الفصل الثلاثون

السلطان الغازي محمود خان الثاني

وأقيم بعده محمود الثاني، ابن السلطان عبد الحميد الأوَّل، ولد في ١٣ رمضان سنة ١١٩٩، وافتتح أعماله بأن قلد مصطفى باشا البيرقدار منصب الصدارة العظمى، ووكل إليه أمر تنظيم الانكشارية وإجبارهم على اتباع نظاماتهم القديمة المسنونة من عهد السلطان سليمان القانوني وأهملت شيئًا فشيئًا، فبعد أن انتقم البيرقدار ممن قاوموه عند إرجاع السلطان سليم وكانوا سببًا في قتله استدعى جميع ذوات الدولة ووزرائها السابقين وأعيانها لمجلس حافل، ولما لبوا دعوته قام فيهم خطيبًا، وأظهر لهم ما كانت عليه حالة الانكشارية وما وصلت إليه، وما يجب أن تكون عليه من النظام، وضرورة تقليدهم الأسلحة النارية المخترعة حديثًا والتي كان استعمالها في جيوش الروسيا سبب انتصاراتهم الأخيرة على جيوش الدولة.

ثم ختم كلامه بأن عرض عليهم عدَّة اقتراحات مهمة منها إلزامهم بملازمة ثكناتهم العسكرية، خصوصًا غير المتزوِّجين منهم، وقطع علائف ومرتبات الساكنين خارجًا عنها، وجعل تمرينهم على التعليمات العسكرية المسنونة في قانون السلطان سليمان إلزاميًّا، وتسليحهم بالأسلحة الجديدة النارية، وتمرينهم على الأصول العسكرية الجديدة المستعملة في جيوش أوروبا، والتي أكسبتهم قوة عظيمة، وغير ذلك من الإصلاحات والترتيبات التي لو اتبعت لأصبح جيش الانكشارية أقوى جيوش العالم كما كان في بادئ الأمر قبل تسلُّط الخلل عليه وتداخله في الأمور الداخلية والخارجية، ونصب الوزراء والملوك وعزلهم بلا حق مطلقًا، فأقرَّ الجميع على كل ما جاء في مشروع البيرقدار، وحرروا محضرًا بذلك.

ثم لم يكتفِ هو بذلك، بل استحصل على فتوى بضرورة تنفيذ نظامات الانكشارية بكل صرامة، وأصدر أوامره بذلك، وأدخل أغلب ضباط الجيوش المنتظمة التي أمر بإبطالها في جيش الانكشارية بالوظائف العالية، فأخذوا في تنفيذ رغائبه بكل اعتناء وشدة؛ فاغتاظ الانكشارية لذلك، واتحدوا على مقاومته، وتضافروا على الإيقاع به، ولم يكن للبيرقدار معين في تنفيذ قرار الجمعية إلا ستة عشر ألف مقاتل أتت معه من روستجق وثلاثة آلاف جندي تحت قيادة عبد الرحمن باشا — رئيس الجنود المنتظمة سابقًا — وبعض سفن حربية تحت إمرة أمير البحر رامز باشا.

ثم لم يمضِ قليل حتى ساروا إلى فيليبه وأظهروا التمرُّد والعصيان؛ فأرسل البيرقدار اثنيْ عشر ألف مقاتل من جيوشه لمحاربتهم، ولم يبقَ إلا أربعة آلاف والثلاثة الآلاف القائد لهم عبد الرحمن باشا؛ ولذلك انتهز الانكشارية هذه الفرصة وقاموا كرجل واحد في ٢٧ رمضان سنة ١٢٢٣ (الموافق ١٤ نوفمبر سنة ١٨٠٨) وساروا إلى سراي السلطان مصطفى بقصد إرجاعه إلى عرش الحكومة، فاعترضهم البيرقدار وقاومهم مقاومة عنيفة. ولما أحسَّ بأن الضعف قد داخل جيوشه وخشي من فوز الثائرين وعزل السلطان محمود، أمر بقتل مصطفى الرابع وإلقاء جثته للثائرين كما فعل مصطفى الرابع مع السلطان سليم الثالث، فلما رأى الانكشارية جثة السلطان مصطفى زادوا هياجًا وأضرموا النار في السراي الملوكية؛ لكي يُلجئوا البيرقدار على الفرار منها، لكن فضَّل الصدر الأعظم الموت على التسليم لهذه الفئة الباغية والانصياع لطلباتها، وبقي يدافع هو ومن معه حتى مات حرقًا، ويقال إنه تحصَّن في أحد الأبراج ثم أشعل ما كان به من البارود ومات هو ومن معه تحت أنقاضه، ولو صحت هذه الرواية أو تلك فكلتاهما تشهدان على ما كان متصفًا به من الشهامة والشجاعة، وأنه يخدم مبدأً لا شخصًا، وهذا المبدأ هو إصلاح الجندية وتدريبها على النظامات المستحدثة؛ لتحققه أن الانكشارية مهما كانت قوتهم ومنعتهم لا يقوون على الثبات أمام الجيوش المنتظمة المتقلدة أجود الأسلحة وأتقنها.

هذا؛ وفي أثناء دفاع البيرقدار كان أمير البحر رامز باشا قد أحضر ثلاث سفن حربية وأوقفها بممرِّ البوسفور، وسلط مدافعها على ثكنات الانكشارية، ثم نزل إلى البر مع فريق من البحارة والمدفعية وسار بهم لمساعدة البيرقدار، بينما كان عبد الرحمن باشا آتيًا مع فرقته المؤلَّفة من ثلاثة آلاف جندي لمؤازرة الوزير، لكن كان قد سبق السيف العذل وقتل مصطفى باشا البيرقدار، إلا أن رامز باشا وعبد الرحمن باشا ومن معهما ما فتئوا يقاتلون الانكشارية حتى انهزموا أمامهم في جميع الجهات بعد أن استمرَّ إطلاق البنادق والمدافع في الآستانة طول اليوم. وفي آخر النهار ارتأى رامز باشا البحري العفو عن الثائرين جميعًا لو ألقوا سلاحهم وسلموا أنفسهم لرحمة السلطان، فلم يوافقه عبد الرحمن باشا، بل أراد اتخاذ هذه الثورة وسيلة لإعدام الانكشارية وإبطال طائفتهم كلية، ووافقه السلطان محمود على ذلك.

وبناءً على هذا القرار سارت جيوش السلطان في صبيحة اليوم التالي تتقدَّمها المدافع تقذف الصواعق على الانكشارية من كل صوب وحدب. ولما رأى الثائرون أنْ لا مَنَاصَ لهم من الهلاك أضرموا النار في جميع جوانب المدينة، ولما كانت أغلب أماكنها من الخشب علا لهيب النيران، وكاد الحريق يلتهمها بأجمعها؛ فاضطرَّ السلطان للإذعان لطلبات الانكشارية حتى يمكنه إنقاذ المدينة من الدمار العاجل، مؤجِّلًا إبطال هذه الفئة المفسدة إلى فرصة أخرى، وبذل جهده في إخماد النيران التي كادت تلتهم المدينة بأسرها لو لم يتداركها السلطان محمود بحكمته، واستمرَّ الانكشارية في ثورتهم وهيجانهم.

(١) معاهدة بخارست مع الروسيا

وبعد انتهاء هذه الفئة وجَّه السلطان اهتمامه لإصلاح الشئون الداخلية والاستعداد لإهلاك طائفة الانكشارية، وللتفرُّغ لذلك عقد الصلح مع دولة الإنكليز في ٢٤ ربيع الثاني سنة ١٢٢٤ (الموافق ٦ يناير سنة ١٨٠٩)، وافتتح المخابرات مع الروسيا بدون أن يتوصل إلى اتفاق مرضٍ للطرفين، فاستُؤنِفت الحركات العدوانية ودارت رحى الحرب بين الجيشين، وكانت نتيجتها أن انهزم الصدر الأعظم ضيا يوسف باشا الذي عُيِّنَ في هذا المنصب الرفيع بعد موت مصطفى باشا البيرقدار، مع أنه هو الذي انتصر الفرنساويون عليه بمصر بالقرب من المطرية سنة ١٧٩٩، وهذا مما يدل على عدم إلمامه بفنون الحرب، واستولى الروس على مدائن إسماعيل وسلستريه وروستجق ونيكوبلي وبازارجق في سنتيْ ١٨٠٩ و١٨١٠، ثم عزل وتولى مكانه من يدعى أحمد باشا، وهو سار إلى الروس في ستين ألف مقاتل في سنة ١٨١١، وانتصر عليهم واضطرهم لإخلاء مدينة روستجق؛ فأخلوها في ١٣ جمادى الثانية سنة ١٢٢٦ (الموافق ٥ يوليو من السنة المذكورة) مكرهين، بعد أن هدموا قلاعها وأسوارها بالألغام، وأضرموا النار في منازلها، وعبروا نهر الطونة راجعين إلى شاطئه الأيسر؛ فتبعهم أحمد باشا بجيوشه، وبعد عدَّة وقائع لا حاجة لذكرها تفصيلًا عاد الروس فاحتلوا روستجق ثانية.

وفي هذه الأثناء فَتَرَت العلاقات بين الروسيا ونابليون لعدم تنفيذ شروط معاهدة تلسيت، وكانت الحرب بينهما قاب قوسين أو أدنى، فسعت الروسيا في مصالحة الدولة. ولعدم وقوف وزراء الدولة على ماجريات الأمور السياسية بأوروبا قبلوا افتتاح المخابرات، وعينت الدولة مندوبين من قبلها اجتمعوا مع مندوبي الروسيا في مدينة بخارست، وبعد مداولات طويلة توصل الفريقان إلى إمضاء معاهدة عرفت في التاريخ باسم معاهدة بخارست أمضيت في ١٦ جمادى الأولى سنة ١٢٢٧ (الموافق ٢٨ مايو سنة ١٨١٢) أهمُّ شروطها بقاء ولايتي الأفلاق والبغدان تابعتين للدولة، ورجوع الصرب إلى حوزتها مع بعض امتيازات قليلة الأهمية عديمة الجدوى، وحفظت الروسيا لنفسها إقليم بساربيا وأحد مصبات الدانوب.

ولقد اعتبرت فرنسا هذه المعاهدة خيانة من الدولة للروابط القديمة الموجودة بين الدولتين؛ إذ بإبرامها تمكَّنت الروسيا من استعمال الجيوش التي كانت مشتغلة بمحاربة العثمانيين في صدِّ إغارات فرنسا عن بلادها وإلزام نابليون القهقرى بعد حرق مدينة موسكو وإهلاك أغلب جيوشه عند عبورهم نهر «بيريزينا» عائدين إلى بلادهم مكسورين مدحورين، ونسي نابليون أن الدولة لم تأتِ أمرًا جديدًا، بل اقتدت بما فعله هو في تلسيت من التخلي عنها وإلزامها على إيقاف الحرب، فضلًا عما جاء بمعاهدة تلسيت من الشروط السرِّية القاضية بتجزئة الدولة العلية؛ الأمر الذي كاد يخرج من حيز الفكر إلى حيز الوجود لولا طلب القيصر إسكندر الأوَّل ضم مدينة القسطنطينية إليه ليكون له بوغاز البوسفور والدردنيل وبالتالي مفاتيح أوروبا بل مفاتيح العالم بأسره، وعدم قبول نابليون بذلك خوفًا على مملكته الشاسعة من تعدِّي الروس.

ومن الغريب أن جميع دول أوروبا لا تأنف من استعمال أنواع الغش والخديعة في سياستهم، حتى صارت لفظة سياسية عندهم مرادفة للكذب والمين والتظاهر بغير الحقائق، ولو عاملتهم إحدى الدول الشرقية لا بمثل هذه السياسة التي يتبرأ منها الشرقيون بل بالصداقة مع المحافظة على الحقوق، فما دام حقنا منافيًا كما هو الغالب لمطامعهم في بلادنا، رمونا بما اتصفوا به ونحن برآء منه.

هذا؛ ولما بلغ رؤساء ثورة الصرب خبر معاهدة بخارست القاضية بإرجاعهم إلى سلطة الدولة العلية المطلقة بعد ما بذلوه من الأموال والأرواح في إعطائهم نوعًا من الاستقلال الإداري ووعد قيصر الروسيا بمساعدتهم، احتدموا غيظًا، ولم يقبلوا الرجوع إلى حالتهم الأصلية، وآثروا الفناء في الدفاع عن استقلالهم، فسيَّرت الدولة إليهم الجيوش فأخضعتهم إلى سلطانها قهرًا، وعاد الموظفون العثمانيون إلى مراكزهم كما كانوا قبل الثورة، واسترجع جنود السباه إقطاعاتهم الأصلية؛ فهاجر زعماء الثورة إلى النمسا والمجر منتظرين أوَّل فرصة لإهاجة الأمة ثانية طلبًا للاستقلال إلا أحدهم المدعو «ميلوش أوبرينوفتش»،١ فإنه بقي في بلاده وأظهر الولاء للدولة حتى عينته بوظيفة شيخ بلد لإحدى القرى، وظل يهيج أفكار الأهالي على الثورة ويبث فيهم روح الحرية حتى إذا أنس منهم الاستعداد للقيام كرجل واحد انتهز فرصة عيد الزحف في سنة ١٨١٥ الذي يحتفل به المسيحيون في يوم الأحد السابق لعيد الفصح، حيث كان جميع أهالي قريته والقرى المجاورة مجتمعين، ونشر بينهم لواء العصيان، ودعاهم إلى الثورة فلبوه مسرعين، وانضم إليهم جميع الأهالي، وعاد المهاجرون إلى أوطانهم، وامتدَّ العصيان في جميع أنحاء بلاد الصرب.

وبعد أن استمرَّ القتال سجالًا بينهم وبين الجيوش العثمانية نحو السنتين قبل ميلوش أوبرينوفتش بالنيابة عن الأمة الصربية الرجوع إلى سلطان الدولة بشرط أن لا تتداخل في شئونهم الداخلية ولا في تحصيل الضرائب، بل يعين لإدارة البلاد وتوزيع الضرائب وتحصيلها مجلس مؤلف من اثنيْ عشر عضوًا، ينتخبهم الأهالي من أعيان الأمة وهم ينتخبون رئيسًا لهم من بينهم يكون كحاكم عمومي، وتكتفي الدولة بالمراقبة واحتلال الحصون والقلاع، فقبل الباب العالي هذه الشروط، وعين من يدعى مرعشلي باشا واليًا للصرب، وأعطيت إليه تعليمات شديدة تقضي عليه بمعاملة الصربيين بالرفق واللين كي يحافظوا على ولاء الدولة ولا يسعوا في فصم ما بقي بينهما من عرى التابعية (سنة ١٨١٧)، ثم عين ميلوش أوبرينوفتش رئيسًا لمجلس الصرب الذي يمكننا أن نسميه من الآن مجلس نوَّابهم، وأطلقوا عليه اسم «سوبرانيا»، وصارت الصرب مستقلة تقريبًا، واستبدَّ ميلوش كملك مطلق التصرُّف لا سلطة للوالي العثماني عليه مطلقًا اكتفاءً باحتلال الحصون والقلاع، ولم يكن له منافس في السلطة إلا قره جورج — أكبر زعماء الثورة — الذي هاجر إلى بلاد الروسيا، فأكرم القيصر مثواه ومنحه رتبة جنرال عسكري ونشان «سانت آن»؛ ولذلك خشي ميلوش من نفوذه ومساعدة الروسيا له؛ فأصرَّ على قتله، وتربَّص له حتى إذا حضر مختفيًا إلى بلاد الصرب قاصدًا بلاد اليونان بناءً على طلب زعمائها أرسل إليه ميلوش مَنْ قتله، ثم أرسل رأسه إلى الآستانة علامة على حسن ولائه وإخلاصه للدولة العلية صاحبة السيادة الاسمية على بلاده.

(٢) الوهابيون ومذهبهم

الوهابيون قوم من العرب اتَّبَعُوا طريقة عبد الوهاب، وهو رجل ولد بالدرعية بأرض العرب من بلاد الحجاز، كان من وقت صغره تظهر عليه النجابة وعلوُّ الهمة والكرم، وشبَّ على ذلك، واشتهر بالمكارم عند كل من يلوذ به.

وبعد أن درس مذهب أبي حنيفة في بلاده سافر إلى أصفهان ولاذ بعلمائها وأخذ عنهم حتى اتسعت معلوماته في فروع الشريعة، وخصوصًا في تفسير القرآن، ثم عاد إلى بلاده في سنة ١١٧١ هجرية، فأخذ يقرر مذهب أبي حنيفة مدَّة ثم أدَّته ألمعيته إلى الاجتهاد والاستقلال؛ فأنشأ مذهبًا مستقلًّا وقرَّره لتلامذته؛ فاتبعوه وأكبُّوا عليه ودخل الناس فيه بكثرة، وشاع أمره في نجد والأحساء والقطيف وكثير من بلاد العرب مثل عمان وبني عتبة من أرض اليمن، ولم يزل أمرهم شائعًا ومذهبهم متزايدًا إلى أن قيَّض الله لهم عزيز مصر محمد علي باشا؛ فأطفأ سراجهم في سنة ١٢٣٢، وكسر شوكتهم، وأخفى ذكرهم. وهاك رسالة من كلامهم تدل على بعض مذهبهم ومعتقداتهم، وهي منقولة حرفيًّا من الجزء الثاني عشر صحيفة ٨٣ من كتاب الخطط الجديدة التوفيقية، تأليف العالم العلامة فقيد الوطن المرحوم علي مبارك باشا، المتوفى ليلة الثلاثاء ٥ جمادى الأولى سنة ١٣١١ (١٤ نوفمبر سنة ١٨٩٣):

اعملوا — رحمكم الله — أن الحنيفية ملة إبراهيم أن نعبد الله مخلصًا له الدين، وبذلك أمر جميع الناس وخلقهم له كما قال تعالى وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ، فإذا عرفت أن الله خلق العباد للعبادة فاعلم أن العبادة لا تسمى عبادة إلا مع التوحيد، كما أن الصلاة لا تسمى صلاة إلا مع الطهارة، فإذا دخل الشرك في العبادة فسدت؛ كالحدث إذا دخل في الطهارة، كما قال تعالى: مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ فمن دعا غير الله طالبًا منه ما لا يقدر عليه إلا الله من جلب خير أو دفع ضرٍّ أشرك في العبادة، كما قال تعالى: وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللهِ مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ * وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ، وقال تعالى: وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ * إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ.

فأخبر تبارك وتعالى أن دعاء غير الله شرك، فمن قال يا رسول الله أو يا ابن عباس أو يا عبد القادر زاعمًا أنه باب حاجته إلى الله وشفيعه عنده ووسيلته إليه فهو المشرك الذي يهدر دمه وماله إلا أن يتوب من ذلك، وكذلك الذين يحلفون بغير الله، أو الذي يتوكَّل على غير الله، أو يرجو غير الله، أو يخاف وقوع الشرِّ من غير الله، أو يلتجئ إلى غير الله، أو يستعين بغير الله فيما لا يقدر عليه إلا الله، فهو أيضًا مشرك، وما ذكرنا من أنواع الشرك هو الذي قال الله فيه: إِنَّ اللهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ، وهو الذي قاتل رسول الله المشركين عليه وأمرهم بإخلاص العبادة كلها لله تعالى.

ويصح ذلك — أي التشنيع عليهم — بمعرفة أربع قواعد ذكرها الله تعالى في كتابه؛ أوَّلها أن تعلم أن الكفار الذين قاتلهم رسول الله يقرُّون أن الله هو الخالق الرازق المحيي المميت المدبر لجميع الأمور، والدليل على ذلك قوله تعالى: قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ، وقوله تعالى: قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * سَيَقُولُونَ لِلهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ * قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ * سَيَقُولُونَ لِلهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ * قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * سَيَقُولُونَ لِلهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ. إذا عرفت هذه القاعدة وأشكل عليك الأمر فاعلم أنهم بهذا أقروا ثم توجهوا إلى غير الله يدعونه من دون الله فأشركوا. القاعدة الثانية: أنهم يقولون ما نرجوهم إلا لطلب الشفاعة عند الله، نريد من وقال الله تعالى: وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللهِ زُلْفَى إِنَّ اللهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ.

وإذا عرفت هذه القاعدة فاعرف القاعدة الثالثة؛ وهي: أن منهم من طلب الشفاعة من الأصنام، ومنهم من تبرأ من الأصنام وتعلَّق بالصالحين مثل عيسى وأمه والملائكة، والدليل على ذلك قوله تعالى: أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا. ورسول الله لم يفرِّق بين من عبد الأصنام ومن عبد الصالحين، بل كفَّر الكل وقاتلهم حتى يكون الدين كله لله، وإذا عرفت هذه القاعدة فاعرف القاعدة الرابعة وهي: أنهم يخلصون لله في الشدائد وينسون ما يشركون، والدليل على ذلك قوله تعالى: وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ، وأهل زماننا يخلصون الدعاء في الشدائد لغير الله، فإذا عرفت هذا فاعرف القاعدة الخامسة؛ وهي: أن المشركين في زمان النبيِّ أخف شركًا من عقلاء مشركي زماننا؛ لأن أولئك يخلصون لله في الشدائد وهؤلاء يدعون مشائخهم في الشدائد والرخاء، والله أعلم بالصواب (انتهى).

(٣) محاربة محمد علي باشا للوهابيين

ولما رأى السلطان محمود أنه من الضروري قمع هذه الفئة التي يُخشى من امتدادها على تفريق كلمة الإسلام؛ الأمر الذي جعله الأوروبيون مطمح أنظارهم للتمكن من فصم عرى اتحادهم وامتلاك بلادهم، ولبعد ولايات الشام وبغداد عن مركز الفتنة كلَّف محمد علي باشا — والي مصر ومؤسس عائلتها الخديوية — بمحاربتها واسترجاع مكة المشرَّفة والمدينة المنوَّرة من أيدي زعمائها، وأرسل إليه فرمانًا بذلك في ذي القعدة سنة ١٢٢٢ (الموافق دسمبر سنة ١٨٠٧). ولما كان إرسال الجيوش إلى بلاد العرب عن طريق البرِّ أمرًا متعسرًا إن لم يكن مستحيلًا؛ لانتشار الوهابيين في جميع الطرق وقطعهم المواصلات، عزم محمد علي باشا على إرسالهم بطريق البحر الأحمر؛ فأمر بإنشاء السفن في السويس لنقل الجنود إلى فرضة ينبع، فكانت الأخشاب الصالحة لعمل المراكب تقطع في جميع جهات القطر ويؤتى بها إلى الورش التي أقيمت في بولاق فتجهَّز فيها، ثم تنقل على ظهور الجمال إلى السويس، فتركب بكل سهولة.

ولما استعدَّت المراكب وجمعت الجيوش والكتائب، أضمر هذا الشهم على إبادة طائفة المماليك ليخلص البلاد من شرِّهم ويمكنه التفرُّغ لإصلاحها وإخراج مشروعاته المفيدة من حيز الفكر إلى حيز العمل.

(٤) إبادة المماليك

ولتتميم هذا المشروع أعدَّ حفلة في القلعة في يوم الجمعة ٥ صفر سنة ١٢٢٦ (الموافق أوَّل مارس سنة ١٨١١) لتسليم ولده طوسن باشا الفرمان المؤذِن بتقليده قيادة الجيش المزمع إرساله إلى بلاد العرب لمحاربة الوهابيين والسيف المُهْدَى إليه من قبل الحضرة السلطانية. وفي اليوم المعهود طلع جميع رؤساء المماليك إلى القلعة في موكب منتظم، ولما دخل الجميع من باب العزب وانحشروا في المضيق الموصل منه إلى الباب الأوسط، أُغلِقت الأبواب وأُطلقت عليهم البنادق من خلف الأسوار ومن أعلاها حتى قتلوا عن آخرهم، وفي الوقت نفسه نهبت جنود محمد علي باشا منازلهم بالمدينة، وقتلت من تخلَّف منهم عن الحضور، ثم أرسل إلى عماله في الأقاليم بقتل جميع المماليك القاطنين خارج العاصمة فقتلوهم، وصاروا يتنافسون في إرسال رءوسهم إليه، وبذلك طهرت مصر من أدران هذه الفئة، ولو لم يكن لمحمد علي باشا من الأيادي البيض على مصر سوى تخليصها من شرِّ المماليك لكفى لتخليد ذكره وتمجيد اسمه.

وبعد ذلك، سافر طوسن باشا بجيوشه إلى بلاد العرب، وحارب الوهابيين، واستخلص المدينة المنوَّرة بعد أن نسف أسوارها بالألغام، ودخلها عَنْوة وكتب لوالده بذلك، ثم حصره الوهابيون في مدينة الطائف، فسافر محمد علي باشا إلى مدينة مكة في ٢٨ شعبان سنة ١٢٢٨ (الموافق أغسطس سنة ١٨١٢)، وقبض على الشريف غالب شريف مكة المكرمة، وأرسله إلى مصر، وأقام مكانه الشريف يحيى بن سرور، واحتل عدَّة مراكز مهمة من مراكز الوهابيين، فتضعضع حالهم، خصوصًا وقد توفي زعيمهم سعود في ١٩ ربيع الآخر سنة ١٢٢٩ (الموافق ١٧ أبريل سنة ١٨١٤)، فساد الأمن في طريق الحج، وأتى الناس أفواجًا لتأدية فريضة الحج في الحجة سنة ١٢٢٩، وحج محمد علي باشا وجميع من معه، ثم عاد إلى مصر، فوصلها في ١٥ رجب سنة ١٢٣٠.

وقبل عودته كان قد سار طوسن باشا إلى بلاد نجد لمهاجمة الوهابيين في مدينة «الدرعية» عاصمة زعيمهم، فاحتل مدينة الرس الواقعة على مقربة من الدرعية، ثم راسله عبد الله بن سعود الذي تولى زعامة الوهابيين بعد موت أبيه، وأرسل إليه رسولًا يدعى الشيخ أحمد الحنبلي يطلب منه الكفَّ عن القتال والخضوع لأمير المؤمنين وترك ضلالاتهم، فأجابه طوسن باشا بأنه لا يمكنه إجابة ملتمسه إلا بعد أخذ رأي والده، واتَّفَقا على مهادنة عشرين يومًا ريثما يخابر طوسن باشا والده، عند ذلك أتى إليه خبر عودة والده إلى مصر، فأخذ على نفسه إتمام الصلح وإخبار والده بعد إتمامه؛ فاتفق مع عبد الله بن سعود الوهابي على أن يحتل طوسن باشا بجيوشه مدينة الدرعية ويردَّ الوهابيون ما أخذوه من المجوهرات والنفائس من الحجرة الشريفة النبوية، خصوصًا الكوكب الدري الذي زنته مائة وثلاثة وأربعون قيراطًا من الماس، وكتب لوالده بذلك فأتى إليه الردُّ بتكليف عبد الله بن سعود بالتوجه إلى الآستانة وإن لم يقبل يرسل إليه جيشًا جديدًا لمحاربته.

وفي هذه الأثناء جمع طوسن باشا خبر تمرُّد الجنود على والده بالعاصمة ونهبهم المدينة، فرجع هو أيضًا إلى العاصمة منيطًا قيادة جيوشه لأحد من كان معه من القوَّاد، ووصل هو إلى القاهرة في غاية ذي القعدة سنة ١٢٣٠ (الموافق ٧ نوفمبر سنة ١٨١٥).

وبعد استتباب الأمن في العاصمة أخذ محمد علي باشا في تجهيز حملة جديدة لمحاربة الوهابيين، فجهزها وجعل قائدها بكر أولاده إبراهيم باشا، فسار هذا الشبل إلى بلاد العرب من طريق قنا فالقصير فجدَّة، وأبحر من فرضة بولاق في ١٢ شوَّال سنة ١٢٣١، فوصل ينبع في ٩ ذي القعدة من السنة المذكورة، ومنها قصد المدينة المنوَّرة لزيارة قبر خاتم المرسلين سيدنا محمد ، ثم سار بجيوشه إلى بلاد نجد بعد أن رتَّبَ النقط في خط رجعته إلى فرضتيْ ينبع وجدَّة؛ لعدم انقطاع وصول المدد إليه، فاحتل الرس ومدينة عنيزة وغيرها، وفي ٢٩ جمادى الأولى سنة ١٢٣٣ (الموافق ٦ أبريل سنة ١٨١٨) وصل أمام مدينة الدرعية، وكان بها عبد الله بن سعود ومعظم جنوده.

ولما كانت هذه المدينة متسعة الأرجاء، ولا يمكن لإبراهيم باشا محاصرتها بكيفية تضطرها إلى التسليم، أشار عليه أحد أركان حربه من الفرنساويين المدعو المسيو «فسيير» بحصار القرى الأربع المحيطة بالمدينة الواحدة بعد الأخرى، حتى إذا احتلها أمكنه محاصرة المدينة الأصلية بكل سهولة، فاتبع إبراهيم باشا هذا الرأي لما فيه من المطابقة على أصول الحرب، ومع ذلك فاستمرَّ الحصار عدَّة أشهر، لكن لما رأى عبد الله بن سعود أن المصريين قد احتلُّوا ثلاث قرى من ضواحي المدينة مال إلى التسليم، وطلب من إبراهيم باشا في ٧ ذي القعدة سنة ١٢٣٣ (الموافق ٩ سبتمبر سنة ١٨١٨) إيقاف القتال للمفاوضة في الصلح، فأوقفه وأتى عبد الله بن سعود إلى إبراهيم باشا في معسكره، فأكرمه وأحسن وفادته، وبعد محادثة طويلة قَبِل الوهابي تسليم مدينة الدرعية إليه بشرط عدم تعرضه للأهالي بسوء، وبالسفر إلى الآستانة كرغبة الحضرة السلطانية، وبرد الكوكب الدري وما بقي من المجوهرات والتحف التي أخذها الوهابيون حين استيلائهم على المدينة سنة ١٢٢٠ هجرية.

ثم سافر عبد الله بن سعود إلى الآستانة من طريق مصر، فوصل القاهرة في يوم الاثنين ١٧ محرم سنة ١٢٣٤.

وبعد أن قابل محمد علي باشا بسراي شبرا، سافر قاصدًا الآستانة في ١٩ من الشهر المذكور (الموافق ١٨ نوفمبر سنة ١٨١٨)، وقتل بالقسطنطينية بمجرد وصوله.

ولما هدأت الحال في بلاد الحجاز ونجد، وضرب الأمن أطنابه بها، واستؤصلت شأفة الوهابيين منها، عاد إبراهيم باشا إلى مصر، فوصل القاهرة في يوم الخميس ٢١ صفر سنة ١٢٣٥ (الموافق ٩ دسمبر سنة ١٨١٩).

وفي يوم الخميس دخلها بموكب حافل مارًّا من باب النصر إلى القلعة، وزينت المدينة سبعة أيام متوالية.

وبعد ذلك أمكن عزيز مصر التفرغ لإصلاح البلاد، فنظَّم الجندية على النظامات الأوروبية، وعاونه على ذلك الكلونيل سيف الفرنساوي الذي تَسَمَّى فيما بعد باسم سليمان باشا، ثم شرع في فتح بلاد السودان، ففتحها ولده إسماعيل باشا الذي مات بها حرقًا، وبطل الحجاز إبراهيم باشا من سنة ١٨٢٠ إلى سنة ١٨٢٣.

(٥) عصيان علي باشا والي يانيه

سبق لنا ذكر تحصن علي باشا في إقليم أبيروس وما جاورها، واستخفافه بالدولة وأوامرها، ونقول: إن الدولة لم تُرِدِ المسارعة في مجازاته لاشتغالها بما هو أهم منه من الشئون الداخلية والخارجية، فحمل هذا التغاضي على الخوف وزاد في عدم احترام الأوامر التي ترد إليه من الآستانة حتى وصلت به الحالة إلى الامتناع عن دفع الخراج وعدم إرسال من يطلب منه من الشبان للعسكرية، وأخيرًا أرسل أحد أتباعه إلى الآستانة لقتل بعض خواص السلطان لعدم مساعدته له في الديوان السلطاني، فقتله رسول السوء في إحدى شوارع الآستانة العلية. ولما ظهر أن ذلك بإيعاز علي باشا أمر السلطان بمحاكمته، وكتب بطلبه إلى القسطنطينية لمعاقبته أو تبرئته حسب ما يظهره التحقيق، فامتنع عن الحضور، وجاهر بالعصيان غير مبالٍ ببطش الدولة، وراسل زعماء اليونان الذين كانوا ابتدءوا في الهياج والاضطراب طلبًا للحرية: لكن تداركت الدولة الأمر قبل تفاقم الخطب، وأرسلت إليه جيوشًا كافية لقمعه تحت قيادة من يدعى خورشيد باشا، فحاربه هذا القائد وحصره في يانيا مدَّة، وضايق عليه الحصار حتى يئس من وصول المدد إليه من زعماء اليونان.

ولما رأى أن لا مناص له من التسليم فاتح خورشيد باشا في ذلك في يناير سنة ١٨٢٢، ثم اجتمع به في ١٣ جمادى الأولى سنة ١٢٣٧ (الموافق ٥ فبراير) التالي للاتفاق على شروط التسليم، فأبرز له خورشيد باشا الفرمان السلطاني القاضي بقتله جزاء تمرُّده وعصيانه على الدولة التي والت عليه نعماءها ورفعته إلى أعلى الدرجات، وفي الحال أحاط به الجند وقبضوا عليه وأوردوه الحمام، ثم جزوا رأسه وأرسلوها إلى الآستانة، وبذلك انتهت فتنته، وعادت السكينة إلى ربوع بلاد الأرنئود.

(٦) ثورة اليونان وطلبها الاستقلال

قد علم المطالع من سياق هذا الكتاب أن الدولة العلية كانت كلما فتحت إقليمًا اكتفت من أهله بالخراج غير متعرضة لهم في دينهم أو لغتهم أو عوائدهم، وأظهرنا مضارَّ هذه الطريقة التي تحفظ بها كل أمة لغتها ورابطتها وعصبيتها، حتى إذا ساعدتها الظروف نشطت من عقالها وقامت من رقدتها طالبة نصيبها من شمس الاستقلال المنعشة، فلما قامت الثورة الفرنساوية على دعائم الحرية والمساواة والإخاء، وانتشرت مبادئها في جميع أنحاء أوروبا التي وطئها نابليون بجيوشه تعدَّت منها إلى غيرها، ووصلت فصائلها إلى بلاد اليونان، فوجدت من أفكار وألباب سكانها مغرسًا طيبًا، فنمت وأينعت وامتدَّت فروعها إلى سهلها وجبلها، واجتمع تحت ظلها الوارف زعماء الأمة اليونانية، لكنهم أيقنوا أنهم لا يقوون على طلب الاستقلال إلا إذا كان من أبنائهم شبان متعلِّمون يبثُّون المبادئ الجديدة بين جميع طبقات الأمة، فيعلمون أن لهم حقوقًا يطالبون بها وواجبات يطالبهم الغير بها؛ ولذلك عمد أغنياؤهم إلى إرسال أولادهم إلى مدارس الممالك الأوروبية؛ ليتحلوا بالعلوم والمعارف، وليكونوا رؤساء الأمة ودعاة حريتها في المستقبل، ثم ألفوا عدَّة جمعيات لنشر العلم بها بين أفراد الأمة، وبث روح الوطنية بينهم، وشكلوا جمعيات أخرى سياسية محضة، وجعلوا مراكزها في الروسيا والنمسا، وأهمُّ هذه الجمعيات الجمعية السرِّية المسماة «هيتيري»،٢ وقيل إن تشكيلها كان بتحريض من إسكندر الأوَّل٣ — قيصر الروسيا — لإيجاد المشاكل الداخلية في الدولة؛ كي يتسنَّى له تنفيذ وصية بطرس الأكبر القاضية بجعل مدينة القسطنطينية مفتاح الممالك الروسية.
وكانت هذه الجمعية أشبه شيء بجمعيات الكربوناري٤ التي انتشرت أثناء ذلك في الممالك اللاتينية؛ أي فرنسا والبرتغال وإسبانيا وإيطاليا؛ لتحرير هذه الأمم بمبادئ الثورة الفرنساوية. وانتشرت جمعية الهتيري بين جميع اليونان المجتمعين في إقليم مورا والمتفرقين في باقي أملاك الدولة حتى بلغ عدد أعضائها في أوائل سنة ١٨٢١ نيفًا وعشرين ألفًا، وجميعهم من الشبان الأقوياء القادرين على حمل السلاح كاملي العدد متأهبين للثورة عند أوَّل إشارة تبدو لهم من رؤسائهم. ومما ساعد على امتداد جذورها بهذه الكيفية الغريبة اشتغال الدولة بمحاربة علي باشا — والي يانيا — الذي سبق ذكره.
وانتهزوا فرصة تفرغها لقمعه لنشر لواء العصيان ومقاتلة الجنود العثمانية المحتلة لحصونهم وقلاعهم، وبمجرد انتهاء فتنة والي يانيا بقتله في ٥ فبراير سنة ١٨٢٢ كما مَرَّ، وجهت الدولة خورشيد باشا إلى بلاد اليونان لإخضاعها، فتغلبوا عليه في واقعة الترموبيل٥ وفرقوا شمل جنوده في ذي الحجة سنة ١٢٣٧ (الموافق أغسطس سنة ١٨٢٢)، أما هو فآثر الموت على تحمل عار هذه الموقعة بعد ما ناله من الفخر في قهر والي يانيا، فانتحر ومات مسمومًا.

ومما زاد في أهمية انهزام خورشيد باشا أن البحارة اليونانيين تمكَّنُوا في يوم ٢٧ رمضان سنة ١٢٣٧ (الموافق ١٧ يونيو سنة ١٨٢٢) من حرق الدونانمة التركية في ميناء جزيرة ساقز، واستشهاد ثلاثة آلاف بحري بسببها بعد أن استخلصت جزائر ساموس وساقز وغيرهما من أيدي ثائري اليونان، ومجازاة سكانها ومساعديهم بقتل الرجال وسبي النساء وارتكاب أنواع السلب والنهب، مما كان له دوي في أوروبا، واستمال الرأي العام بها لمساعدة اليونان، وبقيت الحرب ذلك سجالًا إلى سنة ١٨٢٤.

(٧) سفر الجنود العثمانية إلى اليونان

ولما رأى السلطان محمود ما ألمَّ بجيوشه في هذه الحروب المستمرة والمناوشات الغير المنقطعة وثبات اليونانيين أمام الجيوش العثمانية واعتصامهم بالجبال، وعدم قدرة الجنود على اللحاق بهم في جبالهم الوعرة أراد أن يُحيل مأمورية محاربتهم على محمد علي باشا — والي مصر — نظرًا لما أبداه هو وولده الشهم الهمام إبراهيم باشا في محاربة الوهابيين من جهة، وليشغله عما كان يظن أنه ينويه من طلب الاستقلال من جهة أخرى؛ إذ توهَّم الباب العالي أنه لو لم تكن هذه وجهته الحقيقية لما بذل وسعه في تنظيم جيش جديد مؤلف من الشبان المصريين الذين جعل اعتماده عليهم بدل أخلاط الترك، وتدريبهم على النظام الأوروبي بمساعدة ضباط من الفرنساويين، فلهذه المناسبات أصدر السلطان فرمانًا بتاريخ ٥ رجب سنة ١٢٣٩ (الموافق ٦ مارس سنة ١٨٢٤) بتعيين محمد علي باشا واليًا على جزيرة كريد وإقليم مورة وهما بؤرتا هذه الثورة.

فلم يسع محمد علي باشا إلا الإذعان لأوامر متبوعه الأعلى خوفًا من حمل امتناعه على العصيان والاستقلال؛ الأمر الذي ما كانت قواه الحربية تساعده على إتمامه، وفي الحال أصدر أوامره باستعداد سبعة عشر ألف جندي كلهم مصريون من المشاة للسفر، وعدد من الفرسان والمدفعية، وعين بكر أولاده مخضع الوهابيين وفاتح السودان قائدًا عامًّا لهذه الحملة، وأرفقه بسليمان بك (هو الكولونيل سيف الذي سبق ذكره) الفرنساوي منظم الجيوش ليساعده بمعلوماته العسكرية التي تحصل عليها أثناء وجوده ضمن جيوش نابليون الشهيرة بحسن الترتيب وكمال النظام.

فاستعدت هذه الإرسالية للسفر من ثغر الإسكندرية، وأبحرت منه تحت قيادة بطل مصر إبراهيم باشا ١٩ ذي القعدة سنة ١٢٣٩ (الموافق ١٦ يوليو سنة ١٨٢٤) على سفن مصرية تكتنفها سفن حربية مصرية أيضًا من سفن الدونانمة التي أنشأها محمد علي باشا في البحر الأبيض لحماية ثغور مصر من هجمات الأعادي، كما حصل من الإنكليز سنة ١٨٠٧، فسارت السفن باسم الله مجريها إلى جزيرة رودس للاجتماع بالدونانمة العثمانية، ثم ترك إبراهيم باشا فيها سليمان بك الفرنساوي مع حامية كافية لحفظها من تعدي الثائرين عليها، وقصد هو جزيرة كريد فاحتلها، ومنها قام إلى سواحل بلاد مورة يحاول إنزال جنوده فيها، وبعد العناء الشديد تمكَّن من إنزالهم في ميناء مودون، ولم يكن باقيًا في أيدي العثمانيين إذ ذاك من جميع سواحل اليونان إلا هذه المدينة ومدينة كورون، ولو لم تكن مساعدة أوروبا لليونانيين بالمال والرجال لما أمكنهم مقاومة الجنود العثمانية؛ فإنه لما شرعت اليونان في طلب الاستقلال شكَّلت في أوروبا عدة جمعيات دعيت بجمعيات محبي اليونان، وجمعت كثيرًا من المال أرسلت به إلى الثائرين كمياتٍ وافرة من الأسلحة والذخائر، وتطوَّع كثير من أعضائها في عداد المحاربين، ومن ضمنهم كثير من مشاهير أوروبا وأمريكا مثل وشنطون ابن محرِّر أمريكا الشهير واللورد بيرون الشاعر الإنكليزي وغيرهما من فحول الرجال الذين وقفوا حياتهم للدفاع عن الحرِّية في أي زمان ومكان؛ انتصارًا لمبادئهم لا لأمة معلومة أو رجل معلوم. ومما ساعد على دخول بعض الشبان المشهورين في جيوش اليونان القصائد الحماسية التي نشرها فيما بينهم «فيكتور هوجو» الشاعر المفلق الفرنساوي و«كازيمير دلافين» الناظم الشهير.

ولم يلبث إبراهيم باشا أن أمد مدينة «كورون» التي كان يحصرها اليونانيون بالرجال والذخائر في ٣ شعبان سنة ١٢٤٠ (الموافق ٢٣ مارس سنة ١٨٢٥)، ثم فتح مدينة «ناورين»،٦ الشهيرة بعد حصار شديد، ودخلها منصورًا في ٢٨ رمضان سنة ١٢٤٠ (الموافق ١٦ مايو سنة ١٨٢٥)، وبعد قليل فتح مدينة «كلاماتا»، وفي ٢٣ مايو احتلَّ مدينة «تريبولتسا»، ثم استدعاه رشيد باشا الذي كان محاصرًا مدينة «ميسولونجي» لمساعدته على فتحها، وكانت قد أعيته في ذلك الحيل؛ لوقوعها على البحر ووصول المدد إليها تباعًا من جهة البر، فقام إبراهيم باشا بجيوشه ملبيًا دعوته، واتبع في فتحها الطريق التي أرشده سليمان بك الفرنساوي إليها في محاصرة «ناورين»، ففتحت المدينة بعد عناء شديد وحصار جهيد، ودخلها العثمانيون والمصريون في ١٤ رمضان سنة ١٢٤١ (الموافق ٢٢ أبريل سنة ١٨٢٦). وفي يونيو من السنة التالية فتح العثمانيون مدينة آتينا وقلعتها الشهيرة «أكروبول» رغمًا عن دفاع اللورد كوشران القائد البحري الإنكليزي الذي عين من قبل اليونانيين قائدًا عامًّا لجيوشهم البرية والبحرية لعدم اتفاقهم على تعيين أحدهم.

(٨) تداخل الدول

وبينما يستعدُّ إبراهيم باشا لفتح ما بقي من بلاد اليونان في أيدي الثائرين؛ إذ تداخلت الدول بين الباب العالي ومتبوعيه بحجة حماية اليونانيين في الظاهر ولفتح المسألة الشرقية وتقسيم بلاد الدولة بينهم في الباطن، وبيان هذا التداخل أن الدولة لامت الروسيا أكثر من مرة على مساعدتها الثائرين وحماية من يلتجئ منهم إلى بلادها، وهي لا تصغي لهذا اللوم ولا تنصت للحق، بل استمرَّت على مساعدتهم طمعًا في نوال بُغيتها الأصلية، وهي احتلالها الآستانة وجعلها مركزًا للديانة الأرثوذكسية كما أن مدينة رومة مركز للديانة الكاثوليكية، ثم استمرت المخابرات بين الدولتين مدة بدون فائدة لرغبة الروسيا التداخل بين التابع والمتبوع وعدم قبول الباب العالي أي تدخل أجنبي في شئونه الداخلية بين رعاياه.

ولما توفي القيصر إسكندر الأول في ١٨ ربيع الثاني سنة ١٢٤١ الموافق أول دسمبر سنة ١٨٢٥، وتولى بعده نقولا الأول،٧ اهتم بمسألة اليونان متبعًا خطة سلفه السياسية، وباتحاده مع إنكلترا التي كان قصدها منع الحرب بين الدولتين اضطر الباب العالي إلى التصديق على معاهدة «آق كرمان» في ٢٨ صفر سنة ١٢٤٢ (سبتمبر سنة ١٨٢٦) وملخصها: أن يكون للروسيا حق الملاحة في البحر الأسود والمرور من البوغازين بدون أن يكون للدولة وجه في تفتيش سفنها، وأن تنتخب حكام ولايتي الأفلاق والبغدان بمعرفة الأعيان لمدة سبع سنوات مع عدم جواز عزلهما أو أحدهما إلا بإقرار الروسيا، وأن تكون ولاية الصرب مستقلة تقريبًا، وأن لا تحتل العساكر التركية إلا قلعة بلغراد وثلاث قلاع أخرى، ولم يذكر بهذه المعاهدة شيء عن اليونان لإيجاد سبب للإشكال في المستقبل، بل اتفقت الروسيا وإنكلترا على استعمال كل نفوذهما لوضع حد للحروب المستمرة بها ولو كره الباب العالي، ووافقتهما دول النمسا والبروسيا وفرنسا، وهذا نص اتفاق آق كرمان:

اتفاق آق كرمان

  • البند الأول: جميع قيود واشتراطات معاهدة الصلح المبرمة في بخارست بتاريخ ١٧ جمادى الأولى سنة ١٢٢٧ (الموافق ١٦ مايو سنة ١٨١٢) قد تقررت بهذا الاتفاق الحالي من حيث قوتها الجوهرية ومبناها كما لو كانت معاهدة بخارست هذه ذكرت فيه كلمة فكلمة؛ إذ إن الغرض من الإيضاحات التي هي موضوع هذا الاتفاق الحالي ليس إلا تحديد معنى بنود المعاهدة المذكورة بالضبط وتقوية دعائمها.
  • البند الثاني: حيث إن ما جاء في البند الرابع من معاهدة بخارست بخصوص تحديد تخوم الدولتين في الجزيرتين العظيمتين الموجودتين بالدانوب أمام مدينتيْ إسماعيل وكلي اللتين مع استمرارهما ملكًا للباب العالي كان تقرر بقاء جزء منهما قاحلًا غير آهل بالسكان، علم فيما بعد عدم إمكان تنفيذه؛ نظرًا للموانع الناشئة عن فيضان النهر، حيث ثبت بالتجربة ضرورة إقامة حد فاصل ثابت ذي امتداد كافٍ بين سكان الشواطئ المملوكة للطرفين لمنع حصول أي اختلاط بينهم؛ فتنقطع بهذه الواسطة كافة المنازعات والارتباكات المستمرة التي تنتج عنها، فتعهد الباب العالي العثماني — مجاملة لحكومة الروسيا الملوكية، ورغبة في إظهار صريح رغبته المخلصة في توثيق عُرَى الصلات الحبية بين الدولتين، ومراعاة لحسن الجوار — بأن يجري ويحافظ على النظام الذي اتفق عليه بهذا الصدد في القسطنطينية بين مبعوث الروسيا ووزراء الباب العالي في المؤتمر المنعقد بتاريخ (٢١ أغسطس سنة ١٨١٧) وفقًا للنصوص المدوَّنة، وعلى ذلك فالنصوص المذكورة في هذا المحضر بالنسبة لموضوع بحثنا كأنها جزء متمم للاتفاق الحالي.
  • البند الثالث: بما أن التعهدات والعقود المختصة بالامتيازات التي تتمتع بها البغدان والأفلاق قد تقرَّرت بقيد خصوصي في البند الخامس من معاهدة بخارست، فالباب العالي يتعهَّدا تعهُّدًا صريحًا بأن يراعي تلك الامتيازات والتعهدات والعقود في كل حين بالصداقة التامة، ويعد بأن يجدِّد الخطوط الشريفة المحرَّرة في سنة ١٨٠٢ التي خُصِّصت وضمنت الامتيازات المذكورة، وذلك في مسافة ستة شهور تمضي من تاريخ التصديق على الاتفاق الحالي، وزيادة على ذلك فإنه بالنظر إلى المصائب التي تحملتها هاتان الولايتان بسبب الحوادث الأخيرة، وبالنظر إلى اختيار بعض أشراف البغدانيين والأفلاقيين لأجل أن يكونوا لهاتين الإمارتين، ونظرًا لأن حكومة الروسيا الملوكية قد قبلت هذا الانتخاب؛ فقد حصل الاعتراف من الباب العالي والروسيا بأن الخطوط الشريفة المذكورة سابقًا الصادرة في سنة ١٨٠٢ يجب من كل بدٍّ تكملتها بواسطة القيود المدونة بالعقد المنفصل المرفق بهذا الذي اتفق عليه بين مندوبي الطرفين السياسيين، والذي يعتبر جزءًا متممًا للاتفاق الحالي.
  • البند الرابع: اشترط في البند السادس من معاهدة بخارست أن تحدَّد التخوم بين الدولتين المتعاقدتين من جهة آسيا بالكيفية التي كانت عليها سابقًا قبل الحرب، وأن تعيد حكومة الروسيا الإمبراطورية إلى الباب العالي الحصون والقلاع الكائنة ضمن هذه التخوم التي فتحتها جنود الروسيا أثناء الحرب، فبناءً على هذا الشرط ونظرًا لكون حكومة الروسيا الإمبراطورية قد أخلَّت وأعادت بعد الصلح مباشرة الحصون المشار إليها التي كانت أخذت في أثناء الحرب من جنود الباب العالي، فقد اتفق الطرفان بأنه من الآن فصاعدًا تبقى التخوم الآسيوية بين المملكتين كما هي عليه الآن، وأنه قد تحدَّد ميعاد سنتين لاتخاذ الوسائل الناجعة من الطرفين في المحافظة على سكينة وأمن الرعايا التابعة لكل منهما.
  • البند الخامس: بما أن الباب العالي العثماني يرغب في أن يُبرهِن للحكومة الروسية الإمبراطورية على ميله الودي وتيقظه التام لإتمام كافة شروط معاهدة بخارست، فسيشرع في إجراء جميع قيود البند الثامن من المعاهدة المذكورة المختصة بالأمة الصربية التي لكونها من قديم الزمان تابعة للباب العالي وتدفع له الخراج تستحقُّ أن تنال في كل حين بواعث رحمته وإكرامه، فعلى هذا ينظم الباب العالي مع مندوبي الأمة الصربية الطرق التي يحكم بأنها أكثر موافقة لتأمين تلك الأمة على الامتيازات التي اشترطت لصالحها، فإن التمتع بهذه الامتيازات يكون في آن واحد مكافأة عادلة وأعظم باعث لصداقتها التي برهنت عليها هذه الأمة نحو المملكة العثمانية، وحيث رُئِي أن ميعاد ثمانية عشر شهرًا ضروري للشروع في التحقيقات التي يقتضيها هذا الموضوع بناءً على العقد المنفصل المرفق مع هذا، المتفق عليه بين مندوبي الطرفين السياسيين، فتقرر الطرق السالف ذكرها بالاتفاق مع الوفد الصربي المنتدب إلى القسطنطينية، ويصدر بها فرمان عال محلًّى بالخط الشريف الهمايوني، ويجري مقتضاه بالدقة في أقصر مدَّة ممكنة، وغايتها مدَّة الثمانية عشر شهرًا السالف ذكرها، وهذا الفرمان يرسل لحكومة الروسيا الإمبراطورية، وحينئذٍ يعتبر كجزء متمم للاتفاق الحالي.
  • البند السادس: حيث إنه بمقتضى الاشتراطات الخصوصية المذكورة في البند العاشر من معاهدة بخارست، جميع قضايا وطلبات رعايا أحد الطرفين التي كانت أخرت بسبب حصول الحرب يجب الشروع فيها وإنهاؤها أيضًا، وحيث إن الديون التي يمكن أن تكون لرعايا كل طرف على الطرف الآخر، وكذا المسائل المختصة بالخراج، يجب فحصها والفصل فيها بالمطابقة للعدالة من كل الوجوه، وتصفيتها تمامًا بالسرعة، فقد اتفق على أن جميع قضايا وطلبات الرعايا الروسيين بسبب الخسائر التي تكبدوها بأسباب غزو قرصانات المغاربة والمصادرات التي حصلت في وقت انقطاع العلاقات بين الدولتين في سنة ١٨٠٦، والإجراءات الأخرى التي من هذا القبيل، بما فيها ما وقع منذ سنة ١٨٢١، يعمل عنها تصفية ويعطى عنها التعويضات العادلة. وللوصول لهذا الغرض ينتدب الطرفان بدون إمهال مأمورين يحققون الخسائر ويعينون مقدار التعويض اللازم عنها. ولما تنتهي أعمال هؤلاء المأمورين يرسل المجموع الذي يتكون من التعويضات السابق ذكرها إجماليًّا لسفارة الروسيا بالقسطنطينية في ميعاد ثمانية عشر شهرًا من ابتداء تاريخ التصديق على الاتفاق الحالي، وبمثل ذلك يكون الحال بالنظر لرعايا الباب العالي.
  • البند السابع: حيث إن القيام بتعويض الخسائر التي حصلت لرعايا وتجار دولة الروسيا الإمبراطورية، بسبب قرصانات أيالات الجزائر وتونس وطرابلس، والعمل بشروط المعاهدة التجارية بكل دقة وصحة وبالبند السابع من معاهدة ياش، من أهم واجبات الباب العالي بمقتضى العبارات الصريحة المذكورة في البند الثاني عشر من معاهدة بخارست الذي بانضمامه إلى البند الثالث يقوِّي ويؤكِّد جميع الاتفاقات السابقة. فالباب العالي يكرِّر بكل صراحة وَعْدَهُ بإتمام تعهداته من الآن فصاعدًا بالصداقة التامة للغاية، وينبني على ذلك ما يأتي:
    • أولًا: يعتني الباب العالي اعتناءً تامًّا بمنع قرصانات المغرب من تعطيل التجارة والملاحة الروسية بأي حجة كانت، فإذا حصل منهم شيء فبمجرد علم الباب العالي بحدوثه يتعهد من الآن بأن يقوم بإعادة جميع المأخوذات التي استولى عليها أولئك اللصوص بدون أدنى تأخير، وأن يعوِّض على الرعايا الروسيين ما لحقهم من الخسائر، وأن يحرر بهذا الصدد فرمانًا صارمًا إلى بلاد المغاربة بحيث لا تدعو الضرورة تكراره مرَّة ثانية. وفي حالة ما إذا لم ينفَّذ مفعول هذا الفرمان فيدفع مقدار التعويض من الخزينة الملوكية في مسافة الشهرين المنصوص عنهما في البند السابع من معاهدة ياش ابتداءً من تاريخ يوم الطلب الذي يقدم بهذا الشأن من وزير الروسيا بناءً على التحقيق الذي يكون قد أجراه.
    • ثانيًا: يَعِدُ الباب العالي بأن يلاحظ بغاية الدقة جميع شروط المعاهدة التجارية السابق ذكرها، وأن يَمْحِيَ الموانع المضادَّة للمبنى الصريح لهذه الاشتراطات، وأن لا يتسبب في إحداث العراقيل في طريق ملاحة السفن التجارية الحاملة للعلم الروسي في جميع بحار ومياه المملكة العثمانية بدون استثناء مطلقًا. وبالاختصار أن يسعى في تمتع تجار الروسيا وقباطين مراكبها وجميع رعاياها عمومًا بالامتيازات والخصوصيات، وكذلك بالحرية التامة في التجارة بما أن هذه الأمور نص عنها نصًّا صريحًا في المعاهدات الموجودة بين الطرفين.
    • ثالثًا: حيث إنه بمقتضى البند الأوَّل من المعاهدة التجارية الذي يضمن لجميع الرعايا الروسيين عمومًا حرية الملاحة والتجارة في جميع ممالك الباب العالي، سواء كان برًّا أو بحرًا، وفي كل مكان يريدون الملاحة والتجارة فيه، وحيث إنه بالنظر للقيود المذكورة في بنديْ (٣١ و٣٥) من المعاهدة المشار إليها التي تضمن حريَّة المرور من قنال القسطنطينية للسفن التجارية المشحونة بالمؤنات أو ببضائع أخرى أو بمحصولات الروسيا أو بمحصولات الممالك الأخرى الغير التابعة للدولة العثمانية، وكذلك حرية التصرف في هذه المؤنات والبضائع والمحصولات؛ فالباب العالي يتعهَّد بأن لا يقيم عقبات ولا موانع في أن المراكب الروسية المشحونة بالغلال أو بمؤنات أخرى عند وصولها في قنال القسطنطينية وفي وقت الاقتضاء تتمكن من نقل ما بها إلى مراكب أخرى، سواء كانت روسية أو تابعة لأمم أخرى أجنبية لكي تنقل خارجًا عن ممالك الباب العالي.
    • رابعًا: يجيز الباب العالي بناءً على توسط حكومة الروسيا الإمبراطورية قياسًا على ما سبق دخولَ البحر الأسود لمراكب الحكومات المتحابة مع الدولة العثمانية التي لم تتحصَّل لغاية الآن على هذا الامتياز، بحيث إن توريد التجارة إلى الروسيا بواسطة هذه السفن وتصدير المحصولات عليها لا يمكن أن يحصل له أدنى تعطيل.
  • البند الثامن: بما أن الغرض من الاتفاق الحالي هو إيضاح وتكملة معاهدة بخارست، فيصدق عليه من جلالة إمبراطور وبادشاه جميع الروسيا، ومن جلالة ملك وبادشاه العثمانيين بواسطة اعتمادات صريحة موشاة على حسب العادة بعلامتهما الخصوصية، ويصير تبادل التصديق بين مندوبي الطرفين السياسيين في ميعاد أربعة أسابيع أو أقل إن أمكن ابتداءً من اليوم الذي يتمُّ فيه هذا الاتفاق.
تحريرًا بآق كرمان في ٢٥ سبتمبر سنة ١٨٢٦

(٩) العقد المنفصل المختصُّ بالأفلاق والبغدان

بما أن ولاة البغدان والأفلاق يُختارون من بين أشراف الوطنيين، فانتخابهم يكون في كل من هاتين الولايتين من الآن فصاعدًا بتصديق وإرادة الباب العالي بواسطة جمعيات الديوان العمومية بحسب عادة البلاد القديمة، وديوان كل ولاية بصفة أنهم نائبون عن الأمة باتحادهم مع عموم السلطان، ينتخبون لوظيفة والٍ أحدَ الأشراف العريقين في الأقدمية والذين يكونون أكثر كفاءة للقيام جيدًا بأعباء ولايتهم، ثم إنهم يقدِّمون إلى الباب العالي محضرًا بمن وقع عليه الانتخاب، فإذا قبل الباب العالي تعيينه فيعين واليًا ويستلم براءة تثبيته، وإذا اتفق أنه لأسباب قوية وجد المنتخب غير موافق لرغبة الباب العالي ففي هذه الحالة بعد تحقيق هذه الأسباب بمعرفة الدولة العلية والروسية يسمح للأشراف المذكورين بأن يشرعوا في انتخاب شخص آخر موافق، ومدة تولية الوالي تحدد دائمًا كما في الماضي بسبع سنوات كاملة من تاريخ يوم التعيين، ولا يمكن رفعهم قبل هذا الميعاد، وإذا ارتكبوا في مدة حكمهم بعض جنايات فالباب العالي يخبر عنها وزير الروسيا، وبعد إجراء التحقيق بواسطة الطرفين وظهور إدانة الوالي يسمح برفعه في هذه الحالة فقط.

الولاة الذين يتمون مدَّة تعيينهم التي هي سبع سنوات بدون أن يبدو منهم أي أمر يوجب شكوى مهمة وحقيقية — سواء كان بالنسبة للدولتين أو بالنسبة لولايتهم — يعيَّنُون من جديد لسبع سنوات أخرى إذا طلبت دواوين الولاية تعيينهم من الباب العالي، وإذا اتضح رضاء عموم الأهالي عنهم.

إذا اتفق أن أحد الولاة استعفى قبل انتهاء ميعاد السبع سنوات بسبب الهرم أو المرض أو لأي سبب آخر، فالباب العالي يخبر بذلك حكومة الروسيا، ويحصل الاستعفاء بموجب اتفاق الدولتين عليه من قبل.

عزل أي والٍ بعد انتهاء مدته أو تنازله يستوجب سقوط عنوانه، ويمكنه أن يعود ثانيًا إلى طبقة الأشراف بشرط أن يبقى ساكتًا ومطمئنًّا، ولكن لا يجوز له أن يصير عضوًا في الديوان ولا أن يؤدي أي وظيفة عمومية ولا أن ينتخب واليًا ثانيًا.

أولاد الولاة المعزولين أو المستعفين يحفظون صفة الأشراف، ويمكنهم أن يشتغلوا بمصالح البلاد، وأن ينتخبوا ولاة في حالة عزل أو استعفاء أو موت أحد الولاة، ولغاية تعيين خلف له يعين ديوان تلك الولاية قائم مقام يكلف بإدارة تلك الولاية.

من حيث إن الخط الشريف المحرر في سنة ١٨٠٤ أَلْغَى الأموال الأميرية والتعيينات السنوية والمطالب الرسمية التي أدخلت منذ سنة ١٧٨٣، فالولاة بالاشتراك مع أشراف دواوينهم يعيِّنون ويجدِّدون الأموال الأميرية والضرائب السنوية في ولايتي البغدان والأفلاق مع اعتبار الضرورات التي تدوَّنت بموجب الخط الشريف المحرر في سنة ١٨٠٢ أساسًا لذلك. ولا يجوز للولاة في أي حالة كانت أن يقصروا في الإجراء بغاية الدقة بمقتضى هذا النظام، وعليهم أن يصغوا لملحوظات وزير جلالة السلطان وقناصل الروسيا على أوامرهم — سواء كان في هذا الموضوع أو في المحافظة على امتيازات البلاد — وخصوصًا في ملاحظة القيود والبنود المدخلة في العقد الحالي.

يعيِّن الولاة بالاتحاد مع دواوينهم عدد العساكر في كل ولاية بمقدار ما كان يوجد منهم قبل حوادث سنة ١٨٢١، ومتى تعيَّن هذا العدد فلا يمكن أن يزاد فيه بوجه، ما لم يعترف الطرفان بأهمية الضرورة الملجئة إلى ذلك، ومن الواضح أن تكوين العساكر وتشكيلهم يستمر بالكيفية التي كانوا عليها قبل تلك الحوادث، وأن يستمر انتخاب الأغوات (الضباط) وتعيينهم على حسب الطريقة المتبعة قبل الوقت المذكور. وأخيرًا فإن العساكر وأغواتهم لا يقومون مطلقًا إلا بالوظائف التي تحدَّدت لهم في حال الأصل، ولا يجوز لهم التدخل في أمور البلاد ولا في أي أعمال أخرى.

الاغتصابات التي وقعت في أراضي الأفلاق من جهة أبرايل وجيرجيوا وفيما بعد نهر الأولتا يصير إعادتها لمالكيها، ويحدَّد ميعاد لهذه الإعادة في الفرمانات المختصة بها التي تصدر لأصحاب الشأن.

الأشراف الذين رأوا أنفسهم مجبورين على ترك وطنهم بسبب الفتن الأخيرة يمكنهم أن يعودوا إليها باختيارهم بدون أن يحصل لهم أدنى تشويش من أي شخص، ويشرعون في التمتع الكامل المطلق بحقوقهم واختصاصاتهم وأموالهم وأملاكهم كما في الماضي.

ويمنح الباب العالي لولايتي البغدان والأفلاق مدة سنتين يعفيهما في أثنائهما من الأموال الأميرية والتعيينات السنوية الملزمتين بدفعها إليه، وذلك بالنظر إلى المصائب التي أثقلت كاهلها بسبب القلاقل الأخيرة. ومتى انتهت مدة الإعفاء السالف ذكرها فالجزية والتعيينات المذكورة يصير تسديدها بحسب المعدَّل المعين بالخط الشريف المحرَّر في سنة ١٨٠٢، ولا يمكن زيادتها في حال من الأحوال.

ويمنح الباب العالي أيضًا لسكان الولايتين حرِّية الاتِّجار بجميع محصولات أراضيهم وصناعتهم، فيتصرَّفون في ذلك كيف يشاءون ما عدا القيود المختصة من جهة بالتعيينات الواجبة سنويًّا للباب العالي الذي يعتبر هاتين الولايتين كمخازن له، ومن جهة أخرى بمئونة القطر نفسه. أما جميع تعليمات الخط الشريف المحرر في سنة ١٨٠٢ المختصة بهذه التعيينات وبتسديدها بالانتظام وبالأثمان الجارية التي تخصم لهم على حسابها، والتي تحديدها في حالة التنازع يختص بدواوين كل ولاية، فيجري مقتضاها بكل دقة، وتعتبر في المستقبل بضبط تام.

وينبَّه على الأشراف أن ينفذوا أوامر الولاة وأن ينقادوا لهم تمامَ الانقياد. وأما من جهة الولاة، فإنهم لا يمكنهم أن يعاملوا الأشراف بعنف بالميل مع أهوائهم، وأن لا يعاقبوهم بدون وجه حق وبدون أن يكونوا ارتكبوا جرائم مثبوتة، ولا يترتب عليهم عقاب إلا بعد أن يحاكموا بحسب قوانين وعوائد البلاد.

بما أن الانقلابات التي وقعت في السنين الأخيرة بولايتي البغدان والأفلاق كان لها تأثير سيئ جدًّا بالنظام في فروع الإدارة المختلفة الداخلية، فعلى الولاة أن يشتغلوا بدون أدنى إمهال مع دواوينهم في اتخاذ التدابير اللازمة لتحسين حالة الولايتين المعهود إدارة شئونهما إلى مهارتهم، وهذه التدابير يعمل عنها نظام عمومي لكل ولاية يجري مقتضاه بدون تأخير. أما الحقوق والامتيازات الأخرى لولايتي البغدان والأفلاق وجميع الخطوط الشريفة التي تختصُّ بهما، فإنه يستمر مراعاتها ما دام الاتفاق الحالي لا يغيِّر منها شيئًا.

فلهذا نحن — الموقعين على هذا، المفوَّضين السياسيين عن جلالة إمبراطور وبادشاه جميع الروسيا، المؤيدين بالأوامر الجليلة الملوكية، بالاتحاد مع المفوضين السياسيين عن الباب العالي العثماني — قد قررنا ونظمنا الأصول المذكورة أعلاه بخصوص البغدان والأفلاق، وتلك الأصول هي نتيجة البند الثالث من الاتفاق المقرر لمعاهدة بخارست الذي أبرم مشتملًا على ثمانية بنود في المؤتمرات المنعقدة بآق كرمان بيننا وبين المفوضين السياسيين العثمانيين؛ فبناء على ذلك … إلخ.

(١٠) العقد المنفصل الخاص بالصرب

بما أن قصد الباب العالي الوحيد هو أن يجري مفعول الاشتراطات المذكورة في البند (٨) من معاهدة بخارست بكل صداقة، فقد سمح للمندوبين الصربيين في القسطنطينية بأن يقدموا له طلبات أمتهم بخصوص المواضيع الأكثر موافقة لتشييد دعائم الاطمئنان ورفاهية البلاد، فكان هؤلاء المندوبون عرضوا في بادئ الأمر في عريضتهم ما تتمناه الأمة بالنسبة لبعض هذه المواضيع مثل حرية الأديان، وانتخاب رؤسائها، واستقلال إدارتها الداخلية، وانضمام الأقسام المنفصلة عنها، وتوحيد الأموال الأميرية المتنوعة إلى نوع واحد، وتسليم إدارة استغلال العقارات المملوكة لبعض المسلمين إلى الصربيين، بشرط أن يدفعوا عنها جعلًا معينًا ضمن الخراج، وحرية التجارة والتصريح للتجار الصربيين بالسفر في الممالك العثمانية ببطاقات الجواز الخصوصية بهم، وتشييد الاسبتاليات والمدارس والمطابع.

وأخيرًا منع المسلمين غير الداخلين في زمرة العسكرية من التوطن بالصرب، لكن عند فحص الطلبات المبينة سابقًا وتنظيمها قد حصلت موانع أوجبت تأجيلها، وبما أن الباب العالي لا يزال ثابتًا للآن بعزم راسخ في أن يمنح الأمة الصربية الفوائد المشترطة في البند (٨) من معاهدة بخارست، فسيقرر بالاتحاد مع المندوبين الصربيين بالقسطنطينية الطلبات المذكورة أعلاه الصادرة عن أمة صادقة ومنقادة له، وكذا جميع الطلبات الأخرى التي ترفع إليه بواسطة الوفد الصربي ما دامت لا تناقض في شيء لصفة التابعية للدولة العثمانية.

على الباب العالي أن يخبر الدولة الروسية الإمبراطورية عن طريقة الإجراء التي يقتضيها البند (٨) من معاهدة بخارست، وأن يرسل لها الفرمان المحلَّى بالخط الشريف الذي به تمنح الفوائد السابق الكلام عليها.

فلهذا نحن — الموقعين على هذا، المفوضين السياسيين عن جلالة إمبراطور وبادشاه جميع الروسيا، مؤيدين بالأوامر الجليلة الملوكية، باتحادنا مع المفوضين السياسيين عن الباب العالي العثماني — قد قررنا ونظمنا الأصول المذكورة أعلاه التي هي نتيجة البند (٥) من الاتفاق التفسيري والمقرر لمعاهدة بخارست المبرمة بيننا وبين المفوضين السياسيين العثمانيين في المؤتمرات المنعقدة بآق كرمان والمشتمل على ثمانية بنود، فبناءً على ذلك … إلخ.

(١١) واقعة ناورين

وفي ٨ رجب سنة ١٢٤٢ (الموافق ٥ فبراير سنة ١٨٢٧) عرضت إنكلترا رسميًّا على الدولة العلية توسط جميع الدول بينها وبين متبوعيها فلم تقبل ذلك، بل أجابت سفير الإنكليز بتاريخ ١٥ ذي القعدة سنة ١٢٤٢ (الموافق ١٠ يونيو سنة ١٨٢٧) بعد التروِّي والتأمل في عاقبة هذا التداخل أنها لم تسمح ولن تسمح به مطلقًا، فاغتاظت الدول من هذا الجواب الحق، واتفقت كل من فرنسا وإنكلترا والروسيا بمقتضى وفاق تاريخه ١١ ذي الحجة سنة ١٢٤٢ (الموافق ٦ يوليو سنة ١٨٢٧) على إلزام الباب العالي بالقوَّة بمنح بلاد اليونان استقلالها الإداري، بشرط أن يدفع اليونانيون جزية معينة يُتَّفَقُ على مقدارها فيما بعد كما يتفق على حدود الفريقين، وأمهل الباب العالي شهرًا لإيقاف الحركات العدوانية ضد اليونان وإلا فتضطر الدول لاتخاذ طرق أخرى لنفاذ مرغوبها.

ولما بلغت صورة هذه المعاهدة إلى الباب العالي لم يحفل بها، وبعد انقضاء الشهر أصدرت الدول الثلاث أوامرها إلى قوَّاد أساطيلها بالتوجه لسواحل اليونان، وطلبت بعد ذلك من إبراهيم باشا الكفَّ فورًا عن القتال، فأجابهم أنه لا يتلقَّى أوامر إلا من سلطانه أو أبيه، ومع ذلك فإنه قبل إيقاف الحرب مدَّة عشرين يومًا ريثما تأتيه تعليمات جديدة، وتربَّص هو وجنوده على أُهْبَة القتال، واجتمعت سفن الثلاث دول المتحالفة في ميناء ناورين لمنع الدونانمتين التركية والمصرية من الخروج منها.

وفي ٢٨ ربيع الأول سنة ١٢٤٣ (الموافق ٢٠ أكتوبر سنة ١٨٢٧) تكامل اجتماع سفن الدول المتحدة، وكانت الدونانمة الفرنساوية تحت قيادة الأميرال «ريني» والروسية تحت إمرة الأميرال «هيدن»، وكان اللورد كودرنجتون أميرالًا للأساطيل الإنكليزية وقائدًا عامًّا لمراكب الدول بالنسبة لأقدميته في الوظيفة عن زميليه الفرنساوي والروسي، ولم تلبث السفن مقابلةً لبعضها حتى انتشبت نيران الحرب بين الفريقين لسبب واهٍ وسلطت جميع السفن الأوروبية مدافعها على المراكب التركية والمصرية فدمرتها بعد أن استمرَّ القتال عدة ساعات. والسبب في حدوث هذه الموقعة على ماجاء به المؤرخون أن إحدى الحراقات التركية اقتربت في أثناء المناورات الابتدائية من إحدى البوارج الإنكليزية، فأرسل قبطانها ضابطًا في زورق ليستعلم عن سبب اقترابها فأطلق عليه أحد الجنود التركية رصاصة قتلته، وعند ذلك اقتتلت السفينتان وامتدَّ لهيب الحرب إلى باقي السفن حتى انتهت بانتصار الدول المتحدة، وما كانت تقصد فرنسا بتظاهرها هذا إلا اكتساب الاسم والفخر بعد ما ألمَّ بها عقب حروب نابليون وإرجاعها إلى حدودها الأصلية سنة ١٨١٥، وتداخلت إنكلترا خوفًا من استئثار فرنسا بالنفوذ في الشرق؛ ولذا فلم تعد فوائد هذه الواقعة إلا على الروسيا فقط.

ولما وصل خبر هذه الحادثة التي حصلت بدون إعلان حرب كما هي العادة بين الدول المتمدنة إلى الباب العالي أرسل بلاغًا إلى سفراء هذه الدول الثلاثة يقيم فيه الحجة ضدَّ هذا العمل المخالف للقوانين الدولية، ويطلب به أن تمتنع الدول كلية عن التداخل في شئون الممالك المحروسة، وأن تدفع له تعويضًا عن الخسائر التي نجمت من تدمير المراكب العثمانية، فلم يجاوب السفراء على هذا البلاغ، بل قطعوا العلائق مع الباب العالي، ونزلوا إلى مراكبهم مسرعين في ٨ دسمبر سنة ١٨٢٧. وفي ١٨ منه نشر السلطان في جميع الولايات منشورًا عامًّا (خط شريف) يبيِّن فيه سوء مقاصد الدول عمومًا — والروسيا خصوصًا — نحو الدولة العلية؛ أي الدولة الإسلامية الوحيدة، مثبتًا للأهالي على أن الباعث على هذا العدوان الدين لا السياسة، وختمه بحضِّ المسلمين على القتال دفاعًا عن الدين والملة والوطن، فاغتاظت الروسيا لذلك، وأعلنت الحرب على الدولة في ١١ شوَّال سنة ١٢٤٣ (الموافق ٢٦ أبريل سنة ١٨٢٨).

خروج العساكر المصرية من مورة

هذا؛ ولما رأى إبراهيم باشا تألُّب الدول على الدولة العلية، وأن فرنسا أمرت بإرسال جيش عظيم لمحاربته وتتميم استقلال اليونان، اتَّفَقَ في ٢١ محرم سنة ١٢٤٤ (الموافق ٣ أغسطس سنة ١٨٢٨) — بناءً على أوامر والده — مع الدول المتحدة على إخلاء مورة والرجوع إلى مصر على ما بقي من السفن المصرية غير تارك فيها سوى ألف ومائتيْ جندي للمحافظة على مودون وكورون وناورين ريثما تستلمها العساكر العثمانية. وفي ٢٦ صفر (الموافق ٧ سبتمبر التالي) ابتدأ انسحاب الجنود المصرية، وكانت كلما أخلت محلًّا دخله الفرنساويون الذين نزلوا ببلاد اليونان في ١٧ صفر (الموافق ٢٩ أغسطس) تحت قيادة الجنرال «ميزون». وبذلك انتهت مأمورية إبراهيم باشا التي كادت تتم على يديه ومن معه من الجنود المصرية لولا اتفاق الدول على سلخ هذه الولاية المهمة من أملاك الدولة، سعيًا وراء إضعافها؛ حتى يتمكنوا من تنفيذ مآربهم. وفي ٨ جمادى الأولى سنة ١٢٤٤ (الموافق ١٦ نوفمبر سنة ١٨٢٨) عقدت الدول الثلاث مؤتمرًا في مدينة لندن لتقرير أحوال اليونان، ودعت إليه الدولة فأبت عن إرسال مندوب من طرفها حتى لا يعد ذلك إقرارًا منها على ما يتفق عليه، وما فعلوه من مساعدة اليونان على الاستقلال.

فلم تعبأ الدول بهذا الإباء، بل اجتمع مندوبوها في اليوم المعين، واتفقوا على استقلال مورة وجزائر سكلاده واجتماعها على هيئة حكومة مستقلة يحكمها أمير مسيحي تنتخبه الدول ويكون تحت حمايتها، وعلى أن تدفع الحكومة اليونانية للباب العالي جزية سنوية قدرها خمسمائة ألف قرش، فلم يقبل الباب العالي هذا القرار الصادر من دول غير مختصة فيما يقع بينه وبين متبوعيه، واشتغل بمحاربة الروسيا التي أعلنت الحرب عليه بعد أن دمَّرت دونانمته، وقبل أن يتمَّ استعداد الجيش النظامي الجديد الذي أخذ في إنشائه وتدريبه بعد إلغاء ظائفة الانكشارية كلية. ولنقف هنا هنيهة نأتي فيها بذكر ما حصل عند إلغائها من الحروب الداخلية وكيفية الوصول إلى هذه الغاية الحميدة.

(١٢) إلغاء طائفة الانكشارية

لما تحقَّق السلطان محمود أفضلية النظامات العسكرية المستعملة في جيوش أوروبا، وسمع بما أتته الجنود المصرية المنتظمة من الأعمال الباهرة في محاربة مورة، وعلم أن انتصارات إبراهيم باشا على اليونانيين لم تكن إلا نتيجة النظام العسكري، زاد تعلقه بإصلاح العسكرية، وأراد إتمام المشروع الذي لم يمكن السلطان سليم الثالث إتمامه، فجمع جميع ذوات وأعيان المملكة وكبار ضباط الانكشارية في بيت المفتي في أوائل سنة ١٨٢٦ مسيحية (الموافقة سنة ١٢٤١ هجرية).

ولما تكامل الحضور خطب فيهم الصدر الأعظم سليم محمد باشا، مظهرًا ما وصلت إليه حالة الانكشارية من الضعة والانحطاط وعدم الانقياد لرؤسائها، حتى صارت من أكبر دواعي تأخر الدولة العلية بإزاء تقدُّم الدول الأوروبية المستمرِّ، بعد أن كانت هذه الفئة من أكبر عوامل تقدُّم الدولة وامتداد فتوحاتها، ثم أَبَانَ لهم ضرورة إدخال النظام العسكري في أورط الانكشارية؛ إذ لا يمكنها بحالتها الحالية الوقوف أمام الجيوش الأوروبية المنتظمة.

فلما اقتنع الحاضرون بإصابة فكره وضرورة إصلاح الجندية وأقروا على هذا المبدأ الحسن، قام كاتب سر (مكتوبجي) الصدر الأعظم وتلا عليهم مشروعًا محتويًا على ستة وأربعين بندًا ذكر بها بكل إيضاح كيفية التنظيمات المراد إدخالها، وبعد إقرار الجمعية عليه حَرَّر بذلك محضرًا ختمه جميع الحاضرين حتى ضباط الانكشارية، وأفتى المفتي بجواز العمل بها شرعًا ومعاقبة من يعارض في إنفاذها، ثم تلا المشروع على جميع ضباط الانكشارية فأقرُّوا عليه، لكن لم تكن موافقتهم إلا ظاهرية فقط؛ فإنه لما ابْتُدِئَ في تعليم الضباط بمعرفة من تعين من ضباط الإفرنج بصفة معلمين تنبَّه الانكشارية إلى عواقب الأمر، وعلموا أنه لو تَمَّ هذا النظام كان سببًا في ضياع كافة امتيازاتهم من جهة، وأُلزِموا بمراعاته مع ما فيه من سلب حرِّيتهم من جهة أخرى، أخذوا يستعدُّون للثورة والعصيان؛ ليوقفوا تنفيذه كما فعلوا قبلًا واستمالوا بعض الرعاع الذين اتبعوهم طمعًا في السلب والنهب.

ولما كان يوم ٨ ذي القعدة سنة ١٢٤٠ (الموافق ١٥ يونيو سنة ١٨٢٦) تعرَّض بعضهم للجند وقت التمرين؛ فأصدر السلطان أمره بمعاقبة كل متعرض لهم بالقتل؛ ولذا تجمَّع المتعصِّبون في مساء ذلك اليوم وتآمروا على العصيان.

وكان السلطان في سراي بشكطاش، فحضر على الفور إلى سرايته وجمع العلماء، وأخبرهم بما ينويه الانكشارية، فاستقبحوا عملهم، وشجعوه على المقاومة؛ فاستدعى آلايات الطوبجية التي نظمها نوعًا عقب توليته، واستعدَّ لقتال الثائرين، وعزم على عدم التساهل معهم خوفًا من تفاقم شرورهم واسترسالهم في التمرُّد والطغيان.

وفي صباح ٩ ذي القعدة (الموافق ١٦ يونيو) أخرج السلطان العَلَمَ النبوي الشريف، وسار بجنود الطوبجية يتقدَّمه العلم إلى ساحة «آت ميداني»، حيث كان الثائرون مجتمعين في هرج ومرج لا مزيد عليهما، وتبعه كثير من العلماء والطلبة، ولم يمضِ قليل حتى أحاطت الطوبجية بالميدان، واحتلت جميع المرتفعات المشرفة عليه، وسلطت مدافعها على الانكشارية من كل صوب، فخرج جميع الانكشارية، وتجمهروا قاصدين الهجوم على المدافع للاستيلاء عليها؛ فقذفت عليهم من صيب قللها ما أوقعهم في الفشل، وأيقنوا معه أن لا طاقة لهم على مقاومتها؛ فعكفوا إلى ثكناتهم طالبين النجاة، لكن أنَّى لهم ذلك وقد سُلِّطَتْ أفواه المدافع عليها فهدمتها، وأُشعِلت فيها النيران حتى دمرتها على من التجأ إليها، وبذلك انتهت هذه الفتنة المريعة.

وفي اليوم التالي صدر فرمان سلطاني بإبطال فئتهم كلية وملابسها واصطلاحاتها واسمها من جميع الممالك المحروسة، ونودي بذلك في الشوارع، وصدرت الأوامر إلى جميع الولايات بالتفتيش على كل من بقي منهم وإعدامه أو نفيه إلى أطراف البلاد؛ حتى لا تبقى منها باقية؛ ومن ثم أخذ السلطان في ترتيب وتنظيم الجيوش بهمة لم يمسسها ملال، وعيَّن لإدخال هذه التنظيمات لجنة من أكابر الوزراء، وقلد حسين باشا الذي كانت له اليد الطولى في إبادة الانكشارية قائدًا عامًّا لهم (سر عسكر)، وبذل السلطان ومشيروه اهتمامهم، حتى لم تمضِ السنة إلا وقد تمَّ تنظيم عشرين ألفًا، وتمت المعدات لإبلاغهم في ختام السنة التالية مائة وعشرين ألفًا.

(١٣) الحرب مع الروسيا ومعاهدة أدرنة

هذا؛ ولنرجع إلى ذكر الدولة الروسية وبيان ما تمَّ بالنسبة لليونان واستقلالها فنقول: بمجرد ما أعلنت الروسيا الحرب سارت جيوشها التي كانت منتظرة ومتأهبة على الحدود، واجتازت نهر «بروث» الفاصل بين أملاك الدولتين، واحتلت مدينة «ياش» عاصمة البغدان.

وفي ٢٨ ذي القعدة سنة ١٢٤٣ (الموافق ١٣ مايو سنة ١٨٢٨) دخلت «بوخارست» — عاصمة الأفلاق — وقبضت على حاكمي الولايتين، وصارت إدارتهما في أيدي مندوبين من طرفهما، وبعد ذلك احتلت الجيوش الروسية البلاد العثمانية إلى نهر الطونة وعدة مدن واقعة على ضفتيه، واجتازته بدون كثير ممانعة، ثم حاصرت مدينة «وارنة» برًّا وبحرًا لعدم وجود مراكب عثمانية تحميها من جهة البحر بعد واقعة ناورين، وأتى القيصر نقولا بذاته لمراقبة الحصار، وبعد قليل سار في جيش عظيم لمحاصرة السر عسكر حسين باشا في مدينة «شوملة»، واحتل مدينة «اسكي استانبول» للتمكن من كمال محاصرتها، لكن لم يلبث أن رفع عنها الحصار لما شاهده من انتظام الجيوش الجديدة، وجمع كل قواه حول مدينة وارنة.

وقد تمكن القبودان باشا عزت محمد من إدخال المدد إليها بحرًا رغمًا عن مراقبة السفن الروسية، ودخل هو أيضًا إليها وتولَّى الدفاع عنها، وأتى من جهة البر السر عسكر حسين باشا لإشغال المحاصرين لها؛ ولذلك كاد القيصر ييأس من دخولها لولا خيانة أحد القوَّاد المدعو يوسف باشا؛ فإنه سلمها إلى الروس في أوَّل ربيع الثاني سنة ١٢٤٤ (الموافق ١٠ أكتوبر سنة ١٧٢٨)، والتجأ إلى بلادهم فرارًا من العقاب وليتمتع بثمرة خيانته. ومن جهة آسيا احتلَّ الروس عدَّة قلاع وحصون أهمها قلعة قارص الشهيرة، ثم توقف القتال بسبب اشتداد البرد وتراكم الثلوج. وبالاختصار فقد شهد الروس أنفسهم أن نتائج الحرب كانت أقل مما كانوا ينتظرون، وما ذلك إلا لإلغاء طائفة الانكشارية وترتيب الجيوش الجديدة وإطاعتها لأوامر رؤسائها إطاعةً عمياء.

ومما يؤيد ذلك ما كتبه المسيو «بوتزودي بورجو»٨ — سفير الحكومة الروسية بباريس — في رسالة مؤرخة في نوفمبر سنة ١٨٢٨، وملخصها أن الجنود الروسية لاقت من الجيوش العثمانية الجديدة ما لم تُعَانِهِ قبلًا من الانكشارية، ولو تأخرت الروسيا في إشهار الحرب على الباب العالي سنة واحدة لما أمكنها أن تتحصل على النتائج التي تحصلت عليها في هذه السنة. ا.ﻫ.

وفي ذلك برهان كافٍ على إصابة رأي السلطان محمود الغازي وأصالة فكره في إلغاء طائفة الانكشارية، لكن لم تكن الجيوش المنتظمة كافية لاستمرار القتال لقلة عددها بالنسبة لجيوش الروسية الكثيرة العدد؛ ولذلك لما استؤنف القتال في ربيع سنة ١٨٢٩ كان الفوز غالبًا للجيوش الروسية رغمًا عما بذله القوَّاد العثمانيون من المهارة في ضروب القتال، وما أظهرته الجنود المنتظمة من الثبات والانتظام.

ولنقل باختصار بدون تفصيل: جميع الوقائع التي حصلت بين الجيشين في فصلي الربيع والصيف أن الجيوش الروسية اجتازت نهر الطونة، ثم اخترقت جبال البلقان بعد أن تغلبت على من عارضها من الجيوش العثمانية، وأخيرًا وصلت إلى مدينة أدرنة واحتلتها عنوة، وعند ذلك لم يبقَ أمامها عائق يوقفها عن التقدم إلى مدينة الآستانة المحمية إلا عدم رغبة الدول في سقوطها في أيدي الروسيا واتفاقها ضمنًا على إضعاف الدولة العلية إلى حدٍّ لا يمكنها معه التقدم والارتقاء مع بقائها عقبة في سبيل الروسيا وحاجزًا بينها وبين البحر الأبيض المتوسط، ولذلك لما رأت أن الروس قد اقتربوا منها وصاروا على طريقها وسيصلون إليها لا محالة لو لم يتداخلوا بشدَّة، تخابرت مع الدولتين المتحاربتين، فأوقفت الروسيا جيوشها، ودارت المخابرات بينهما بتوسط مملكة بروسيا حتى تمَّ الصلح، وأمضيت به معاهدة بمدينة أدرنة في ١٥ ربيع الأوَّل سنة ١٢٤٥ (الموافق ١٤ سبتمبر سنة ١٧٢٩) هذا نصها:
  • البند ١: كل عداوة ومجافاة بقيت لغاية الآن بين الدولتين تنقطع من تاريخ هذا اليوم، سواء كانت برِّية أو بحرية، ويخلفها الصلح الأبدي والمحبة وحسن الموافقة بين جلالة إمبراطور وبادشاه جميع الروسيا وبين عظمة إمبراطور وبادشاه العثمانيين، وكذا بين الوارثين والمتعاقبين على عرش المملكتين، ويبذل الطرفان الساميان المتعاقدان ما في وسعهما من الانتباه الزائد لمنع جميع ما من شأنه توليد الشقاق بين رعاياهما، ويقومان بتنفيذ جميع شروط معاهدة الصلح الحالية بغاية العناية، ويعتنيان أيضًا بأنها لا تنكث بأي كيفية، سواء كانت مباشرة أو غير مباشرة.
  • البند ٢: حيث إن جلالة إمبراطور وبادشاه جميع الروسيا يريد أن يبرهن لعظمة إمبراطور وبادشاه العثمانيين على إخلاص ميوله الودِّية فيعيد إلى الباب العالي إمارة البغدان بحدودها التي كانت عليها قبل ابتداء الحرب التي انتهت بالمعاهدة الحالية وإمارة الأفلاق ومقاطعة قره جه أدوه بدون أيِّ استثناء والبلغار وإقليم دوبروجه من الدانوب لغاية البحر، مع مدائن سيلستريه، وحرصو، وماجين، وإيزا كنجه، وتولتتا، وباباطاغ، وبازارجق، ووارنة، وبرافودي، وجميع المدن والضياع والقرى التابعة لها، وجميع بلاد البلقان من أمينه بورنو لغاية قزار، والإقليم الممتدَّ من بلاد البلقان إلى البحر الأسود مع مدائن سليمنا، وتشامبولي، وإيدا، وكرنيات، وميسيمبزيا، وأوكهيولي، وبورجاس، وسيزيبولي، وقرق قلدس، وأدرنة، ولوله، وبورجاس، وأخيرًا جميع البلاد والضياع والقرى، وعمومًا جميع الأمكنة، التي احتلتها جنود الروسيا من بلاد الرومللي.
  • البند ٣: يستمرُّ نهر بروث لأن يكون الحد الفاصل بين الدولتين من النقطة التي يمس فيها تخوم البغدان لغاية التقائه مع الدانوب، ومن هذا المكان تتجه التخوم بمحاذاة مجرى الدانوب لغاية مصب ماري جرجس بحيث إن جميع الجزائر المتكوِّنة بفروع هذا النهر المختلفة تكون ملكًا للروسيا. وأما الشاطئ الأيمن منه فيبقى تابعًا للباب العثماني كالسابق، ومع ذلك فقد اتفق على أن الشاطئ الأيمن المذكور من المكان الذي فيه ينفصل فرع ماري جرجس عن فرع سولينيه يبقى غير مسكون على بعد ساعتين من هذا النهر، وأن لا يشيَّد به مبانٍ من أي نوع كان، وكذلك في الجزائر التي تبقى في ملك دولة الروسيا، ويستثنى من ذلك الكورنتينات التي تعمل فيها، ولا يسمح مطلقًا بأن يشيد فيها أي بناء آخر ولا استحكامات ومراكب الدولتين التجارية يكون لها الحق في الملاحة بالدانوب في جميع طوله، والمراكب الحاملة للعلم العثماني يمكنها أن تدخل بدون ممانعة في مصبيْ قبلي وسولينيه. أما مصب ماري جرجس فتمرُّ فيه مراكب الدولتين الحربية والتجارية، ولكن المراكب الحربية الروسية لا يمكنها عند صعودها في الدانوب أن تتجاوز محل التقائه مع البروث.
  • البند ٤: بما أن مقاطعات الكرج والأمريثيا ومنكريل وجوريل وغيرها من مقاطعات القوزاق منضمة من سنين عديدة وعلى الدوام إلى المملكة الروسية، وبما أن هذه الدولة قد اكتسبت بالمعاهدة المبرمة مع دولة العجم ببلدة تورامان جاي في ١٠ فبراير سنة ١٨٢٨ خلاف ذلك خانات أريفان وناخيتشيفان، فالدولتان العليتان المتعاقدتان قد علمتا ضرورة تحديد ممالكهما في هذه الجهة بحيث إن هذا التحديد يكون معينًا تعيينًا تامًّا ضامنًا لاجتناب كل اختلاف أو نزاع في المستقبل. وقد شرعتا من جهة أخرى في اتخاذ الطرق الفعالة لردِّ هجمات وصدِّ إغارات الأمم المجاورة التي كانت تجريها لغاية الوقت الحاضر، والتي كانت غالبًا السبب الوحيد في نقض الصلات الودية وحسن المجاورة بين الدولتين.

    وبناءً على ذلك فقد اتفق بين حكومتي الدولة الإمبراطورية الروسية وبين الباب العالي العثماني بأن تكون حدود ولايات المملكتين بآسيا من الآن فصاعدًا خطًّا يتبع الحدود الحالية لإقليم جوريل من ابتداءِ البحر الأسود ثم يصعد لغاية حدود مقاطعة أميريثيا، ومن هناك يعرج نحو الاتجاه الأكثر استقامة لغاية مكان التقاء حدود ولايات أخلتزيك وقارص مع ولايات الكرج، بحيث تكون مدينة أخلتزيك وقلعتها في شمال هذا الخط على مسافة ليست بأقل من ساعتين. أما جميع البلدان الكائنة في الجنوب والغرب من خط التحديد المذكور، القريبة من ولايتيْ قارص وطرابزون بما فيها الجزء الأعظم من ولاية أخلتزيك فإنها تبقى على الدوام تحت حكم الباب العالي.

    وأما البلاد الكائنة في الشمال والشرق من الخط المذكور، القريبة من الكرج وأميريثيا وجوريل، وكذلك جميع شواطئ البحر الأسود من مصب نهر قوبان لغاية ميناء ماري نقولا بما فيها هذه الميناء فإنها تبقى إلى الأبد تحت حكم المملكة الروسية، فبناءً على ذلك ترد حكومة الروسيا الإمبراطورية إلى الباب العالي باقي ولاية أخلتزيك وكذا مدينة وولاية قارص، وأيضًا مدينة وولاية بايزيد، ومدينة وولاية أرضروم، وجميع الأماكن المحتلة لها جيوش الروسيا والتي توجد خارجًا عن الخط المذكور أعلاه.

  • البند ٥: حيث إن إمارتي البغدان والأفلاق قد قبلتا أن تكونا تحت سيادة الباب العالي بمقتضى القوانين الأساسية للإمارتين، وبما أن دولة الروسيا قد ضمنت نجاحهما؛ فقد صار الاتفاق على أنهما تحفظان جميع الامتيازات والاختصاصات التي ضمنت لهما، سواء كانت بمقتضى القوانين الأساسية للبلاد أو بحسب نص المعاهدات المبرمة بين الدولتين أو المؤيدة بالخطوط الشريفة الصادرة في أزمنة مختلفة، وبناءً على ذلك تتمتع هاتان الدولتان بالحرية الدينية وبالأمن العمومي، ويكون لهما إدارة أهلية مستقلة بحرية التجارة. وأما القيود اللازم إضافتها إلى الاشتراطات المتقدِّمة لضمان تمتع هذين الإقليمين بحقوقهما فقد اتفق عليها في العقد المنفصل المرفق بهذا المعتبر كجزء من المعاهدة الحالية.
  • البند ٦: بما أن الظروف التي حصلت من ابتداء عقد اتفاق آق كرمان لم تسمح للباب العالي بالاهتمام في تنفيذ ما جاء بالعقد المنفصل المختص بالصرب الملحق بالبند (٥) من الاتفاق المذكور، فهو يتعهَّد بكيفية جلية بأن يقوم بتتميمها بدون أدنى إمهال وبالضبط الأتم، وخصوصًا في أن يعيد الستة الأقسام المنفصلة عن الصرب إليها؛ حتى تتمتع هذه الأمة الصادقة الطائعة بالراحة والرفاهية، أما الفرمان الموشَّى بالخط الشريف الذي يصدر بتنفيذ القيود المذكورة فيرسل إلى دولة الروسيا الإمبراطورية، وتعلن به رسميًّا في ميعاد شهر من تاريخ التصديق على هذه المعاهدة.
  • البند ٧: يتمتع رعايا الروسيا في سائر أنحاء المملكة العثمانية برًّا أو بحرًا بحرِّية التجارة التامة التي تكفلها لهم المعاهدات المبرمة سابقًا بين الدولتين العظيمتين المتعاقدين، ولا يصح مس حرية التجارة بأيِّ وجه كان، ولا يمكن أن تعطَّل في أي حال من الأحوال ولا بأي حجة كانت، ولا يضيق نطاقها مطلقًا ولا بسبب أي قرار أو تعديل، سواء كان من جهة الإدارة أو من جهة القضاء في داخلية البلاد، والرعايا والسفن والتجار الروسيون يكونون في حمًى من كل شدَّة في المعاملة، ويبقى الرعايا الروسيون تحت السلطة القضائية والبوليس الخاصين بوزير وقناصل الروسية.

    وأما المراكب الروسية فلا يحصل بها مطلقًا أي تفتيش من جهة الحكومة العثمانية لا في شاسع البحار ولا في داخل أي ميناء أو موردة مما يدخل تحت حكم الباب العالي، وكل أنواع المتجر أو الغلال المملوكة لأحد رعايا الروسيا يمكن بيعها بكل حرية بعد تسديد عوائد الجمارك عنها بمقتضى التعريفات أو أن تنزل إلى البر في مخازن صاحبها أو عميله، بل ويصحُّ نقلها على سفن أخرى أيًّا كانت جنسيتها بدون أن يحتاج التابع الروسي في هذه الحالة لأن يشعر الحكومة المحلية ولا أن يطلب إذنًا بذلك مطلقًا. وقد اتفق اتفاقًا صريحًا على أن أنواع القمح الآتية من الروسيا تتمتع بنفس هذه الامتيازات، وأن نقلها من أراضي الدولة لأي جهة لا يحصل فيه أقل صعوبة أو ممانعة مطلقًا ولا بأي حجة، وما عدا ذلك فيتعهد الباب العالي بأن يتيقظ بكل اعتناء إلى عدم حصول أي تعطيل مهما كانت طبيعته للتجارة والملاحة في البحر الأسود على الخصوص. وللوصول إلى هذا الغرض يعترف ويعلن بأن المرور في قنال القسطنطينية وببوغاز الدردنيل يكون بحرية تامة وأنهما مفتوحان للسفن الروسية الحاملة للعلم التجاري، سواء كانت مشحونة أو مصبرة، وسواء كانت آتية من البحر الأسود بقصد الدخول في البحر الأبيض المتوسط أو عابرة من البحر الأبيض المتوسط تريد الدخول في البحر الأسود، وما دامت هذه السفن تجارية فمهما كانت كبيرة ومهما كان قدرها لا تكون معرضة لأدنى مانع أو لأي تعدٍّ كما تقرَّر ذلك أعلاه.

    وتتفق الدولتان على اتخاذ أنجح الطرق للتوقي من أي تأخير في تخليص المراسلات الضرورية، فبناءً على نفس هذه القاعدة يعلن بأن المرور من قنال القسطنطينية وبوغاز الدردنيل يكون حرًّا ومفتوحًا لجميع المراكب التجارية التابعة للممالك الموجودة في حالة الصلح مع الباب العالي، سواء كانت متوجهة نحو الموانئ الروسية التي على البحر الأسود أو آتية مشحونة أو مصبرة، وذلك بمقتضى الشروط عينها التي اشترطت بخصوص السفن الحاملة للعلم الروسي.

    وأخيرًا؛ بما أن الباب العالي يعترف بما لحكومة الروسيا الإمبراطورية من الحق في أن تتأكد من الضمانة التامة لهذه الحريَّة التجارية ومن الملاحة في البحر الأسود بتلك الكيفية، فهو يعلن على رءوس الأشهاد بأنه لا يحصل في ذلك مطلقًا من جهته أدنى عائق مهما كان ولا بأي حجة كانت، ويتعهد خصوصًا بأنه لا يستبيح لذاته من الآن فصاعدًا إيقاف أو إلقاء القبض على السفن المشحونة أو المصبرة، سواء كانت روسية أو تابعة للممالك التي لا تكون الدولة العثمانية معها في حالة حرب معلن حينما تكون مارة بقنال القسطنطينية وبوغاز الدردنيل لأجل أن تتوجه من البحر الأسود إلى البحر الأبيض المتوسط أو بالعكس.

    وإذا حصل — لا سمح الله — مخالفة لبعض الاشتراطات التي اشتمل عليها البند الحالي بدون أن تنال طلبات وزير الروسيا بهذا الشأن الترضية التامة في أسرع وقت، فالباب العالي يعترف مقدمًا لحكومة الروسيا الإمبراطورية بأن لها الحق في أن تعتبر هذا الخلف كعمل عدائي، وأن لها الحق في أن تقابل الدولة العثمانية بمثله.

  • البند ٨: بما أن الوفاقات التي اشترطت سابقًا في البند السادس من اتفاق آق كرمان، التي موضوعها تنظيم وتصفية طلبات الرعايا والتجار التابعين للطرفين بخصوص تعويضات الخسائر التي نشأت في أزمنة مختلفة من حرب سنة ١٨٠٦ لم تنفذ، وبما أن التجارة الروسية من منذ عقد اتفاق آق كرمان المتقدِّم ذكره قد حصل لها خسائر جسيمة أخرى بسبب الترتيبات التي صدرت بخصوص الملاحة في البوسفور، فقد اتفق وتقرَّر بأن الباب العالي العثماني يدفع لحكومة الروسية الإمبراطورية تعويض هذه الأضرار والخسائر — في مدة ثمانية عشر شهرًا وفي مواعيد تعين فيما بعد — مبلغ مليون وخمسمائة ألف دوقة هولاندية بحيث إن تسديد هذا المبلغ يمنع كل طلب أو ادعاء صادر من إحدى الدولتين المتعاقدتين بخصوص الظروف المذكورة أعلاه ضد الأخرى.
  • البند ٩: بما أن طول مدة الحرب التي انتهت بخير بعقد هذه المعاهدة قد تسبَّب عنه لحكومة الروسيا الإمبراطورية مصاريف جسيمة، فالباب العالي يعترف بضرورة تقديم تعويض موافق لتلك الحكومة، ولهذا فإنه عدا عن تنازله عن قطعة صغيرة من الأراضي في آسيا المذكورة في البند (٤)، والتي قبلت حكومة الروسيا باستلامها من أصل التعويض المذكور، فإن الباب العالي يتعهَّد بأن يدفع لها مبلغًا من النقود يقدر فيما بعد باتفاق الطرفين.
  • البند١٠: بما أن الباب العالي قد أعلن تمسكه التام باشتراطات المعاهدة المبرمة في لوندرة بتاريخ ٦ يوليو سنة ١٨٢٧ بين الروسيا وبريطانيا العظمى وفرنسا، فهو يقبل أيضًا بالعقد الذي تقرَّر في ٢٢ مارس سنة ١٨٢٩ باتحاد جميع هذه الممالك فيما يتعلق بخصوص أساس المعاهدة المذكورة، وهذا العقد يشتمل على التنظيمات القنصلية المختصة بتنفيذها نهائيًّا، ففي حال تبادل التصديق على معاهدة الصلح الحالية، وبعد استلام كل طرف نسخته، يعين الباب العالي مفوَّضين سياسيين لكي يتفقوا مع مفوَّضي حكومة الروسيا الإمبراطورية وحكومتيْ إنكلترا وفرنسا بقصد إجراء تنفيذ الاشتراطات والتنظيمات التي سبق الكلام عليها.
  • البند ١١: بعد التوقيع على معاهدة الصلح الحالية بين الدولتين مباشرة وتبادل تصديق الملكين عليها، يشرع الباب العالي في أخذ الاحتياطات الضرورية لتنفيذ الاشتراطات التي تحتوي عليها بالسرعة وبوجه الدقة، وخصوصًا بنديْ (٣ و٤) الخاصين بالحدود المعينة لفصل المملكتين عن بعضهما، سواء كان في أوروبا أو في آسيا، وكذا بندي (٥ و٦) المختصين بإمارات البغدان والأفلاق والصرب. ومتى جاء الوقت الذي فيه يمكن اعتبار هذه البنود المختلفة كأنها تنفذت فحكومة الدولة الروسية الإمبراطورية تشرع في الجلاء عن أراضي الدولة العثمانية بناءً على القواعد المقرَّرة بعقد منفصل يكون جزءًا متممًا من معاهدة الصلح الحالية. أما إدارة ونظام الأمور التي تكون قد تقرَّرت في هذه الإمارات في الحال تحت رعاية الدولة الروسية الإمبراطورية فإنها تبقى ثابتة لغاية انجلائها انجلاءً تامًّا من الأقاليم المحتلة، والباب العالي العثماني لا يمكنه أن يتداخل فيها بأي كيفية كانت.
  • البند ١٢: بعد التوقيع على معاهدة الصلح الحالية تُعطَى الأوامر في الحال إلى قوَّاد جيوش الطرفين البرية والبحرية بمنع الحرب. أما الوقائع التي تحصل بعد التوقيع على المعاهدة الحالية فتعتبر كأنها لم تحصل ولا تستدعي أدنى تغيير في الشروط التي تشتمل عليها، وبمثل ذلك جميع الأماكن التي تأخذها جيوش إحدى الدولتين العظيمتين المتعاقدتين في هذه المدَّة فإنها تعاد بدون أدنى إمهال.
  • البند ١٣: بما أن الطرفين الفخيمين المتعاقدين قد أعادا فيما بينهما روابط المودَّة الخالصة، فإنهما يمنحان عفوًا عموميًّا لجميع رعاياهما، مهما كانت ظروف أحوالهم وجنسيتهم، وكانوا قد اشتركوا في أثناء الحرب، التي انتهت بحمد الله في هذه الأيام، في الأعمال العسكرية، أو تظاهروا سواء بسلوكهم أو بآرائهم بالميل نحو أحد الطرفين المتعاقدين.

    وبناءً على هذا فأي شخص من أولئك لا يحصل له تكدير ولا يحاكم لا بالنسبة لشخصه ولا في أمواله بسبب سلوكه السالف، ولكل منهم أن يسترد الأملاك التي كان يمتلكها سابقًا، وأن يتمتع بها مطمئنًّا تحت حماية القوانين وإلَّا فله الخيار بأن يتخلَّص منها في مدَّة ثمانية عشر شهرًا لكي ينتقل بعائلته وأمواله المنقولة إلى أي قطر شاء بدون أن يقاسي ظلمًا أو موانع بأي وجه كان.

    وما عدا ذلك فإنه يمنح لرعايا الطرفين القاطنين في البلاد المعادة إلى الباب العالي أو المتنازل عنها لدولة الروسيا الملوكية مدة ثمانية عشر شهرًا أيضًا، ابتداءً من تاريخ تبادل التصديق على معاهدة الصلح لكي يتصرفوا في مملوكاتهم المكتسبة، سواء كان قبل الحرب أو في مدة وقوعه متى رأوا أن ذلك موافق لهم، وليخرجوا بنقودهم ومنقولاتهم من ممالك إحدى الدولتين المتعاقدتين إلى ممالك الأخرى وبالعكس.

  • البند ١٤: جميع أسرى الحرب مهما كانت جنسيتهم وظروف أحوالهم، رجالًا كانوا أو نساءً، الذين يوجدون عند الدولتين يجب إخلاء سبيلهم بدون أقل فدية أو دفع شيء عنهم، وذلك بعد تبادل التصديق على معاهدة الصلح الحالية مباشرة، ويستثنى من ذلك النصارى الذين يعتنقون الديانة المحمدية برضائهم واختيارهم في ممالك الباب العالي، وكذلك المسلمون الذين يعتنقون برضائهم واختيارهم الديانة النصرانية في ممالك الدولة الروسية.

    وهكذا يكون الإجراء أيضًا في شأن الرعايا الروسيين الذين يقعون بأي كيفية كانت في الأسر بعد التوقيع على هذه المعاهدة ويوجدون في ممالك الباب العالي، وكذا دولة الروسيا الإمبراطورية تتعهد من جهتها أيضًا بأن تعمل بموجب الطريقة عينها بالنظر لرعايا الباب العالي.

    ولا يقتضى مطلقًا دفع المبالغ التي تكون أنفقتها إحدى الدولتين العظيمتين المتعاقدتين على الأسارى، بل كل منهما يزوِّدهم بجميع ما يكون ضروريًّا لهم لسفرهم لغاية الحدود، وهناك يحصل التبادل فيهم بواسطة مأمورين معينين من كلا الطرفين.

  • البند ١٥: جميع المعاهدات والاتفاقات والاشتراطات المقرَّرة التي أبرمت في أعصار مختلفة بين حكومة الروسيا الإمبرطورية والباب العالي العثماني ما عدا البنود التي تخالف المعاهدة الصلحية الحالية، فإنها تبقى معمولًا بها بكل قوَّة معانيها ومبانيها، ويتعهد الطرفان الفخيمان المتعاقدان بأن يعتنيا بملاحظتها الملاحظة التامة وعدم مخالفتها مطلقًا.
  • البند ١٦: المعاهدة الحالية هذه يصدَّق عليها … إلخ.

ملحق مختص بولايتي الأفلاق والبغدان تاريخه ١٤ سبتمبر سنة ١٨٢٩

زيادة على اتفاق الحكومتين العظيمتين المتعاقدتين على جميع ما اشترط بالعقد المنفصل عن الاتفاق المبرم في آق كرمان المختص بكيفية انتخاب ولاة البغدان والأفلاق، فقد اعترفنا بضرورة إعطاء إدارة هاتين الإمارتين أساسًا أعظم ثباتًا وأكثر موافقة للصالح الحقيقي في هاتين الولايتين، وللوصول لهذا الغرض قد اتفق وتقرر نهائيًّا بأن مدَّة حكم الولاة لا تكون أبدًا مقصورة على سبع سنوات كما كان حاصلًا في الماضي، بل إنهم يتقلدون من الآن فصاعدًا هذا المنصب مدَّة حياتهم ما عدا أحوال الاستعفاء أو العزل بسبب الارتكابات المنصوص عنها في العقد المنفصل المذكور.

ينظم الولاة الأحوال الداخلية لولاياتهم بكمال الحرية بالاستشارة مع دواوينهم بدون أن يتمكَّنوا من مَسِّ الحقوق المضمونة للقطرين بالخطوط الشريفة بأدنى شيء، وبدون أن يكونوا مشوَّشين في إدارتهم الداخلية بأي مخالف لهذه الحقوق، ثم إن الباب العالي يَعِدُ ويتعهَّد بأنه يتيقَّظ تيقظًا تامًّا إلى عدم مس الامتيازات الممنوحة إلى البغدان والأفلاق بأي كيفية كانت بواسطة قوَّاده المجاورين لحدودهما، وأن لا يتحمل أي تدخل منهم في أحوال الإمارتين، وأن يمنع كل توغل من سكان الشاطئ الأيمن من نهر الطونة في التخوم البغدانية أو الأفلاقية، ويعتبر كجزء مكمل لهذه التخوم جميع الجزائر المجاورة للشاطئ الأيسر من الدانوب، ومجرى هذا النهر يعتبر حدًّا للإمارتين من ابتداء مدخله في الممالك العثمانية لغاية التقائه مع نهر البروث.

ولأجل التثبت جيدًا من عدم استباحة تخوم البغدان والأفلاق، فإن الباب العالي يتعهد بأن لا يبقى بها أي مكان محصن، وأن لا يسمح بتشييد أي بناء لرعاياه المسلمين على الشاطئ الأيسر للدانوب، وبناءً على ذلك فقد تقرَّر تقريرًا لا تغيير معه في امتداد جميع هذا الشاطئ وفي الأفلاق الكبيرة أو الصغيرة، وكذا في البغدان لا يمكن لأي مسلم أن يتخذ مسكنًا ثابتًا في بقعة منها، وإنما يقبل فيها التجار الحاملون لفرمانات فقط ليشتروا على حسابهم الخاص من تينك الولايتين المحصولات الضرورية لمقطوعية القسطنطينية أو أشياء أخرى.

أما البلاد التركية الواقعة على الشاطئ الأيسر للدانوب فإنها تسلم إلى الأفلاق لتنضمَّ من الآن فصاعدًا إلى هذه الولاية، وكذا الحصون الموجودة من سابق على هذا الشاطئ لا يمكن إعادتها ثانيًا، ويجبر الذين يمتلكون عقارات غير مغتصبة من الغير، سواء كانت في هذه المدن أو في أي نقطة غيرها على الشاطئ الأيسر المذكور على بيعها للوطنيين في مدَّة ثمانية عشر شهرًا. وحيث إن حكومة الإمارتين متمتعة بجميع امتيازات الإدارة الداخلية المستقلة فيمكنها بكل حرية أن تقيم كردونات صحية وقورنتينات بمحاذاة طول الدانوب وفي أمكنة أخرى على حسب البلاد التي تحتاج لذلك بدون أن يتمكن أحد من الأجانب الآتين إليها، سواء كان مسلمًا أو نصرانيًّا، من أن يتخلَّى عن ملاحظة القواعد الصحية بكل دقة.

أما من جهة مصلحة القورنتينات وكذا من جهة التيقظ للأمن بالحدود واستتباب النظام في المدن والأرياف وتنفيذ القوانين والقرارات، فإنه يمكن لحكومة كل ولاية أن تستخدم عددًا من الحرس المسلمين الذين تدعو إليهم الضرورة ليقوموا بأعباء هذه الوظائف، وعدد هؤلاء الحراس والاعتناء بشأنهم يقرَّر بمعرفة الولاة بالاتفاق مع دواوينهم بمقتضى القواعد القديمة.

حيث إن الباب العالي مشغوف برغبته المخلصة بأن يُدخل في الإمارتين جميع أنواع الراحة الممكنة لهما، ولوقوفه على أنواع الظلم والتعدِّيات التي تحصل فيهما بسبب المؤن المطلوبة للقسطنطينية وللقلاع القائمة على ضفاف الدانوب واحتياجات الترسخانة، فهو قد تنازل بالكلية عن حقه في هذا الخصوص، وبناءً عليه فالأفلاق والبغدان قد عُوفِيَتَا أبديًّا من تقديم الحبوب والمحصولات الأخرى والأغنام وأخشاب البناء التي كانتا ملزمتين بتوريدها سابقًا، وبهذه المثابة لا يطالب سكان هاتين الولايتين في أي حال من الأحوال بعمال للاشتغال بتشييد الحصون ولا لأي سخرة مهما كان نوعها، ولكن لكي تعوَّض الخزينة الملوكية عن الخسائر التي يمكن أن تتكبدها من ترك كل حقوقها المذكورة فقد تقرَّر أن يدفع كل من البغدان والأفلاق سنويًّا للباب العالي نظير ذلك مبلغًا من النقود يتعيَّن مقداره فيما بعد باتفاق الطرفين، هذا بخلاف الجزية السنوية التي يجب على الإمارتين دفعها إلى الباب العالي باسم خراج وغيره بمقتضى عبارة الخطوط الشريفة المحرَّرة في سنة ١٨٠٢، وكذلك فإنه عند تجديد الولاة بسبب الموت أو الاستعفاء والعزل القانوني للمقلد، فالولاية التي يحصل فيها ذلك تجبر بأن تدفع للباب العالي مبلغًا مكافئًا للخراج السنوي للولاية المقرَّر بالخطوط الشريفة، وما عدا هذه المبالغ فلا يطلب من البلاد ولا من الولاة أي خراج آخر ولا تعيين ولا هدية بوجه من الوجوه.

بما أن التوريدات المنوه عنها أعلاه قد ألغيت، فسكان الإمارتين يتمتعون بحرية التجارة تمتعًا تامًّا بمحصولات أرضهم وبصناعتهم (المشترط ذلك بالعقد المنفصل من اتفاق آق كرمان) بدون أدنى تضييق ما خلا التحوطات التي يتخذها الولاة بالاتحاد مع دواوينهم ويرون أنه من الضروري تقريرها لعدم وقوع القحط في البلاد، ويمكنهم أن يسافروا بحرية على الدانوب بمراكبهم الخصوصية مصحوبين ببطاقة الجواز من حكومتهم، ويتوجهوا للاتجار في المدن والموانئ الأخرى التابعة للباب العالي بدون أن يحصل لهم تعب أو نصب من جباة الخراج، ولا أن يكونوا معرضين لأي أمر آخر ظلمي.

وزيادة على ذلك فإن الباب العالي عندما تأمَّل جميع المصائب التي تحملتها البغدان والأفلاق وتحرَّكت فيه عواطف الإنسانية بكيفية خصوصية قد قبل بإعفاء سكان هاتين الإمارتين من دفع الخراج السنوي وتوريده للخزينة مدَّة سنتين ابتداءً من اليوم الذي تنجلي فيه الجيوش الروسية تمامًا عن الإمارتين.

وأخيرًا؛ فإن الباب العالي لما له من الرغبة في تمكين الرفاهية في المستقبل بالإمارتين بجميع الكيفيات، فهو يتعهد تعهدًا صريحًا بأن يوافق على اللوائح الإدارية التي تقرَّرت بناءً على رغبات مجالس أعيان السكان، وذلك في مدَّة احتلال جيوش الدولة الإمبراطورية للإمارتين، وبأنه يعتبر اتخاذ تلك القرارات في المستقبل أساسًا لسن الأحكام الداخلية في الولايتين ما دامت هذه القرارات لا تشتمل على أدنى مخالفة لحقوق سيادة الباب العالي كما هو مفهوم.

فلهذا نحن — الموقعين على هذا، المفوضين السياسيين عن جلالة إمبراطور وبادشاه جميع الروسيا، بالاتفاق مع المفوضين السياسيين عن الباب العالي العثماني — قد قررنا بخصوص البغدان والأفلاق الشروط المذكورة أعلاه التي هي نتيجة «البند ٥» من معاهدة الصلح المبرمة في أدرنة بيننا وبين المفوَّضين السياسيين العثمانيين، وبناءً على هذا فالعقد الحالي المنفصل قد تحرر … إلخ ا.ﻫ.

فيظهر للمطالع أن أهمَّ ما جاء بهذه المعاهدة أن نهر البروث يبقى حدًّا بين المملكتين كما كان قبلًا، وأن تتنازل الدولة العلية للروسيا عن مصبات نهر الطونة وما حولها من الأراضي، وعن وادي الخور والقلعة التي به في حدود الأناطول؛ لتكون مانعًا للتواصل بين بلاد الدولة وقبائل الجركس المستقلة؛ لتتمكن الروسيا من الاستيلاء على بلادهم في المستقبل، وأن يكون للروسيا حق الملاحة من البحر الأسود إلى البحر الأبيض؛ أي حق المرور من بوغازي البوسفور والدردنيل بدون أن يفتش عمال الدولة مراكبهم، وأن تعطي الدولة إلى تجار الروس الذين أصابهم ضرر بسبب الحروب تعويضًا ماليًّا قدره ستة عشر مليون فرنك تقريبًا، وأن يكون تعيين أمراء ولايتي الأفلاق والبغدان لمدَّة حياتهم وعدم عزلهم إلا لأسباب قوية وباتحاد الروسية والدولة مع حفظ جميع الحقوق والامتيازات المعطاة لهاتين الولايتين بمقتضى العهود السابقة، وأن تمنح ولاية الصرب الامتيازات المبينة في معاهدة «آق كرمان».

أما بخصوص اليونان، فقبل السلطان التصديق على كل ما جاء في الاتفاق الذي أُمضِيَ بين الدول في لوندرة سنة ١٧٢٧م، وأن يعين بعد إتمام الصلح مندوبًا مرخصًا من طرفه للاتفاق مع مندوبي فرنسا والروسيا وإنكلترا على حدود هذه المملكة اليونانية الجديدة التي أوجدتها رغبة الدولة في إضعاف الدولة الإسلامية الوحيدة، وتخليص جميع المسيحيين الموجودين ببلادها من سلطتها وتحريضهم على طلب الاستقلال مكافأة لها على عدم تعرضها لدينهم وعوائدهم ومجازاة لها على هذه الغلطة السياسية ولا أقول غير ذلك؛ لأن عملها هذا منطبق كلَّ الانطباق على قواعد العدل وأصول الإنسانية إلا أن السياسة في عرف الدول الأوروبية لا تعترف بهذه المبادئ الجليلة، بل تنظر إلى الغاية المقصودة بقطع النظر عن طريق الوصول إليها، وقد قالوا في أمثالهم الجارية حتى على ألسنة الأطفال إن الغاية تبرر الواسطة أيًّا كانت هذه الواسطة ولو ألحقت الخراب والدمار، لا ببعض الأفراد بل بأمة بأجمعها أو بأكثر من أمة واحدة.

هذا؛ ثم أضيف إلى هذه المعاهدة ذيل ذكر فيه أن مبلغ التعويض الذي اتفق على دفعه للتجار الروسيين يدفع على أربع سنوات، وأن تدفع الدولة مبلغ خمسة ملايين جنيه إنكليزي تعويضًا حربيًّا للروسيا على عشرة أقساط سنوية متساوية، وأن تبقى الجيوش الروسية في الممالك العثمانية، ثم تنسحب منها تدريجيًّا، فتنجلي عن مدينة أدرنة بعد دفع القسط الأوَّل، وترجع إلى ما وراء جبال البلقان بعد دفع الثاني، وإلى ما وراء نهر الطونة بعد دفع الثالث، وتخلي إمارة البلغار ولا تنجلي تمامًا عن ولايتي الأفلاق والبغدان إلا بعد دفع آخر قسط؛ أي بعد عشر سنوات، وأن يرحل جميع السكان المسلمين القاطنين بهاتين الولايتين ويبيعوا ما لهم بها من العقار والمنقول في مسافة ثمانية عشر شهرًا.

وأخيرًا في ٧ ذي الحجة سنة ١٢٤٥ (الموافق ٣٠ مايو سنة ١٨٣٠) أعلن الباب العالي بتصديقه على الشروط المدوَّنة في الاتفاق الذي أُمْضِي بين الدولة في لوندرة في نوفمبر سنة ١٨٢٨ القاضي باستقلال اليونان.

يتضح للمطالع من ذلك أن الروسيا وإن لم تأخذ شيئًا يذكر من أملاك الدولة بمقتضى هذه المعاهدة إلا أن ما وضعته فيها من الشروط كانت تقصد به إضعاف الدولة بكيفية لا يمكنها معها إتمام النظامات العسكرية ولا تجديد عمارتها البحرية التي دمرت في واقعة ناورين، كما سبق وأتى لها ذلك، وهي ملتزمة بدفع هذه الغرامة الحربية الفادحة بالنسبة لماليتها، والجيوش الأجنبية محتلة جزءًا عظيمًا من بلادها، وفصلت عنها اليونان تمامًا والأفلاق والبغدان والصرب تقريبًا، وما بقي لها أثقلت كاهله الضرائب اللازمة للحرب الداخلية والخارجية.

هذا؛ ثم سار السلطان في خطة الإصلاحات الداخلية بهمة لا يعتريها ملال وعزيمة لا يقعدها كلال، فأبطل طوائف السلاحدارية والعلوفه جية وباقي الطوائف غير المنتظمة، وصار الجيش كله مؤلفًا من جنود منتظمة مسلحة بأتقن الأسلحة، وألغيت جميع الامتيازات السابقة، ولم تؤثر على السلطان أي معارضة، بل كان يجازي كل من آنس منه أقل انتقاد على الإصلاحات الجديدة بأشدِّ العقاب وصارم العذاب، حتى إنه لما رأى أن جماعة البكطاشية محازبة للانكشارية واستعملت نفوذها في تهييج الأهالي أمر بإلغائها وإبطال جميع تكاياها، فألغيت وشتتت أعضاؤها في أطارف الدولة حتى لا يخشى من تجمعهم بالآستانة، وقتل ثلاثة من رؤسائها النافذي الكلمة بناءً على فتوى شرعية، ومن جهة أخرى أخذ في تغيير العوائد القديمة واتباع المستحسن من عوائد أوروبا؛ فاستبدل العمامة بالطربوش الرومي وتزيى بالزي الأوروبي، وأمر بأن يكون هو الزيَّ الرسمي في العسكرية والمدنية، وأسس وسامًا دعاه وسام الافتخار.

وأخيرًا تجوَّل بذاته في ممالكه بأوروبا ليستطلع أحوالها ويقف على حقائق الأمور وشكاوى الأهالي، وبالاختصار فإنه سار سير من يريد مجاراة أوروبا في نظاماتها وعدم الوقوف حال تقدم الدول الأخرى بسرعة لعلمه أن الوقوف في مثل هذه الظروف هو عين التأخر، ولو لم يكن له من الأيادي البيض على الممالك المحروسة إلا إلغاء طائفة الانكشارية لكفى ذلك لتخليد اسمه في بطون التاريخ مشكورًا ممدوحًا إلى أبد الآبدين، وزيادة على ذلك أحيا ما أقامه السلطان مصطفى الثالث من مدارس الطوبجية بعد أن صارت دوارس، وأنشأ مدرسة حربية لتخريج الضباط على مثال مدرسة سانسير الفرنساوية٩ التي أسسها نابليون الأوَّل بفرنسا لتربية أولاد الضباط والإشراف على النظامات العسكرية الحديثة.

(١٤) احتلال فرنسا لجزائر الغرب

وفي أواسط سنة ١٨٣٠ نفذت فرنسا ما كانت تنويه من مدَّة ضد ولاية الجزائر بدعوى منع تعدي قرصانات البحر المسلمين على مراكبها التجارية، والحقيقة ليكون لها مركز حربي بشمال أفريقيا؛ حتى لا تكون إنكلترا صاحبة السيادة بمفردها على البحر الأبيض المتوسط باحتلالها معاقل جبل طارق وجزيرة مالطة، واتخذت لذلك سبيلًا وقوع الخلاف بينها وبين عامل الدولة العلية عليها المدعو حسين باي بسبب بعض ديون كانت مطلوبة لبعض تجار الجزائريين على الحكومة الفرنساوية وحجزها جزءًا منها بدعوى أن هؤلاء التجار مدينون لتجار فرنساويين، وخروج المسيو دوفال قنصل فرنسا عن حدِّ الأدب مع الأمير حسين باي في حفلة عمومية بحضرة جمهور من الأمراء والوزراء، حتى اضطر حسين باي حفظًا لناموسه وكرامته بين قومه أن يضرب القنصل بمنشة كانت بيده، فبمجرد ما وصل خبر هذه المسألة إلى آذان ولاة الأمور بباريس عدوها إهانة لشرفهم، وأرادوا اتخاذها وسيلة لتنفيذ ما كانوا مضمرين عليه من مدَّة، وقرروا في مجلس الوزراء المنعقد تحت رئاسة الملك نفسه في ١٣ شعبان سنة ١٢٤٥ (الموافق ٧ فبراير سنة ١٨٣٠) وجوب الاستيلاء على هذا الإقليم، ثم أرسل إليها جيشًا مؤلفًا من نحو ثمانية وعشرين ألف مقاتل، وعمارة بحرية مؤلفة من مائة سفينة، وثلاث سفن تحمل سبعة وعشرين ألف جندي بحري.

ولما علمت إنكلترا بذلك خشيت على نفوذها من مشاركة فرنسا، واحتجت ضدَّ هذا المشروع، ولما لم يفد احتجاجها شيئًا أوعزت إلى الباب العالي أن يأمر عامله على الجزائر بالتساهل مع فرنسا وتقديم ما تطلبه من الترضية والتعويضات، فأرسل الباب العالي مندوبًا من طرفه لتبليغ هذه التعليمات إلى عامل الجزائر، لكن لم يصل هذا المندوب إلى محل مأموريته، بل قبضت السفن الفرنساوية على المركب الحاملة له وأوصلتها إلى ميناء طولون تحت الحفظ ولم تسمح لها بالخروج إلا بعد إتمام مقصدهم.

وفي ٢٠ ذي الحجة سنة ١٢٤٥ (الموافق ١٣ يونيو سنة ١٨٣٠) نزلت عساكر فرنسا بالقرب من مدينة الجزائر، وانتشب القتال بين الفريقين في (١٩ يونيو)، وبعد محاربة شديدة فاز الفرنساويون بالغلبة. وفي ١٤ محرم سنة ١٢٤٦ (الموافق ٤ يوليو) احتلوا القلعة المسماة «سلطانية قلعة سي» الواقعة أمام مدينة الجزائر، وفي تلوه دخلت الجيوش مدينة الجزائر نفسها بعد خروج حسين باي منها، وأعلنت فرنسا امتلاكها لها، وبعد ذلك أخذت ترسل الجيوش تباعًا إلى الجزائر لفتحها، وما زال الأهالي يقاومونها تحت إمرة الوطني الشهير السيد عبد القادر الجزائري الذي دافع عن بلاده مدَّة سبع عشرة سنة وسلم نفسه في ٢٤ رجب سنة ١٢٦٣ (الموافق ٤ نوفمبر سنة ١٨٤٧)، ولم تزل الأهالي غير راضية عن الاحتلال الفرنساوي حتى الآن، ولم تدع فرصة للتخلص منه إلا اتخذتها، لكن لم تقوَ حتى اليوم على التخلص من ربقة الأجنبي.

(١٥) محمد علي باشا وحرب الشام الأولى

لم يكن اهتمام والي مصر ومؤسس العائلة الكريمة الخديوية بشئون بلاده وإدخال النظامات الجديدة فيها بأقل من اهتمام السلطان محمود في إصلاح داخلية مملكته، التي مصر لا تزال — ولن تزال إن شاء الله — جزءًا منها، فأنشأ عدة تُرَع عظيمة لإصلاح الري أهمها ترعة المحمودية الخارجة من النيل وواصلة إلى إسكندرية؛ لتسهيل الملاحة وشرب أهل الثغر، وأقام جسورًا على النيل لحفظ البلاد من الغرق ونظَّم وأقام المدارس والورش الصناعية حتى صار لا يأتي بلوازم جيوشه من الخارج، بل يصنع جميعه بالورش المصرية من المركوب والطربوش إلى البندقية والمدفع، وأنشأ عدَّة سفن حربية بدل التي دمَّرها التمدن الأوروبي في ناورين، لكن لم تكن ماليته تكفي لمصاريف هذه الأعمال؛ فاستعان على إتمامها بالضرائب الفادحة واستعمال الأنفار تسخيرًا بلا عوض (العونة). ولجهل الأهالي بأن فوائد أتعابهم ستعود عليهم آجلًا بأضعاف ما يدفعونه عاجلًا تمكَّن بعض أرباب الغايات من استمالتهم للمهاجرة إلى بلاد الشام؛ فهاجر منهم خلق كثير، والتجئوا إلى عبد الله باشا والي عكا المشهور بالجزار.

ولما طلب منه محمد علي باشا إرجاعهم خوفًا من كثرة عدد من يتبعهم إلى الشام امتنع من ذلك بدعوى أن الإقليمين تابعان لسلطان واحد، وسواء أقام بعض سكان أحدهما في الآخر أو بالعكس ما دام أحد الإقليمين لم يكن حائزًا على امتيازات مخصوصة كحالة مصر الآن.

ولذلك أمر محمد علي باشا في سنة ١٢٤٧ (الموافقة سنة ١٨٣١) بإعداد الجيوش والتأهب للسفر إلى بلاد الشام عن طريق العريش وعن طريق البحر في آن واحد لمحاصرة عكا من الجهتين قبل أن يأتيها المدد، وعيَّنَ ولده إبراهيم باشا قائدًا عامًّا للجيوش المزمع سفرها وسليمان بك الفرنساوي قائم مقام له، فسار هذا الشبل بحرًا في ٢٦ جمادى الأولى سنة ١٢٤٧ (الموافق ٣ نوفمبر سنة ١٨٣١) إلى مدينة حيفا تحفُّ به الدونانمة المصرية في أكمل نظام وأتمِّ هندام، وكانت الجيوش البرية قد سبقته من طريق العريش وفتحت في مسيرها مدائن غزة ويافا وبيت المقدس ونابلس، وجعل إبراهيم باشا مدينة حيفا مقرًّا لأعماله ومركزًا لأركان حربه ومستودعًا للمؤن والذخائر، ثم ارتحل عنها لمحاصرة مدينة عكا، فحاصرها برًّا وبحرًا في ٢٠ جمادى الآخرة سنة ١٢٤٧ (الموافق ٢٦ نوفمبر سنة ١٨٣١)؛ حتى لا يأتيها المدد بحرًا فلا يقوى على فتحها كما حصل لبونابرت من قبل حين حاصرها سنة ١٧٩٩.

فلما علم الباب العالي بدخول الجيوش المصرية إلى بلاد الشام وحصارها لمدينة عكا اعتبر ذلك عصيانًا من محمد علي باشا، وأوعز إلى والي حلب المدعو عثمان باشا بالسير لمحاربة المصريين وبالحري إبراهيم باشا وردِّه إلى حدود مصر، فجمع هذا الوالي نحو عشرين ألف جندي وقصد مدينة عكا، لكن لم يمهله إبراهيم باشا ريثما يأتي إليها، بل ترك حول عكا عددًا قليلًا من الجنود لاستمرار الحصار وسار هو بمعظم الجيش لملاقاة الجيش العثماني، فالتقى الجمعان بالقرب من مدينة حمص، وانتصر المصريون على العثمانيين بسبب استعدادهم وكمال نظامهم.

ثم عاد إبراهيم باشا إلى مدينة عكا وشدَّد عليها الحصار، ودخلها عنوة في ٢٧ ذي الحجة سنة ١٢٤٧ (الموافق ٢٨ مايو سنة ١٨٣٢)، وأخذ عبد الله باشا الجزار سبب هذه الحرب أسيرًا وأرسله إلى مصر.

وبمجرد وصول خبر سقوط مدينة عكا في أيدي المصريين أمر السلطان محمود بجمع كل ما يمكن جمعه من الجيوش المنتظمة، فجمع في أقرب وقت نحو ستين ألف مقاتل، وعيَّن حسين باشا الذي امتاز في مكافحة الانكشارية قائدًا لها، فسار إلى بلاد الشام بكل تأنٍّ وبطء حتى أمكن إبراهيم باشا الاستعداد لملاقاته؛ فتغلب أوَّلًا على مقدمته وانتصر عليها في ١٠ صفر سنة ١٢٤٩ (الموافق ٩ يوليو سنة ١٨٣٢)، واقتفى أثرها حتى دخل مدينة حلب الشهباء في ١٨ صفر (الموافق ١٧ يوليو المذكور).

ولما علم حسين باشا بانهزام المقدمة تقهقر بمن معه من الجيوش، وتحصن في أهم مضايق جبال طوروس الفاصلة بين الشام والأناطول، ويسمى هذا المضيق بمضيق بيلان، وهو مشهور في التاريخ؛ لمرور الإسكندر المقدوني منه حين أتى لفتح بلاد الشام ومصر، ومرور الإفرنج حين أتوا من طريق القسطنطينية لفتح بيت المقدس واستخلاصه من أيدي المسلمين أثناء الحروب الصليبية، فلحقه إبراهيم باشا وفاز عليه فوزًا عظيمًا، وفرَّق شمل جيوشه في غرة ربيع الأول سنة ١٢٤٨ (الموافق ٢٩ يوليو من السنة المذكورة)، وتبع من بقي منهم إلى أن نزلوا بمراكبهم في ميناء إسكندرونة، فجمع السلطان جيشًا آخر، وقلد رئاسته إلى رشيد باشا الذي امتاز مع إبراهيم باشا في حرب مورة، خصوصًا في محاصرة وفتح مدينة «ميسولونجي»، وأرسله إلى بلاد الأناطول لصدِّ هجمات إبراهيم باشا عن القسطنطينية نفسها؛ إذ كان إبراهيم باشا قد اجتاز جبال طوروس، واحتل إقليم «أطنه» وما وراءه إلى مدينة قونية في وسط الأناطول، والتقى بالقرب من هذه المدينة برشيد باشا وجيشه، فانتصر عليه وأخذه أسيرًا في ٢٧ رجب سنة ١٢٤٨ (الموافق ٢١ دسمبر سنة ١٨٣٢)، وعند ذلك ساد القلق في الآستانة، وخِيفَ تقدم إبراهيم باشا بجيوشه المصرية إليها. أما هو فسافر حتى وصل إلى ضواحي مدينة بورصة.

ولما تواترت أخبار انتصار المصريين على العثمانيين خشيت الدول أن يكون قصد محمد علي باشا احتلال الآستانة، وإسقاط عائلة بني عثمان، والاستئثار بالخلافة الإسلامية فيحصل اضطراب عمومي في التوازن الأوروبي، وكانت الروسيا أشدَّ قلقًا من غيرها؛ لخوفها من سقوط الآستانة في قبضة من يمكنه الذبُّ عنها أكثر من الملوك العثمانيين فلا يمكنها تنفيذ وصية بطرس الأكبر؛ ولذلك عرضت على الدولة العلية مساعدتها بالرجال، وأنزلت فعلًا على شواطئ الأناطول خمسة عشر ألف جندي لحماية الآستانة؛ فاضطربت فرنسا وإنكلترا، وخشيت سوء عاقبة تداخل الروسيا بصفة عسكرية، وألحَّت على الباب العالي بسرعة الاتفاق مع محمد علي باشا قبل تفاقم الخطب واتساع الخرق على الراقع، وتوسطتْ بينهما فقبل الباب الهمايوني بهذا التوسط.

معاهدة كوتاهيه

وبعد مخابرات ومداولات لا حاجة لتفصيلها اتفق الطرفان على أن يخلي المصريون إقليم الأناطول وترجع جيوشهم إلى ما وراء جبال طوروس، وتعطى لمحمد علي باشا ولاية مصر مدَّة حياته، ويعين هو واليًا على ولايات الشام الأربع (عكا وطرابلس وحلب ودمشق) وعلى جزيرة كريد، وأن يعين ابنه إبراهيم باشا واليًا على إقليم أطنه، وصدرت بذلك إرادة سنية في ٥ مايو سنة ١٨٣٣، ودعيت هذه المعاهدة بمعاهدة كوتاهيه؛ نسبةً إلى المدينة التي كان بها إبراهيم باشا عند إتمامها، وبذلك انتهت هذه المسألة مؤقتًا؛ إذ لم يقبل السلطان بهذه التسوية إلا ليتمكن من الاستعداد للحرب وإرجاع ما أخذ منه قهرًا.

معاهدة خونكار أسكله سي

ولقد تمكنت الروسيا أثناء وجود عساكرها بأرض الدولة من إبرام معاهدة هجومية ودفاعية مع الباب العالي في ١٨ محرم سنة ١٢٤٩ (الموافق ٨ يونيو سنة ١٨٣٣) دُعِيَتْ بمعاهدة (خونكار أسكله سي) تعهدت بها الروسيا بالدفاع عن الدولة لو هاجمها المصريون أو غيرهم؛ ليكون لها بذلك سبيل في شئون الدولة الداخلية.

(١٦) حرب الشام الثانية

ولم تكن هذه التسوية إلا وقتية؛ فإن محمد علي باشا لم يقبل بها إلا خوفًا من إجبار الدولة له على ترك فتوحاته مع كونه عازمًا على تتميم مشروعه، وهو الاستقلال التام عند سنوح الفرصة، وكذلك لم يقبل السلطان محمود بها إلا لتفرُّق جيوشه وعدم إمكانه صدَّ هجمات إبراهيم باشا عن الآستانة إلا بمساعدة الروسيا؛ الأمر الذي سعى في تلافيه بإبرام هذه المعاهدة، حتى إذا استعدَّ لاسترداد ما فقد كرهًا أغار على بلاد الشام وجعل مصر ولاية عثمانية بدون أقل امتياز.

ولما كانت هذه أفكارَ كل فريق منهما كان لا بد من اشتعال نار الحرب بينهما ثانية عاجلًا أو آجلًا. ولقد كان من أهم دواعي استئناف هذه الحروب عصيان أهل الشام على محمد علي باشا ومعاملته إياهم بكل صرامة لإخضاعهم لسلطانه، ثم عصيان الدروز وإمدادهم بالمال والسلاح من الخارج سرًّا لإضعاف شوكته. وفي أثناء ذلك فاتح محمد علي باشا بعض وكلاء الدول بمصر بأنه يرغب أن تكون مصر والشام وبلاد العرب له ولأولاده من بعده، فأبلغ الوكلاء ذلك لدولهم، وهي خابرت الدولة العلية بذلك بكيفيات مختلفة، فعضَّدَتْ فرنسا مطالبه، وحسنت له الدول الأخرى محاربته بكل شدَّة وإخضاعه خوفًا من تطلعه إلى غير ما في يده من الأقاليم. ولتغلب نفوذ سفير فرنسا قَبِلَ الباب العالي إرسال مندوب من طرفه إلى محمد علي باشا للاتفاق على حل مرضٍ للطرفين، وأرسل إلى مصر من يدعى سارين أفندي — أحد موظفي الخارجية — فأتى هذا المندوب إلى مصر في غضون سنة ١٢٥٣ (الموافقة سنة ١٨٣٧)، وقابله واليها بكل تجلة وإكرام.

وبعد مداولات طويلة اتفقا على أن تعطى له ولايتا مصر والعرب إرثًا لأولاده، وبلاد الشام إلى جبال طوروس مدَّة حياته، وعاد سارين أفندي إلى الآستانة بهذا الوفاق فلم يقبله الباب العالي، بل أصرَّ على أن تكون جبال طوروس ومفاوزها في أيدي العثمانيين لا المصريين، وصمم محمد علي باشا على عكس ذلك بما أن هذه المفاوز بمثابة أبواب لبلاد الشام بأجمعها، فلو احتلتها الدولة العلية أمكنها الإغارة على بر الشام في أي وقت أرادت.

واقعة نصيبين

وبذلك عاد الخلف إلى ما كان عليه، وصارت الحرب قاب قوسين أو أدنى، وأوعز الباب العالي إلى حافظ باشا، الذي عين سر عسكر الجيوش المجتمعة في سيواس بأرمينية بعد موت رشيد باشا — أسير قونية، الذي مات قبل أن يأخذ بثأر هذه الواقعة ويمحو ما لحقه فيها من الفشل — إلى أن يتقدم إلى ولايات الشام بكل سرعة؛ فتقدَّم إليها في أوائل سنة ١٢٥٥ الموافقة سنة ١٨٣٩م، وعبر نهر الفرات عند مدينة «بلاجيق» في أبريل من السنة المذكورة، ثم التقى الجيشان بعد عدَّة مناورات بالقرب من بلدة تدعى نصيبين، وهي المشهورة في جميع كتب الإفرنج باسم «نزيب» في ١١ ربيع الثاني سنة ١٢٥٥ (الموافق ٢٤ يونيو سنة ١٨٣٩)، وفاز المصريون بالنصر، وتقهقر الجيش العثماني تاركًا في أيدي المصريين ١٦٦ مدفعًا وعشرين ألف بندقية وغيرها من الذخائر والمؤن، وكان هذا اليوم مشهودًا يجعل الولدان شيبًا.

ومن غريب المصادفة أن المسيو «دي مولتك»١٠ القائد البروسياني الذي طار صيته في الآفاق وملأ ذكره الأوراق في الحرب التي حصلت بين فرنسا والبروسيا في سنة ١٨٧٠ كان من ضمن أركان حرب الجيش العثماني، وولَّى الأدبار مع باقي الضباط بدون أن يتمكن من أخذ ملابسه وأوراقه الخصوصية.

ولم يصل خبر هذه الحادثة إلى آذان السلطان محمود الثاني؛ فإنه توفي إلى رحمة الله، وانتقل من دار الشقاء إلى دار الهناء في يوم ١٩ ربيع الثاني سنة ١٢٥٥ (الموافق أول يوليو سنة ١٨٣٩) فجأة بدون أن يعلم بها لعدم وجود الأسلاك البرقية في هذا العهد، بالغًا من العمر ٥٥ سنة.

١  أحد زعماء الثورة الصربية، ولقبه الحقيقي تيودوروفتش. وسمي أوبريوفتش نسبة لأبرن زوج والدته. وكان أبوه من رعاة الخنازير، أما هو فثار أولًا باتفاق قره جورج الذي سبق ذكره. ثم لما هاجر جورج إلى الروسيا صار هو رئيسًا للحركة الثوروية، وقتل قره جورج ليتخلص من منافسته. وباقي تاريخه يعلم من سياق هذا الكتاب.
٢  كلمة يونانية معناها جمعية أخوية، أطلقت على جمعيتين؛ أُسِّسَتْ إحداهما في مدينة ويانه — عاصمة النمسا — بدعوى تأسيس المدارس ونشر العلوم بين اليونان. والثانية لقصد سياسي محض؛ وهو السعي في استخلاص بلاد اليونان من الحكومة العثمانية. وبقيت سرية إلى سنة ١٨٢١، حيث ابتدأت الثورة جهارًا، وكان مركزها أولًا بمدينة أودسا، ثم انتقلت إلى مدينة كيف، وكلتاهما ببلاد الروسيا؛ الأمر الذي يدل على أن للروسيا ضلعًا مهمًّا في تأسيسها والصرف عليها.
٣  هو ابن الإمبراطور بولص الأول، ولد سنة ١٧٦٧، وتولى بعد قتل أبيه في ٢٣ مارس سنة ١٨٠١، وأدخل في بلاده عدة إصلاحات داخلية؛ منها إبطال المصادرة والتعذيب، وتخفيف الضرائب، وأسَّس عدة مدارس جامعة، ولطف قانون العقوبات، وحارب نابليون الأول باتحاده مع جميع أوروبا عدة مرات، وانهزم أمام فرنسا في وقائع متعددة. وأخيرًا لما قصد نابليون بلاده، وتقهقر أمام مدينة موسكو التي أحرقها الروس اتحدت أوروبا ضده بناءً على إيعاز المترجم، واستظهروا على فرنسا، ودخل إسكندر الأول مدينة باريس في ٣١ مارس سنة ١٨١٤، ثم لما عاد نابليون من منفاه الأول حاربه إسكندر المذكور مع جميع أوروبا؛ وانتصروا عليه في ١٨ يوليو سنة ١٨١٥ في واقعة وترلو. واشتهر الإمبراطور المذكور بمضادته لاستقلال الأمم؛ ولذلك ألَّف مع البروسيا والنمسا الاتحاد المقدس لمعارضة كل أمة تودُّ الاستقلال. وتوفي عن غير عقب من المذكور في دسمبر سنة ١٨٢٥.
٤  جمعية سرية نشأت بإيطاليا في أوائل هذا القرن لطرد الأجانب منها وتوحيدها، ثم انتقلت إلى فرنسا سنة ١٨١٨ على ما يظهر، وانتشرت فيها بكيفية غريبة؛ وكانت من أكبر أسباب سقوط حكومة شارل العاشر — ملك فرنسا — الذي أراد إرجاع بعض النظامات القديمة المخالفة لروح الحرية، ويقال إن لفييت الشهير كان من أكبر زعمائها.
٥  مضيق شهير ببلاد اليونان، دافع فيه ليونيداس — ملك إسبارطة — دفاع الأبطال عن وطنه لما هاجمهم أكزرخس — ملك العجم — وجموعه سنة ٤٨٠ قبل المسيح، وفي هذه الواقعة ثبت ليونيداس ومن معه حتى قتلوا عن آخرهم، ثم نقلت عظامه إلى مدينة إسبارطة حيث أقيم له أثر عظيم تخليدًا لذكره وتمجيدًا لاسمه.
٦  مدينة ببلاد اليونان على بحر أرخبيل، قليلة السكان. اشتهرت في التاريخ بتدمير مراكب إنكلترا وفرنسا والروسيا للدونانمة المصرية العثمانية في ٢٠ أكتوبر سنة ١٨٢٧؛ مساعدة لليونان للحصول على استقلالها السياسي، بدون إعلان حرب كما هي عادة الأمم المتمدنة.
٧  هو ثالث أولاد بولص الأول، وتولى بعد موت أخيه إسكندر الأول في سنة ١٨٢٥؛ بسبب تنازل أخيه الأكبر قسطنطين عن حقه في الملك. وكان أشد ملوك الروسيا عداوة للدولة العلية؛ فحاربها وأمضى معها وفاق «آق كرمان»، ثم معاهدة أدرنة في ١٤ سبتمبر سنة ١٨٢٩. وحارب العجم، وأخذ منها عدة ولايات. ثم لما حصلت حرب الشام بين مصر والدولة العلية أبرم مع الدولة معاهدة خونكار أسكله سي سنة ١٨٣٣؛ القاضية بمساعدته للدولة. وكان من أكبر مساعدي اليونان على الاستقلال. كما أنه محى ما كان باقيًا لبولونيا من الاستقلال الإداري، وساعد النمسا على قهر بلاد المجر، وألزمها البقاء تحت سلطة النمسا في سنة ١٨٤٩. وأخيرًا تسبَّب بزيادة عدم احترامه لحقوق الدولة العلية في حرب القرم التي اتحدت فيها فرنسا وإنكلترا مع الدولة ضده؛ وانتهت بسقوط قلعة سيستابول في أيدي المتحالفين، وإمضاء معاهدة باريس في ٣٠ مارس سنة ١٨٥٦ المدرجة في هذا الكتاب. وتوفي هو أثناء الحرب في ٢ مارس ١٨٥٥.
٨  ولد هذا السفير في جزيرة كورسيكا سنة ١٧٦٣ قبل ضمها لفرنسا، وكان معاديًا للحكومة الفرنساوية؛ فاتحد مع من يدعى «باوولي» على تسليمها للإنكليز في سنة ١٧٩٣، ورحل إلى إنكلترا بعد استرجاعها، ثم دخل في خدمة الروسيا في سنة ١٨٠٣. وفي سنة ١٨٠٥ طرده القيصر بناءً على طلب نابليون الأول، وأعاده في سنة ١٨١٣، وبعد سقوط نابليون عين سفيرًا للروسيا بباريس من سنة ١٨١٤ إلى سنة ١٨٣٠، ثم في لوندرة. وأخيرًا اعتزل الأعمال، واستوطن في باريس حيث توفي في سنة ١٨٤٢.
٩  هي قرية صغيرة بالقرب من قصر فرساي بضواحي باريس، أسس بها لويز الرابع عشر في سنة ١٦٨٠ مدرسة مجانية لتربية ٢٥٠ بنتًا من بنات الأشراف الفقراء، ولما حصلت الثورة الفرنساوية أبطلت هذه المدرسة. وفي سنة ١٨٠٨ أنشأ بها نابليون الأول المدرسة الحربية الشهيرة التي لم تزل قائمة حتى الآن.
١٠  هو القائد الألماني الشهير، ولد سنة ١٨٠٠، وتربى في إحدى المدارس «بكوبنهاج» — عاصمة الدانمرك — ثم التحق بجيش البروسية، وحضر في إحدى مدارسها الحربية، ولامتيازه في الهندسة وما يلحقها عين في أركان حرب البروسيا، ثم ساح في الشرق، وتوظَّفَ بالجيش العثماني، وبعد أن حضر واقعة نصيبين عاد إلى بلاده، وترقى تدريجيًّا حتى وصل إلى وظيفة رئيس أركان حرب البروسيا؛ ومن ثم أخذ في تنظيم الجيش حتى صار أول جيش في أوروبا، فكانت له اليد الطولى في الانتصار على الدانمرك سنة ١٨٦٤، وعلى النمسا سنة ١٨٦٦، وعلى فرنسا سنة ١٨٧٠؛ حتى استحقَّ محبة الأهالي له، وأُقِيمَ له تمثالان في حياته. وفي سنة ١٨٨٨ اعتزل الأعمال لهرمه، وتوفي سنة ١٨٩١.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤