتلوها في ١٦ ربيع الآخر سنة ٦٥٥، وكانت تركية، وقيل أرمنية.

وفي أثناء ذلك تقدم التتر نحو بغداد تحت إمرة هولاكو خان — حفيد جنكيز خان — ودخلوها عَنْوة في ٣٠ محرم سنة ٦٥٦، وقتلوا الخليفة المستعصم وكل من قبضوا عليه من بني العباس والأمراء والعلماء، وكان دخولهم إليها بدسيسة الوزير مؤيد الدين بن العلقمي فانتهت دولة العباسيين ببغداد بعد أن استمرت خمسمائة وأربعًا وعشرين سنة، وتشتت من نجا من العباسيين، ثم وصل التتر إلى بلاد الشام وأخربوها، واضمحلَّ الإسلام وتفرقت أجزاؤه إلى أن ظهرت دولة العثمانيين بالأناضول، فاعادت إليه رونقه السابق وضمت ما تفرق من ممالكه، وصارت هي الدولة الوحيدة الإسلامية أمام العالم الأوروبي. وسترى في هذا الكتاب ما لاقته في سبيل تقدمها من الموانع وذلَّلته من العقبات، مع بيان أسباب ارتقائها وانحطاطها وما وصلت إليه في هذه الأيام من التأخر والتقهقر.

ثم أخذ التَّتَر يتقدمون إلى جهات الشام؛ ففتحوا أغلب مدنه ونهبوها وقتلوا أهلها حتى خيف على مصر من وصول أذاهم إليها؛ ولذلك أجمع الأمراء على عزل سلطانها نور الدين علي لصغر سنه وعدم مقدرته على صد هجمات التتر، فعزل في يوم السبت ١٧ ذي القعدة سنة ٦٥٧، وولي مكانه المظفر سيف الدين قطز المُعِزِّي، وهو مملوك المعز أيبك التركماني. ثم قتل قطز المذكور بعد سنة، قتله ركن الدين بيبرس البندقداري في ١٥ ذي القعدة سنة ٦٥٨، وخلفه في الملك وتلقب بالظاهر، وهو من مماليك الملك الصالح نجم الدين أيوب. وفي أيامه وفد إلى مصر الإمام أحمد بن الخليفة الظاهر بأمر الله في ١٩ رجب سنة ٦٥٩، وأثبت نسبه بحضور الشيخ عز الدين بن عبد السلام — شيخ الإسلام — فبايعه الظاهر بيبرس بالخلافة، ولقب المستنصر بالله، وبايعه الخليفة بالسلطنة، وفوض إليه أمور البلاد؛ فعادت بذلك الخلافة إلى الإسلام بعد انقطاعها نحو ثلاث سنوات. ثم جمع الظاهر جيشًا وأرسله مع الخليفة المستنصر إلى بغداد فحاربه التتر في الأنبار في أواخر سنة ٦٥٩، وهزموا من كان معه من الجند، ولم يُوقَفْ للخليفة على أثر بعد ذلك.

وبعد انقطاع خبره أتى إلى مصر في سنة ٦٦٠ الإمام أحمد بن علي بن أبي بكر بن الخليفة المسترشد بن الخليفة المستظهر، وثبت نسبه بحضور العلماء؛ فبايعه الظاهر على أن تبقى الأحكام بيده، ولُقِّب بالحاكم بأمر الله، ثم أمر الظاهر بأن ينقش اسم الخليفة مع اسمه على العملة، ويذكر اسمه في الخطبة قبل اسم السلطان، وأقام الخليفة بمصر، وصارت القاهرة مقرًّا للخلفاء العباسيين إلى أن انتقلت الخلافة إلى العثمانيين في سنة ٩٢٣ كما سيجيء. والحاكم بأمر الله هو أول العباسيين بمصر؛ لأن أحمد المستنصر لم يُقِم بها، بل كان يقصد إرجاع الخلافة لبغداد كما كانت، فحال التتر دون مشروعه، وطالت خلافة الحاكم بأمر الله بمصر مدة أربعين سنة تقريبًا، وتوفي في ١٨ جمادى الأولى سنة ٧٠١ هجرية، ودفن بمشهد السيدة نفيسة (رضي الله عنها).٣

وبويع بعده ابنه المستكفي بالله أبو الربيع سليمان، وهو ثاني العباسيين بمصر، وفي أثناء هذه الأربعين سنة ظهرت الدولة العثمانية ببلاد الأناطول سنة ٦٩٩، وتعاقب ستة سلاطين على مصر وملحقاتها، فتوفي الظاهر بيبرس في ١٨ محرم سنة ٦٧٦ بقرب دمشق ودفن بها، وتولى بعده ابنه الملك السعيد أبو المعالي محمد. ومما يذكره التاريخ للسلطان الظاهر أنه استردَّ أغلب بلاد الشام التي كانت باقية مع الإفرنج، وأهمها إنطاكية ويافة وحلب وطرسوس وطبرية وصفد وغيرها، وضم لملكه مدائن دمشق وبعلبك وبيت المقدس وكثيرًا غيرها، ثم خلع الملك السعيد في ربيع أوَّل سنة ٦٧٨، وتولى أخوه الملك العادل سيف الدين بن الظاهر بيبرس، وكان القائم بتدبير مملكته الواسعة قلاوون الألفي من مماليك الصالح نجم الدين أيوب، فخلع السلطان في ١٢ رجب سنة ٦٧٨، وتقلَّد هو الملك اغتصابًا، وتلقب بالمنصور سيف الدين، واستقامت له الأحوال، ولم يجسر أحد على خلعه كما خلع أولاد الظاهر بيبرس، لاقتنائه عدة آلاف من المماليك وإسكانهم في أبراج القلعة؛ ولذلك أطلق عليهم اسم البرجية. وتوفي السلطان قلاوون في ٦ ذي القعدة سنة ٦٨٩، وولي بعده ابنه صلاح الدين خليل ولقب بالأشرف، وهو الذي هدم قبور الخلفاء الفاطميين وبنى مكانها الخان المسمى للآن بالخان الخليلي بقرب المشهد الحسيني، وقتل الأشرف في المحرم سنة ٦٩٣، وتولى بعده أخوه الملك الناصر محمد بن قلاوون في ١٨ منه وعمره تسع سنين وكسور، ثم خلع الناصر بعد سنة في ١١ محرم سنة ٦٩٤، وتولى بعده كتبغا — أحد مماليك أبيه قلاوون — وتلقَّب بالعادل، وهو العاشر من ملوك الأتراك، وخلع في نصف صفر سنة ٦٩٦، وخلفه حسام الدين لاجين، وهو أيضًا من مماليك قلاوون، وتلقب بالمنصور، وقتل في ١٠ ربيع الآخر سنة ٦٩٨، وأعيد الناصر محمد بن قلاوون، واستمر في الملك هذه الدفعة إلى سنة ٧٠٨، وفيها خلع نفسه من المملكة لاستئثار الأمراء بالأحكام قهرًا عنه، وترك الديار المصرية وأقام بالكرك.

وبويع بعده ركن الدين بيبرس وتلقب بالمظفر، وذلك في ٢٣ شوَّال سنة ٧٠٨، وفي السنة التالية اتَّفَقَ باقي الأمراء على عزله وإعادة الملك الناصر ثالثًا، وكتبوا له بذلك، فعاد إلى القاهرة ودخلها في موكب حافل يوم الخميس ٢ شوَّال سنة ٧٠٩، واستمر هذه الدفعة في الملك إلى أن توفي ليلة الخميس ٢٠ ذي الحجة سنة ٧٤١، وهو الذي أمر بحفر الخليج الناصري الذي يخترق القاهرة للآن، وخلَّف أحد عشر ولدًا غير البنات، تولى منهم السلطنة ثمانية وهم: أبو بكر، وأحمد، وكجك، وشعبان، وإسماعيل، وحاجي، وحسن، وصالح. وفي آخر مدَّته غضب على الخليفة المستكفي ونفاه إلى مدينة قوص بالصعيد في سنة ٧٣٨، وأقام بها إلى أن توفي في شعبان سنة ٧٤٠ موصيًا بالخلافة بعده لابنه أبي العباس أحمد، لكن لم يتبع السلطان الناصر هذا العهد، بل بايع أبا إسحاق إبراهيم ابن أخي المستكفي، ولقبه الواثق بالله. ولما توفي الناصر وتولى بعده ابنه الملك المنصور سيف الدين أبو بكر خلع الواثق بالله في المحرم سنة ٧٤٢، وبايع أبا العباس أحمد بن المستكفي الذي كان عهد إليه أبوه بالخلافة، ولقب الحاكم بأمر الله، وبقي في الخلافة إلى أن مات سنة ٧٥٤.

هذا؛ ولنذكر ما حصل في ملك مصر في هذه الأثناء فنقول: ولي مصر وملحقاتها بعد الناصر محمد بن قلاوون ابنه المنصور أبو بكر، ثم قتل في صفر سنة ٧٤٣، وتولى بعده أخوه الأشرف علاء الدين كجك، وخلع في هذه السنة. وتولى بعده أخوه الناصر شهاب الدين أحمد في شوَّال سنة ٧٤٣، وخلع كذلك في محرم سنة ٧٤٣. وتولى بعده أخوه الملك الصالح علاء الدين أبو الفداء إسماعيل رابع أولاد الناصر ولم يخلع كإخوته، بل توفي في ١١ ربيع الأوَّل سنة ٧٤٦. وتولى بعده أخوه الملك الكامل شعبان خامس أولاد الناصر، وخلع ثم قتل في أوائل جمادى الآخرة سنة ٧٤٧. وتولى بعده أخوه المظفر حاجي ثم قتل كغالب إخوته في رمضان سنة ٧٤٨. وبويع بعده أخوه الملك الناصر أبو المحاسن حسن في ١٤ رمضان، وهو صاحب الجامع العظيم الكائن بالقرب من القلعة، وعزل أوَّلًا في ١٧ جمادى الآخرة سنة ٧٥٢ وبويع أخوه الملك صلاح الدين ثامن أولاد الناصر محمد بن قلاوون في يوم الاثنين ١٨ منه، وهو آخر من ولي السلطنة من أولاده، وفي مدَّته توفي الخليفة الحاكم سنة ٧٥٤، وحصلت البيعة لابنه أبي بكر المعتضد بالله، وهو خامس الخلفاء العباسيين في مصر، وبقيت خلافته لسنة ٧٦٣، وفي خلالها عزل الملك صلاح الدين صالح في يوم الاثنين ثاني شوَّال سنة ٧٥٥، وحجز في دار الحريم إلى أن توفي سنة ٧٦٢، وأعيد أخوه الملك الناصر حسن الذي سبق عزله في جمادى الآخرة سنة ٧٥٢، ثم قتل في يوم الأربعاء ٩ جمادى الأولى سنة ٧٦٢، وتولى الملك المنصور محمد ابن أخيه الملك المظفر حاجي بن الناصر محمد بن قلاوون، وهو الحادي والعشرون من ملوك الترك بمصر.

وبعد سنة من توليته توفي الخليفة المعتضد بالله أبو بكر في ليلة الأربعاء ١٨ جمادى الآخرة سنة ٧٦٣، وعهد قبل وفاته بالخلافة لولده محمد فبايعه السلطان وتلقب بالمتوكل على الله، وفي خلافته عزل السلطان الملك المنصور محمد في ٤ شعبان سنة ٧٦٤، وولي المَلك الأشرف أبو المعالي زين الدين شعبان بن مجد الدين حسين بن الناصر محمد بن قلاوون، ثم قُتل المَلك الأشرف في ذي القعدة سنة ٧٧٨ وتولى ابنه الملك المنصور علاء الدين عليٌّ وعمره سبع سنين وأشهر، وتوفي في ٢٣ صفر سنة ٧٨٣ ولم يتجاوز الثالثة عشرة من عمره، وولي بعده أخوه الملك الصالح أمير حاج، وهو آخر بني قلاوون، خلعه الأتابكي برقوق باتفاق مع الخليفة المتوكل والقضاة وشيخ الإسلام في يوم الأربعاء ١٩ رمضان سنة ٧٨٤.

دولة المماليك الجراكسة

وتولى السلطنة الأتابكي برقوق، ولقب بالظاهر سيف الدين أبي سعيد، وبتوليته انتهى ملك بني قلاوون بعد أن لبثت السلطنة في قلاوون وذريته مدة مائة سنة وثلاث، وابتدأت دولة المماليك الجراكسة. وفي سلطنته قبض على الخليفة المتوكل في سنة ٧٨٥ وخلعه وسجنه، وبايع الخليفة الواثق بالله عمر ثم عزله في سنة ٧٨٨، وبايع أخاه زكريا إبراهيم وعزله في يوم الأحد ٥ جمادى الأولى سنة ٧٩١، وأعاد الخليفة المتوكل ثانيًا بعد أن لبث في السجن مقيدًا بالحديد نحو خمس سنين، وبعد ذلك بشهر خلع الأمراء الظاهر برقوق في ٥ جمادى الثانية، وأعيد الملك الصالح أمير حاج آخر بني قلاوون ثانيًا وتلقب بالمنصور، وبعد بضعة شهور عزل ثانيًا في صفر سنة ٧٩٢، وبقي محجوزًا في دار الحريم إلى أن مات في ١٩ شوَّال سنة ٨١٤، وعاد الملك الظاهر برقوق ودخل القاهرة في يوم الأربعاء ١٤ صفر سنة ٧٩٢، وبقي في السلطنة إلى أن مات في فراشه في ١٥ شوال سنة ٨٠١.

وتولى بعده ابنه الملك الناصر زين الدين أبو السعادات فرج، وفي مدته وصل تيمورلنك إلى بلاد الشام وفتح حلب ودمشق وارتكب فيهما هو وعسكره ما لا يوصف من أنواع المظالم، وانتصر على السلطان بايزيد العثماني ابن مراد كما ستراه مفصلًا في هذا الكتاب. ثم حصل خُلْف بين السلطان الناصر وبعض أمرائه فاختفى في سنة ٨٠٨، وولي أخوه الملك المنصور عز الدين أبو العز عبد العزيز، وجلس على سرير الملك في ٢٦ ربيع الأول سنة ٨٠٨، وبعد شهرين ظهر أخوه الناصر واستولى على الإمارة ثانيًا، وقبض على أخيه المنصور عز الدين وسجنه في الحريم، وجلس هو على السرير في ٤ جمادى الآخرة سنة ٨٠٨.

وبعد ذلك توفي الخليفة محمد المتوكل في ٢٨ رجب سنة ٨٠٨، وبويع بعده بِكْرُ أولاده أبو العباس، وتلقب المستعين بالله. وفي سنة ٨١٥ عصى الأمراء على الملك الناصر ببلاد الشام بزعامة الأمير نوروز الحافظي والأمير شيخ المحمودي؛ فسار الناصر لمحاربتهم فانتصروا عليه في محرم وسجنوة، ثم قتلوه بدمشق في ليلة السبت ٦ صفر. ولعدم اتفاقهم على من يعين خلفًا له منهم اتفقوا أخيرًا حسمًا للنزاع على تعيين الخليفة المستعين بالله سلطانًا، فجمع بين السلطة الدينية والدنيوية، وبايعوه في ١٧ محرم سنة ٨١٥ بشرط أن يكون الأمير نوروز نائبًا على جميع بلاد الشام، والأمير شيخ المحمودي نائبًا بمصر، لكن لم يلبث الأمير شيخ أن طمع في المُلك فعزل المستعين من السلطنة وأبقاه في الخلافة فقط كما كان قبلًا، وتولى الأمير شيخ السلطنة في أول شعبان سنة ٨١٥، وتلقب بالمؤيد أبي النصر، وهو من مماليك الظاهر برقوق. ثم عزل المستعين من الخلافة وأرسله إلى الإسكندرية، فأقام بها إلى أن توفي في ٢١ جمادى الآخرة سنة ٨٣٣. ولما عزل بويع بعده أخوه داود، ولقب المعتضد بالله.

هذا؛ ولمَّا استبدَّ المؤيد بملك مصر عصاه الأمير نوروز — نائب بلاد الشام — فحاربه المؤيد وقبض عليه وقتله، وبذلك صار له ملك مصر والشام معًا كما كان لسلفائه، وتوفي المؤيد في ٩ محرم سنة ٨٢٤ (١٤ يناير سنة ١٤٢١)، ودفن بجامِعِهِ الذي أنشأه داخل باب زويلة أمام حمام السكرية، وولي ابنه الملك المظفر أبو السعادات أحمد وعمره سنة واحدة وثمانية أشهر، وعين الأتابكي ططر نائبًا عنه، فعزله في ٢٩ شعبان سنة ٨٢٤ (٢٩ أغسطس سنة ١٤٢١)، وتولى هو مكانه، ولقب بالظاهر سيف الدين أبي سعيد ططر، وهو من مماليك الظاهر برقوق، ثم سجن الملك المظفر بن المؤيد بالإسكندرية إلى أن مات سنة ٨٣٣ وعمره نحو إحدى عشرة سنة، ولم تطل مدة الظاهر ططر، بل توفي في ٤ ذي الحجة سنة ٨٢٤ (٣١ نوفمبر سنة ١٤٢١)، وتولى بعده ابنه محمد وعمره إحدى عشرة سنة، وتلقب بالملك الصالح ناصر الدين، ثم عزله الأمير برسباي الدقماقي أحد مماليك الظاهر برقوق في ٨ ربيع الآخر سنة ٨٢٥ (١ أبريل سنة ١٤٢٢)، وسجنه إلى أن مات سنة ٨٣٣، وتولى هو مكانه، وتلقَّب بالملك الأشرف أبي النصر، وهو الثامن من ملوك الجراكسة والثاني والثلاثين من ملوك الترك، وهو الذي استخلص جزيرة قبرص من الإفرنج سنة ٨٢٥ وبنى الجامع الكائن بأول الغورية وآخر بجبانة المجاورين، وهو الذي دفن به، وأنشأ جامعًا وخانقاه بسرياقوس، وتوفي في ١٣ ذي الحجة سنة ٨٤١ (٧ يونيو سنة ١٤٣٨)، وتولى بعده ابنه يوسف وعمره أربع عشرة سنة، وتلقَّب بالملك العزيز أبي المحاسن جمال الدين، ولصغر سنه تولى إدارة الأمور الأتابكي جقمق — أحد مماليك الظاهر برقوق — فطمع في الملك وخلع الملك العزيز في ١٩ ربيع الأول سنة ٨٤٢ (٩ سبتمبر سنة ١٤٣٨) وتولى هو مكانه، وتلقب الملك الظاهر أبا سعيد جقمق، وهو عاشر ملك من مماليك الجراكسة.

وفي أيامه توفي أمير المؤمنين المعتضد بالله في ٤ ربيع الأول سنة ٨٤٥، وبويع بعده أخوه سليمان، ثالث من تولى الخلافة من أولاد المتوكل، وتلقَّب بالمستكفي بالله، وقد بايع أمير المؤمنين المعتضد في مدة خلافته — وهي ثمان وعشرون سنة وكسور — ستة سلاطين: المظفر أحمد بن المؤيد شيخ، والظاهر ططر وابنه، والأشرف برسباي وابنه، والظاهر جقمق. وتوفي المستكفي في ٢ محرم سنة ٨٥٥، وبويع بعده أخوه حمزة رابع أولاد المتوكل، ولقب القائم بأمر الله، وفي خلافته مرض الملك الظاهر جقمق، فاستقال من السلطنة في ٢١ محرم سنة ٨٥٧، وولي ابنه عثمان، وتلقب بالملك المنصور أبي السعادات فخر الدين، ثم توفي الظاهر جقمق في ٤ صفر سنة ٨٥٧ (١٤ فبراير سنة ١٤٥٣)، ولم تدم سلطنة المنصور عثمان إلا نحو شهر ونصف؛ إذ عزله الأتابك إينال العلائي — أحد مماليك الظاهر برقوق — في ٨ ربيع الأول سنة ٨٥٧ (١٩ مارس سنة ١٤٥٣) بعد حرب استمرت بين مماليك الطرفين مدة أسبوع، وتولى إينال مكانه، وتلقب بالملك الأشرف أبي النصر سيف الدين.

وفي رجب سنة ٨٥٩ خلع السلطان الخليفة المستكفي وبايع أخاه يوسف خامس أولاد المتوكل في ١٣ من هذا الشهر، ولقبه بالمستنجد بالله أبي المحاسن، وهو ثالث عشر خلفاء العباسيين بمصر، وفي خلافته توفي السلطان الأشرف إينال في ١٥ جمادى الأولى سنة ٨٦٥ (٢٦ فبراير سنة ١٤٦١)، وتولى بعده ابنه أحمد وتلقب بالملك المؤيد أبي الفتح شهاب الدين، وعزل بعد أربعة أشهر؛ عزله بعض الأمراء المماليك في ١٧ رمضان سنة ٨٦٥ (٢٦ يونيو سنة ١٤٦١)، وولوا بعده خوشقدم — مملوك المؤيد شيخ — وأصله رومي الجنس، وتلقب بالملك الظاهر أبي سعيد سيف الدين، ثم توفي خوشقدم في ١٠ ربيع الأول سنة ٨٧٢ (٩ أكتوبر سنة ١٤٦٧) تاركًا ولدين، لكن لم يتفق الأمراء على تعيين أحدهما، بل ولوا الأمير بلباي — مملوك المؤيد شيخ — وتلقب بالملك الظاهر أبي النصر سيف الدين، وكان جركسي الأصل، ولم يمكث في السلطنة إلا نحو شهرين، ثم وقعت فتنة بين مماليك السلطان إينال ومماليك المؤيد شيخ، الذين منهم بلباي، أدَّت إلى خلع بلباي في ٧ جمادى الأولى سنة ٨٧٢ (٤ دسمبر سنة ١٤٦٧) وتولية تمربغا الرومي الجنس — مملوك الظاهر جقمق — فبايعه الخليفة والقضاة والأمراء، وتلقب بالملك الظاهر أبي سعيد، ثم اختلف طوائف المماليك واقتتلوا، ثم اتفقوا على عزل تمربغا؛ فعزلوه في ٦ رجب سنة ٨٧٢ (٣١ يناير سنة ١٤٦٨) وولوا قايتباي الجركسي الأصل، ولقب بالملك الأشرف أبي النصر سيف الدين، فهدأت الأحوال في مدته وانقطعت الفتنة تقريبًا، وطالت مدته نحو ثلاثين سنة أنشأ في أثنائها كثيرًا من المدارس والتكايا والجوامع ببلاد مصر والشام ومكة والمدينة، وتوفي في يوم الأحد ٢٧ ذي القعدة سنة ٩٠١ (٦ أغسطس سنة ١٤٩٦)، ودفن بالجامع الذي أنشأه بالقرافة، ولم يزل موجودًا للآن شهيرًا بحسن هندسته ولطافة نقوشه. وفي سلطنته توفي الخليفة المستنجد بالله في يوم السبت ٢٤ محرم سنة ٨٨٤، فكانت مدة خلافته خمسًا وعشرين سنة تولى السلطنة فيها خمسة سلاطين، وهم: المؤيد أحمد بن إينال، والظاهر خوشقدم، والظاهر بلباي، والظاهر تمربغا، والأشرف قايتباي.

وفي يوم ٢٦ محرم سنة ٨٨٤ بويع عبد العزيز بن يعقوب بن محمد المتوكل على الله، ولقب المتوكل على الله أبا العز، وبقي في الخلافة تسع عشرة سنة وأيامًا، وتوفي في ٣٠ محرم سنة ٩٠٣، وبويع بعده ابنه يعقوب، ولقِّب المستمسك بالله أبا الصبر. وفي خلافة عبد العزيز بن يعقوب توفي السلطان قايتباي كما مَرَّ، وتولى ابنه محمد قبل وفاة أبيه بيوم، حيث اتفق الأمراء والخليفة والقضاة على عزل أبيه بسبب مرضه وعدم مقدرته على إدارة الأحوال، وتلقب بالملك الناصر أبي السعادات ناصر الدين، وكانت في أيامه فتن وحروب بين طوائف المماليك، كانت نتيجتها قتله في ١٥ ربيع الأول سنة ٩٠٤، وتولية أحد مماليك أبيه الجراكسة مكانه، واسمه قانصوة، وكان يدعي أنه أخو إحدى حظيَّات السلطان قايتباي وأم ولده محمد السلطان السابق. ولما ولي السلطنة بعد قتل ابن سيده وابن أخته حسب دعواه تلقَّب بالملك الظاهر أبي سعيد، واستمرت الفتن في أيامه مدة سنة وكسور، وأخيرًا ثار عليه بعض الأمراء وحاربوه وانتصروا عليه في ٢٩ ذي القعدة سنة ٩٠٥ فهرب واختفى، فاتفقوا على خلعه وتولية الأمير جان بلاط الجركسي — مملوك قايتباي — وبايعوه في ٢ ذي الحجة سنة ٩٠٥، وتلقَّب بالملك الأشرف أبي النصر، وفي السنة التالية شقَّ الأمير طومان باي عليه عصا الطاعة، وذهب إلى دمشق، واتفق مع بعض الأمراء على خلع السلطان جان بلاط، فعملوا بذلك محضرًا بحضور علماء وأمراء دمشق، وتسمى بالملك العادل، ثم قصد مصر فوصلها في جمادى الأولى سنة ٩٠٦، ودخل القاهرة في ١١ منه؛ فتحصَّن جان بلاط في القلعة وحاصره العادل سبعة أيام، ثم دخلها عنوة في ١٨ منه، وقبض على جان بلاط، وأحضر الخليفة والقضاة فقرروا بعزل جان بلاط وتجديد البيعة إلى طومان باي العادل، ثم أرسل جان بلاط إلى سجن إسكندرية، وأقام به إلى أن خنق بأمر العادل في ٤ شعبان سنة ٩٠٦.

وفي أواخر رمضان سنة ٩٠٦ حصلت فتنة بين طوائف المماليك، ففرَّ طومان باي واختفى، ثم ضبط في ذي القعدة وقُتل، وعقب فراره تولَّى الأمير قنصوة الغوري، وتلقب بالملك الأشرف في مستهل شوال سنة ٩٠٦، وفي سلطنته عزل الخليفة المستمسك بالله يعقوب حواليْ سنة ٩٢١، وبويع ابنه محمد، وتلقب بالمتوكل على الله، وهو سادس عشر العباسيين وآخرهم بالديار المصرية، وفي خلافته قصد السلطان الغازي سليم العثماني بلاد الشام ومصر ليفتحها بسبب التجاء أخيه كركود إلى مصر واحتمائه عند الغوري، كما تراه مفصلًا في هذا الكتاب، وحصلت موقعة هائلة بين عساكر الغوري والعثمانيين بمرج دابق بجوار حلب في يوم الأحد ٢٥ رجب سنة ٩٢٢ (٢٤ أغسطس سنة ١٥١٦)، فانتصر العثمانيون وقتل الغوري في أثناء القتال، ودخل السلطان سليم مصر عقب ذلك في أوائل محرم سنة ٩٢٣. وعقب واقعة مرج دابق أُخذ أمير المؤمنين المتوكل ضمن الأسرى، فأكرمه السلطان سليم غاية الإكرام، وبقي معه إلى أن أرسله إلى الآستانة، وهناك حصلت المبايعة منه إلى السلطان سليم العثماني، فانتقلت الخلافة الإسلامية إلى ملوك بني عثمان من ذلك التاريخ. ولما وصل خبر موت الغوري إلى مصر اتفق الأمراء بعد جدال وشقاق على تولية الأمير طومان باي الثاني؛ فبايعوه بالقلعة يوم الخميس ١٤ رمضان سنة ٩٢٢ (١١ أكتوبر سنة ١٤١٦)، وحضر البيعة أمير المؤمنين يعقوب المستمسك بالله المعزول لوجود ابنه الخليفة الحالي بحلب ضمن أسرى السلطان سليم، وكان تولَّى الخلافة بتوكيل مطلق من ولده المتوكل والقضاة والعلماء، وقام طومان باي بمحاربة العثمانيين عدة أشهر، ثم هرب والتجأ إلى الشيخ حسن بن مرعي — أحد مشايخ عربان البحيرة — فأظهر له الصداقة ثم سلمه إلى السلطان سليم فشنقه على باب زويلة في يوم الاثنين ٢١ ربيع الأول سنة ٩٢٣ (١٣ أبريل سنة ١٥١٧)، وبذلك استتبَّ الملك لدولة بني عثمان العلية الشأن، حفظها الله ملحوظة بعنايته الصمدانية إلى آخر الزمان.

١  ويسمون أيضًا الإسماعيلية؛ نسبة لإسماعيل بن جعفر الصادق بن محمد الباقر بن علي زين العابدين بن علي بن أبي طالب — كرم الله وجهه — ويسمون كذلك بالباطنية؛ لاعتقادهم بقاء الإمامة في العلويين، وأن الأرض لا تخلو من إمام مطلقًا، إما ظاهر بذاته أو مستور، وأن أول الأئمة المستورين هو محمد المنتظر ابن حسن العسكري بن علي الزكي بن محمد الجواد بن علي الرضا بن موسى الكاظم بن جعفر الصادق المتقدم ذكره، ويعتقد الباطنيون أن محمدًا المنتظر المذكور اختفى وسنه تسع سنوات، وينتظر ظهوره ثانيًا. وتسمى هذه الطائفة بالاثني عشرية؛ لاعتقادهم أن الأئمة الظاهرية اثنا عشر أولهم الإمام علي — كرم الله وجهه — ثم ولداه الحسن والحسين، ثم علي زين العابدين السالف الذكر، وآخرهم محمد المنتظر. وهم طائفة من الشيعة امتدَّ نفوذهم إلى مشارق الأرض ومغاربها، وكانت قاعدة أعمالهم قلعة الموت، ويقال لهم كذلك الحشاشين؛ لتعاطيهم الحشيشة. وقد كان لهم شأن يذكر أيام الحروب الصليبية، وقتلوا كثيرًا من الأمراء والملوك.
٢  قد تولى الخلافة من الإخوة بالتعاقب الهادي والرشيد ولدا المهدي، والواثق والمتوكل ولدا المعتصم، والأمين والمأمون والمعتصم أولاد هارون الرشيد، والمكتفي والمقتدر والقادر أولاد المعتضد، والراضي والمتقي والمطيع أولاد المقتدر، وجميعهم من العباسيين. وقد تولَّى الخلافة أربعة إخوة من الأمويين؛ وهم الوليد وسليمان ويزيد وهشام أولاد عبد الملك بن مروان.
٣  وهي السيدة نفيسة بنت الإمام حسن بن زيد بن الحسن بن علي بن أبي طالب، أتت من مكة إلى مصر مع زوجها إسحاق بن جعفر الصادق، وأخذ عنها الإمام الشافعي الحديث، وتوفيت بمصر في رمضان سنة ١٠٨.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤