الفصل التاسع عشر

السلطان الغازي محمد خان الرابع

انفرد بالملك، ولصغر سنه وقعت المملكة في الفوضى، وصارت الجنود لا ترحم صغيرًا ولا توقر كبيرًا، وسعوا في الأرض فسادًا، ورجعت الحالة إلى ما وصلت إليه قبل تولي السلطان مراد الرابع بل إلى أتعس منها، وسرى عدم النظام إلى الجنود المحاصرة لمدينة «كنديا» بكيفية اضطرت قائدهم السر عسكر حسين باشا لرفع الحصار عنها، وكذلك كان سريان هذا الداء العضال إلى الجنود البحرية سبب انهزام الدونانمة العثمانية أمام دونانمة العدوِّ أمام مدينة فوقيه١ سنة ١٦٤٩، ثم ثار بآسيا الصغرى في هذه السنة أيضًا رجل يدعى «قاطرجي أوغلي»، وانضم إليه آخر يدعى «كورجي يني»، وهزما أحمد باشا — والي الأناطول — وسارا إلى القسطنطينية، ولولا وقوع الشقاق بينهما لخيف على العاصمة من وقوعها في قبضتهما، لكن وقع الخلف بينهما وافترقا، فحاربهما الجند وهزم الثاني وقتل وأرسل رأسه إلى السلطان. وتمكن الآخر — وهو قاطرجي أوغلي — من الحصول على العفو عنه وتعيينه واليًا للقرمان. وبذلك انتهت هذه الثورة. ولولا اشتغال النمسا بالحرب الهائلة الدينية المعروفة بحرب الثلاثين سنة٢ لانتهزت هذه الفرصة وفتحت بلاد المجر بدون مقاومة. ومن جهة أخرى لولا ولاء المجر وتفضيلهم الحكومة العثمانية على حكومة النمسا لثاروا طلبًا للاستقلال. وبعد ذلك توالت الثورات تارة من الانكشارية، وطورًا من السباة، وآونة من الأهالي لما يثقل عليهم نير استبداد الجنود، وتعاقب عزل وتنصيب الصدور بسرعة غريبة لم تسبق في الدولة ولا في أيام حكم السلطان سليم تبعًا للأهواء والغايات، واختل النظام أو بعبارة صريحة صار عدم النظام نظامًا للدولة.

وفي هذه الأثناء تغلبت مراكب جمهورية البندقية على عمارة الدولة عند مدخل الدردنيل، واحتلت «تنيدوس» وجزيرة لمنوس وغيرهما، ومنعت بذلك المراكب الحاملة للقمح وأصناف المأكولات عن الوصول إلى القسطنطينية من هذا الطريق حتى غلت جميع الأصناف، واستمرَّ الحال على هذا المنوال ولا نظام ولا أمن ولا سكينة، وبالاختصار لا حكومة ثابتة إلى أن قيَّض لها المولى — سبحانه وتعالى — الوزير محمد باشا الشهير بكوبريلي، الذي تولى منصب الصدارة سنة ١٠٦٧ (الموافقة سنة ١٦٥٦)، فعامل الانكشارية معاملة من يريد أن يطاع إطاعةً عمياء، وقتل منهم خلقًا كثيرًا عندما ثاروا كعادتهم لما رأوه رجلًا خبيرًا بدخائل الأمور قادرًا على قمعهم وإلزامهم العود إلى السكينة، وأمر بعد تعيينه بقليل بشنق بطريرك الأروام لما ثبت له تداخله في الدسائس والفتن الداخلية.

ومما يؤثر عن هذا الوزير الجليل أنه استصدر أمرًا من السلطان بمنع قتل سلفه — وكان قد أمر بقتله — وتعيينه واليًا على «كانيشا». وفي أواسط يوليو سنة ١٦٥٧ أرسل المراكب لمحاربة سفن البنادقة المحاصرة لمدخل الدردنيل، فحاربتها ولم تساعدها الظروف على نوال النصر، ثم بعد موت القائد البحري البندقي الشهير «موشنجو»٣ بنحو ستة أسابيع انتصرت العمارة العثمانية على البنادقة واستردَّت منهم ما احتلوه من الثغور والجزائر.
وفي أثناء ذلك كانت نيران الحروب متأججة بين مملكة بولونيا وشارل جوستاف٤ — ملك السويد — فأرسل هذا سفراء إلى الباب العالي يطلبون منه إبرام معاهدة هجومية ودفاعية لمحاربة بولونيا، وتكون هذه المملكة تحت حماية الدولة بالفعل، فامتنعت عن قبول هذا الوفاق، ولما علمت أن «راكوكسي» — أمير ترنسلفانيا — اتَّحَد مع السويد على قتال بولونيا باتحاده مع قرال الفلاخ والبغدان أمرت بعزله وعزل قرال الفلاخ المدعو قسطنطين الأوَّل، وتعيين «ميهن» الرومي مكانه، فقابل راكوكسي الإرادة السلطانية بالعصيان، وانتصر على العثمانيين بالقرب من «ليبا» سنة ١٦٥٨ لحصول عصيانه فجأة وعدم الاستعداد لصدِّه، ثم سار كوبريلي لقمعه، وضم إلى جنوده جيوش ميهن — أمير الفلاخ الجديد — الذي كان يريد مساعدة راكوكسي، لكنه لم يَرَ بدًّا من مرافقة كوبريلي خوفًا من ظهور خيانته في وقت غير مناسب، وباتحاد الجيشين تمكَّن كوبريلي من قهر هذا العاصي وطرده من البلاد وتعيين من يدعى «أشاتيوس بركسي» قرالًا على ترنسلفانيا بشرط أن يدفع خراجًا سنويًّا قدره أربعون ألف دوكا. وبعد استتباب الأمن عاد الصدر إلى الآستانة، وبمجرَّد عودته أظهر ميهن قرال الفلاخ العصيان، واضطهد المسلمين، وقتل منهم خلقًا كثيرًا، وصادرهم في أموالهم وأملاكهم، واستدعى راكوكسي المعزول لمساعدته واعدًا له بإرجاعه إلى ولايته بعد النصر على العثمانيين، وأرسلوا إلى «غيكا» قرال البغدان يوسوسون له بالانضمام إليهما؛ فلم يُصغِ إلى وساوسهم، ولذلك ساروا إليه وانتصروا عليه بالقرب من مدينة «ياسي»٥ عاصمة إمارته.

ولما وصل خبر تمرُّدهم إلى الآستانة رجع كوبريلي على جناح السرعة لمحاربتهما قبل اشتداد الخطب واتساع الخرق على الراقع، وانتصر عليهما نصرًا مبينًا، ثم عزل ميهن جزاء خيانته وعين «غيكا» قرال البغدان قرالًا على الفلاخ أيضًا سنة ١٦٥٩. وفي السنة التالية احتلَّ والي بود عاصمة المجر مدينة «جروس واردين» التابعة للنمسا بعد مناوشات خفيفة، فاعتبرت النمسا ذلك إعلانًا للحرب، وابتدأت الحركات العدوانية بين الطرفين.

هذا؛ ولنذكر شيئًا من علاقات الدولة مع فرنسا أثناء هذه الاضطرابات الداخلية التي جرت فيها الدماء وقتل فيها ملكان كما مَرَّ، فنقول: إنه لم يحصل تغير في هذه العلاقات إلا في وقت اشتغال فرنسا في محاربة النمسا أيام وزارة «الكاردينال ريشليو»٦ الذي كان عاملًا على إذلالها إعلاءً لشأن فرنسا، فأخذ نفوذ فرنسا لدى الباب العالي في الضعف شيئًا فشيئًا حتى تقاسمت معها البندقية حق حماية الكنائس المسيحية في غلطة أيام السلطان مراد الرابع الذي طرد طغمة اليسوعيين من الآستانة سنة ١٦٢٨ بناءً على إلحاح سفراء إنكلترا وهولاندا؛ سعيًا وراء إضعاف نفوذ الكاتوليك وتقرير نفوذ البروتستانت بما أن دولتيْ إنكلترا وهولاندا كانتا في ذلك العصر بروتستانتيين دون باقي الدول الأوروبية، ولعدم مدافعة فرنسا عن امتيازاتها اختص اليونانيون بخدمة بيت المقدس، مع أن ذلك كان منوطًا بالرهبان الكاتوليك بمقتضى المعاهدات المبرمة مع سليمان الأوَّل، وتجدَّدت أيام محمد الثالث وأحمد الأوَّل كما مَرَّ، ومما زاد علاقات الدولتين فتورًا وجعل الحق بجانب الدولة العثمانية تداخل فرنسا سرًّا بمساعدة البنادقة على الدفاع عن جزيرة كريد وإمدادها لهم بالسلاح، وضبط عدَّة مراسلات رمزية كانت مرسلة إلى المسيو «دي لاهي» مع شخص فرنساوي موظف في بحرية البندقية، وهو سلمها بنفسه إلى الوزير «كوبريلي» سنة ١٦٥٩ طمعًا في المال، وكان إذ ذاك بمدينة أدرنة. ولما لم يمكنه حلُّ رموزها أرسل إلى الآستانة يستدعي السفير الفرنساوي، ولتمرُّضه أرسل ولده إلى أدرنة مكانه، فلما مثل بين يدي الصدر الأعظم وسأله عن معنى هذه الرموز لم يراعِ في جوابه آداب المخاطبة، فأمر بسجنه في الحال.
ولما بلغ خبر سجنه إلى والده سافر إلى أدرنة خوفًا على حياة ولده، ولم يمنعه اشتداد مرضه عن السفر، وقابل الوزير كوبريلي محمد باشا، ولما لم يرشده السفير عن معنى الجوابات المرموزة لم يقبل إخلاء سبيل ابنه، بل سافر إلى ولاية ترنسلفانيا ولم يطلق سراحه إلا بعد عودته في سنة ١٦٦٠، ولما علم الكردينال مازرين٧ بحبس ابن السفير أرسل إلى الآستانة سفيرًا فوق العادة اسمه المسيو دي بلندل ومعه جواب من سلطان فرنسا يطلب فيه الاعتذار عما حصل وعزل الصدر الأعظم، لكن لم يسمح لهذا السفير بالوصول إلى السلطان، بل قابله الصدر الأعظم بكل تعاظم وكبرياء، ولذلك ساعدت فرنسا جزيرة كريد جهارًا وأرسلت إليها أربعة آلاف جندي، وأجازت إلى البندقية جمع عساكر متطوِّعة من فرنسا، وأمدَّت النمسا بالمال طمعًا في إشغال الدولة وانتقامًا منها، لكن لم تُثنِ هذه الإجراءات عزيمة كوبريلي محمد باشا، بل ما لبث يقاوم أعداء الدولة في الداخل والخارج حتى أعاد لها سالف مجدها وجعلها محترمة في أعين الدول أجمع بعد أن كادت تؤدي بها الفتن الداخلية إلى الدمار. ولما أحسَّ باقتراب أجله لاشتداد المرض عليه طلب منه السلطان محمد الرابع أن يدله على من يعينه خلفًا له بعد وفاته، فأوصاه بتولية ابنه أحمد، ثم توفي سنة ١٠٧٢ (الموافقة سنة ١٦٦١)، وخلفه ابنه كوبريلي زاده أحمد باشا.

فتح قلعة نوهزل

وكان خير خلف لخير سلف؛ فإنه كان متصفًا بالشجاعة والإقدام وحسن الرأي وأصالة التدبير، واستمر على خطة أبيه من عدم التساهل مع الجندية ومجازاة من يقع منه أقل أمر مخل بالنظام بأشدِّ العقاب، ومحاربة أعداء الدولة بدون فتور أو ملال حتى يُزيل من أذهانهم ما خامرها من تضعضع أحوال الدولة وقرب زوالها. ولذلك لم يقبل ما فاتحته به دولة النمسا وجمهورية البندقية من الصلح، وقاد الجيوش بنفسه، وعَبَرَ نهر الطونة لمحاربة النمسا، ووضع الحصار أمام قلعة «نوهزل» في يوم ١٣ محرم سنة ١٠٧٤ (الموافق ١٧ أغسطس سنة ١٦٦٣). ومع أن هذه القلعة كانت مشهورة في جميع أوروبا بالمناعة وعدم إمكان أي أحد التغلب عليها وفتحها، فقد اضطر كوبريلي أحمد باشا حاميتَها إلى التسليم بشرط خروج من بها من الجنود بدون أن يمسهم ضرر، تاركين ما بها من الأسلحة والذخائر، وأخلوها فعلًا في ٢٥ صفر سنة ١٠٧٤ (الموافق ٢٨ سبتمبر سنة ١٦٦٣) بعد البدء في حصارها بستة أسابيع.

ولذلك اضطربت أوروبا بأجمعها لهول هذا الخبر الذي دوَّى في آذان ملوك أوروبا ووزرائها كالرعد حتى وضعوا أصابعهم في آذانهم من الصواعق حذر الموت. وكان هذا الفتح المبين أشد تأثيرًا على ليوبولد٨ — إمبراطور النمسا — أكثر من غيره لدخول الجيوش العثمانية في بلاده وانتشارها في إقليميْ مورافيا وسيليزيا فاتحين غازين، حتى خُيِّل له أن السلطان سليمان قد بعث من رمسه لفتح ويانة عاصمة دولته. ولذلك وسط البابا إسكندر السابع في طلبه المساعدة له من لويز الرابع عشر٩ — ملك فرنسا — وكان قد عرض عليه في ابتداء الحرب إمداده بأربعين ألفًا من الألمانيين المحالفين له، فأبى خوفًا من إظهار الضعف، فسعى البابا جهده لدى ملك فرنسا حتى قبل بإرساله ستة آلاف جندي فرنساوي وأربعة وعشرين ألفًا من محالفيه الألمانيين تحت قيادة الكونت دي كوليني.

وانضم هذا الجيش إلى الجيش النمساوي القائد له الكونت دي ستروتزي، وابتدأت المناوشات بين الجيشين المتحاربين، فقتل القائد العام النمساوي وخلفه القائد الشهير «مونت كوكوللي»، وكان قد انضم إلى الجيش الفرنساوي عدد عظيم من شبان الأشراف تحت رئاسة الدوك دي لافوياد. وفي الأوائل كان النصر في جانب العثمانيين، فاحتل كوبريلي أحمد باشا مدينة «سرنوار» وعسكر على شاطئ نهر يقال له نهر «راب» والأعداء معسكرون أمامه، وبعد أن حاول عبوره وصدَّه الجيش النمساوي الفرنساوي جمع كل قواه في يوم ٨ محرم سنة ١٠٧٥ (الموافق أوَّل أغسطس سنة ١٦٦٤) وعبر النهر عنوة. وبعد قليل انتصر على قلب جيش العدوِّ، ولولا تدخل الفرنساويين، وخصوصًا الأشراف منهم لتمَّ للعثمانيين النصر. لكن لم يمكن الانكشارية الثبات أمام جنود العدوِّ الأكثر منهم عددًا؛ فإنهم كلما قتل منهم صف تقدَّم الآخر، وبذلك انتهى اليوم بدون انتصار تام لأحد الفريقين، فإن العثمانيين حافظوا على مراكزهم بدون تقدم للأمام، وسميت هذه الواقعة بواقعة «سان جوتار»؛ نسبة لكنيسة قديمة حصلت الحرب بالقرب منها. وبعد ذلك تبادلت المخابرات توصلًا للصلح. وبعد عشرة أيام أبرمت بين الطرفين معاهدة أهم ما بها إخلاء الجيش لإقليم ترنسلفانيا وتعيين «أبافي» حاكمًا عليها تحت سيادة الدولة العلية، وتقسيم بلاد المجر بين الدولتين بأن يكون للنمسا ثلاث ولايات وللباب العالي أربعة، مع بقاء حصني «نوفيجراد» «ونوهزل» تابعين للدولة العلية.

هذا؛ ولو أن الحرب انتهت على حدود النمسا إلا أن فرنسا ما زالت مراكبها تطارد سفن المغرب بحجة أنها تغزو سفنها. وما زالت هذه حجتهم حتى استولوا على إقليمي الجزائر وتونس في هذا القرن، واستمر هذا الحرب مدَّة بغير صفة رسمية. وفي سنة ١٦٦٦ أرسل الوزير الفرنساوي «كولبر»١٠ الذي خلف «مازارين» سفيرًا للدولة لإصلاح ذات بينهما، لكن لم يصب في الانتخاب؛ فإنه أرسل ابن المسيو دي لاهي الذي حبسه الوزير كوبريلي أحمد باشا في أدرنة كما سبق ذكره، ولذلك لَمْ تُفِدْ مأموريته شيئًا، بل أبى الصدر تجديد الامتيازات الفرنساوية التجارية، وحرمها حقَّ إمرار بضائعها من مصر فالسويس إلى الهند، وزيادة على ذلك منحت إلى جمهورية «جنوا» امتيازات خصوصية شبيهة بامتيازات إنكلترا، ولذلك جاهرت فرنسا بمساعدة مدينة «كانديا» على محاربة العثمانيين، فسار الصدر سنة ١٦٦٧ بنفسه لتتميم فتح هذه المدينة الحصينة التي كادت تعيي الدولة. واستمر الحصار والقتال مدَّة أكثر من سنتين لإمداد فرنسا لها بالمال والرجال والسفن الحربية، وأخيرًا اضطرت الحامية إلى التسليم، فسلمها قائدها «موروزيني» في ٢٩ ربيع الآخر سنة ١٠٨٠ (الموافق ٢٦ سبتمبر سنة ١٦٦٩) بعد أن أمضى مع الصدر معاهدة بالنيابة عن جمهورية البندقية تقضي بالتنازل للدولة العلية عن جزيرة كريد ما عدا ثلاث قرى، وهي: «قره بوزا» و«سودا» و«سبينا لونجا»، وصدَّقت البندقية عليها في فبراير سنة ١٦٧٠، وفي هذه الأثناء كان المسيو دي لاهي — سفير فرنسا — مقيمًا بالآستانة يسعى جهده في الحصول على تجديد الامتيازات فلم يفلح.

وفي سنة ١٦٧٠ أرسل لويز الرابع عشر سفيرًا غيره يدعى الماركي دي نوانتل بعمارة بحرية حربية بقصد إرهاب الصدر وتهديده بالحرب إذا لم يذعن لطلبات فرنسا، لكن لم ترهبه هذه التظاهرات، بل قابل السفير بكل سكون وقال له: إن تلك المعاهدات لم تكن إلا منحًا سلطانية لا معاهدات اضطرارية واجبة التنفيذ، وإنه إن لم يرتح لهذا الجواب فما عليه إلا الرحيل. ولما وصل هذا الجواب إلى ملك فرنسا أراد إعلان الحرب على الدولة، ولولا نصائح الوزير «كولبر» لركبت فرنسا هذا المركب الخشن، وجلبت لنفسها ضررًا فادحًا بقفل أبواب الشرق أمام مراكبها، بل تمكَّن كولبر بحكمته وسياسته ومعاملة الدولة العلية باللين والخضوع من تجديد المعاهدات القديمة في سنة ١٦٧٣، وفوَّض ثانيًا إلى فرنسا حق حماية بيت المقدس كما كان لها ذلك من أيام السلطان سليمان، وبذلك عادت العلاقات إلى سابق صفائها بين الدولتين.

ومما زاد حدود الدولة اتساعًا ومنعة من جهة الشمال خضوع جميع القوزاق الساكنين بالجزء الجنوبي من بلاد الروسيا إلى الخليفة الأعظم محمد الرابع بدون حرب، بل حبًّا في الدخول في حمى حامي دولة الإسلام. ولذلك أغارت بولونيا على ولاية «أوكرين»، فاستنجد حاكمها الأكبر بالعثمانيين، فأنجده السلطان وسار بنفسه في جيش جرار، ووصل في قليل من الزمن إلى حصن رامنيك في ٢٣ ربيع الآخر سنة ١٠٨٣ (الموافق ١٨ أغسطس سنة ١٦٧٢)، واحتل هذا الحصن عنوة بعد محاصرة استمرت عشرة أيام. وكذلك احتل مدينة لمبرج الشهيرة،١١ فطلب سلطانهم «ميشل» الصلح على أن يترك إقليم أوكرين للقوزاق وولاية «بودوليا» للدولة العلية، ويدفع لها جزية سنوية قدرها مائتان وعشرون ألف بندقي ذهبًا، فقبل السلطان هذه الشروط وأمضيت بينهما في ٢٥ جمادى الأولى سنة ١٠٨٣ (الموافق ١٨ سبتمبر سنة ١٦٧٢)؛ أي بعد إعلان الحرب بشهر واحد، وسميت هذه المعاهدة بمعاهدة بوزاكس.

لكن لم تقبل الأمة البولونية بهذا الوفاق، بل أصرَّت على استمرار القتال، وأرسلت قائدهم الشهير سوبيسكي بجيوش جرارة لمحاربة العثمانيين فاستردَّ مدينة لمبرج. وإظهارًا لممنونية الأمة انتخبته ملكًا عليها بعد موت ميشل سنة ١٦٧٣، واستمرَّت الحرب بين الدولتين سجالًا إلى سنة ١٦٧٦، وفيها جدَّد الملك سوبيسكي الصلح بعد أن فقد معظم جيوشه في هذه الحروب المستمرَّة، وتنازل للدولة العلية عما كان تنازل لها عنه الملك ميشل إلا بعض مدن قليلة الأهمية، وكانت هذه المعاهدة خاتمة أعمال كوبريلي أحمد باشا الذي توفي بعد إتمامها بقليل في ٢٤ رمضان سنة ١٠٨٧ (الموافق ٣٠ أكتوبر سنة ١٦٧٦) عن إحدى وأربعين سنة قضى منها خمس عشرة سنة في منصب الصدارة العظمى بكل أمانة وصداقة سائرًا في ذلك على خطة والده المرحوم كوبريلي محمد باشا. وتقلد منصب الصدارة بعده زوج أخته قره مصطفى، ولم يكن كفؤًا للسير في الطريق الذي رسمه كوبريلي الكبير وولده، بل اتبع مصلحته الذاتية وباع المناصب العالية والمعاهدات والامتيازات المجحفة بالدولة حالًا واستقبالًا بدراهم معدودة. وبسوء سياسته كدَّر خواطر القوزاق وأبعدهم عن الدولة، حتى إن خان إقليم «أوكرين» عصاها جهارًا في فبراير سنة ١٦٧٧، واستنجد بالروسيا التي كانت آخذة إذ ذاك في تنظيم داخليتها وتقدُّم أمتها، وكانت تتوق للدخول ضمن المجتمع الأوروبي فأمدَّته بالرجال وحاربت عساكر الدولة، واستمرَّ الحرب بين القوزاق والروس من جهة والعثمانيين من جهة أخرى بين أخذٍ وردٍّ حتى سنة ١٦٨١، حيث تمَّ الصلح بينهم على بقاء الحالة على ما كانت عليه قبل ابتداء الحرب، وسميت هذه المعاهدة بمعاهدة رادزين.

وفي هذه السنة سار قره مصطفى باشا إلى بلاد المجر لمحاربة النمسا بناءً على استدعاء «تيليكي» أحد أشراف المجر الذي أثار الإيالات المجرية التابعة للنمسا للتخلص من استبدادها الديني، فإن الإمبراطور ليوبولد لكونه كاتوليكيًّا كان يأمر بقتل كل من يلوح عليه أدنى ميل إلى مذهب البروتستانت.

حصار مدينة ويانة آخر دفعة

وبعد أن انتصر عدَّة مرات على النمساويين قصد مدينة ويانة — عاصمة النمسا — فحاصرها سنة ١٦٨٣ مدَّة شهرين، واستولى على كافة قلاعها الأمامية وهدم أسوارها بالمدافع وألغام البارود. ولما لم يبقَ عليه إلا المهاجمة الأخيرة المتممة للفتح أتى سوبيسكي — ملك بولونيا — ومنتخبي «ساكس» و«بافييرا» بجيوشهم بناءً على إلحاح البابا عليهم واستنهاضه هممهم لمحاربة المسلمين حتى أضرم في قلوبهم نار التعصب الديني. وفي يوم ٢٠ رمضان سنة ١٠٩٤ (الموافق ١٢ سبتمبر سنة ١٦٨٣) هاجم سوبيسكي ومن معه العثمانيين في المرتفعات المتحصنين بها، وبعد أن استمرَّ القتال طول النهار فاز المسيحيون بالنصر وانهزم قره مصطفى باشا وجيوشه أمامهم، تاركًا كافة المدافع والذخائر والمؤن، فكان يومًا مشهودًا يجعل الولدان شيبًا، ثم جمع قره مصطفى باشا ما بقي من جنوده ولمَّ شعثهم على نهر «راب»، ومن هناك قَفَلَ راجعًا إلى مدينة بود والملك سوبيسكي سائر خلفه يقتل كل من يتخلَّف في السير، وفتح مدينة جران بكل سهولة. ولما وصل خبر هذا الخذلان الذي لم يسبق لجيوش الدولة أمر السلطان محمد الرابع بقتل الصدر قره مصطفى باشا، وأرسل أحد رجال حاشيته فقتله وأرسل برأسه إلى القسطنطينية، وعين مكانه إبراهيم باشا سنة ١٠٩٥.

وبعد استخلاص مدينة ويانة تألبت كلٌّ من النمسا وبولونيا والبندقية ورهبنة مالطة والبابا ومملكة الروسيا على محاربة الدولة الإسلامية الوحيدة لمحوها من العالم السياسي. والذي يدل على أن هذا التحالف كان دينيًّا محضًا تسميته بالتحالف المقدَّس، ومما زاد أحوال هذه الدولة القائمة بمفردها أمام جميع الدول المسيحية ارتباكًا قطع العلاقات بينها وبين فرنسا بسبب المناوشات البحرية المستمرة بين مراكبها وقرصانات المغرب. فإن الأميرال دوكين١٢ تبع ثماني مراكب من ميناء طرابلس الغرب إلى جزيرة ساقز، ولما التجأت إلى فرضتها وأراد الأميرال الدخول إلى الميناء خلفها ومنعه حاكم الجزيرة أطلق مدافعه على المدينة بدون إعلان حرب وجاوبته قلاعها، ولم يمتنع عن إلقاء القنابل على بيوت السكان حتى دمر المدينة.

وفي سنة ١٦٤٨ أطلق دوكين أيضًا المدافع على مدينة الجزائر بالغرب مدَّة، ولم يكف عن إلقاء المقذوفات النارية عليها حتى دفع إليه أهلها مليونين ومائتيْ ألف غرش غرامة حربية، وأطلقوا سراح من عندهم من أسرى الفرنساويين. وفي السنة التالية فعل هذا الأمر الشنيع أيضًا في ميناء طرابلس الغرب، ولاشتغال الدولة بمحاربة التحالف المقدَّس ضربت كشحًا من هذه التعدِّيات المخالفة لقوانين الحرب، ووجهت اهتمامها إلى الجيوش المتعددة التي زحفت على بلادها من كل حدب؛ فإن جيوش الملك سوبيسكي كانت تهدد بلاد البغدان وسفن البنادقة تهدد سواحل اليونان وبلاد مورة، ولعدم وجود المراكب الكافية لصدِّ هجمات سفن البنادقة التي كانت تعززها مراكب البابا ورهبنة مالطة احتلت جيوش البنادقة في سنة ١٦٨٦ أغلب مدن اليونان حتى كورنته وآتينه. أما النمسا فأغارت جيوشها على بلاد المجر، واحتلوا مدينة يست الواقعة أمام مدينة بود، وحاصروا هذه المدينة أيضًا، ولولا مدافعة حاكمها وحاميتها دفاع الأبطال لسقطت في أيديهم.

وفي سنة ١٦٨٥ احتل النمساويون عدَّة حصون وقلاع شهيرة أهمها قلعة نوهزل. وبسبب هذه الانهزامات المتعاقبة عزل الصدر إبراهيم باشا ونفي في جزيرة رودس، ولم يلبث في منصب الصدارة إلا سنتين، وتعين مكانه السر عسكر سليمان باشا، وكان مشهورًا بحسن التدبير والشجاعة والإقدام، لكن كانت الدولة قد وصلت إلى درجة من التقهقر أمام هذه القوى المتألبة عليها صار معها الخلاص صعبًا، لا سيما وقائد الجيوش النمساوية كان الدوك دي لورين الشهير.

وكان أول أعمال سليمان باشا الإسراع إلى إنجاد مدينة بود التي كان يحاصرها الدوك دي لورين بتسعين ألف جندي، لكن لم تُجْدِ مساعدته شيئًا، فإن القائد المذكور دخلها عنوة في يوم ١٣ شوال سنة ١٠٩٧ (الموافق ٢ سبتمبر سنة ١٦٨٦) بعد أن قتل حاكمها عبدي باشا وأربعة آلاف من جنوده في الدفاع عنها، ولم تدخل هذه المدينة ثانيًا في حوزة العثمانيين إلى الآن.

وبعد سقوط هذه المدينة في قبضة النمساويين ومحالفيهم أراد الصدر سليمان باشا أن يأتي عملًا يكفِّر عنه عند الأمة ما أتاه من التهاون في مساعدة مدينة بود، لكن أتاه الضرر من حيث كان يريد النفع لنفسه؛ فإنه جمع من بقايا كتائبه جيشًا مؤلفًا من ستين ألف مقاتل يعززهم سبعون مدفعًا، وانتظر انقضاء الشتاء والربيع لشدة بردهما وكثرة ما يسقط فيهما من الثلوج في هذه الجهات، باذلًا جهده في جمع الذخيرة الكافية وفي تدريب جنوده خيفة الفشل والتصاق الهوان باسمه، ثم هاجم جيوش التحالف المقدَّس في سهل موهاكز الذي سبق انتصار العثمانيين فيه على المجر نصرًا عزيزًا قبل هذا التاريخ بمائة وستين سنة، فالتحم الجيشان في ٣ شوال سنة ١٠٩٨ (الموافق ١٢ أغسطس سنة ١٦٨٧)، وبعد قتال شديد دارت الدائرة على الجيوش العثمانية فانهزموا عن آخرهم، وأخذ العدوُّ في جمع ما معهم من المدافع والسلاح والمؤن والذخائر، واحتلت جيوشه إقليم ترنسلفانيا وعدَّة قلاع من «كرواسيه». ولما ذاع خبر هذا الانكسار بين الجيوش الموجودة بالآستانة هاجوا وماجوا وأرسلوا للجيوش الباقية مع الصدر سليمان باشا؛ فأشهروا عليه العصيان، ولولا فراره إلى بلغراد لأعدموه الحياة، ثم أرسل الانكشارية والسباه وفدًا للآستانة يطلب من السلطان الأمر بقتل الصدر، فلم ير بدًّا من ذلك، وأمر بقتله تسكينًا لثورة غضب الجند. ولما لم يفد شيئًا ولم تعد السكينة بين الجيوش وخيف على المملكة العثمانية من الداخل، قرر الوزير الثاني (القائممقام) قره مصطفى باتحاده مع العلماء عزل السلطان محمد الرابع؛ فعزلوه في ٢ محرم سنة ١٠٩٩ (الموافق ٨ نوفمبر سنة ١٦٨٧م) بعد أن حكم أربعين سنة وخمسة أشهر، وبقي في العزلة إلى أن توفي في ٨ ربيع الآخر سنة ١١٠٤ (الموافق ١٧ دسمبر سنة ١٦٩٢م) بالغًا من العمر ٥٣ سنة، ودفن في تربة والدته ترخان سلطان وولوا بعد عزله أخاه.

١  مدينة يونانية قديمة اسمها «فوسه» على ساحل البحر المتوسط، وتبعد عن مدينة أزمير بنحو ٤٢ كيلومترًا، وكانت في أيام اليونان القدماء زاهرة متقدمة. ويقال إن مؤسسي مدينة مرسيليا بفرنسا من سكانها، وهي الآن منحطة وتجارتها لا تذكر؛ بسبب وقوعها بالقرب من أزمير، ولا يزيد عدد سكانها عن أربعة آلاف نسمة.
٢  هي الحرب التي تأجَّج سعيرها بين الكاثوليك والبروتستانت من سنة ١٦١٨ إلى سنة ١٦٤٨، وانتهت بمعاهدة وستفاليا؛ التي تعتبر أساس التوازن الدولي في أوروبا.
٣  قائد بحري من عائلة قديمة جدًّا بالبندقية، نبغ منها عدة رؤساء لهذه الجمهورية.
٤  ولد هذا الملك الشهير في سنة ١٦٢٢، وتولى ملك السويد سنة ١٦٥٤، وكان ميالًا للحرب لتوسيع نطاق مملكته والسيادة على شمال أوروبا؛ فحارب بولونيا سنة ١٦٥٥، وقهر جيوشها في واقعة وارسوقيا، وفتح معظم ولاياتها، ثم حارب الدانمرك في شتاء سنة ١٦٥٧. ولشدة البرد وتجمد مياه البحر بين سواحل السويد ومدينة كوبنهاج — عاصمة الدانمرك — مَرَّ بجيوشه على البحر وهاجم المدينة، ودخلها وألزم ملكها أن يتنازل له عن عدة مقاطعات مهمة، ثم عاود عليها الكرة. وفي أَثناء حصارها توفي في سنة ١٦٦٠؛ ونجت الدانمرك منه.
٥  تسمى هذه المدينة ياش عند الترك؛ وهي مدينة رومانية قديمة، وعاصمة ولاية البغدان، وأطلق اسمها على معاهدة أمضيت فيها بين الروس والدولة العلية في ٩ يناير سنة ١٧٩٢.
٦  اشتهر هذا الكاردينال في تاريخ العالم الأوروبي بالسياسة والتدبير، ويسميه البعض بسمارك زمانه. وكانت كل مساعيه موجهة نحو أمرين: أولها إذلال أشراف فرنسا لتقوية سلطة الحكومة، وثانيهما: إضعاف مملكة النمسا حتى لا يُخْشَى منها على فرنسا؛ فساعد جوتساف أدولف — ملك السويد — على محاربتها، ثم حاربتها فرنسا جهارًا، وبسبب سياسته هذه أمضيت معاهدة وست فاليا الشهيرة سنة ١٦٤٨ بعد موته بست سنوات، واضطهد البروتستانت، وفتح مدينة لاروشيل التي احتموا بها سنة ١٦٢٨. وكان محبًّا للانتقام لا يتأخر أمام أي أمر لنفاذ أغراضه، لكنه أفاد فرنسا في الداخل والخارج، ولولاه لسقطت بسبب ضعف ملكها لويز الثالث عشر، ووهن عزيمته؛ ولهذا الكردينال الفضل في تأسيس مجلس العلوم الفرنساوي «أكاديمي» سنة ١٦٣٥، وتأسيس حديقة النباتات وعدة مدارس أخرى. وكانت ولادته سنة ١٥٨٥ ووفاته سنة ١٦٤٢.
٧  ولد هذا الكردينال بإحدى مدن إيطاليا سنة ١٦٠٢، واستدعاه ريشليو إلى فرنسا ليرشحه لمنصب الوزارة. ولما قرب موته أوصى الملك لويز الثالث عشر بتنصيبه بعده؛ فعينه وزيرًا بعد وفاته سنة ١٦٤٣، ثم عضوًا في مجلس الوصاية على ولده لويز الرابع عشر، وبحسن سياسته أمضيت معاهدة وست فاليا ومعاهدة البيريني. وتوفي سنة ١٦٦١، بعد أن سهل سبل ارتقاء فرنسا إلى أوج عظمتها في عهد لويز الرابع عشر الملقب بالكبير.
٨  هو ليوبولد الأول إمبراطور ألمانيا، ولد سنة ١٦٤٠، وتولى بعد موت أبيه فردينان الثالث سنة ١٦٥٨، وحارب الترك وقاومهم مقاومة شديدة في واقعة سان جوتار؛ حيث كانت جيوشه تحت قيادة الجنرال منت كوكللي في سنة ١٦٦٤. وفي عهده ضمت بلاد الإلزاس إلى فرنسا، وفي سنة ١٦٨٣ قصد العثمانيون مدينة ويانة عاصمة بلاده وحاصروها بالاتحاد مع المجر؛ ولولا مساعدة جميع الممالك المسيحية له تقريبًا لسقطت في قبضتهم. وفي سنة ١٦٩٩ أمضى مع الباب العالي معاهدة كارلوفتس الشهيرة، التي سيأتي ذكرها في صلب هذا الكتاب، وفي أواخر حكمه ابتدأت بينه وبين فرنسا الحرب بسبب ملك إسبانيا، الذي كان يريد لويز الرابع عشر إقامة حفيده فيليب الخامس ملكًا عليها. وتوفي سنة ١٧٠٥ قبل انتهاء هذه الحروب.
٩  ولد هذا الملك العظيم الشأن سنة ١٦٣٨، وتولى الملك بعد موت أبيه لويز الثالث عشر وسنه خمس سنوات، وكانت أيامه أيام حروب مع إسبانيا والنمسا وغيرهما، وتألَّبت عليه أغلب الدول أكثر من مرة، وتاريخه مشحون بالوقائع الشهيرة، التي امتاز فيها كثير من القواد البرية والبحرية مما يطول شرحه، وفي عصره تقدمت جميع العلوم ونمت التجارة والزراعة، لكن تضعضعت الأحوال في آخر حكمه؛ بسبب استمرار الحروب. ومما يجعل في تاريخه نقطة سوداء اضطهاد البروتستانت، وإلغاؤه ما منحه لهم هنري الرابع من الحرية الدينية بمقتضى الأمر السامي الصادر في مدينة «نانت»، حتى هاجر كثير من الأشراف والمزارعين والصناع إلى البلاد الخارجية للتمتع بالحرية الدينية. وتوفي في أول سبتمبر سنة ١٧١٥ عن ٧٧ سنة، وكانت مدة حكمه ٧٢ سنة، وخلفه في الملك لويز الخامس عشر ابن أحد أحفاده.
١٠  اقتصادي شهير، ولد سنة ١٦١٩؛ فتدرب على الأعمال في وزارة الكردينال مازرين. وفي سنة ١٦٦٢ عُيِّنَ مراقبًا عامًّا للمالية؛ فأجرى بها عدة إصلاحات، وسوى كافة ديون الحكومة ونقص الضرائب حتى عمَّت الرفاهية والثروة، وإليه يرجع فضل تأسيس المرصد الفلكي، وفتح خليج لانج دوك الموصل بين البحر الأبيض المتوسط والمحيط الأطلانطيقي؛ لسهولة الملاحة، وله عدة مآثر أخرى يضيق المقام عن حصرها. وفي سنة ١٦٦٩ أضاف إليه الملك نظارة البحرية؛ فرتبها أحسن ترتيب، وأنشأ عدة سفن. وتوفي سنة ١٦٣٨، بعد أن خلَّد اسمه في تاريخ فرنسا بأعماله التي لم يزل كثير منها باقيًا إلى الآن.
١١  هي عاصمة ولاية غاليسيا التابعة لمملكة النمسا، ويبلغ عدد سكانها ١٢١ ألف نسمة، وتبعد عن مدينة ويانة بمسافة ٥٨٠ كيلومترًا في الاتجاه الشمالي الشرقي. واشتهرت في التاريخ بدخول شارل الثاني — ملك السويد — بها عنوة سنة ١٠٧٤، وتنصيبه ستانسلاس ملكًا على بولونيا ضد رغائب في الدول، وهي تابعة للنمسا من عهد تقسيم بولونيا سنة ١٧٧٣.
١٢  ولد هذا الأميرال بمدينة «ديبيب» — من أعمال فرنسا — سنة ١٦١٠ من عائلة شريفة، واتخذ الملاحة مهنة، ونبغ فيها بسرعة غريبة حتى صار ربانًا لسفينة وسنه سبع عشرة سنة. ولما حصلت الاضطرابات في صغر لويس الرابع عشر؛ هاجر إلى بلاد السويد، وعين بها «فيس أميرال»، وانتصر على دونانمة الدانيمرك، وفي سنة ١٦٤٧ رجع إلى فرنسا. واشتهر في عدة وقائع شهيرة، وبسبب اتباعه لمذهب البروتستانت لم يعين أميرالًا، ولم يُمنح ما كان يستحقه من ألقاب الشرف. وتوفي سنة ١٦٨٨.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤