الفصل السادس والعشرون

السلطان الغازي مصطفى خان الثالث

ابن السلطان أحمد الثالث المولود سنة ١١٣٩، وكان ميالًا للإصلاح، محبًّا لتقدُّم بلاده، خصوصًا وزيره الأوَّل راغب باشا الذي مرَّ ذكره، فأخذ هذا الوزير في إصلاح بعض الشئون بمساعدة السلطان وتعضيده له، فعهد بإدارة الأوقاف العمومية إلى أحد أغوات السراري «قيزلر أغاسي»، وأسَّس مستشفيات للحَجْر على الواردات الخارجية إذا كانت الأوبئة منتشرة في الخارج لعدم تعدِّيها إلى الممالك المحروسة، وأنشأ مكتبة عمومية على مصاريفه الخاصة، وفكَّر في طريقة غريبة لتسهيل المواصلات داخل المملكة منعًا لحصول الغلاء والمجاعات في إحدى الولايات؛ وذلك أن يصل بين نهر الدجلة وبوغاز الآستانة بخليج عظيم تستعمل الأنهار الطبيعية مجرى له على قدر الإمكان فيسهل نقل الغلال من أطراف المملكة إلى الآستانة؛ فيمتنع عنها الغلاء كلية. وهو مشروع جليل يقدره العارفون حق قدره، ولو أمهله المنون لأتمَّه وسبق المسيو دي لسبس إلى إيصال بحر الروم بخليج فارس فالمحيط الهندي، لكنه توفي رحمه الله في ٢٤ رمضان سنة ١١٧٦ (الموافق ٨ أبريل سنة ١٧٦٢م) ولم يجد مشروعه منفذًا حتى الآن.

وبعد موت هذا الوزير الجليل انتشبت الحرب بين الدولة العلية والروسيا؛ وذلك أنه لما توفي أوغست الثالث — ملك بولونيا — سعت كاترينة الثانية إمبراطورة الروسيا١ التي تولت عقب قتل بطرس الثالث في تعيين عاشقها ستانسلاس بونياتوسكي ملكًا عليها باستعمال نفوذها في مجلس الأمة عند الانتخاب خلافًا لما تعهدت به للدولة العلية، وما ذلك إلا نفاذًا لسياسة بطرس الأكبر القاضية بإزالة الحواجز الثلاثة الحائلة بينها وبين أوروبا الغربية وهي: السويد وبولونيا والدولة العلية. وقد أزيل الحاجز الأوَّل باستيلاء الروسيا على جميع الولايات السويدية الفاصلة بينها وبين ألمانيا بحيث لم يبقَ للسويد أملاك خارجة عن بلادها الأصلية بمقتضى معاهدة «ني ستاد» المبرمة بينهما سنة ١٦٧٢، وأزيل الثاني تقريبًا بتعيين أحد أتباع الإمبراطورة كاترينة ملكًا على بولونيا.
ولذلك تنبهت الدولة إلى نتيجة هذه السياسة، وعلمت أنها إن لم تضع حدًّا لتقدم نفوذ الروسيا في بولونيا فلا تلبث هذه المملكة أن تُمحى من العالم السياسي بانضمامها للروسيا أو بتجزئتها بينها وبين مجاوريها، لكن كان تنبُّهها هذا بعد فوات الوقت المناسب؛ فإنه كان يجب عليها مساعدة السويد وبذل النفس والنفيس في حفظ ولايتها الواقعة على بلطيق من الوقوع في أيدي الروسيا أولى من تركها غنيمة باردة لها؛ مما يُطمِعها في الاستمرار في تنفيذ وصية بطرس الأكبر، ويجمل بنا في هذا الموقع أن نأتي للمُطالع بنص الوصية المذكورة، وها هي منقولة بحروفها من الجزء الأوَّل من تاريخ جودت باشا:

وصية بطرس الأكبر

  • البند الأوَّل: من اللازم أن تُقاد العساكر دائمًا إلى الحرب، وينبغي للأمة الروسية أن تكون متمادية على حالة الكفاح لتكون أليفة الوغاء وترك وقت لراحة العساكر أو لأجل إصلاح المالية وتوفيرها، وإن كان ضروريًّا يلزم أن يكون تنظيم المعسكرات متعاقبًا، وتكون مراقبة الوقت الموافق للهجوم متصلة آنًا بآن. وعلى هذه الصورة ينبغي لروسيا أن تتخذ زمن الصلح والأمان وسيلة قوية للحرب، وهكذا زمن الحرب للصلح، وذلك لأجل زيادة قوتها وتوسيع منافعها.
  • البند الثاني: في وقت الحرب ينبغي اتخاذ جميع الوسائل الممكنة لاستجلاب ضباط للجنود من بين المِلَل والأقوام الذين هم أكثر معلومات في أوروبا، وكذلك في زمن الصلح يتعيَّن استجلاب أرباب العلم والمعارف منهم أيضًا، ويلزم الاعتناء بما يجعل الأمة الروسية تستفيد من منافع سائر الممالك ومحسناتها، بحيث إنها لا تضيع سعيًا أصلًا في تحسين المحسنات المخصوصة بمملكتها.
  • البند الثالث: عند سنوح الفرصة ينبغي وضع اليد والمداخلة في جميع الأمور والمصالح الجارية في أوروبا وفي اختلافاتها ومنازعاتها، وعلى الخصوص في وقوعات ممالك ألمانيا الممكن الاستفادة منها بلا واسطة بسبب شدَّة قربها.
  • البند الرابع: ينبغي استعمال أصول الرشوة لأجل إلقاء الفساد والبغضاء والحسد دائمًا في داخلية ممالك «له» — أي بولونيا — وتفريق كلمتهم، واستمالة أعيان الأمة ببذل المال، واكتساب النفوذ في مجلس الحكومة؛ حتى نتمكَّن من المداخلة في انتخاب الملك، وبعد الحصول على انتخاب من هو من حزب روسيا من تلك الأمة ينبغي حينئذ دخول عساكر روسيا إلى داخل البلاد لأجل حمايتهم والتعصب لهم باقامة العساكر المذكورة مدَّة مديدة هناك إلى أن تحصل الفرصة لاتخاذ وسيلة تمكِّنُنا من الإقامة، وعندما تظهر مخالفة في ذلك من طرف الدول المجاورة فلأجل إخماد نار الفتنة مؤقتًا ينبغي أن نقاسم المخالفين في ممالك «له» ثم نترقَّب الفرص لاسترجاع الحصص التي تكون قد أُعطِيَتْ لهم.
  • البند الخامس: ينبغي الاستيلاء على بعض الجهات من ممالك أسوج بقدر الإمكان، ثم نسعى في اغتنام وسيلة لاستكمال الباقي منها، ولا نتوصَّل إلى ذلك إلا بوجه تضطر فيه تلك الدولة إلى أن تعلن الحرب على دولة الروسيا وتهاجمها، والذي يلزم أوَّلًا هو أن نصرف المساعي والهمة لإلقاء الفساد والنفرة دائمًا بين أسوج والدانمرك، بحيث أن يكون الاختلاف والمراقبة بينهم دائمين باقيين.
  • البند السادس: يجب على الأسرة الإمبراطورية الروسية أن يتزوَّجوا دائمًا من بنات العائلة الملوكية الألمانية؛ وذلك لتكثير روابط الزوجية والاتحاد بينهم واشتراكهم في المنافع؛ إذ بهذه الصورة يمكن إجراء نفوذهم في داخل ألمانيا، ويربطون أيضًا الممالك المذكورة لجهة منافعنا ومصالحنا.
  • البند السابع: إن دولة إنكلترا هي الدولة الأكثر احتياجًا إلينا في أمورها البحرية، ولهذه الدولة فائدة عظيمة جدًّا أيضًا في أمر زيادة قوَّتنا البحرية، فلذلك من الواجب ترجيح الاتفاق معها في أمر التجارة على سائر الدول، وبيع محصولات ممالكنا كالأخشاب وسائر الأشياء إلى إنكلترا، وجلب الذهب من عندهم إلى ممالكنا، واستكمال أسباب الروابط والمناسبات متماديًا بين تجار وملاحي الطرفين، فيتوسع بهذه الوسيلة أمر التجارة وسير السفن في ممالكنا.
  • البند الثامن: على الروسيين أن ينتشروا يومًا فيومًا شمالًا في سواحل بحر البلطيق وجنوبًا في سواحل البحر الأسود.
  • البند التاسع: ينبغي التقرُّب بقدر الإمكان من استانبول والهند، وحيث إنه من القضايا المسلمة أن من يحكم على استانبول يمكنه حقيقة أن يحكم على الدنيا بأسرها؛ فلذلك من اللازم إحداث المحاربات المتتابعة، تارة مع الدولة العثمانية وتارة مع الدولة الإيرانية، وينبغي ضبط البحر الأسود شيئًا فشيئًا؛ وذلك لأجل إنشاء دار صناعات بحرية فيه والاستيلاء على بحر البلطيق أيضًا؛ لأنه ألزم موقع لحصول المقصود وللتعجيل بضعف بل بزوال دولة إيران؛ لنتمكَّن من الوصول إلى خليج البصرة، وربما نتمكَّن من إعادة تجارة الممالك الشرقية القديمة إلى بلاد الشام والوصول منها إلى بلاد الهند التي هي بمثابة مخزن للدنيا، وبهذه الوسيلة نستغني عن ذهب إنكلترا.
  • البند العاشر: ينبغي الاهتمام بالحصول على الاتفاق والاتحاد مع دولة أوستريا والمحافظة على ذلك، ومن اللازم التظاهر بترويج أفكار الدولة المشار إليها من جهة ما تبتغي إجراءه من النفوذ في المستقبل في بلاد ألمانيا، وأما باطنًا فينبغي لنا أن نسعى في تحريك عروق حسد وعداوة سائر حكام ألمانيا لها، وتحريك كل منهم لطلب الاستعانة والاستمداد من دولة روسيا. ومن اللازم إجراء نوع حماية للدول المذكورة بصورة يتسنَّى لها فيها الحكم على تلك الدول في المستقبل.
  • البند الحادي عشر: ينبغي تحريض العائلة المالكة في أوستريا على طرد الأتراك وتبعيدهم من قطعة الروملي، وحينما نستولي على استانبول علينا أن نسلط دول أوروبا القديمة على دولة أوستريا حربًا أو نسكن حسدها ومراقبتها لنا بإعطائها حصة صغيرة من الأماكن التي نكون قد أخذناها من قبل، وبعده نسعى بنزع هذه الحصة من يدها.
  • البند الثاني عشر: ينبغي أن نستميل لجهتنا جميع المسيحيين الذين هم من مذهب الروم المنكرين رياسة البابا الروحية والمنتشرين في بلاد المجر والممالك العثمانية في جنوبي ممالك «له» ونجعلهم أن يتخذوا دولة روسيا مرجعًا ومعينًا لهم، ومن اللازم قبل كل شيء إحداث رياسة مذهبية؛ حتى نتمكَّن من إجراء نوع نفوذ وحكومة رهبانية عليهم، فنسعى بهذه الواسطة لاكتساب أصدقاء كثيرين ذوي غيرة نستعين بهم في ولاية كل من أعدائنا.
  • البند الثالث عشر: حينما يصبح الأسوجيون متشتتين والإيرانيون مغلوبين واللاهيون محكومين والممالك العثمانية مضبوطة أيضًا حينئذٍ نجمع معسكراتنا في محل واحد مع المحافظة على البحر الأسود وبحر البلطيق بقوَّتنا البحرية، وعند ذلك نظهر أوَّلًا لدولة فرنسا كيفية مقاسمة حكومات الدنيا بأسرها بيننا، ثم لدولة أوستريا، ويعرض ذلك على كل من الدولتين المشار إليهما كل منهما على حدة بصورة خفية جدًّا لقبول ذلك، وحيث إنه لا بدَّ من أن إحداهما تقبل بهذه الصورة، فعند ذلك ينبغي مداراة واحترام كل منهما، ونجعل من كان منهما قابلًا بما عرضناه عليهما واسطة لتنكيل الأخرى، وإذ تكون دولة روسيا حينئذٍ قد ضبطت جميع الممالك الشرقية، ويكون مثل ذلك أعظم قطع أوروبا حديثة الدخول في يد تصرفها، فعنده يسهل عليها أن تقهر وتنكل فيما بعد أية دولة بقيت في الميدان من الدولتين المذكورتين.
  • البند الرابع عشر: على فرض المحال أن كلًّا من الدولتين المشار إليهما لم تقبل بما عرضته عليهما روسيا، فينبغي حينئذ لروسيا أن تصرف الأفكار لمراقبة ما يحدث من النزاع والخلاف بينهما؛ فإذا وقع ذلك فلا بد أن يحصل تعبٌ للطرفين ويشتبك هذا مع الآخر، وفي ذلك الوقت يجب على روسيا أن تنتظر الفرصة العظيمة وتسوق حالًا معسكراتها المجتمعة أوَّلًا بأوَّل على ألمانيا، فتهجم في تلك الجهات، ثم تخرج قسمين كليين من السفن؛ أحدهما من بحر آزاق المملوء بالعساكر الوافرة المجتمعة من أقوام الأناضول المتنوِّعة، والثاني من ليمان أرخانكل الكائنة في البحر المتجمِّد الشمالي، فتسير هذه السفن وتمرُّ في البحر الأبيض والبحر المحيط الشمالي مع الأسطول المرتب في البحر الأسود وبحر البلطيق، وتهجم كالسيل على سواحل فرنسا.

    وأما ألمانيا فإنها تكون إذ ذاك مشغولة بحالها، وبما ذكرناه تصبح المملكتان الواسعتان المذكورتان مغلوبتين على هذه الصورة، فالقطعة التي تبقى من أوروبا تدخل بالطبع تحت الانقياد بسهولة وبدون محاربة، وتصير جميع قطعة أوروبا قابلة للفتح والتسخير. ا.ﻫ.

ومع كل؛ فقد أرادت الدولة استدراك ما فات، وأوعزت إلى «كريم كراي» — خان القرم — أن يفتح بابًا للحرب فصدع بالأمر، ولكي يجعل الحق من جهة الدولة احتال على بعض القوزاق التابعين للروسيا حتى أوقعهم في حبالة نصبها لهم وأدَّت بهم إلى التعدِّي على حدود الدولة العلية والإغارة على إحدى المدن التابعة لها وقتل بعض سكانها، فأشهرت الدولة الحرب على الروسيا، وافتتحها كريم كراي بأن أغار بخيله ورجله على إقليم سربيا الجديدة الذي عمرته الروسيا، مع أن المعاهدات التي بينها وبين الدولة كانت تقضي عليها بتركه صحراء بدون استعمار؛ ليكون فاصلًا بين أملاك الدولتين، وعمرته الروسيا لمنع وصول المساعدة من خان القرم إلى بولونيا عند مسيس الحاجة.

وكانت نتيجة إغارة كريم كراي على هذه الولاية خراب كثير من المستعمرات الروسية وعودته بكثير من الأسرى، وتوفي قبل أن تنتهي الحرب.

ثم سار الوزير نشانجي محمد أمين باشا الذي تولى الصدارة في جمادى الآخرة سنة ١١٨٢ بجيوشه للدفاع عن مدينة «شوكزيم» التي حاصرها البرنس جالتسين الروسي، فلم ينجح لعدم اتباعه الأوامر العسكرية الواردة إليه من السلطان المهتم بنفسه بأمور الحرب ولو لم يَقُدِ الجيوش بذاته الشريفة، وكان جزاء القائد المذكور أن قتل بأمر السلطان في ٩ ربيع الآخر سنة ١١٨٣ وأرسل رأسه إلى الآستانة عبرة لغيره من القوَّاد، وعين مكانه في الوزارة والسر عسكرية مولد واني علي باشا، وكان أشدَّ اهتمامًا من سلفه بأمور الجند وأكثر اطلاعًا على ضروب القتال، لكن عاكسته الطبيعة، وكانت هي السبب في تقهقره، فإنه حين كان يعبر مع جيوشه نهر «دينستر» على جسر من المراكب ليهاجم الجيش الروسي المعسكر على الضفة الأخرى زادت مياه النهر بغتة، وفاضت على شواطئه بكيفية مريعة حتى استولى الجزع على العساكر المارِّين فوقه، وهموا بالرجوع إلى معسكرهم، وتبعهم بعض من كان قد وصل إلى الشاطئ الآخر، فغرقت المراكب واستشهد نحو ستة آلاف جندي، وصار من بقي منهم على الشاطئ الروسي هدفًا لمدافعهم وبنادقهم التي صُوِّبت إليهم من كل فج حتى قتلوا عن آخرهم في ١٧ جمادى الأولى سنة ١١٨٣ (الموافق ١٨ سبتمبر سنة ١٧٦٩م).

وبعد هذا الانهزام الذي لم يكن فيه للروس من فخر، التزم مولود واني باشا بالتقهقر بعد إخلاء مدينة شوكزيم، فدخلها البرنس جالتسين واحتل على الفور أيالتي الفلاخ والبغدان.

وفي هذه الأثناء كانت رسل الروس تعمل على إثارة الخواطر في بلاد مورة، حتى إذا استعدَّ الأهالي للثورة خرجت بعض المراكب الروسية من بحر بلطيق قاصدة بلاد اليونان بعد الطواف حول أوروبا الغربية، واستولت على مدينة كورون باليونان لتشجيع الأروام على العصيان، لكن لم تلبث هذه الفتنة أن أُطفِئت، وخرجت مراكب الروس من ميناء كورون قاصدة جزيرة ساقز، فالتقت بالمراكب العثمانية في المضيق المارِّ بين الجزيرة وساحل آسيا. وبعد أن استمر القتال عدَّة ساعات انتصر العثمانيون ورجعوا بعد تمام النصر إلى ميناء جشمه، فتبعهم حراقتان من مراكب الروس، ظنَّ العثمانيون أنهم فارُّون من دونانمة العدوِّ، وآتون للانضمام إليهم، فلم يعارضوهم في الدخول إلى الميناء، فبمجرد دخولهم ألقوا النيران على المراكب العثمانية فاشتعلت واحترقت عن آخرها باشتعال ما كان بها من البارود في يوم ١١ ربيع الأوَّل سنة ١١٨٤ (الموافق ٦ يوليو ١٧٧٠م).

وبعد ذلك قصد الأميرال الروسي «الفنستون» الهجوم على مدينة القسطنطينية لعدم وجود ما يمنعه من الاستحكامات من المرور في بوغاز الدردنيل، ولكن لم يوافقه القائد «أرلوف» على ذلك، ففضل احتلال جزيرة لمنوس قبل ذلك لتكون قاعدة لأعمالهم الحربية، فحاصرها، وتمكن في أثناء ذلك «البارون دي توت»٢ المجري الذي دخل في خدمة الدولة العلية، من تحصين مضيق الدردنيل، وبناء القلاع فيه على ضفتيه، وتسليحها بالمدافع الضخمة، حتى صار المرور منه من رابع المستحيلات، ثم حوَّل عدَّة مراكب تجارية إلى سفن حربية بوضع المدافع فيها. وزيادة على ذلك كلَّفَه السلطان مصطفى الثالث بإنشاء مسبك لصب المدافع بالآستانة، وبترتيب الطوبجية على النظامات الجديدة، فقام بالأمر خير قيام، وأسَّسَ مدرسة لتخريج ضباط للطوبجية وأركان حرب متعلمين الفنون العسكرية الحديثة، وأخرى لتربية ضباط للبحرية، كان مركزها بالترسانة، تخرج منها في قليل من الزمن عدة قباطين قادرين على أخذ الارتفاعات ورسم بعض الشواطئ بالطرق الهندسية المضبوطة.

وكانت نتيجة هذه الإصلاحات التي نمت بسرعة غريبة أن هاجم القبطان حسن بك مع بعض السفن الحربية سفنَ الروس المحاصرة لجزيرة لمنوس سنة ١٧٧١، وألزمها رفع الحصار عنها بعد مقاتلة خفيفة، وكوفئ حسن بك على هذا الانتصار بتعيينه قبطان باشا الدونانمات العثمانية، ورقي إلى رتبة باشا، ومن جهة أخرى لم يُفلح الروس في طرابزون التي أرادوا الاستيلاء عليها، وبالاختصار كان النصر حليف الجنود العثمانية برًّا وبحرًا إلا في بلاد القرم؛ فقد احتلها البرنس «دلجوروكي» الروسي، ثم أعلن بانفصالها عن الدولة واستقلالها تحت سيادة وحماية الروسيا، وأقام من يدعى جاهين كراي خانًا عليها باسم كاترينه الثانية.

وفي ٩ ربيع الأوَّل سنة ١١٨٦ (الموافق ١٠ يونيو سنة ١٧٧٢م) تهادن الفريقان بناءً على توسط النمسا والروسيا، وأمضيت الهدنة في مدينة «جورجيو» من مدن البلغاريا، وأرسل كلٌّ منهما مندوبيه للمخابرة في شأن الصلح إلى مدينة فوكشان بولاية البغدان، فاجتمع المؤتمر أوَّل اجتماع في ٩ جمادى الأولى سنة ١١٨٦ (الموافق ٨ أغسطس سنة ١٧٧٢)، وبعد أن اتفق الجميع على مدِّ أجل المهادنة إلى ٢٣ جمادى الآخِرة سنة ١١٨٦ (الموافق ٢١ سبتمبر سنة ١٧٧٢) طلب مندوبو كاترينه الاعتراف باستقلال تتار القرم وحرية الملاحة لسفن الروسيا التجارية في البحر الأسود وجميع بحار الدولة العلية، ولما لم تقبل الدولة هذه الشروط انفضَّ الجمع على غير جدوى، ثم مُدَّت المهادنة سبعة أشهر، واجتمع المؤتمر ثانيًا في مدينة بخارست في ١٣ شعبان سنة ١١٨٦ (الموافق ٩ نوفمبر سنة ١٧٧٢)، وفيه طلبت كاترينه بلسان مندوبها طلبات أكثر إجحافًا بحقوق الدولة، وأرسلت بها بلاغًا نهائيًّا في ٢٣ ذي القعدة سنة ١١٨٦ (الموافق ١٥ نوفمبر سنة ١٧٧٣م) وهي:
  • أولًا: أن تتنازل الدولة للروسيا عن حصن «كريش» ويكي قلعة حفظًا لاستقلال التتار.
  • ثانيًا: أن تمنح المراكب الروسية تجارية كانت أو حربية حرية الملاحة في البحر الأسود وبحر جزائر اليونان.
  • ثالثًا: تسليم ما بقي من حصون القرم مع الدولة العلية إلى التتار.
  • رابعًا: إعطاء جرجوار غيكا — والي الفلاخ (وكان أسيرًا في الروسيا) — هذه الولاية له ولورثته الشرعيين بشرط دفع جزية معينة كل ثلاث سنوات مرة.
  • خامسًا: التنازل عن مدينة «قلبورن» للروسيا، وهدم حصون مدينة أوكزاكوف «أوزي».
  • سادسًا: أن يعطى لقب باديشاه إلى قيصر أو قيصرة الروسيا في المعاهدات والمخاطبات السياسية.
  • سابعًا: أن يكون للروسيا حق حماية جميع المسيحيين الأرثوذكسيين في بلاد الدولة.

فيظهر للمطلع على هذه الشروط أن كاترينه ما كانت تظن قبول الدولة لها، بل جعلتها طريقة لاستمرار الحرب؛ ولذلك رفضتها الدولة بكل شمم في ٢٨ ذي الحجة سنة ١١٨٦ (الموافق ٢٢ مارس سنة ١٧٧٣)، وأصدرت أوامرها للجيوش باستئناف القتال بكل شدَّة خصوصًا في بلاد الطونة، فانهزم الروس أمام مدينة روستجوق، وكذلك أمام مدينة سلستيريا التي حاولوا الاستيلاء عليها في (٣٠ مايو سنة ١٧٧٣) بعد أن قتل منهم ثمانية آلاف جندي، وبمناسبة هذا الانتصار منح السلطان لقب غازي للقائد عثمان باشا الذي حمى المدينة فتقهقر الروس، وفي رجوعهم مروا بمدينة بازارجق، ولما لم يجدوا بها حامية قتلوا جميع من فيها من شيوخ ونساء وأطفال، وبمجرد ما شعروا بقدوم الجنود المظفرة انسحبوا منها بكل سرعة تاركين أمتعتهم، حتى قال المؤرخ «همر»: إن العثمانيين وجدوا اللحم في القدور على النار، وهذا مما يدل على ما وقع في قلوب الجنود الروسية من الرعب من الأسود العثمانية التي لولا عدم كفاءة أو قلة صداقة بعض قوَّادهم لما علموا للتقهقر أو الهزيمة اسمًا.

عصيان علي بك بمصر

وفي ذلك الوقت كان علي بك الملقب بشيخ البلد الذي استقل تقريبًا بشئون مصر، تخابر مع قائد الدونانمة الروسية بالبحر الأبيض المتوسط ليمدَّه بالذخائر والأسلحة حتى يتم استقلال مصر، فساعده القائد الروسي رغبة في وجود الحروب الداخلية في الدولة، وبذلك أمكن علي بك فتح مدائن عزة ونابلس وأورشليم ويافا ودمشق، وكان يستعدُّ للسير إلى حدود بلاد الأناطول إذ ثار عليه أحد بيكاوات المماليك، وهو محمد بك الشهير بأبي الذهب، فعاد علي بك إلى مصر لمحاربته فانهزم.

وبعد أن تحصن في القلعة التجأ إلى الشيخ طاهر، الذي كان عاملًا على مدينة عكة من قِبل الدولة العلية، واستأثر بها واتحد معه على محاربة العثمانيين بالاتحاد مع الروس وتخليص مدينة صيدا التي كانوا يحاصرونها، فسارا إلى هذه المدينة والتقيا بالعثمانيين خارجها وانتصرا عليهم بمساعدة المراكب الروسية التي كانت ترسل مقذوفاتها على الجيش العثماني، ثم أطلقت السفن الروسية قنابلها على مدينة بيروت فأخربت منها نحو ثلاثمائة بيت، وبعد ذلك عاد علي بك إلى مصر في محرم سنة ١١٨٧ (الموافق أبريل سنة ١٧٧٣) لمحاربة محمد بك أبي الذهب، وانضمَّ إلى جيوشه أربعمائة جندي روسي، فقابلهم أبو الذهب عند الصالحية بالشرقية وفاز عليهم بالنصر وأسر علي بك وأربعة من ضباط الروس بعد أن قتل كلَّ من كان معهم، ورجعا إلى مصر حيث توفي علي بك مما أصابه من الجراح، فقطع رأسه وسلم مع الأربعة الضباط الروسيين إلى الوالي العثماني خليل باشا وهو أرسلهم إلى القسطنطينية.

ثم توفي السلطان مصطفى الثالث في ٨ ذي القعدة سنة ١١٨٧ (الموافق ٢١ يناير سنة ١٧٧٤)، وبلغت مدَّة حكمه ست عشرة سنة وثمانية شهور، وكان رحمه الله عادلًا محبًّا للخير، وله عدَّة مآثر خيرية كالمدارس والتكايا.

ومن آثاره أن أنشأ في أسكدار جامعًا على قبر والدته ووقف عليه خيرات كثيرة، وأصلح جامع السلطان محمد الفاتح التي زلزلت أركانه زلزلة شديدة، وتولى بعده أخوه.

١  هي بنت البرنس «أنهلت زربست» الألماني، ولدت سنة ١٧٢٩، وتزوجت بالأمير الألماني الذي عينته الإمبراطورة إليزبيث وارثًا لها في الملك، ثم لما تولى زوجها الملك باسم بطرس الثالث استمالت كاترينه أهالي الروسيا إليها، وعزلته في سنة ١٧٦٢، وبعد موته تُوِّجت هي إمبراطورة للروسيا. واشتهرت بالسير على خطة بطرس الأكبر؛ فاستولت على بلاد القرم وقلعة آزاق وغيرها، واقتسمت مملكة بولونيا مع النمسا والبروسيا. وتوفيت سنة ١٧٩٧، وكانت محبة للعلوم مساعدة للعلماء على بث معارفهم في بلادها، لكن دنست اسمها باتخاذها الإخلاء العديدين من رجال حكومتها بل ومن خدمها.
٢  ولد بفرنسا سنة ١٨٣٣، وتجنَّس بالجنسية الفرنساوية، واستخدم في سفارة فرنسا بالآستانة. وفي سنة ١٧٦٧ عُيِّن قنصلًا لها في القرم، ثم استخدمه السلطان مصطفى الثالث؛ فأخلص في خدمته، وأصلح الطوبجية وحصن الدردنيل؛ حتى صار من أحسن المعاقل البحرية. ثم عاد إلى فرنسا وعُيِّن مفتشًا عامًّا لمراكزها القنصلية بالشرق وبلاد المغرب. ولما حصلت الثورة الفرنساوية الشهيرة هاجر سنة ١٧٩٠، وأقام في بلاد المجر إلى أن توفي سنة ١٧٩٣.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤