الفصل الثامن عشر

السلطان الغازي إبراهيم خان الأول وفتح جزيرة كريد

هو ابن السلطان أحمد الأوَّل. ولد في ١٢ شوَّال سنة ١٠٢٤ (الموافق ٤ نوفمبر سنة ١٦١٥)، وكان غيرَ ميَّال لمحاربة النمسا فاطمأنَّ خاطرها، وأوعز لأمير ترنسلفانيا بكفِّ العدوان عنها، لكن كان من جهة أخرى محافظًا على كرامة الدولة غير متراخٍ في معاقبة من يمسها بسوء أو يتعدَّى حدودها؛ ولذلك افتتح حروبه الخارجية بإرسال جيش جرار إلى بلاد القرم لمحاربة القوزاق الذين احتلوا مدينة آزاق، فحاربهم العثمانيون وأبلوا فيهم بلاءً حسنًا، واستردوا المدينة منهم بعد أن أحرقوها، وذلك سنة ١٦٤٢، ومن أعماله أيضًا فتح جزيرة كريد، وكانت تابعة لجمهورية البندقية، وحصل فتحها بسبب حكاية غريبة تكاد تقرب من الروايات الموضوعة؛ وذلك أن أغات السراري «قيزلر أغاسي» كان عنده جارية حسناء وضعت حديثًا، فأعجبت السلطان واختارها لأن تكون ظئرًا (أي مرضعة) لابنه الوحيد محمد، ولشغف السلطان بالجارية ومحبته لابنها حصلت بعض أمور داخلية مكدرة، فأراد أغات السراري ملافاةً لهذه الشقاقات العائلية أن يبتعد عن الآستانة بحجة زيارة بيت الله الحرام ويستصحب الجارية وابنها معه.

ولما أذن له السلطان بذلك سافر، وبينما هو في الطريق إذ هاجمته مراكب رهبان مالطة وقتلوه وأخذوا الولد ظنًّا منهم أنه ابن السلطان، ولما تحققوا من غلطتهم ربوا الولد على الدين المسيحي وأدخلوه طائفتهم، واشتهر عند الإفرنج باسم «بدري أوتوماتو»؛ أي الأب العثماني، وبعد ذلك نزل الرهبان إلى جزيرة كريد وأحسن البنادقة وفادتهم؛ فاغتاظ السلطان من ذلك غيظًا شديدًا وحبس قناصل البندقية وإنكلترا وهولاندا، ولم يفرج عنهم إلا بعد أن أقنعه وزيره الأوَّل بأن أغلب هؤلاء الرهبان بل كلهم من الفرنساويين، ومع ذلك فإنهم غير تابعين للحكومة الفرنساوية ولا لغيرها، فهدأ باله، لكنه أمر بتجهيز عمارة بحرية قوية لفتح جزيرة كريد؛ لأهمية موقعها الجغرافي الحربي عند مدخل بحر أرخبيل اليونان، ولتوسطها في الطريق بين الآستانة وولاية الغرب، فجهزت الدونانمة وسارت باحتفال زائد تحت قيادة من يدعى يوسف باشا إلى أن ألقت مراسيها أمام مدينة خانية أهم ثغور الجزيرة في ٢٩ ربيع الآخر سنة ١٠٥٥ (الموافق ٢٤ يونيو سنة ١٦٤٥)، وافتتحها بدون حرب تقريبًا لعدم وصول الدونانمة البندقية إليها في الوقت المناسب، فانتقم البنادقة بحرق ثغور بتراس وكورون ومودون من بلاد مورة.

ويقال إن السلطان أراد في مقابلة ذلك قتل المسيحيين أجمع، ولولا معارضة المفتي أسعد زاده أبي سعيد أفندي لتم هذا الأمر، وربما كانت هذه دسيسة في كتب الإفرنج إلا أنها تشهد على أي حال بحسن سياسة هذا المفتي لسعيه في منع هذا الأمر الذي لو تمَّ كان يلحق بالدولة عارًا عظيمًا كما لحق بمسيحيي إسبانيا لما ارتكبوه من القتل والفتك بالمسلمين بعد فتح مدينة غرناطة.١ وفي سنة ١٦٤٦ فتح أغلب الجزيرة. وفي السنة التالية وضع الحصار أمام مدينة «كنديا» عاصمة الجزيرة، لكن حال دون إتمامه وفتح المدينة عصيان الجنود في الآستانة.

وتفصيله أن السلطان إبراهيم أراد أن يفتك برءوس الانكشارية في ليلة زفاف إحدى بناته على ابن الصدر الأعظم؛ لتذمرهم وانتقادهم على أعماله، ورغبتهم في التداخل في شئون الدولة والخروج عن حدودهم، فعلموا بقصد السلطان وتآمروا على عزله، واجتمعوا بمسجد يقال له «أورطه جامع»، وانضم إليهم بعض العلماء والمفتي عبد الرحيم أفندي، وأهاجوا عساكر الانكشارية والسباة، وقرَّر الجميع بعزله وتولية ابنه محمد الرابع المولود في ٢٩ رمضان سنة ١٠٥١ (الموافق أوَّل يناير سنة ١٦٤٢م)؛ أي الذي لم يتمَّ السابعة من عمره. وتمت هذه الثورة يوم ١٨ رجب سنة ١٠٥٨ (الموافق ٨ أغسطس سنة ١٦٤٨)، وبعد ذلك بعشرة أيام أظهر السباه عدم ارتياحهم من الملك الفتى، وطلبوا إعادة السلطان إبراهيم إلى عرش الخلافة؛ فخشي رؤساء العصابة التي عزلته من تغلب السباه وإرجاعه رغم أنفهم، وصمموا على قتله، فساروا إلى السراي ومعهم الجلاد «قره علي» وقتلوه خنقًا كما قتلوا السلطان عثمان الثاني من قبله، فكانت مدَّة حكمه ٨ سنين و٩ شهور، وسنه ٣٤ سنة، وبذلك ارتاح خاطرهم واطمأنَّ بالهم.

١  هي مدينة ببلاد الأندلس؛ كانت مقرًّا لمملكة بني أمية الغربية، ودخلها الإفرنج سنة ١٤٩٢ في خلافة أبي عبد الله محمد، ومن بقي بها من المسلمين أجبر على الردة أو المهاجرة مع مصادرة أموالهم؛ فهاجر أغلبهم واضطهد من تخلَّف منهم اضطهادًا شديدًا لم يسمع مثله في التاريخ؛ حتى لم يبقَ بها ولا بجميع بلاد الأندلس مسلم واحد، وحُوِّلَتْ جميع مساجدهم إلى كنائس، وبددت كتبهم العلمية، ويوجد بها كثير من الأبنية الغربية محفوظ حتى الآن، وخصوصًا قصر الحمراء الشهير.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤