الفصل الرابع والعشرون

السلطان الغازي محمود خان الأول وظهور نادر شاه

هو ابن السلطان مصطفى الثاني، ولد في ٤ محرم سنة ١١٠٨ (الموافق ٣ أغسطس سنة ١٦٩٦). ولما تولى لم يكن له إلا الاسم فقط، وكان النفوذ لبطرونا خليل، يولي من يشاء ويعزل من يشاء تبعًا للأهواء والأغراض، حتى عيل صبر السلطان من استبداده، وتجمهر حوله رؤساء الانكشارية لتعدِّي هذا الزعيم على حقوقهم، واتفقوا على الغدر به تخلصًا من شرِّه فقتلوه، ولم يَقْوَ مُحازِبُوه على الأخذ بثأره، بل أطفئت ثورتهم في دمائهم، وبذلك عادت السكينة للمدينة وأمن الناس على أموالهم وأرواحهم.

وبعد أن استتبَّ الأمن استأنفت الدولة الحرب مع مملكة الفرس، وتغلبت الجيوش العثمانية على جنود الشاه طهماسب في عدَّة وقائع أهرقت فيها الدماء مدرارًا، فطلب الشاه الصلح، وتمَّ بين الدولتين الأمر في ١٢ رجب سنة ١١٤٤ (الموافق ١٠ يناير سنة ١٧٣٢) على أن تترك مملكة العجم للدولة العلية كل ما فتحته ما عدا مدائن تبريز وأردهان وهمذان وباقي إقليم لورستان. لكن عارض نادر خان١ أكبر ولاة للدولة في هذه المعاهدة وسار، بجيوشه إلى مدينة أصفهان، وعزل الشاه طهماسب وولى مكانه ابنه القاصر عباسًا الثالث، وأقام نفسه وصيًّا عليه، ثم قصد البلاد العثمانية، وبعد أن انتصر على جنود الدولة حصر مدينة بغداد، فأسرع الوزير طوبال (أي الأعرج) عثمان باشا إلى محاربته، وجرت بينهما عدَّة وقائع قتل فيها عثمان باشا المذكور فطلبت الدولة الصلح، وبعد مخابرات طويلة اتفق مندوب الدولة مع نادر خان في ١٨ جمادى الأولى سنة ١١٤٩ (الموافق ٢٤ سبتمبر سنة ١٧٣٦م) في مدينة تفليس حيث نُودي بنادر خان ملكًا على العجم على أن تردَّ الدولة إلى العجم كل ما أخذته منها، وأن تكون حدود الدولتين كما تقرر بمعاهدة سنة ١٦٣٩ المبرمة في زمن السلطان الغازي مراد الرابع.

معاهدة بلغراد

وفي غضون ذلك قامت الحرب بين الدولة والروسيا بسبب مملكة بولونيا؛ وذلك أن كلًّا من الروسيا والنمسا والبروسيا اتفقت في سنة ١٧٢٢ بمقتضى اتفاق سرِّي على أن لا يجوز تعيين ملك وطني على بولونيا خوفًا من اتحاده مع الأهالي؛ الأمر الذي يكون من ورائه استقامة أحوال هذه المملكة الداخلية مع أن قصد الروسيا وجود الاضطرابات بها دائمًا حتى تضعف كلية، فتستولي عليها بأجمعها أو تقسمها مع مجاوريها تبعًا لسياسة بطرس الأكبر القاضية بالسعي في تلاشي دولتي السويد وبولونيا فالدولة العلية، فلما توفي أوغست الثاني — ملك بولونيا — انتخب الأهالي في سنة ١٧٣٣ ستانسلاس لكزنيسكي ملكًا عليهم بسعي فرنسا التي كان من صالح سياستها بقاء بولونيا في العالم السياسي عزيزة الجانب يحكمها ملك من أهلها.

فأعلنت الروسيا والنمسا الحرب على بولونيا، ونادوا بآغوست الثالث ابن آغوست الثاني ملكًا عليها ولو لم ينتخبه الأهالي، ومن جهة أخرى أشهرت فرنسا الحرب على النمسا دفاعًا عما لبولونيا من الحق الصريح في انتخاب من تريد، وسعت لدى الباب العالي بواسطة المسيو دي بونفال، الذي خدم الدولة بعد أن أسلم واشتهر فيها باسم أحمد باشا قائد الطوبجية، لاستمالته للدفاع عن استقلال بولونيا، الحاجز الحصين بينها وبين الروسيا، موضحة لها سياسة هذه الدولة الطامحة أنظارها لامتلاك القسطنطينية كما أوصى لها بذلك بطرس الأكبر، فلم يصغ وزراء الدولة لندائها لجهل في السياسة أو لأسباب أخرى، ولذلك تغلبت الروسيا على ستانسلاس واحتلت جنودها مملكة بولونيا بأسرها ووزراء الدولة لاهون عن نتائج هذه السياسة الوخيمة التي ربما كانت السبب في وصول الدولة إلى الدرجة التي هي عليها الآن.

ولما أحست النمسا أن فرنسا تسعى وراء التحالف مع الدولة، فخشيت من حصول هذا الاتفاق الذي يكون نتيجته عدم نجاح مسعاها مع الروسيا في بولونيا، أسرعت في إرضاء فرنسا، فأبرمت معها معاهدة ويانة في سنة ١٧٣٥، وأخذت في التأهب والاستعداد للاشتراك مع الروسيا في محاربة الدولة، وأوعزت إلى الروسيا بافتتاح القتال، فاتخذت هذه الأخيرة مرور بعض قوزاق القرم من أراضيها في مارس سنة ١٧٣٦ متجهين إلى بلاد الكرج لمساعدة الدولة ضدَّ العجم حجةً لإعلان الحرب، وأغارت بكل قواها على بلاد القرم، واحتلت ميناء آزاق وغيرها من الثغور البحرية، وهو ما حدا بالدولة إلى إبرام الصلح مع نادر شاه بالكيفية التي سبق شرحها لتتفرَّغ لصدِّ هجمات الروس.

ولحسن حظ الدولة كان قد تقلد منصب الصدارة رجل محنك اشتهر بحسن السياسة وسموِّ الإدراك؛ وهو الحاج محمد باشا، فلم يغفل طرفة عين عن جمع الجيوش وتجهيز المعدَّات حتى أمكنه في أقرب وقت إيقاف تقدُّم الروس الذين كانوا قد احتلُّوا إقليم البغدان ودخلوا مدينة ياسي — عاصمة هذا الإقليم — ومن جهة أخرى انتصرت الجيوش العثمانية على جيوش النمسا التي أغارت على بلاد البوسنة والصرب والفلاخ، فانتصر المسلمون في الصرب، وألجئوا النمساويين على الجلاء عنها تاركين في كل موضع قدم جثث رجالهم، وتقهقروا إلى ما وراء نهر الدانوب في سنة ١٧٣٧، واستمرَّ الحال على هذا المنوال مما تنوسي عهده في الدولة من النصر والفوز على الأعداء حتى طلبت النمسا الصلح بواسطة المسيو «فلنوف» — سفير فرنسا — فقبل التوسط بكل ارتياح، وسار إلى معسكر الصدر الأعظم وعرض عليه الصلح بالنيابة عن النمسا، فاشترط شروطًا ما كانت لتقبلها لولا انتصار المسلمين على قائدها الشهير «وليس» في يوم ٢٣ يوليو سنة ١٧٣٩، فكان هذا الفوز الأخير أكبر مساعد للوصول إلى الصلح الذي تمَّ بينهما وبين الروسيا في ١٤ جمادى الآخرة سنة ١١٥٢ (الموافق ١٨ سبتمبر سنة ١٧٣٩م) على أن تتنازل النمسا للدولة العلية عن مدينة بلغراد وما أُعطي لها من بلاد الصرب والفلاخ بمقتضى معاهدة بساروفتس. أما الروسيا فتعهدت قيصرتها «حنه»٢ بهدم قلاع ميناء آزاق وعدم تجديدها في المستقبل، وبعدم إنشاء سفن حربية أو تجارية بالبحر الأسود أو ببحر آزاق، بل تكون تجارتها على مراكب أجنبية، وبأن تردَّ للدولة كل ما فتحته من الأقاليم والبلدان، وسميت هذه المعاهدة معاهدة بلغراد. وبذلك انتهت هذه الحرب باسترداد جزء عظيم مما فقدته الدولة من ممالكها بمقتضى معاهدة كارلوفتس بضعف وعدم كفاءة أو عدم صداقة وإخلاص بعض الوزراء؛ مما جعل الدولة على شفا جرف هار، ولو أخلص هؤلاء الوزراء وجعلوا ترقية شأن الدولة نصب أعينهم ونبذوا الغايات الشخصية ظهريًّا لما فقدت شبرًا من أرضها ولكن يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَاءُ وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ.

وبعد ذلك بذل المسيو «فلنوف» — سفير فرنسا — جهده في إقناع الباب العالي بضرورة الاتحاد مع السويد لمحاربة الروسيا لو تعدَّت على أحدهما خوفًا من أن يلحق بهما تباعًا ما أودى ببولونيا وجعلها خاضعة فعلًا لأوامر الروسيا، فاقتنعت الدولة وأبرمت مع السويد محالفة هجوم ودفاع ضدَّ الروسيا في سنة ١٧٤٠. وفي هذه السنة تحصَّل سفير فرنسا على تجديد الامتيازات القنصلية وكافة المزايا الممنوحة للتجار الفرنساويين، وأمضى الطرفان هذه المعاهدة الجديدة في ١٧ سبتمبر سنة ١٧٤٠، وهي عبارة عن معاهدة سنة ١٦٧٣ مع بعض تسهيلات جديدة لفرنسا وتجارتها. وأرسل السلطان سفيرًا من طرفه اسمه سعيد ليقدِّم صورة المعاهدة إلى ملك فرنسا لويس الخامس عشر مع كثير من الهدايا الثمينة؛ فقابله الملك بالاحتفاء والإكرام اللائق بمقام مرسله السامي، وعند عودته شيَّعه بالتبجيل والإجلال، وأرسل معه مركبين حربيين وجملة من المدفعية الفرنساويين هدية منه للخليفة الأعظم ليكونوا معلمين في الجيوش العثمانية، فيمرِّنوا الجنود المظفرة على النظامات الجديدة التي أدخلها «لوفوا» الشهير في الجيوش الفرنساوية.

وبعد ذلك بقليل توفي شارل السادس — إمبراطور النمسا — في ٢٠ من شهر أكتوبر سنة ١٧٤٠، وتولت بعده ابنته «ماريه تيريزه»،٣ فاتحدت فرنسا مع بعض الدول على محاربة هذه الملكة واقتسام أملاكها؛ لما بين فرنسا والعائلة الحاكمة في النمسا من الضغائن القديمة، وسعي فرنسا دائمًا في إذلال النمسا وهدم أركان سلطانها، وبسبب موت هذا الملك حصلت الحرب الشهيرة بين فرنسا والنمسا المعروفة في التاريخ بمحاربة إرث ملك النمسا التي استمرَّت عدَّة سنين وانتهت بفوز «ماريه تريزه» على فرنسا مما لا يدخل في موضوع هذا الكتاب. ولما ابتدأت هذه الحرب أظهرت فرنسا للدولة العلية بواسطة سفيرها لدى الباب العالي ما يعود عليها من الفوائد لو اتحدت معها على محاربة النمسا، وعرضت عليها احتلال بلاد المجر واسترجاعها إلى أملاكها بحيث ترجع الدولة إلى ما كانت عليه من الاتساع أيام سليمان الأوَّل القانوني، ويمكنها بعد ذلك مقاومة الروسيا والوقوف في طريق تقدمها، وأبانت لها أنها إن لم تفعل ذلك تقدمت الروسيا شيئًا فشيئًا وقويت شوكتها تدريجًا حتى يُخشى منها على وجود الدولة، ولا يخفى أنها ملاحظات صادقة ولو أنها صادرة من فرنسا طمعًا في نَوَال غايتها وهي إذلال النمسا، إلا أنه كان يجب على رجال الدولة النظر إليها بعين الاعتبار، فإن هذه فرصة لم تتجدَّد بعد.

لكن قضت التقادير الإلهية أن لا تُصغي إلى هذه النصائح حبًّا في السلم وعدم إراقة دماء العباد والاشتغال بالإصلاحات الداخلية، وكتبت إلى الدول ذات الشأن تدعوهم للتصالح، وهذه سياسة صادرة عن إحساسات شريفة إلا أنها تعدُّ من الغلطات المهمة التي عادت على الدولة بوخيم العواقب؛ لأنها أضاعت فرصة لو انتهزتها لفازت بالقدح المعلَّى واسترجعت ما فصل عنها من الفتوحات بدون كثير عناء.

وهناك غلطة أخرى ارتكبها رجال الدولة؛ وهي نزع السلطة في إقليمي الفلاخ والبغدان من أشراف البلاد خوفًا من تمرُّدهم وطلبهم الاستقلال وتعيين بعض أغنياء الروم من تجار الآستانة قرالات ممتازين فيهما، في مقابل جعل سنوي يدفع للخزانة السلطانية، وكانت تعطى لمن يدفع خراجًا أكثر من غيره، وظاهر أن من يقدم على التعهد بمثل هذه المبالغ الطائلة عازم ولا شك على الحصول على ما يدفعه أضعافًا مضاعفة من دماء الأهالي، فاستبدَّ هؤلاء المعينون بالسكان وساموهم الذل والخسف، وفتكوا بالأشراف الأصليين، وقتلوا كل من خالفهم منهم، وباعوا ألقاب الشرف جهارًا حتى انقرضت أغلب العائلات الأثيلة في المجد، وحلت محلها عائلات جديدة أغلبها من تجار الأروام الذين اشتروا الألقاب بدراهم معدودة، وكانت نتيجة هذه السياسة أن سئم الأهالي هذه السلطة ومالوا بكلياتهم إلى الروسيا، ووجهوا أنظارهم لها معتقدين أنها ستكون منقذتهم من هذه المظالم المستمرة، ولو أنصفت الدولة لجعلتها ولايتين بدون امتيازات تتناوبها الولاة فما كانت تطمح إلى الاستقلال الإداري فالسياسي.

وفي يوم الجمعة ٢٧ صفر سنة ١١٦٨ (الموافق ١٣ دسمبر سنة ١٧٥٤) توفي السلطان محمود الأوَّل بالغًا من العمر ستين سنة مأسوفًا عليه من جميع العثمانيين؛ لاتصافه بالعدل والحلم، وميله للمساواة بين جميع رعاياه بدون نظر لفئة دون أخرى، وكانت مدَّة حكمه ٢٥ سنة، وفي أيامه السعيدة اتسع نطاق الدولة بآسيا وأوروبا، ومحت معاهدة بلغراد ما لحق بالدولة من العار بسبب معاهدة كارلوفتس، ومن آثاره الحسان تأسيس أربع كتبخانات ألحقها بجوامع آيا صوفيا ومحمد الفاتح والوالدة وغلطه سراي. ومن وزرائه الذين تركوا لهم في التاريخ اسمًا طوبال عثمان باشا وحكيم زاده علي باشا.

١  لم يكن هذا القائد من إحدى العائلات المعلومة، بل غاية ما يعلم عنه أنه ولد في بلاد خراسان سنة ١٦٨٨م تقريبًا، وبعد أن اشتغل في مهن كثيرة مختلفة، ألَّف عصابة متسلحة للسلب والنهب؛ واستولى على خراسان واستبدَّ بها أثناء الاضطرابات التي أعقبت موت الشاه حسين في سنة ١٧٢٢، ثم دخل في خدمة الشاه طهماسب، وحارب معه مغتصبي الملك من الأفغان، ثم لما قبل الشاه المذكور معاهدة ١٢ رجب سنة ١١٤٤؛ عزله نادر خان، وأقام مكانه ابنه الرضيع عباسًا الثالث، وبعد أربع سنوات، توفي عباس هذا، واغتصب نادر الملك وحارب المغول في الهند، وفتح مدينة دهلي. وأخيرًا قتله قواد جيوشه سنة ١٧٤٧ لظلمه واعتسافه.
٢  حنه إيوانوفنا إمبراطورة الروسيا، هي بنت «إيوان» أخي بطرس الأكبر، ولدت سنة ١٦٩٢، وتوفيت سنة ١٧٤٠. تزوجت بدوك كوسلاند، وتولت ملك الروسيا سنة ١٧٣٠ عقب موت بطرس الثاني، واتحدت مع النمسا في مسألة وراثة عرش بولونيا، ونجحت في انتخاب أوغست الثالث ملكًا لها، وحاربت الترك من سنة ١٧٣٥إلى سنة ١٧٣٩ دون فائدة تذكر. وكانت سياسة ألمانيا سائدة في بلادها بمساعي ودسائس خليلها الألماني المدعو «جان بيرن».
٣  ولدت في سنة ١٧١٧، وتزوجت بالدوك دي لورين سنة ١٧٣٦، ولعدم وجود إخوة لها أوصى لها والدها شارل السادس بالملك، لكن لما توفي سنة ١٧٤٠ لم يعترف ملكا روسيا وفرنسا بهذه الوصية؛ بل أغار ملك بروسيا على إقليم سيليزيا، وادعى أمير بافاريا الأحقية في الملك، وساعدته فرنسا على ذلك، وتوَّجته إمبراطورًا باسم شارل السابع. ثم تركت بلاد النمسا والتجأت إلى بلاد المجر، حيث أقسم لها أشرافها بمساعدتها حتى الممات، فجمعت الجيوش، وبعد أن استمرَّت الحرب خمس سنين توفي شارل السابع منازعها في الملك، وانتخب زوجها إمبرطورًا باسم فرنسوا الأول. وفي سنة ١٧٤٨ فازت بالنصر بمساعدة إنكلترا، وأمضت معاهدة «إكس لاشابيل»، ثم حاربت البروسيا بمساعدة فرنسا لاسترجاع إقليم سيليزيا، وهي الحرب المعروفة بحرب السبع سنين فلم تفلح. وفي سنة ١٧٧٢ شاركت الروسيا والبروسيا في تقسيم بولونيا. وتوفيت سنة ١٧٨٠.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤