الفصل الرابع عشر

السلطان الغازي أحمد خان الأول وانتصار الشاه عباس

ولد هذا السلطان في ١٢ جمادى الثانية سنة ٩٩٨ (الموافق ١٨ أبريل سنة ١٥٩٠)، فتولى الملك ولم يتجاوز سنه الرابعة عشرة إلا بقليل، ولم يأمر بقتل أخيه مصطفى، بل اكتفى بحجزه بين الخدم والجواري. وكانت أركان الدولة غير ثابتة في كافة بلاد آسيا ونار الحرب مستعرة على حدود العجم شرقًا والنمسا غربًا، وكانت الحرب مع العجم شديدة الوطأة في هذه المرة لتولِّي الشاه عباس١ الشهير قيادتها. ومما جعل لها أهمية أعظم من كافة الحروب السابقة اضطراب الأحوال في الولايات الشرقية عمومًا وسعيُ كل أمة من الأمم المختلفة النازلة بها للحصول على الاستقلال، وكان أهم رؤساء هذه الحركة رجلًا كرديًّا لقب بجان بولاد (ومعناها بالعربية من نفسه كالبولاد) لشدة بأسه وقوَّة إقدامه، والأمير فخر الدين الدرزي، وغيرهما. لكن قيض الله للدولة في هذه الشدة الوزير مراد باشا الملقب بقويوجي الذي عُيِّن صدرًا أعظم، وكان قد تجاوز الثمانين ليكون عونًا وعضدًا للسلطان الفتى، فتقلد مع كبر سنه ووهن قواه قيادة الجيوش، وحارب الثائرين بهمة ونشاط زائدين، فانتصر على فخر الدين وجان بولاد، واقتفى أثرهم حتى اختفيا في بادية الشام، واستمال «قلندر أوغلي» — أحد زعماء الثورة في الأناطول — وعينه واليًا على أنقرة، وقبض على آخر يدعى أحمد بك وقتله بعد أن فرق جنده بالقرب من قونية. ولما رأى جان بولاد الكردي عدم نجاح الثورة سافر للآستانة وأظهر الطاعة للسلطان؛ فعفا عنه وعينه واليًا لتمسوار.

وفي سنة ١٦٠٨ انتصر على من بقي من العصاة بقرب «وان»، وفي السنة التالية قتل آخر زعمائهم المدعو يوسف باشا الذي كان استقلَّ بأقاليم صاروخان ومنتشا وآيدين. وبذلك عادت السكينة وساد الأمن بهمة هذا الشجاع الذي لقب بسيف الدولة عن استحقاق.

هذا؛ وانتهز الشاه عباس هذه الفرصة لاسترجاع بلاد العراق العجمي، واحتل مدائن تبريز ووان وغيرهما. ولمناسبة اضمحلال جيوش الدولة في هذه الحروب — التي استمرت عدَّة سنوات متوالية — وموت أهمِّ قوَّادها، خصوصًا الصدر الأعظم قويوجي، يوم ٥ أغسطس سنة ١٦١١، تراسلت الدولتان على الصلح، وتم الأمر بينهما في سنة ١٦١٢ بمساعي نصوح باشا الذي تولى منصب الصدارة بعد موت قويوجي مراد باشا، على أن تترك الدولة العلية لمملكة العجم جميع الأقاليم والبلدان والقلاع والحصون التي فتحها العثمانيون من عهد السلطان الغازي سليمان الأوَّل القانوني بما فيها مدينة بغداد. وهذه أوَّل معاهدة تركت فيها الدولة بعض فتوحاتها، ويمكننا القول بكل أسف وحزن إنها كانت فاتحة الانحطاط وأوَّل المعاهدات المشئومة التي ختمت بمعاهدة برلين الشهيرة.

أما من جهة المجر والنمسا، ففي أثناء اشتغال الدولة بحروبها الداخلية استبدَّ النمساويون ببلاد المجر، وأساءوا معاملة أشرافها نظير إخلاصهم للدولة العلية حتى رفضوا نير النمسا المسيحية، وطلبوا من الدولة أن ترمقهم بعين حمايتها وتخلِّصهم من استرقاق النمسا لهم، وانتخبوا الأمير «بوسكاي» ملكًا عليهم سنة ١٦٠٥، فانشرحت الدولة لهذه النتيجة التي ما كانت تنتظرها من أمة مسيحية، لا سيما وهي في حالة كربة لكثرة الحروب الداخلية وتقهقر جيوشها أمام الشاه عباس، فقبلت هذا الاسترحام واعتمدت انتخاب «بوسكاي» وأمدته بجيوشها؛ ففتحت في زمن يسير حصون «جران» و«يسجراد» و«سيريم» وغيرها.

وفي سنة ١٦٠٦ خشيت النمسا من امتداد الفتوحات العثمانية؛ فسعت في سلخ بوسكاي عن الدولة؛ فاعترفت بانتخابه ملكًا للمجر وأميرًا لإقليم ترنسلفانيا، وتنازلت عن كافة الأقاليم المجرية التي كانت للسلطان «باتوري» بشرط رجوع ما يكون منها ألمانيًّا — وخصوصًا إقليم ترنسلفانيا — إلى إمبراطور ألمانيا بعد موت بوسكاي. ولزيادة اضطراب أحوال الدولة بآسيا وتعسر استمرار الحرب مع النمسا بدون مساعدة جيوش المجر لها أبرمت الصلح مع إمبراطور النمسا في سنة ١٦٠٦ عينها على أن لا تدفع النمسا الجزية السنوية التي قدرها ثلاثون ألف دوكا في المستقبل مقابل التعويض عنها للدولة بدفع مبلغ مائتيْ ألف دوكا، وأن تضم الدولة العلية لأملاكها حصون «جران» و«أرلو» و«كانيشا». وفي سنة ١٦٠٨ اجتمع نواب النمسا والمجر في مدينة برسبورج وصدَّقوا على هذا الاتفاق، وكذلك صدَّق عليه لمدة عشرين سنة من تاريخ التصديق مندوبو مملكة ألمانيا مجتمعين بهيئة مؤتمر بمدينة «ويانة» سنة ١٦١٥. أما بلاد المجر فبقيت تابعة للدولة بعضها تبعية فعلية والبعض تبعية حماية، وسميت هذه المعاهدة بمعاهدة «ستواتوروك».

وبعد التصديق نهائيًّا على هذا الاتفاق من جميع أولي الشأن توفي «بوسكاي» وامتنع أهالي إقليم ترنسلفانيا عن الدخول ضمن أملاك الإمبراطورية، مفضلين البقاء تحت حماية الدولة العثمانية الإسلامية التي لم تتعرَّض لهم لا في دينهم ولا في عوائدهم اكتفاءً بالجزية السنوية، فعينت لهم الدولة «سجسمون راجوتسكي» ثم «جبرائيل باتوري» ثم «بتلن جابور»، وهو من أشد خصوم دولة النمسا وألدِّ أعدائها. وتعهَّد هذا الأمير بمنع أمراء الفلاخ والبغدان من اقتناء الأراضي والقصور في إمارته حتى لا يلتجئوا إليها لو تمردوا على الدولة، وبتسليمهم لها لو فرُّوا إليها. وبذلك صارت ترنسلفانيا حائلًا بين الإمارتين وبلاد المجر.

هذا؛ ولو أن الحروب انقطعت على كافة حدود الدولة تقريبًا إلا أنه قد حصلت ما بين سنة ١٦١١ وسنة ١٦١٤ بعض مناوشات بحرية بين مراكب الدولة وسفن رهبان مالطة وملك إسبانيا وولايات إيطاليا كان الفوز فيها غالبًا لمراكب الأعداء، ولذلك أمر الصدر نصوح باشا بجمع جميع سفن الدولة في مياه البحر الأبيض المتوسط لصدِّ تعدِّيات مراكب الإفرنج وحفظ طريق البحر بين الآستانة وولايات الغرب، فانتهز بعض أخلاط القوزاق انسحاب السفن الحربية من البحر الأسود وأغاروا على ثغر سينوب ونهبوا ما به. ولما علم السلطان بذلك غضب على الصدر الأعظم وسعى به بعض مبغضيه طمعًا في نوال منصبه، وما فتئوا يوغرون صدر سيده عليه حتى أمر بقتله في ١٤ أكتوبر سنة ١٦١٤، فخنق في قصره.

هذا؛ وازدادت في أيام السلطان أحمد الأوَّل العلاقات السياسية مع دول الإفرنج، فجُدِّدت مع فرنسا العقود والعهود القديمة في سنة ١٦٠٤ مع بعض زيادات طفيفة. وفي سنة ١٦٠٩ جُدِّدت مع مملكة بولونيا الاتفاقات التي أبرمت معها في زمن السلطان محمد الثالث، وأهمُّ ما بها تعهد بولونيا بمنع قوزاق الروسية من الإغارة على إقليم البغدان، وتعهد الدولة العلية بمنع تتار القرم من التعدِّي على حدودها. وفي سنة ١٦١٢ تحصَّلت ولايات الفلمنك٢ على امتيازات تجارية تضارع ما منحته كل من فرنسا وإنكلترا، وهم؛ أي الفلمنك الذين أدخلوا في البلاد الإسلامية استعمال التبع؛ أي تدخين الدخان، فعارض المفتي في استعماله، وأصدر فتوى بمنعه؛ فهاج الجند، واشترك معهم بعض مستخدمي السراي السلطانية حتى اضطروه إلى إباحته. وفي ٢٣ ذي القعدة سنة ١٠٢٦ (الموافق ٢٢ نوفمبر سنة ١٦١٧م) توفي السلطان أحمد الأوَّل وعمره ٢٨ سنة ومدَّة حكمه ١٤ سنة تقريبًا، ولصغر سنِّ ولده عثمان الذي كان لم يتجاوز ثلاث عشرة سنة من عمره خالف العادة المتبعة من ابتداء الغازي السلطان عثمان الأوَّل؛ أي تنصيب أكبر الأولاد أو أحدهم مكان والده، وأوصى بالملك بعده لأخيه.
١  لقب هذا الشاه بالكبير، وخلف محمد مرزا في الملك سنة ١٥٨٥، ونودي به ملكًا في خراسان، ثم سار إلى مدينة مشهد التي كانت قد احتلتها قبائل الأزبك فاستخلصها منهم، وانتصر عليهم بقرب مدينة هرات سنة ١٥٩٧، ثم حارب الترك واستخلص منهم الولايات التي سبق أخذها من مملكة العجم، واحتل مدائن بغداد والموصل وديار بكر، ثم اتَّحد مع شركة الهند الإنكليزية؛ وطرد البرتغاليين من ثغر هرمز، وتوفي سنة ١٠٣٧ھ، الموافقة سنة ١٦٢٨م، بعد أن حكم البلاد بغاية الحكمة والسداد مدة ثلاث وأربعين سنة.
٢  بلاد الفلمنك أو البلاد الواطئة المشهورة الآن باسم هولاندا، مكونة من عدة ولايات كانت في الأصل تابعة لمملكة النمسا، ثم استقلت سبع من الولايات الشمالية في أواخر القرن السادس عشر، وشكلت بهيئة جمهورية سميت بالولايات المتحدة، واستمرت الباقية تابعة لملك إسبانيا لانتقالها إليه بالإرث. وفي سنة ١٧١٤ أعطيت إلى النمسا، وبقيت في حيازتها إلى سنة ١٧٩٠ تقريبًا؛ حيث فتحتها فرنسا. وفي سنة ١٨١٤ شكلت جميع البلاد الواطئة بما فيها الولايات التي كانت متَّحدة، والأراضي المكونة لمملكة بلجيكا الآن بهيئة حكومة ملوكية مستقلة. وفي سنة ١٨٣٠ انقسمت هذه المملكة إلى قسمين؛ سمي الجزء الشمالي منها بمملكة هولاندا، والجنوبي باسم مملكة البلجيكا، وهي مكونة من الولايات التي كانت تابعة لإسبانيا والنمسا. أما هولاندا فمكونة من الولايات التي كانت مشكلة بهيئة جمهورية مستقلة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤