الفصل الثامن والعشرون

السلطان الغازي سليم خان الثالث

وتولى بعده سليم الثالث، ابن السلطان مصطفى الثالث، المولود سنة ١١٧٥ﻫ (الموافقة سنة ١٧٦٢م)، وجو السياسة مكفهر ورحى الحرب دائرة بلا انقطاع، فبذل جهده في تقوية الجيوش وإرسال المؤن والذخائر، لكن كان اليأس قد استولى على الجنود وغادر كثير منهم مراكزهم. وفي هذه السنة اتَّحد القائد الروسي مع قائد الجيوش النمساوية في الأعمال الحربية وضمَّا جيوشهما لبعضهما، فاستظهرا على العثمانيين في (٣١ يوليو وفي ٢٢ سبتمبر سنة ١٧٨٩)، وكانت عاقبة ذلك أن استولى الروس على مدينة بندر الحصينة، واحتلوا معظم بلاد الفلاخ والبغدان وبسارابيا، ودخل النمساويون مدينة بلغراد وفتحوا بلاد الصرب.

معاهدتا زشتوي وياش

فكانت الدولة في خطر عظيم، ولو استمر اتحاد النمسا والروسيا لفقدت أغلب أملاكها، لكن من حسن حظها توفي الإمبراطور يوسف في ٢٠ فبراير سنة ١٧٩٠ وخلفه ليوبولد الثاني،١ فشغلته الثورة الفرنساوية التي قامت على الملك لويس السادس عشر٢ خوفًا من امتداد لهبها، وسعت في مصالحة الدولة بتوسط بعض الدول المعادية لفرنسا، وأمضى معها في سبتمبر سنة ١٧٩٠ شروط صلح ابتدائية صارت نهائية بمقتضى معاهدة أبرمت بينهما في ٢٢ ذي الحجة سنة ١٢٠٥ (الموافق ٤ أغسطس سنة ١٧٩١) بمدينة «ستووا» التي تسمى في كتب الترك «زشتوي»، ولم تترك الدولة بمقتضاها إلا ما لا يذكر من بلادها، وردَّت إليها النمسا بلاد الصرب ومدينة بلغراد وجميع فتوحاتها تقريبًا، وهذا نص معاهدة زشتوي مترجمة عن إحدى المجموعات السياسية المحفوظة بالكتبخانة الخديوية:
  • البند الأول: سيكون الصلح من الآن بين الدولة العلية وإمبراطورية النمسا صلحًا أبديًّا برًّا وبحرًا، بينهما وبين متبوعيهما ومن يكون لهما حق السيادة عليهم، ويكون الاتحاد بينهما في غاية الإحكام، ويمنع كل من الطرفين حصول التعدِّي والإهانة على الآخر، ويعفو عمن اشترك في الحرب من رعايا أحد الطرفين ضدَّ الآخر، وعلى الأخص جميع صنوف أهالي الجبل الأسود والبوسنة والصرب والأفلاق والبغدان بحيث يكون لهم الحق بمقتضى هذا العفو العمومي في الرجوع إلى أوطانهم والتمتع بجميع أملاكهم وحقوقهم أيًّا كانت بدون أن يُسألوا أو يُحاكموا أو يُعاقبوا على عصيانهم ضدَّ ملكهم صاحب السيادة عليهم (الخليفة الأعظم)، أو لإظهار ولائهم للحكومة الإمبراطورية الملوكية (النمسا).
  • البند الثاني: يتخذ كل من الطرفين العاليين المتعاقدين ما كانت عليه الحالة العمومية قبل إشهار الحرب في (٩ فبراير سنة ١٧٨٨) أساسًا للمعاهدة الحالية؛ ولذلك فإنهما يجددان ويؤيدان بتمامها مع مراعاة معناها ومبناها بغاية الضبط والدقة بدون أدنى تغيير فيها أو عمل أو إتيان أي أمر مناقض لما جاءت به معاهدة بلغراد الرقيمة (١٨ سبتمبر سنة ١٧٣٩)، واتفاق (٥ نوفمبر) من السنة المذكورة، واتفاق (٢ مارس سنة ١٧٤١) المفسِّر لمعاهدة بلغراد، واتفاق (٥ مايو سنة ١٧٤٧) الذي جعل الصلح المبرم في بلغراد دائم الوجود، واتفاق (٧ مايو سنة ١٧٧٥) الخاص بالتنازل عن إقليم «بوكووين»، واتفاق (١٢ مايو سنة ١٧٧٦) المبين لحدود هذا الإقليم بحيث إن جميع المعاهدات والاتفاقات السالف بيانها يكون معمولًا بها والإجراء على موجبها إلى ما شاء الله كما لو كانت مسطرة حرفيًّا في هذه المعاهدة.
  • البند الثالث: إن الباب العالي يجدِّد ويؤيِّد بالصفة المشروعة أعلاه الاتفاق الرقيم (٨ أغسطس سنة ١٧٨٣) الذي تعهدت الدولة العلية بمقتضاه بحماية جميع المراكب الألمانية التجارية المختصة بأحد ثغور ألمانيا من تعدِّيات قراصين بلاد المغرب وباقي رعايا الدولة، وأن تعوِّض على أصحابها كل ما يعود عليهم من الضرر، وكذا يجدِّد الاتفاق الرقيم (٢٤ فبراير سنة ١٧٨٤) الخاص بمنح تجار الحكومة الإمبراطورية الملوكية حرية التجارة والملاحة في جميع بلاد الدولة وبحارها وأنهارها، وفرمان (٤ دسمبر ١٧٨٨) الخاص بمرور وإقامة وعودة الماشية ورعاتها من إقليم ترنسلفانيا إلى ولايتي الأفلاق والبغدان وجميع الفرمانات والاتفاقيات واللوائح الوزارية التي كانت معتبرة لدى الطرفين ومعمولًا بها قبل (٩ فبراير سنة ١٧٨٨)؛ لوجود الراحة واستتباب الأمن على الحدود، والخاصة بصالح وراحة وفائدة رعايا النمسا وتجارتها وملاحتها بحيث إن جميع هذه الاتفاقات والفرمانات واللوائح تكون معمولًا بها كما لو كانت منسوخة حرفيًّا في هذه المعاهدة.
  • البند الرابع: إن الحكومة الإمبراطورية الملوكية تتعهد بأن تردَّ إلى الباب العالي العثماني جميع ما احتلته من الأقاليم والأراضي والمدن والقلاع والحصون التي احتلتها جيوش الإمبراطور أثناء هذه الحرب، بما فيها إمارة الأفلاق والأجزاء المحتلة من بلاد البغدان، حتى تعود الحالة وحدود المملكتين إلى ما كانت عليه يوم (٩ فبراير سنة ١٧٨٨)، ولمقابلة تساهل الباب العالي وإجراءاته المبنية على المحبة والعدالة بمثلها.

    وتتعهد الحكومة المذكورة برد القلاع والحصون بالحالة التي كانت عليها وقت احتلالها مع المدافع العثمانية التي كانت بها إذ ذاك.

  • البند الخامس: أما قلعة «شوتيم» وإقليمها المسمى على لسان العوام باسم «ريا»، فيصير إخلاؤها وتسليمها للدولة العثمانية بالشروط السابقة المختصة بباقي القلاع، لكن لا يكون تسليمها إلا بعد أن يتمَّ الصلح بينها وبين إمبراطور جميع الروسيا. وفي الوقت الذي يعين لإخلاء جنود الروسيا لما فتحته في هذه الحروب، وإلى هذا الوقت تبقى الجيوش الإمبراطورية الملوكية محتلة لهده القلعة وإقليمها بصفة وديعة حرَّة بدون أن تشترك في الحرب الحاضرة أو تقدِّم أي مساعدة لحكومة الروسيا ضدَّ الباب العالي العثماني بأي كيفية كانت.
  • البند السادس: بعد مبادلة التصديق على هذه المعاهدة يبتدئ الفريقان في إخلاء وتسليم ما تعاهدا بإخلائه وتسليمه إلى الفريق الآخر لإرجاع الحدود إلى ما كانت عليه في المواعيد المحدودة بعد، ثم يعين كل منهما مندوبين كما جاء في المادة الثالثة عشرة من معاهدة بلغراد، يخصص بعضهم بما يتعلق بالفلاخ وأقاليم البغدان الخمسة وعليهم إنهاؤها في ظرف ثلاثين يومًا تمضي من تاريخ التوقيع على المعاهدة، ويخصص الباقون لإرجاع حدود البوسنة والصرب وقرية حرصو القديمة وضواحيها إلى الحالة التي كانت عليها قبل (٩ فبراير سنة ١٧٨٨)، ويعطى للفريق الآخر مدَّة شهرين من التاريخ السابق ذكره لضرورة هذا الميعاد لتدمير ما أنشئ من الاستحكامات الجديدة في القلاع المراد إرجاعها وتسليمها في الحالة التي كانت عليها وقت فتحها ولنقل ما بها من المدافع والمؤن والذخائر.
  • البند السابع: حيث إن الحكومة الإمبراطورية الملوكية قد أخلت سبيل كلِّ من أُسِرَ من رعايا الدولة العلية الملكيين والعسكريين في الحرب الأخيرة، وسلمتهم إلى المندوبين العثمانيين في روستجق وودين وبوسنة، ولم تسلمها الحكومة العثمانية في مقابل ذلك إلا رعايا الحكومة الإمبراطورية وعساكرها الذين كانوا موجودين في السجون العمومية أو في حوزة بعض أمراء البشناق.

    وحيث إنه يوجد منهم عدد عظيم في حالة الرق بالممالك المحروسة، فيتعهَّد الباب العالي اتباعًا لقاعدة إرجاع كل شيء إلى ما كان عليه قبل الحرب، ولمحو كل ما نشأ عنها من المصائب، بأن يردَّ إلى الحكومة الإمبراطورية الملوكية في ظرف شهرين من تاريخ التوقيع على المعاهدة كلَّ من يوجد من رعاياها في حالة الرق أو أُخذ أثناء الحرب ذكرًا كان أو أنثى أيًّا كان سنه أو حالته وفي حورة من كان وفي أي جهة من أملاك الدولة يكون، مجَّانًا بدون دفع فدية أو غيرها، بحيث لا يوجد من الآن فصاعدًا رعايا لأحد الطرفين تحت حكم الآخر إلا الذين يدخلون في الدين الإسلامي من جهة وفي الدين المسيحي من جهة أخرى باختيارهم، وبعد الإثبات بالطرق المقررة لمثل هذه الحالة.

  • البند الثامن: ومع ذلك؛ فإن الرعايا الذين يكونون قد تركوا الدولة التابعين إليها قبل هذه الحرب أو في أثنائها وأقاموا بأراضي الدولة الأخرى ولا يزالون مقيمين بها باختيارهم، لا يجوز لحاكمهم الأصلي طلبهم، بل يبقون تابعين لحاكم البلاد التي هاجروا إليها يعاملون كباقي رعاياه، ومن جهة أخرى فإن من يكون له عقارات في كل من الدولتين يكون له الخيار في الإقامة في ظل الدولة التي يريدها بشرط أن لا يكون لهم إلا حاكم واحد؛ ولذا فيجب عليه بيع عقاراته الكائنة في الدولة التي لا يَرُوم البقاء تحت لوائها.
  • البند التاسع: قد تعاهد الفريقان المتعاقدان رغبةً منهما في إحياء التجارة التي هي ثمرة السلم في أقرب وقت وفي معاملة التجار الذين لا تخفى منفعتهم على العمران بقاعدة إرجاع كل شيء لأصله المقررة في البندين الثاني والثالث على أن لا يلحق برعاياهما ضرر بسبب هذه الحرب، بل يكون لهم الحق في العودة إلى أعمالهم في النقطة التي كانت عليها وقت إعلان الحرب والتمسك بما لهم من الحقوق والطلبات السابقة للحرب أيًّا كانت، والمحافظة على ديونهم، ومطالبة مديونيهم، والمطالبة بالتعويضات التي تستحق لهم بسبب عدم دفع بعض ديونهم أو الضرر الذي لحق بهم عند إعلان الحرب خلافًا لما جاء بالمادة السابعة عشرة من معاهدة بلغراد والثامنة عشرة من معاهدة بساروفتس التجارية، وأن يستعينوا في جميع الأعمال بالمحاكم والحكومات المختصة، وعليها أن تنصفهم بالسرعة وبدون محاباة وبدون أن تعتبر الحرب وجهًا شرعيًّا لردِّ طلباتهم.
  • البند العاشر: تعطى الأوامر المشدَّدة الصارمة في أقرب وقت إلى حكام وولاة الدولتين المتعاقدتين العاملين على المقاطعات الواقعة على تخوم الدولتين بإعادة السكينة والطمأنينة العمومية ومراعاة حقوق الجوار على جميع الحدود، واحترام ما وضعته لجان التحديد من الحدود، وعدم تعدِّيها وارتكاب السلب والنهب فيما وراءها، والتعويض عما ينشأ عنها من الضرر، ومجازاة المخالفين لذلك والمذنبين بنسبة ذنوبهم وجرائمهم، مع مراعاة القواعد والمبادئ المقرَّرة لذلك في المعاهدات والاتفاقات السابقة بين الطرفين المتعاقدين، وبالاختصار ترسل إليهم الأوامر بإرجاع الحالة إلى ما كانت عليه من النظام والهدوء قبل الحرب، وجعلهم مسئولين عن جميع ذلك شخصيًّا.
  • البند الحادي عشر: ويصير التنبيه أيضًا على الولاة المذكورين والتأكيد عليهم بحماية رعايا الطرف الآخر الذين تضطرهم تجارتهم أو أشغالهم إلى اجتياز الحدود أو السفر في داخل الولايات، وأن يساعدوهم على السفر في الأنهر ذهابًا أو إيابًا بكمال الحرية مراعين وملزمين غيرهم بمراعاة واجبات الوفادة والضيافة وجميع بنود ومواد المعاهدات والاتفاقات وغيرها، المؤيدة في البندين الثاني والثالث من هذه المعاهدة بدون أن يطلبوا أو يسمحوا لأيِّ أحد أن يطلب منهم أيَّ مُكوس أو ضرائب أخرى على أشخاصهم أو بضائعهم غير المحددة في المعاهدات المذكورة.
  • البند الثاني عشر: أما بخصوص إجراء أصول الدين الكاثوليكي المسيحي في الدولة العثمانية وحرية قسوسه والمتمسكين به، وحفظ وإصلاح كنائسه، وحرية التعبد والمتعبدين والتردُّد على الأماكن المقدَّسة بأورشليم وغيرها، وحماية هذه الأماكن والحج إليها، فإن الباب العالي السلطاني يجدِّد ويؤيِّد تبعًا لقاعدة إرجاع كل أمر إلى ما كان عليه جميع الامتيازات الممنوحة للدين الكاثوليكي بمقتضى البند التاسع من المعاهدة السابقة، وبمقتضى جميع الفرمانات والأوامر الأخرى الصادرة من بادئ أمره.
  • البند الثالث عشر: يرسل كل من الطرفين إلى الطرف الآخر سفراء من الدرجة الثالثة لمناسبة هذا الصلح، وعند تبليغ تولِّي جلالة ملوك الدولتين على كرسي أجدادهم، ويصير مقابلة هؤلاء السفراء على حسب الرسوم المتبعة وبالأبهة والاعتبار والمعاملة التي كانت حاصلة قبل الحرب، ويكون لهم حقُّ التمتع بما يخوِّله لهم قانون الملل وبالامتيازات المرتبة بوظيفتهم بمقتضى المعاهدات السابقة، ويكون الحال كذلك للسفراء المعينين الآن لدى الباب العالي العثماني ومن يخلفهم، مع مراعاة اختلاف درجاتهم ورتبهم وبالنسبة لجميع الموظفين المعينين معهم وتابعيهم وخدامهم ومساكنهم، وبما أن كثيرًا من السعاة المكلفين بحمل الرسائل والمكاتبات من وإلى الحكومة الإمبراطورية الملوكية صار التعدِّي عليهم وسلب ما معهم قبل الحرب فالباب العالي العثماني لا يترك أي طريقة للتعويض عليهم، كما أنه سيتخذ الاحتياطات القوية الضامنة لذهاب هؤلاء السعاة وإيابهم تحت حمايته بكل طمأنينة.
  • البند الرابع عشر: قد صار تحرير نسختين من هذه المعاهدة مطابقتين لبعضهما، إحداهما باللغة الفرنساوية التي استعملت لسهولة التفاهم ويصير التوقيع عليها من مندوبي ملك النمسا وإمبراطور ألمانيا، والثانية باللغة التركية ويصير إمضاؤها من مندوبي جلالة السلطان الأعظم، ثم يصير مبادلتهما بمعرفة وكلاء الدولة المتوسطة وإرسالهما إلى الطرفين العاليين المتعاقدين، وبعد إمضائهما بثلاثين يومًا أو أقل إن أمكن يصير تبادل براءة اعتمادهما محلاة بإمضاء جلالة الملكين الأفخمين بواسطة سفراء الدول المتوسطة، وتسليمها إلى مندوبي المتعاقدين مرفقة بصور المعاهدات والاتفاقات والأوراق التي تجددت وتأيدت وصارت أبدية الوجود بمقتضى هذه المعاهدة مصدقًا عليها بأنها طبق الأصل. ا.ﻫ.

إلا أن الروسيا لم تتبع النمسا حليفتها في طريق الصلح، بل استمرت على محاربة الدولة بمفردها، وفي ١٦ ربيع الآخر سنة ١٢٠٥ (الموافق ٢٣ دسمبر سنة ١٧٩٠) استولى القائد سوواروف على مدينة إسماعيل عنوة، وارتكبت فيها من الأعمال الوحشية ما تقشعرُّ منه الأبدان من قتل وفتك وسبي، ولم يرحموا النساء ولا الأطفال، ولما وصل خبر سقوط هذه المدينة إلى الآستانة هاج الشعب ضد حسن باشا البحري الذي كان مكلفًا بحمايتها، وطلبوا من السلطان قتله، فأمر بذلك.

ثم توسطت إنكلترا والبروسيا وهولاندا بين الدولة والروسية ودارت المخابرات مدة، ثم تمَّ الصلح بين الطرفين في ١٥ جمادى الأولى سنة ١٢٠٦ (الموافق ٩ يناير سنة ١٧٩٢) على أن تمتلك الروسيا بلاد القرم نهائيًّا وجزءًا من بلاد القوبان وبسارابيا والأقاليم الواقعة بين نهريْ بوج ودينستر، بحيث يكون هذا النهر الأخير فاصلًا بين المملكتين، وتتنازل لها الدولة عن مدينة أوزي «أوتشاكوف»، وأمضيت بذلك معاهدة في مدينة ياش أطلق عليها اسم هذه المدينة نسبة إليها.

بعض إصلاحات داخلية

وبعد تمام الصلح مع النمسا والروسيا أخذت الدولة في إصلاح داخليتها، وخصوصًا العسكرية والبحرية، فعين أحد المتقربين من الذات السلطانية — واسمه كوشك حسين باشا — قبودانًا عامًّا، وكان من الشبان الأذكياء الذين درسوا أحوال أوروبا ووقفوا على دخائل سياستها حتى وثق به السلطان وثوقًا تامًّا وزوَّجه إحدى أَخَوَاته، فبذل جهده في مطاردة قراصنة البحر لتسهيل التجارة، وشمَّر عن ساعد الجد في إصلاح الثغور وبناء القلاع الحصينة لحمايتها، ثم أنشأ عدة مراكب حربية على شاكلة أحدث المراكب الفرنساوية والإنكليزية، واستحضر عددًا عظيمًا من مهرة المهندسين من السويد وفرنسا لصبِّ المدافع في معامل الطوبخانة العامرة، وأصلح مدرسة البحرية ومدرسة الطوبجية التي أسَّسها البارون دي توت المجري وترجم لتلامذتها مؤلفات المعلم فوبان الفرنساوي في فن الاستحكامات، وأضاف إلى مدرسة الطوبجية مكتبة جمع فيها أهم ما كتب في الفنون الحربية الحديثة والرياضيات لتكون التلامذة على اطلاع تام في كل ما يختص بترقية شأن الطوبجية، ثم وضع نظامًا للجنود المشاة، وشرع في تنسيق فرق جديدة وتدريبها على النظام الأوروبي، فأنشأ أول فرقة منتظمة في سنة ١٧٩٦، وجعل عددها ١٦٠٠ جندي تحت قيادة ضابط إنكليزي دخل في الدين الإسلامي وسمي إنكليز مصطفى.

وكان القصد من ترتيب العساكر النظامية الاستغناء بهم عن جنود الانكشارية الذين صاروا عالة على الدولة ومن عوامل تأخرها بعد أن كانوا أهمَّ عوامل تقدمها وقت الفتوحات المستمرة التي كانوا يعودون منها بكثير من الغنائم حتى اعتادوا النهب، وصاروا لما لم يجدوا بلادًا مفتتحة حديثًا لسلب أهاليها يتعدون على أهالي الآستانة والعواصم الأخرى بالسلب والنهب وغير ذلك، فضلًا عن عصيانهم المرة بعد الأخرى، وعزلهم الصدور والوزراء، وتعدِّيهم على السلاطين بالعزل أو القتل لما يرون منهم معارضًا لفسادهم أو ضعفًا في معاقبتهم.

هذا؛ وقد كانت الدولة في أشد الحاجة والافتقار لهذه الإصلاحات الداخلية، فإن روابط الولاء بين الولاة والعاصمة كانت ضعفت وسعى كلٌّ في الاستقلال أو في عدم دفع الأموال الأميرية إلى الخزينة السلطانية مع نضوبها بسبب الحروب واغتيالها لأنفسهم، واستبد المماليك بمصر برئاسة الأمراء المصرية وأشهرهم مراد بك وإبراهيم بك وعثمان بك البرديسي، وغيرهم مما هو مذكور تفصيلًا في تاريخ الجبرتي.

عصيان بازوند أوغلي

وكذلك ظهرت في هذه الأثناء فتنة عثمان باشا والي ودين الملقب ببازوند أوغلي٣ وانضمام كثير من أهالي الصرب إليه، واستظهاره على جنود الدولة التي أرسلت لإقماعه، وأخيرًا سافر إليه كوجك حسين باشا بنفسه، وبعد عدة مناوشات كانت الحرب فيها سجالًا بينهما خشي هذا الوزير من دسائس أرباب الغايات أن تعصي كافة أيالات البلقان، فتدارك الأمر ومنح بازوند أوغلي ولاية ودين طول حياته، وبذلك حسمت الفتنة سنة ١٢١٢، الموافقة سنة ١٧٩٧.

دخول الفرنساويين مصر

وفي سنة ١٢١٣ (الموافقة سنة ١٧٩٨) أمرت الجمهورية الفرنساوية بونابرت٤ القائد الشهير بالمسير إلى مصر لفتحها بغير إعلان حرب على الدولة العلية، وأوصته بكتمان هذا الأمر حتى لا تعلم به إنكلترا فتسعى في إحباطه مع أن القصد منه لم يكن إلا منع مرور تجارة الإنكليز من مصر إلى الهند وبالعكس، فجهز في مدينة طولون جيشًا مؤلفًا من ٣٦ ألف مقاتل أغلبهم من العساكر المدرَّبين في الحروب التي جرت بين فرنسا وإيطاليا، وانتهت بمعاهدة كامبوفورميو، وعشرة آلاف بحري تحملهم دونانمة مركبة من ٣٠ سفينة حربية و٧٢ قراويت و٤٠٠ مركب حمل، وأضاف إلى جيشه ١٢٢ عالمًا على اختلاف العلوم والمعارف لدرس القطر المصري والبحث عما يلزم لإصلاحه واستغلاله.

وفي ١٩ مايو سنة ١٧٩٨ رحل بونابرت بهذا الجيش بدون أن يعلم أحدًا بوجهته، فوصل جزيرة مالطة في ١٠ يونيو، واحتلها بعد أن دافع من فيها من رهبان القديس حنا الأورشليمي. وفي ١٧ محرم سنة ١٢١٣ (الموافق ٢ يوليو) وصل أمام مدينة الإسكندرية وأنزل عساكره على بعد أربع فراسخ منها، وبعد أن دخلها عنوة ترك بها القائد كليبر وسار هو قاصدًا مدينة القاهرة عن طريق الصحراء الممتدَّة غرب فرع رشيد، فقابله مراد بك بشرذمة من المماليك عند مدينة شبراخيت بالبحيرة في ٢٩ محرم الموافق ١٣ منه، فهزمه بونابرت وواصل السير حتى وصل إلى مدينة إنبابة مقابل القاهرة، وحصلت بينه وبين إبراهيم بك ومراد بك أمراء المماليك واقعة الأهرام الشهيرة في ٧ صفر الموافق ٢١ يوليو، التي أظهر فيها المماليك من الشجاعة ما أدهش الفرنساويين، وبعد أن بذلوا وسعهم في الدفاع عن مصر — لا أقول بلادهم بل غنيمتهم — تقهقروا أمام المدافع الفرنساوية، فدخل بونابرت وجيوشه مدينة القاهرة بعد أن أعلن بها أنه لم يأت لفتح مصر، بل إنه حليف الباب العالي أتى لتوطيد سلطته ومحاربة المماليك العاصين أوامره، كما قال الإنكليز عند دخولهم مصر سنة ١٨٨٢.

وأرسل القائد «دسكس» إلى الصعيد لاقتفاء أثر مراد بك، فتبعه حتى وصل جزيرة فيلة (قصر أنس الوجود) في ٢٥ رمضان سنة ١٢١٣ (الموافق ٣ مارس سنة ١٧٩٩)، ووجه فرقة أخرى احتلت مدينة القصير على البحر الأحمر في ٢٤ ذي الحجة من هذه السنة (الموافق ٢٩ مايو من السنة المذكورة)، وبذلك صار القطر المصري من البحر الأبيض المتوسط إلى أقاصي الصعيد في قبضته، ثم أسَّس المجلس العلمي للبحث عما يجعل احتلاله بوادي النيل دائميًّا.

لكن لم يلبث أن وصله خبر واقعة أبي قير البحرية التي دمر فيها نلسن٥ — أمير البحر الإنكليزي الشهير — جميع المراكب والسفن الحربية الفرنساوية في ١٧ صفر سنة ١٢١٣ (الموافق أول أغسطس سنة ١٧٩٨)، وتسلطن الإنكليز على البحر المتوسط، وقطع المواصلات بينه وبين فرنسا؛ وذلك أن وقت خروج المراكب الفرنساوية من طولون كان نلسن المذكور يحاصر مدينة قادس بإسبانيا، فترك الحصار وأخذ يبحث عن الدونانمة الفرنساوية فلم يعثر عليها إلا بعد أن احتلت جزيرة مالطة ومدينة الإسكندرية كما سبق.

ولما علمت الدولة العلية باحتلال الفرنساويين القطر المصري أخذت في الاستعداد لمحاربتهم، لا سيما وأنها كانت مطمئنة البال هادئة البلبال من جهة النمسا والروسيا اللتين كانتا مشتغلتين بمحاربة الجمهورية الفرنساوية خوفًا من امتداد مبادئها الحرَّة إلى بلادهما فتفلُّ عروشهما كما حصل للويس السادس عشر — ملك فرنسا — ومن جهة أخرى عرضت عليها الدولة الإنكليزية مساعدتها على إخراج الفرنساويين من مصر لا رغبة في حفظ أملاك الدولة، بل خوفًا على طريق الهند من أن تكون في قبضة دولة قوية يمكنها معاكستها، فقبلت الدولة العلية مساعدتها بكل ارتياح، وكذلك عرضت عليها الروسيا إمدادها بمراكبها الحربية، وانضمام دونانماتها إلى الدونانماتين العثمانية والإنكليزية، فقبلت أيضًا وأعلنت الحرب رسميًّا على فرنسا في ٢١ ربيع الأوَّل سنة ١٢١٣ (الموافق ٢ سبتمبر سنة ١٧٩٨)، وأخذت في جمع الجيوش بمدينة دمشق وبجزيرة رودس لإرسالها إلى مصر، وأتت الدونانمة الروسية من البحر الأسود إلى بوغاز الآستانة، وخرجت إلى البحر الأبيض مع الدونانمة العثمانية، وذلك بمقتضى معاهدة أبرمت بين هذه الدول الثلاث التي اتفقت لأوَّل مرة على عمل حربي مع ما بين الدولة العلية والروسية من العداوة القديمة المستمرَّة.

ولما شعر بونابرت باجتماع الجيوش لمحاربته تحقق أنه إن لم يفاجئ الدولة العلية في بلاد الشام قبل أن تُتِمَّ استعداداتها الحربية تكون عواقب الحرب وخيمة عليه، وأن من يحتل مصر لا يكون آمنًا عليها إلا إذا احتل القطر السوري، فلهذه الدواعي عزم بونابرت على فتح بلاد الشام وقام من مصر ومعه ثلاثة عشر ألف مقاتل قاصدًا بلاد الشام من طريق العريش، فاحتلها في أواخر شعبان سنة ١٢١٣، ثم دخل مدينة غزة في ١٩ رمضان، وارتحل عنها في ٢٣ منه، ووصل الرملة في ٢٥ منه، ومنها إلى يافة، فوصلها في ستة وعشرين رمضان (الموافق ٧ مارس). ولما آنس منها المقاومة حاصرها ودخلها عنوة في يوم أوَّل شوَّال، ثم رحل منها قاصدًا مدينة عكا، وقبل مزاولته ليافا ارتكب أمرًا شنيعًا لم يسبق في التاريخ، وهو أمره بقتل جميع الجرحى والمرضى من عساكره؛ حتى لا يعوقوه في سيره، ثم حاصر مدينة عكا من جهة البر وهاجمها مرارًا، لكن لم يتمكَّن من فتحها لوصول المدد إليها تباعًا من طريق البحر واستيلاء الأميرال الإنكليزي «سدني سميث»٦ على مدافع الحصار التي أرسلها من مصر لإطلاقها على الأسوار، ولتيقظ أحمد باشا الجزار قائد حاميتها لإفساد الألغام التي ينشئها الفرنساويون لنسفها، وفي أوائل أبريل بلغه تحرك جيش دمشق العثماني لإنجاد مدينة عكا، فأرسل القائد كليبر مع فرقة من الجيش لمحاربته ومنعه من الوصول إليها، فالتقى هذا القائد بالعثمانيين عند جبل طابور، وأحاطوا به إحاطة السوار بالمعصم، وكادوا يفوزون لولا مجيء بونابرت إليه بثلاثة آلاف مقاتل ومهاجمته لهم من الخلف؛ فتفرق الجيش العثماني في ١٦ أبريل، ثم عاد بونابرت إلى عكا فوصله خبر تقدُّم الجيش المجتمع في جزيرة رودس، فقطع بعدم النجاح وعاد بمن بقي من جيوشه إلى القاهرة، ودخلها في ٢١ مايو من السنة المذكورة.

وفي يوليو نزل جيش رودس العثماني بأبي قير وتحصَّن بها، وكان يبلغ عدده ١٨ ألف مقاتل، فسار بونابرت من القاهرة لمحاربتهم؛ فتغلب عليهم، والتجأ من لم يقتل منهم إلى المراكب في ٢٤ صفر سنة ١٢١٤ (الموافق ٢٨ يوليو)، وأسر قائدهم الأكبر مصطفى باشا وكثيرًا من الجنود.

وفي ٢٢ أغسطس سافر بونابرت من الإسكندرية قاصدًا فرنسا خفية مع بعض قوَّاده؛ حتى لا يضبطه الإنكليز القاطعون بمراكبهم سبل البحر الأبيض على الفرنساويين، وذلك أن الأميرال الإنكليزي أرسل إليه عدَّة نسخ من الجرائد الفرنساوية المذكور بها خبر تغلب النمساويين على فرنسا ووقوع الفوضى في داخليتها، فأراد بونابرت الرجوع إليها لاستمالة الخواطر إليه وتأليف حزب يعضده في الوصول إلى غرضه وهو أن يعين رئيسًا للجمهورية أو أكثر من ذلك، خصوصًا وقد نال اسمًا عظيمًا في محاربات إيطاليا والنمسا قبل مجيئه لمصر، وحاز فخرًا أثيلًا بسبب فتحه وادي النيل، فغادره تاركًا القائد «كليبر» وكيلًا عنه، ويقال إنه أذنه بإخلاء القطر لو رأى تغلب القوى الخارجية عليه لعدم إمكان مساعدته بالمال أو الرجال نظرًا لوجود السفن الإنكليزية تشقُّ عباب البحر الأبيض طولًا وعرضًا.

فبقي الجيش الفرنساوي بمصر بدون مراكب تحميه من نزول الإنكليز والعثمانيين إلى الثغور أو تأتي إليه بالمدد أو مجرَّد الأخبار من فرنسا، ونقص عدده إلى خمسة عشر ألفًا بعد من مات ببر الشام بالطاعون والحرب، وظاهر أن هذا العدد غير كافٍ لحماية السواحل وحفظ طريق الصالحية والمحافظة على الأمن في الداخل، ولذلك يئس القائد كليبر من حفظ مصر واتفق مع الباب العالي والأميرال سدني سميث في ٢٤ يناير سنة ١٨٠٠ على أن تنسحب العساكر الفرنساوية بسلاحها ومدافعها وترجع إلى فرنسا على مراكب إنكليزية، لكن بعد أن ابتدأ الفرنساويون في إخلاء القلاع أرسل الأميرال كيث الإنكليزي إلى كليبر يخبره أن الحكومة الإنكليزية لم تقبل هذا الاتفاق إلا إذا ألقى الفرنساويون سلاحهم بين أيادي الإنكليز، فاغتاظ القائد الفرنساوي لذلك، وسار لمحاربة الجيش التركي الذي أتى إلى مصر تحت قيادة الوزير يوسف باشا لاستلامها من الفرنساويين، فتقابل الجيشان عند المطرية في ٢٣ شوَّال سنة ١٢١٤ (الموافق ٢٠ مارس سنة ١٨٠٠)، وبعد محاربة عنيفة فاز كليبر بالنصر، وعاد إلى القاهرة فوجدها في قبضة إبراهيم بك — أحد الأمراء المصرية — وكان دخلها حال اشتغال الفرنساويين بالمحاربة، فأطلق القنابل عليها وخرَّب منها جزءًا عظيمًا، واستمرَّت الحرب في شوارعها نحو العشرة أيام مما هو مذكور في تاريخ الجبرتي تفصيلًا عن ذكر حوادث الشهر المذكور (راجع جزء ثالث صحيفة ٩٠ وما بعدها)، وبعد ذلك ساد الأمن بالقاهرة.

وفي ١٤ يونيو سنة ١٨٠٠ (الموافق ٢١ محرم سنة ١٢١٥) قَتَلَ شخص حلبي اسمه سليمان القائدَ كليبر في بستان سراي الألفي بالأزبكية (الموجود محلها الآن فندق شبرد) وهرب، فبحثوا عليه حتى وجدوه مختفيًا ببستان مجاور للبستان الذي حصل فيه القتل فضبطوه، وبعد تحقيق طويل قتلوه هو ورفاق له ثلاثة اتُّهِموا معه في القتل، وبعد دفن القائد كليبر عين مكانه الجنرال «منو»، وكان قد اعتنق الدين الإسلامي وتسمى عبد الله منو.

خروج الفرنساويين من مصر

ولما علم الإنكليز والعثمانيون بموت كليبر وخروج بونابرت ومعه أمهر القوَّاد من مصر أيقنوا بالغلبة عليهم، وأنزلوا بأبي قير ثلاثين ألف مقاتل تحت قيادة الجنرال «إبركرومبي» في أوائل سنة ١٨٠١، فسار القائد منو لمحاربتهم؛ فانهزم أمامهم في ٢١ مارس ورجع إلى مدينة الإسكندرية ليتحصَّن بها؛ فقطع الإنكليز سدَّ أبي قير، المانع لمياه البحر الأبيض من الإغارة على أرض مصر؛ حتى يحصر القائد منو وجيوشه في الإسكندرية، غير مبالين بما ينجم عن قطع هذا السدِّ من الخراب والدمار لجزء ليس بقليل من الوجه البحري.

ثم سار الإنكليز والأتراك إلى القاهرة عن طريق الصالحية، وحصروا من بقي منها من الفرنساويين، ولتحقق القائد «بليار» أن لا مناص له من التسليم خابر القائدين العثماني والإنكليزي، وطلب منهما إخلاء وادي النيل بالشروط السابق تدوينها باتفاق العريش في ٢٤ يناير سنة ١٨٠٠، فقبلا منه وأمضيا معه اتفاقًا بذلك في ١٦ صفر سنة ١٢١٦ (الموافق ٢٧ يونيو سنة ١٨٠١).

فأخلى المدينة في ٢٨ صفر من السنة المذكورة، وخرج منها بجميع أسلحته ومدافعه ومهماته.

وبعد أن أقاموا في بر الجزيرة أربعة أيام ساروا إلى ثغر رشيد تتبعهم فرق من الجنود الإسلامية والإنكليزية لمنع تعرض الأهالي لهم، وفي أواخر ربيع الأول أبحروا من رشيد على مراكب إنكليزية.

أما القائد منو فبقي محصورًا في الإسكندرية، ولم يقبل التسليم إلا في ٢٢ ربيع الآخر سنة ١٢١٦ (الموافق ٢ من شهر سبتمبر سنة ١٨٠١) بعد أن وقعت بينه وبين العثمانيين والإنكليز موقعة عظيمة قتل فيها كثير من الطرفين، فخرج منها مع من بقي معه، وسافر إلى بلاده على مراكب الإنكليز، وبذلك انتهت الحرب ورجعت البلاد إلى حاكمها الشرعي ومالكها الأصلي وخليفة رسول رب العالمين، بعد أن وطئ هامتها الأجنبي وارتكب فيها من الأعمال ما يضيق نطاق هذا الكتاب عن وصفه، نسأله تعالى أن يمنَّ عليها بالتخلص من الأجانب المحتلين لها الآن عسكريًّا ومدنيًّا كما حررها من ربقة الفرنساويين؛ فإن «مصر كنانة الله في أرضه؛ من أرادها بسوء أهلكه الله؛ إنه هو السميع المجيب».

وبعد ذلك تخابر بونابرت الذي كان تعيَّن رئيسًا للجمهورية الفرنساوية بلقب قنصل مع سفير الدولة العلية المدعو أسعد أفندي، وأظهر له ضرر اتحاد الدولة مع الروسيا وإنكلترا، خصوصًا وأن الروسيا قد احتلت جزائر اليونان الواقعة ما بين جنوب إيطاليا وبحيث جزيرة مورة وجنود إنكلترا باقية بمصر مماطلة في إخلائها، هي وما احتلته من ثغور الشام، وأخيرًا أقنعه بوجوب تجديد العلاقات الودِّية مع فرنسا، فكاتب السفير العثماني دولته بذلك، وبعد الحصول منها على الإذن أمضى مع بونابرت مشروع معاهدة بتاريخ أوَّل جمادى الآخرة سنة ١٢١٦ (الموافق ٩ أكتوبر سنة ١٨٠١) و١٧ فانديمير من العام العاشر للجمهورية الفرنساوية أساسها إخلاء مصر وتأييد امتيازات فرنسا السابقة في الشرق، وهذا نصها نقلًا عن قاموس فيليب جلاد:
  • البند الأوَّل: ينعقد السلم والولاء فيما بين الجمهورية الفرنساوية والباب العالي، فيزول بناءً على ذلك ما كان بينهما من العدوان ابتداءً من اليوم الذي تتبادل فيه التصديقات على هذه البنود الابتدائية، وبعد أن تجري مبادلة التصديق تنجلي في الحال العساكر الفرنساوية عن مملكة مصر وتردُّ المملكة المذكورة إلى الباب العالي المحفوظة أراضيه وممالكه له بالتمام والكمال كما كانت في الحرب الحالية، على أنه من المقرَّر أن كل ما يسمح به من الامتيازات في الممالك المصرية لسائر الممالك الأجنبية بعد انجلاء الفرنساويين عنها يكون مسموحًا به للفرنساويين أيضًا.
  • البند الثاني: تعترف جمهورية فرنسا بتشكيل جمهورية السبع جزائر وبلاد البندقية السابقة، وتكفل استمراره، ويقبل الباب العالي كفالة فرنسا وروميا بذلك.
  • البند الثالث: ستتَّفِق الجمهورية الفرنساوية والباب العالي العثماني على تعيين طريقة نهائية تختصُّ بأموال رعاياهما وأمتعتهما التي حجزت أو أخذت مصادرة أثناء الحرب، ويطلق سراح الوكلاء السياسيين والوكلاء التجاريين والأسرى على اختلاف درجاتهم حال حصول التصديق على هذه البنود الابتدائية.
  • البند الرابع: إن المعاهدات الكائنة فيما بين فرنسا والباب العالي حتى قبل الحرب الحاضرة تجدَّدت بتمامها، وبناءً على ذلك حقَّ لجمهورية فرنسا أن تتمتع في كافة أنحاء الممالك العثمانية بجميع الحقوق التجارية وحقوق الملاحة التي كانت متمتعة بها قبلًا أو سيتمتع بها غيرها من الدول الأكثر تفضيلًا في مستقبل الأيام.

وتبادل التصديقات على هذه البنود في ظرف ثمانين يومًا، وحرر عن باريس في ١٧ فانديمير من العام العاشر لجمهورية فرنسا الموافق يوم غرَّة جمادى الآخرة سنة ١٢١٦، وعقب ذلك أبرم بونابرت مع عامل الجزائر معاهدة بتاريخ (١٧ دسمبر سنة ١٨٠١) وأخرى مع تونس بتاريخ (٢٣ فبراير سنة ١٨٠٢)، قاضيتين باحترام سفن فرنسا التجارية كما كان في زمن السلطان سليمان القانوني.

ولما دارت المخابرات بين فرنسا وإنكلترا للوصول إلى مصالحة أميان٧ أرادت إنكلترا إدخال الباب العالي فيها حتى تثبت اشتراكها وتحالفها معها بصفة دولية، فلم تقبل الدولة ولا فرنسا بذلك، وأصرَّ بونابرت على الاتفاق مع الدولة رأسًا، وتم الاتفاق بينهما في ٢٣ صفر سنة ١٢١٧ (الموافق ٢٥ يونيو سنة ١٨٠٢) على أن ترجع مصر إلى الدولة مع كافة ما كان لها من الحقوق، وأن يقام في جزائر اليونان جمهورية مستقلة تحت حماية الباب العالي (وكان ذلك بالاتفاق مع الروسيا)، وتعهدت الدولة العلية بردِّ ما صُودِر من أملاك الفرنساويين ببلادها، ومنح فرنسا جميع امتيازاتها السابقة المضمونة لها بمعاهدة سنة ١٧٤٠، وأن يكون لمراكبها التجارية حق الملاحة في البحر الأسود أُسوةً بمراكب الروسيا، وبعد ذلك أَجْلَتْ إنكلترا جيوشها عن مصر والإسكندرية في ذي القعدة سنة ١٢١٧ (الموافقة شهر فبراير سنة ١٨٠٣).

وفي هذه الأثناء حصلت في داخلية الدولة بعض اضطرابات بسبب شروع السلطان سليم الثالث في تنظيم الجيوش على النظام الجديد؛ فإن الانكشارية لم ينظروا لهذه الإصلاحات العسكرية بعين الارتياح؛ لخوفهم من أن تكون مقدمة لإلغاء وجاقاتهم. فلما مات الجنرال دوبايت الفرنساوي الذي كان استحضر لتدريب النظام في سنة ١٧٩٧ سعى الانكشارية مع بعض العلماء المغايرين لكل أمر مستحدث بدون نظر إلى ما يجره من النفع لدى جلالة السلطان، وتحصلوا على لغو الفرق المنتظمة، فأخذ القبودان كوجك حسين باشا نحو ٦٠٠ منهم، وشكلهم على هيئة أورطة منظمة على نفقته الخصوصية، وأجزل إليهم الهبات حتى أتى الشبان للانضمام إليها باختيارهم.

وأخذ الانكشارية يقفون أمام سرايه وقت تعليم العساكر ويهزءون بهم تارة ويهدِّدونهم أخرى، وحسين باشا لا يعبأ بهم، بل جدَّ في طريقه وسار في مشروعه. ولما سار بونابرت من مصر إلى الشام سافر هو إلى عكا مع فرقته، فكانت العساكر النظامية في مقدمة المدافعين ومن أشدِّهم بأسًا على جيوش الفرنساويين، ولما عادوا من مدينة عكا تخفق عليهم رايات النصر أمر السلطان أن تكون نفقتهم على الحكومة، وأن يزاد عددهم لما تحققه جلالته من فائدة النظام في الجندية بإزاء جيوش أوروبا المنتظمة، ثم انتهز فرصة وجود أكبر قوَّاد الانكشارية بمصر لمحاربة الفرنساويين، وأصدر أمرًا ساميًا (خط شريف) قاضيًا بفصل المدفعية عن الانكشارية وتنظيمها على الطراز الأوروبي وكذلك البحرية، وبإنشاء أورطتين سواري وألايين مشاة منتظمين ويكون مقرهم في الآستانة، وأن يكون لكل منهم موسيقى عسكرية وإمام لتعليم الدين وإقامة الصلاة، وأن يُبنى قشلاقان؛ أحدهما بإسكدار والآخر ببيو كدره، وأن يخصص للصرف عليهم جميع الإقطاعات العسكرية التي تنحلُّ بموت أصحابها وتعود للحكومة، ثم أصدر أوامره إلى عبد الرحمن باشا — والي بلاد القرمان — بتأليف عدَّة آلايات وتدريبها على النظام الجديد، فصدع بالأمر بكل اهتمام حتى لم تمضِ ثلاث سنوات إلا وقد تمَّ تنظيم ثمانية آلايات كاملة العَدد والعُدد.

الفتن الداخلية وأسبابها

ولنأتِ هنا على تلخيص ما كان واقعًا ببلاد الصرب والأرنئود من الفتن؛ ليكون القارئ مُطَّلِعًا على حالة الدولة الداخلية، وما بها من موجبات التقهقر، التي أساسها الأصلي عدم السعي وقت الفتح في محو عصبيات الأمم المختلفة بعد الاستيلاء عليها ببذل الجهد في إضعاف ثم تلاشي لغتهم وعوائدهم حتى يصير الكل أمة واحدة عثمانية، فنقول: لما فتحت بلاد الصرب نهائيًّا بعد واقعة «قوص أوه» الشهيرة أعطيت كافة أراضيها إقطاعات إلى الفرسان العثمانية (سباه)؛ أي إنها تبقى تحت يد ملاكها الأصليين المسيحيين بشرط دفع جعل أو خراج معين لمن أعطيت له، وترك لهم حق انتخاب مشايخ بلادهم، فاستبدَّ معهم ملتزمو الإقطاعات، وعاملوهم معاملةً نفرت قلوبهم وأوجدت فيهم محبة الاسقلال؛ فكثر منهم قطاع الطرق.

ولما انتشبت الحرب الأخيرة بين الدولة والنمسا والروسيا هاجر كثير منهم إلى بلاد المجر، وانخرطوا في سلك الجندية النمساوية لمحاربة الدولة، ولما وضعت الحرب أوزارها عادوا إلى بلادهم بعد أن تمرَّنوا على فنون الحرب وضروب القتال، وأُشرِبوا حبَّ الاستقلال والحرية، وبعد عودتهم اضطهدهم الانكشارية لرفعهم السلاح ضدَّ دولتهم في صفوف أعدائها، ولو أن الباب العالي عفا عنهم عفوًا عموميًّا، إلا أن هذه الفئة المفسدة اتخذت ذلك سببًا لنهب قرى الصرب والتعدِّي عليهم بكافة أنواع الإهانة.

ولما اشتكى الأهالي من هذه المظالم أمرت الدولة والي بلغراد بمعاقبة الانكشارية وإخراجهم من أراضي الصرب قاطبة، فلم يمتثلوا هذه الأوامر؛ ولذا حاربهم الوالي بمساعدة السباه، وتغلب عليهم وأخرجهم من ولاية بلغراد بعد أن قتل رئيسهم دلي أحمد؛ فالتجئوا إلى بازوند أوغلي الذي سبق ذكر تمرُّده واستقلاله تقريبًا بولاية «ودين»، وهو توسَّطَ لهم لدى الباب العالي، واستحصل لهم على الإذن بالعودة إلى بلغراد بشرط ملازمة الهدوء والسكينة، لكنهم لم يرجعوا عن غيهم، بل بمجرَّد عودتهم استأنفوا اضطهادهم للصرب، ثم تطاولوا إلى محاصرة مدينة بلغراد بمساعدة بازوند أوغلي، ودخلوها عَنْوة، وقتلوا واليها، وانتشروا في أطراف البلاد يَعِيثُون في الأرض فسادًا …

ولما ضاق الصربيون ذرعًا اجتمعوا للدفاع عن أرواحهم وأموالهم وأعراضهم، وانتخبوا لهم رئيسًا من أهلهم؛ وهو جورج بتروفتش،٨ وطاردوا الانكشارية حتى أبعدوهم عن الأراضي والقرى وصار لا يمكنهم الخروج من المدن لتربُّص الأهالي لهم.

ثم أرسل الباب العالي إلى بكير باشا — والي بوسنة — يأمره بمساعدة الصرب ومحاربة الانكشارية وطردهم ثانيةً من بلغراد، فأتى بجيشه وحاصرها مع بتروفتش حتى دخلاها وأخرجا الانكشارية منها.

وبعد ذلك رجع باكير باشا إلى ولايته، ومن ذلك الحين لم ترجع السكينة إلى بلاد الصرب، بل تألَّبوا جماعات تحت رئاسة بتروفتش للدفاع عن أنفسهم، ولم يهدأ لهم بال حتى تحصَّلوا على الاستقلال الإداري ثم السياسي كما سيأتي في موضعه.

وفي هذه الأثناء كانت الاضطرابات سائدة في بلاد الأرنئود لقيام علي باشا — والي يانيه — على الباب العالي واستئثاره بالسلطة حول ولايته. أما علي باشا المذكور فهو ابن أحد بيكوات الأروام الذين اعتنقت عائلاتهم الإسلام في بدء الفتح العثماني، ثم صار رئيسًا لإحدى العصابات التي تألَّفت بإيعاز الروسيا ودسائسها لقطع السبل وإيقاف حركة التجارة في جبال اليونان والأرنئود بدعوى الوطنية وما ذلك في الحقيقة إلا للسلب والنهب، ثم رأى أن موالاة الدولة أنفع لصالحه، فعدل عن طريقته الأولى ونبذ وسوسة الأجانب ظهريًّا، وطلب من الباب العالي تعيينه حاكمًا على الجهة التي ولد بها من بلاد أبيروس العليا باليونان، فقبل منه الباب العالي هذا الطلب رغبة منه في إطفاء الفتن الداخلية، وكلفه بمحاربة والي أشقودرة ووالي «دلوينو» اللذين عصيا الدولة طمعًا في الاستقلال، فحاربهما وتغلب عليهما.

ثم بعد محاربة الروسيا عُيِّنَ في سنة ١٧٨٧ دربندباشى — أي محافظًا — على السبل والطرق من تعدِّي العصب المتسلِّحة التي تكثر عادة في البلاد أثناء الحروب وبعدها، وفي سنة ١٧٨٨ عُيِّن واليًا على يانيه، وفي سنة ١٧٩٧ لما استولت فرنسا على كافة السواحل والثغور التابعة لجمهورية البندقية راسلهم علي باشا مؤكدًا لهم حسن ولائه لبونابرت وحكومته، ولم يكن ذلك منه إلا لحفظ البلاد العثمانية من تعدِّي الفرنساويين.

ولما أعلنت الدولة الحرب على فرنسا بسبب احتلال مصر احتلَّ صاحب الترجمة ثغر «بوترنتو» وسار لفتح مدينة بروازه؛ فقابله عدد من الفرنساويين فحاربهم وفاز عليهم بالنصر، ودخل المدينة عنوة.

ثم في سنة ١٨٠٢ كلَّفَه الباب العالي بمحاربة قبيلة «السوليين»٩ التي عصت الدولة واعتصمت بالجبال المنيعة، فسار إليها بجيشه المؤلف من الأرنئود ومسلمي الأروام الناشئين بين قلل الجبال ووهادها، وحاصرهم من كل صوب، حتى إذا لم يروا بدًّا من التسليم أو الموت طلبوا الأمان في غضون سنة ١٨٠٣ بشرط أن يؤذن لهم بالمهاجرة إلى جزائر اليونان المستقلة، فأذن لهم، وفي أثناء انسحابهم انقضَّت عليهم جيوشه غير المنتظمة وقتلت منهم خلقًا كثيرًا، وبذلك ساد الأمن في كافة بلاد الأرنئود وأبيروس وجبالها، وضربت السكينة أطنابها في جميع البلاد ومفاوزها وطرقاتها، وكافأه السلطان على إيجاد الأمن في هذه المسالك الوعرة بأن قلده رتبة «رومللي واليسي» — أي والي الرومللي — وبما أن هذه الرتبة تخوِّل للحائز عليها حق قيادة الجيوش حال اشتغال الصدر الأعظم في مهام الدولة الأخرى؛ سار علي باشا في ثمانين ألف مقاتل لمحاربة أهالي مقدونيا الذين ثاروا طلبًا للاستقلال، بناءً على إيعاز الروسيا، وتغلَّب عليهم بعد محاربات عنيفة، وأدخلهم كرهًا في طاعة الدولة، وكانت هذه الخدمة الجليلة من موجبات زيادة نفوذه؛ فداخله الغرور، وأوجست منه الدولة خيفة لما ظهر لها من ميله إلى الاستقلال. ولما أحسَّ هو بذلك خشي أن يناله أذى منها فتحصَّن في بلاد أبيروس، وأخضع لسلطانه مَنْ بها من الأمراء، وصار كحاكم مستقل بها، وسنذكر ما حلَّ به من الدمار جزاءَ نبذِه طاعة الدولة في حينه.

ولم تكن بلاد الرومللي خالية من الاضطرابات، بل وصل إليها شرُّ العصابات المتسلحة، وانتشرت فيها أزيد من انتشارها في باقي ولايات الدولة بأوروبا، حتى لم يتمكَّن الانكشارية من كبح جماحهم، بل فاز المفسدون عليهم في عدَّة وقائع، وصارت البلاد في كرب عظيم وبلاء شديد، وهدَّد هؤلاء الثائرون مدينة أدرنة نفسها مع مناعتها.

فأراد السلطان تجربة الجيوش المنتظمة في محاربتهم، وأرسل في سنة ١٨٠٤ آلايًا من الآستانة مع فرقة من المدفعية وأخرى من الخيالة وثلاثة آلايات من التي نظمها والي بلاد القرمان، فقامت هذه الجنود بما عهد إليها خير قيام، ولم تقوَ العصب على الوقوف أمامها كما هو محقق ومثبوت من أن العسكري المنتظم يقاوم عشرة أو أكثر من الغير المنتظمين. وبعد قليل طهرت بلاد الرومللي من أدران الفساد، وعادت السكينة إلى ربوعها، ورجعت الجنود المنتظمة إلى الآستانة مكللة بالظفر؛ فانشرح السلطان من نجاح مشروع هذا النظام الجديد، وأغدق عليهم العطايا والهبات.

ثم أصدر في شهر مارس سنة ١٨٠٥ أمرًا ساميًا (خط شريف) إلى جميع الولايات بتركية وأوروبا بجمع جميع الشبان من الانكشارية والأهالي البالغين سن الخمسة والعشرين، وإدخالهم العسكرية، وتربيتهم على النظام الجديد؛ فلم يقبل الانكشارية هذا الأمر، وأظهروا التمرُّد؛ ولذا أرسل السلطان إلى عبد الرحمن باشا — والي بلاد القرمان — الذي كان من أكبر المعضِّدين للإصلاح العسكري، أن يأتي إلى الآستانة بجيوشه المنتظمة ليوجهوا إلى البلاد التي امتنع بها الانكشارية عن تنفيذ الأمر السلطاني، فأتى إلى القسطنطينية في أوائل سنة ١٨٠٦، وبعد أن مكث نحو شهر استعرض السلطان في خلاله الجنود النظامية سافر عبد الرحمن باشا وجنوده قاصدًا مدينة أدرنة في أواسط يوليو من السنة المذكورة، ولما وصل إليها وجد الانكشارية ثائرين وأبوابها موصدة أمامه، فعاد إلى الآستانة بعد حصول عدَّة وقائع حربية بينه وبين الثائرين. ولما رأى السلطان امتداد الثورة واتحاد بعض العلماء والطلبة ضد النظام الجديد أذعن لمطلب الانكشارية، وأرجع العساكر النظامية إلى ولايات آسيا، وعزل الوزراء وعين أغاة الانكشارية صدرًا أعظم، ومع ذلك فلم تنتهِ هذه المسألة بسلام، بل جرت بعد قليل إلى عزل السلطان كما سيجيء.

وفي غضون ذلك كانت بلاد الصرب قائمة قاعدة في طلب الاستقلال، وحصلت بين أهلها وبين العساكر الشاهانية عدَّة محاربات كان النصر فيها تارة لفريق وطورًا للفريق الآخر، واستمرَّ الحال على هذا المنوال إلى أواخر سنة ١٨٠٦، فعرض عليهم والي أشقودرة أن الباب العالي يمنحهم إدارة مستقلة، لكن بما أن أغلب أراضيهم معطاة إلى العساكر السباه فيدفع الصربيون تعويضًا قدره ستمائة ألف فلورين لتوزع على أصحاب الالتزامات بصفة تعويض على تركهم التزاماتهم للإدارة الصربية، فقبل زعيمهم جورج بتروفتش بذلك، لكن رفض الباب العالي هذا الاقتراح، وأبى إلا إدخالهم في طاعته كما كانوا، وعند ذلك انتشبت الحرب بين الدولة العلية والروسيا التي سيأتي بيان أسبابها.

هذا؛ ولنرجع إلى ذكر علاقات الباب العالي وفرنسا والروسيا وإنكلترا بعد خروج الفرنساويين من مصر، فنقول: إن بونابرت أرسل إلى بلاد الشرق الجنرال سبستياني لتجديد ربط الاتحاد والوداد مع الدولة العلية، فسافر إلى الآستانة حاملًا خطابًا من بونابرت إلى السدة السلطانية، وفي أثناء إقامته بالآستانة تمكَّن بمساعيه من عزل أميري الأفلاق والبغدان المنحازين للروسيا، فعزلا في ٥ جمادى الثانية سنة ١٢٢١ (الموافق ٢٠ أغسطس سنة ١٨٠٦)، وعين بدلهما من المخلصين للدولة العلية؛ فساء ذلك الروسيا، وخشيت من امتداد نفوذ فرنسا في الشرق، فأرسلت جيوشها لاحتلال هاتين الولايتين بدون إعلان حرب، بدعوى أن تغيير أميريهما مضر بحقوق جوارها؛ فانتشبت نيران القتال بينها وبين الدولة، واتحدت إنكلترا مع الروسيا في هذه الحرب لتأييد طلباتها، فأرسلت إحدى دونانماتها تحت قيادة اللورد «دوق وورث» أمام الدردنيل، وأرسل سفيرها السير «أربوثنوت» بلاغًا إلى الباب العالي يطلب منه تحالف الدولة العلية وإنكلترا وتسليم الأساطيل العثمانية وقلاع الدردنيل إلى إنكلترا، والتنازل عن ولايتي الأفلاق والبغدان إلى الروسيا، وطرد الجنرال «سبستياني» من الآستانة، وإعلان الحرب على فرنسا، وإلا تكن إنكلترا مضطرة لاجتياز بوغاز الدردنيل وإطلاق مدافعها على الآستانة نفسها، فلم تقبل الدولة هذه المطالب، بل أخذت في تحصين البوغاز وإقامة القلاع على ضفتيه، لكن لم يكن الوقت كافيًا لتحصينه بكيفية تجعل المرور منه غير ممكن. وفي ١٢ ذي الحجة سنة ١٢٢١ (الموافق ٢٠ فبراير سنة ١٨٠٧) قرن الإنكليز القول بالفعل، واجتاز الأميرال اللورد «دوك وورث» بوغاز الدردنيل بدون أن يحصل لمراكبه ضرر يذكر من مقذوفات القلاع، ووصل إلى فرضة «جاليبولي» ودمر كافة السفن الحربية العثمانية الراسية بها، ومكث خارج البوسفور ينتظر تنفيذ لائحته التي سبق ذكرها.

وبورود الخبر إلى الدولة بذلك وقع الرعب في قلوب سكان الآستانة خشيةً من وصول السفن الإنكليزية إلى البوسفور، وهناك تكون الطامة الكبرى لوجود أغلب السرايات الملوكية ودواوين الحكومة على ضفتيه، ووقع الوزراء في حيص بيص؛ فأقرُّوا بعد مداولات طويلة أن يُذعِنوا لطلب إنكلترا، وأرسلوا إلى الجنرال سبستياني يدعونه للخروج من الآستانة خوفًا من تفاقم الخطب، فقابل الفرنساوي الرسول العثماني محاطًا بجميع مستخدمي السفارة والضباط الفرنساويين المستخدمين بجيوش الدولة وبحريتها، وأجابه قائلًا: إني لا أخرج من الآستانة إلا مكرهًا، ثم طلب أن يقابل السلطان مقابلة خصوصية؛ فأجيب طلبه. ولما قابله أظهر له استعداد فرنسا لمساعدة الدولة، وأن الإمبراطور نابليون قد أصدر أوامره إلى جيوشه المعسكرة بسواحل الأدرياتيك للسفر إلى الآستانة لمساعدة الدولة على مقاومة إنكلترا ورفض طلباتها؛ فاقتنع جلالته بعدم جواز الانصياع لطلبات الإنكليز، وأنها لو رأت من الدولة العلية مقاومة أذعنت هي لسحب مطالبها خوفًا على تجارتها من البوار لو صدرت الأوامر بعدم قبولها في الممالك المحروسة.

فأخذ في تحصين العاصمة، وبناء القلاع حولها، وتسليحها بالمدافع الضخمة، وشكَّل الفرنساويون النازلون بالآستانة فرقةً من مائتيْ مقاتل أغلبهم من المدفعية، وكذلك الإسبانيون لمضادَّة سفيرهم المركيز دالمنييرا لسياسة إنكلترا في الشرق، واهتمَّ كل من في الآستانة في هذا العمل الوطني حتى الشيوخ والأطفال والنساء، وبذل الانكشارية من الاهتمام أكثر مما كان يؤمَّل منهم، وكان السلطان بنفسه يناظر الأشغال ويحث المشتغلين بها على مواصلة الليل بالنهار لإتمام القلاع لصدِّ هجمات الأعداء، فلم يمضِ بضعة أيام حتى صارت المدينة في مأمن من كل طارئ، ووقفت عدة سفن في مدخل البوسفور لمنع كل مهاجم، مع استمرار الأشغال في بوغاز الدردنيل، فلما رأى الأميرال الإنكليزي استحالة دخوله البوسفور وقرب انتهاء تحصينات الدردنيل خشي من حصر مراكبه بين البوغازين، وقفل راجعًا إلى البحر الأبيض في ٢٠ ذي الحجة سنة ١٢٢١ (الموافق أول مارس سنة ١٨٠٧)، فنجا منه بمراكبه بعد أن قتل من رجاله ستمائة وغرق من سفنه اثنتان من مقذوفات قلاع الدردنيل، واجتمع بمراكب الروسيا عند مدخل البوغاز.

ثم أراد الأميرال الإنكليزي أن يأتي عملًا يمحو ما لحقه من العار بسبب فشله في هذه المأمورية، فقصد ثغر الإسكندرية ومعه خمسة آلاف جندي بري تحت قيادة الجنرال فريذر؛ فاحتلها في ١٠ محرم سنة ١٢٢٢ (الموافق ٢٠ مارس سنة ١٨٠٧)، ثم سيَّر فرقة إلى ثغر رشيد لاحتلاله فانهزمت وعادت بخفيْ حنين، ثم أعاد الكرة عليها في شهر أبريل، وحاصر المدينة في ٨ صفر (الموافق ١٨ أبريل)، لكن لم يقوَ على فتحها لإرسال محمد علي باشا المدد إليها، وأخيرًا رحلوا عن الديار المصرية ونزلوا في مراكبهم في ١٠ رجب سنة ١٢٢٢ (الموافق ١٣ سبتمبر سنة ١٨٠٧) لعدم إمكانهم التفرُّغ لفتحها مع اشتغالهم بالحروب في أوروبا ولوجود الحكومة المصرية في قبضة ممدن مصر وباعثها من رمسها ومعيد مجدها، مَنْ له عليها الأيادي البيض طول الدهر، الأمير الجليل المرحوم «محمد علي باشا»؛ مؤسس العائلة الكريمة الخديوية وثالث جد لخديوينا الحالي «أفندينا عباس باشا حلمي الثاني».

محمد علي باشا والي مصر

ولنأتِ هنا على كيفية حصول محمد علي باشا على ولاية مصر بعبارة وجيزة، وعلى من يريد معرفة تاريخه بالتطويل أن يرجع لمؤلفنا كتاب «البهجة التوفيقية في تاريخ مؤسس العائلة الخديوية» المطبوع بمطبعة بولاق الأميرية سنة ١٣٠٨هجرية.

ولد هذا الرجل العظيم الشأن في مدينة قوله١٠ سنة ١١٨٢ﻫ (الموافقة سنة ١٧٦٩م)، وتوفي والده وهو صغير، فربَّاه عمٌّ له حتى بلغ أشده فزوجه ابنته، ثم اشتغل بتجارة الدخان وربح منها كثيرًا.

ولما دخل الفرنساويون مصر — كما سبق شرحه — أتى محمد علي مع من أُرسِل من الجنود لمحاربتهم، وشهد واقعة أبي قير، وعيَّنه خسرو باشا الذي عين واليًا لمصر بعد خروج الفرنساويين برتبة «سرجشمه»؛ أي قائد فرقة تبلغ أربعة آلاف مقاتل؛ ومن ثَمَّ أخذ في استمالة قلوب الجند إليه للاستعانة بهم عند سنوح الفرصة، ثم وقع النفور بينه وبين الوالي لنسبة خسرو باشا إليه الاتحاد مع المماليك، فسعى الوالي بالإيقاع به، لكن لم يتمكَّن من التنفيذ لقيام جنود الأرنئود عليه (وربما كان ذلك بإيعاز من محمد علي)، وطردهم إياه من القاهرة لعدم دفعه مرتباتهم، واختار الأهالي بعده طاهر باشا واليًا مؤقتًا حتى يعيِّن الباب العالي بديلًا لخسرو باشا، لكن لم يلبث أن قام الانكشارية عليه وقتلوه لدفعه مرتبات الأرنئود دونهم، وأراد الانكشارية تنصيب أحد الذوات العثمانيين واسمه أحمد باشا، وكان آتيًا لمصر قاصدًا التوجه إلى الأقطار الحجازية، فلم يقبل محمد علي بذلك، وأراد انتهاز هذه الفرصة للحصول على ما كان يُكِنُّه صدره، وهو الاستئثار بوادي النيل، وكاتَبَ أمراء المماليك، فأتى عثمان بك البرديسي وغيره للقاهرة.

ولما وجد محمد علي أن عدد من أتى منهم كافٍ لمحاربة الانكشارية حاصر أحمد باشا في منزله، وألزمه الخروج من مصر، ثم سلَّط الأرنئود على الانكشارية، فحاربوهم في مصر القديمة، وقتلوا أغلبهم وفر الباقون، وبذلك لم يبقَ بمصر منازع لمحمد علي، ثم سار هو والبرديسي إلى دمياط لمحاربة خسرو باشا الذي كان متحصنًا بها، فحارباه وأسراه في ١٤ ربيع الأول سنة ١٢١٨ (الموافق ٤ يوليو سنة ١٨٠٣)، وعادا به إلى القاهرة حيث سجناه بالقلعة، وبعد ذلك بقليل عاد من إنكلترا محمد بك الألفي — أحد زعماء المماليك — وكان ذهب إليها ليطلب منها مساعدته على الاستقلال بمصر، ويقال إنه وعدها بتسليم بعض الثغور لو حصل على مرغوبه؛ فخشي محمد علي باشا من اتحاده مع البرديسي، وعمد إلى إيجاد النفرة بينهما.

ولما أحسَّ الألفي بما يدبِّره له سافر إلى الصعيد، ثم أهاج محمد علي الأهالي بمصر على البرديسي، فحاصروه في منزله، وأطلق محمد علي المدافع عليه حتى أخرجه من مصر هو وكافة المماليك، ثم أخرج خسرو باشا من سجنه، وأرسله إلى رشيد، ومنها إلى إسلامبول بناءً على طلب الأعيان، وأقام الجند مكانه من يدعى خورشيد باشا ومحمد علي وكيلًا له، لكن لم يلبث أن انتَخَبَ الأهالي محمد علي واليًا، وكتبوا إلى الباب العالي؛ فأصدر فرمانًا بذلك وصل مصر في ١٠ ربيع الثاني سنة ١٢٢٠ (الموافق ٨ يوليو سنة ١٨٠٥).

ثم سعى الإنكليز لدى الباب العالي، وطلبوا عزله أو نقله إلى ولاية لتوسمهم فيه المعارضة لمشروعاتهم المجحفة باستقلال مصر، فصغى الباب العالي إلى وساوسهم وأمر بنقله إلى ولاية سلانيك، فلم يقبل علماء مصر ولا قواد الجيوش بذلك، وكتبوا إلى الدولة يلتمسون منها إبقاءه في ولاية مصر؛ فقبل السلطان، وأرسل إليه فرمانًا بتثبيته وصل إليه في ٢٤ شعبان سنة ١٢٢١ (الموافق ٧ نوفمبر سنة ١٨٠٦)، وفي ٧ رمضان توفي محمد بك الألفي، وفي ٢٠ شوَّال توفي عثمان بك البرديسي، وبذلك صفا الجوُّ لمحمد علي باشا، ولم يبقَ له منازع من الأمراء المماليك، إلا أنه كان مضطرًّا لمراعاة من بقي منهم ومن جنودهم المنتشرين في أغلب جهات القطر للإفساد لا لحفظ الأمن إلى أن أجهز عليهم في واقعة القلعة الشهيرة التي حصلت في يوم الجمعة ٥ صفر سنة ١٢٢٦ (الموافق أول مارس سنة ١٨١١)، ولنرجع لذكر ما حصل بالآستانة من الحوادث بعد خروج المراكب الإنكليزية من الدردنيل فنقول:

عزل السلطان سليم الثالث

إنه في هذه الأثناء كانت رحى الحرب دائرة بين العثمانيين والروس، فدخل والي بوسنة بجوشه إلى بلاد الصرب لمنع الثائرين من اللحاق بالجيش الروسي، وسار الصدر الأعظم وفرقتان من الانكشارية وجيوش آسيا المنتظمة إلى مدينة «شوملة»، وكان مصطفى باشا البيرقدار — حاكم مدينة «روستجوق» — يستعدُّ للإغارة على بلاد الأفلاق بخمسة عشر ألف جندي قام هو بتنظيمهم وتدريبهم، وخصص نفرًا ليس بقليل من النظام الجديد للبقاء في قلاع الدردنيل والبوسفور لدفع الطوارئ البحرية، وفي غضون ذلك توفي المفتي الذي كان معضدًا للسلطان على إدخال الإصلاحات العسكرية، وتولى مكانه قاضي عسكر الرومللي وكان على الضدِّ من سلفه، فاتحد مع مصطفى باشا قائم مقام الصدر الأعظم المتغيب في محاربة الروس ولفيف من العلماء على السعي في إبطال النظام العسكري الجديد، قائلين إنه بدعة مخالفة للشرع، وللوصول إلى غايتهم هذه أخذوا يُغرُون العساكر الغير المنتظمة التي كانت أضيفت إلى الفرق المنتظمة حتى إذا ألفوا النظام أدرجوا ضمن العساكر النظامية، وأدخلوا في آذانهم أنهم لم يأتوا من بلادهم إلا لإجبارهم على الانخراط في سلك النظام وإكراههم على لبس الملابس الإفرنكية والتزيي بزيِّ النصارى، مع ما في ذلك من مخالفة القرآن الشريف والشرع المنيف على زعمهم.

ولما ملأت هذه الأوهام عقول هؤلاء السذج، وأشربت قلوبهم هذه الأضاليل، أرسل مصطفى باشا — القائم مقام — إلى إحدى القلاع الموجود بها جنود منتظمة وغير منتظمة رسولًا أظهر أنه آتٍ لإلباس غير المنتظمين الملابس النظامية؛ فهاجوا وماجوا وقصدوا قتل الرسول؛ فمنعهم المنتظمون، وحصلت بينهم معركة سالت فيها الدماء، ثم انتشرت هذه الفتنة وامتدَّ لهيبها إلى جميع القلاع، وحصلت عدَّة معارك بين الفريقين كانت نتيجتها قتل رسول السوء، والتجأ الجنود النظامية إلى ثكناتهم، ولما بلغ السلطان خبر هذه الحادثة أبهم عليه مصطفى باشا القائم مقام الأمر، وأفهمه أنها حادثة غير مهمة.

وبعد هذا النجاح، أخذت الجنود الغير المنتظمة تستعدُّ بإيعاز مهيجيها لأمر آخر ذي بال، واجتمعوا في الجهة المعروفة ببيوكدره، وانتخبوا لهم رئيسًا منهم اسمه قباقجي أوغلي، وهو أخذ في الاستعداد للدخول إلى الآستانة، وفي صبيحة يوم ٢٧ مايو سنة ١٨٠٧ دخل هو ومن معه من الجنود الغير المنتظمة، وانضم إليهم نحو مائتين من البحرية وثمانمائة من الانكشارية، حتى إذا وصل هذا الجمع إلى المحل المعروف باسم «آت ميدان» أتوا بقدور الانكشارية وصفُّوها؛ علامة على العصيان، وقرئ عليهم أسماء جميع المعضدين لمشروع النظام العسكري من الوزراء أو الذوات والأعيان؛ فانتشر الثائرون إلى منازلهم وقتلوهم، وأتوا برءوسهم ووضعوها أمام القدور، ولما بلغ السلطان خبر هذه الثورة أصدر على الفور أمرًا بإلغاء النظام الجديد وصرف العساكر النظامية، لكن لم يكتفِ الثائرون، بل قرروا عزل السلطان خوفًا من أن يعود لتنفيذ مشروعه، وساعدهم على ذلك المفتي الذي هو في الحقيقة المحرِّك لهذه الثورة؛ فأفتى بأن كل سلطان يدخل نظامات الإفرنج وعوائدهم ويجبر الرعية على اتباعها لا يكون صالحًا للملك، واستمرَّت هذه الثورة يومين، ثم نُودِيَ في ٢١ ربيع الآخر سنة ١٢٢٢ (الموافق ٢٨ يونيو سنة ١٨٠٧) بفصل السلطان سليم الثالث فعزل، وكانت مدة حكمه ١٩ سنة، وبقي إلى أن توفي في ٤ جمادى الأولى سنة ١٢٢٣ وعمره ٤٨ سنة تقريبًا.

١  ولد هذا الإمبراطور سنة ١٧٤٧. وكان أميرًا لتسكانا بإيطاليا، ثم تولى الإمبراطورية بعد موت أخيه يوسف الثاني سنة ١٧٩٠. وأهم أعماله إخضاع ولايتي المجر والبلاد الواطئة إلى سلطته، وكانتا قد أشهرتا العصيان طلبًا للاستقلال، ثم اتحد مع الروسيا على محاربة فرنسا. وتوفي سنة ١٧٩٢ قبل إشهار الحرب، وخلفه ابنه فرنسوا الثاني.
٢  هو حفيد لويس الخامس عشر، تولى سنة ١٧٧٤ بعد موت جده، وكان ميالًا للحرية إلا أن ضعفه أضرَّ به كثيرًا، وحارب إنكلترا وساعد الأمريكانيين على الاستقلال؛ إضعافًا لشوكتها، ثم ابتدأت الثورة الفرنساوية سنة ١٧٨٩، ولعدم ثباته صار يتبع رأي الأعيان تارة، ويميل إلى رجال الثورة تارة أخرى، حتى أغضب الجميع بتردده وعدم ثباته. وبعد أن اعترف بالقانون الأساسي الذي سنته جمعية النواب للمملكة؛ أراد الهروب من فرنسا والالتجاء إلى الأجانب؛ فضُبط في مدينة رافين في ٢٠ يونيو سنة ١٧٩١، ومن ذلك الوقت توالت عليه المصائب وأهين عدة مرات، ثم حصلت حادثة عشرة أغسطس سنة ١٧٩٢؛ التي أفضت إلى إسقاط الملوكية، ولما اجتمع مجلس الأمة المعروف بالكونفانسيون في ٢١ سبتمبر الثاني؛ قرر بإبطال الملوكية وإقامة الجمهورية ومحاكمة الملك على التجائه إلى الأجانب، وحبسه مدة المحاكمة هو وزوجته وولده وابنته وأخته وكثير من الأعيان. وفي ١٩ يناير سنة ١٧٩٢ حكم عليه مجلس الأمن بالإعدام؛ ونفذ هذا الحكم في ٢١ منه، فقتل الملك مأسوفًا عليه؛ لأنه لم يكن جانيًا فعلًا، بل أطاع زوجته عن غير تروٍّ.
٣  قال جودت باشا في تاريخه إن هذا الاسم أصله باسبان، وحرِّف في الاستعمال فصار بازوند.
٤  ولد هذا الرجل الشهير في ١٥ أغسطس سنة ١٧٦٩ بمدينة أجاكسيو بجزيرة كورسيكا، ثم دخل المدارس الحربية، وترقَّى إلى وظيفة ملازم ثاني طوبجي سنة ١٧٨٥. واشتهر في استخلاص مدينة طولون من قبضة الإنكليز، ثم عين قائدًا عامًّا للجيش المحارب في إيطاليا سنة ١٧٩٦، وبعد أن قهر الجيوش النمساوية عاد إلى باريس؛ حيث كُلِّف بفتح مصر، ولما أتمَّ مأموريته؛ عاد إلى فرنسا لتتميم نواياه في أغسطس سنة ١٧٩٩، وتولى بها قيادة جميع الجيوش، وعين بعد قليل رئيسًا للحكومة «قنصل». وفي ١٨ مايو سنة ١٨٠٤ نودي به إمبراطورًا على فرنسا باسم نابليون الأول، وفي ٢ دسمبر من السنة المذكورة أتى البابابيوس السابع إلى مدينة باريس، وتوَّجه بيده في حفلة عمومية. وقهر جيوش أوروبا التي تألبت عليه عدة مرات، وانهزم أخيرًا في سنة ١٨١٤؛ واستعفي في ١١ أبريل، وسافر إلى جزيرة ألبه التي عينت منفى له بجوار إيطاليا، ولم يلبث أن عاد منها، ونزل بخليج جوان بجنوب فرنسا في أول مارس سنة ١٨١٥، فتألبت عليه الدول أجمع وقهرته في واقعة وترلو ببلاد البلجيك في ١٨ يونيو سنة ١٨١٥، وأرسل أسيرًا إلى جزيرة سانت هيلانه إحدى جزائر أفريقيا التابعة للإنكليز. وتوفي بها في ٥ مايو سنة ١٨٢١ ودفن فيها، ثم نقلت جثته إلى باريس في سنة ١٨٤٠، ودفنت بسراي الأنفاليد في قبر من الرخام الأحمر. وقد زرته في يوليو سنة ١٨٩٥.
٥  ولد هذا الأميرال سنة ١٧٥٨، ودخل البحرية وسنه ١٢ سنة، وامتاز بين أقرانه، وتقدم بسرعة حتى عُيِّن وكيل أميرال في سنة ١٧٩٧. وفي سنة ١٧٩٨ حاول الاستيلاء على جزيرة تنريف — إحدى جزائر كناريا التابعة لإسبانيا — فلم ينجح، وتبع الدونانمة الفرنساوية حتى أحرقها في أبي قير. وفي ٢١ أكتوبر سنة ١٨٠٥ قابل دونانمتيْ فرنسا وإسبانيا بالقرب من رأس الطرف الأغر المشهور بترافلجار؛ فحاربهما وانتصر عليهما، وقتل في هذه الواقعة، ونقلت جثته إلى لوندرة؛ ودفنت في كنيسة وستمنستر المعدة لدفن ملوك إنكلترا ومشاهير رجالها. وزرت قبره في يوليو سنة ١٨٩٥، وأقيم له بلوندرة عدة تماثيل أشهرها ما أقيم في ساحة ترافلجار.
٦  أميرال إنكليزي، ولد سنة ١٧٦٤، وتوفي سنة ١٨٤٠. كلفه الأميرال هودجين عندما كان محتلًّا لمدينة طولون بحرق الدونانمة الفرنساوية؛ فحرقها في سنة ١٧٩٣، ثم أُخِذ أسيرًا في فرنسا؛ وبقي بها سنتين مسجونًا بسجن التامبل بباريس، ثم هرب فساعد على الدفاع عن مدينة عكا، وعُيِّنَ أميرالًا سنة ١٨٢١، ثم اعتزل الأعمال وقضى باقي عمره في تأسيس ومساعدة الأعمال الخيرية.
٧  مدينة شهيرة بشمال فرنسا تبعد عن باريس بمسافة ١٣٣ كيلومترًا، ويبلغ عدد سكانها ثمانين ألفًا من النفوس، وبها معامل كثيرة لغزل القطن وحياكته وكثير من المدارس الابتدائية والتجهيزية ومدرسة تجهيزية للطبِّ والصيدلية، وبها مكتبة عمومية بلغ عدد ما بها من الكتب في السنة الأخيرة ستين ألف مجلد، وبها أيضًا محكمة ابتدائية وأخرى استئنافية. وفي ٢٥ مارس سنة ١٨٠٢ أمضيت بها معاهدة بين فرنسا وإنكلترا وهولاندا وإسبانيا؛ ملخصها أن حفظت فرنسا جميع فتوحاتها ما عدا مدينتيْ روما ونابولي وجزيرة ألبه، وردت إنكلترا ما أخذته من المستعمرات من إسبانيا وهولاندا وفرنسا، ما عدا جزيرة سيلان بجنوب الهند، وجزيرة ترينيتي بأمريكا الوسطى.
٨  ولد هذا الثائر الصربي بمدينة بلغراد سنة ١٧٧٠، وكان يلقَّب بقره جورج؛ أي الأسود، وهو أول من جمع كلمة الصربيين على مقاومة الدولة العلية وطلب الاستقلال. وفي سنة ١٨٠٦ نال بعض امتيازات استرجعتها الدولة فيما بعد، وطردته منها سنة ١٨١٣؛ فهاجر إلى الروسيا حيث أكرمته الحكومة وعيَّنته قائدًا في جيوشها. وفي سنة ١٨١٧، حاول الرجوع إلى الصرب لإثارة الفتن؛ فقبض عليه «ميلوش أورسوفتش» وقتله، وأرسل رأسه إلى الآستانة علامة على ولائه للدولة. وينسب إلى جورج المذكور أنه قتل أباه وأخاه بمجرد ما آنس منهم الميل إلى الدولة العثمانية.
٩  هم سكَّان بلدة صغيرة في وسط جبال الأرنئود، تبعد عن مدينة يانيه بمسافة ٤٥ كيلومترًا تدعى سولي. اشتهروا بمقاومتهم الدولة العلية وعدم الرضوخ لها، واعتصامهم بالجبال، فطار صيتهم في جميع أنحاء أوروبا.
١٠  بلدة قديمة من بلاد مقدونية، وطن إسكندر الأكبر، واسمها عند اليونان نيابوليس؛ أي البلد الجديدة، واقعة على بحر جزائر الروم، بها ميناء متسعة وتجارتها ليست بقليلة، ويبلغ سكانها ثمانية آلاف نسمة جُلُّهم من المسلمين. وتبعد مقدار ١٢٨ كيلومترًا عن مدينة سلانيك. وهي وطن المرحوم الحاج محمد علي باشا — مؤسس العائلة الخديوية — ولد بها سنة ١٧٦٩، وتوفي بالقاهرة في ١٣ رمضان سنة ١٢٦٥ الموافق ٣ أغسطس سنة ١٨٤٩، ودفن في الجامع الذي بناه بالقلعة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤