الفصل الثاني والثلاثون

السلطان الغازي عبد العزيز خان

المولود في ١٤ شعبان سنة ١٢٤٥ (الموافق ٩ فبراير سنة ١٨٣٠)، وفي ١٨ ذي الحجة سنة ١٢٧٧ (الوافق ٢٦ يونيو سنة ١٨٦١)، توجه في موكب حافل إلى ضريح سيدي أبي أيوب الأنصاري، وهناك تقلد السيف السلطاني على ما جرت به العادة، ومنه سار لزيارة قبر السلطان الغازي محمد الثاني — فاتح الآستانة — ثم قبر والده السلطان محمود الثاني رحمهم الله جميعًا. وكانت فاتحة أعماله أنه أقر الوزراء في مراكزهم ما عدا ناظر الجهادية رضا باشا؛ فإنه أبدل بنامق باشا، وهاك ترجمة أمر بقاء الوزراء المؤرخ ٢٣ ذي الحجة سنة ١٢٧٧ (الموافق ٢ يوليو سنة ١٨٦١)، نقلًا عن منتخبات الجوائب:

وزيري سمير المعالي محمد أمين عالي باشا

قد صار هذ المرة بالإرادة الأزلية، إرادة جناب مالك الملك جلوسنا على تخت أجدادنا العظام المؤيد بالسعادة والبخت، ولكون درايتك وصداقتك من المجرب أُبقِي خَطْب الصدارة الجسيم في عهدة رويتك، وكذا سائر الوكلاء والمأمورين مقررين على مناصبهم. ثم إني بإكمال سعادة الحال بمنه تعالى لدولتنا العلية واستحصال رفاهية الحال والراحة لأتباع سلطنتنا السنية إجمالًا بلا استثناء، وبحصول هذه الأمنية الخيرية، وبكون القوانين الأساسية العدلية المؤسسة على تأمين النفس والعرض والمال لجميع سكان الممالك المحروسة مؤكدة ومؤيدة من طرفنا أعلن (ما ذكر) للجميع. ومن حيث إن الشريعة الشريفة التي هي عدالة محضة مدار لتأييد السلطنة السنية أو أساس لشوكتها حالة كون أحكامها المنيفة لجميعنا دليلًا على طريق السلامة كانت الدقة الزائدة في الأمور الشرعية مطلوبًا لنا قطعًا، ولما كان الباعث لبقاء كل دولة ولتزايد شوكتها وراحتها كون رعيتها مطاوعة للقوانين الموضوعة، وأن لا تتجاوز الصغار والكبار منها دائرة وظيفتها وحقها؛ كان محققًا لدينا أن الذين يسلكون في هذا الطريق يكونون مظهرًا للمكافأة، كما أن الذين يوجدون في حركات مخالفة تحيق بهم المجازاة، وبناءً على هذا كون الداعين والعباد والمأمورين جميعًا في دولتنا العلية أن يستقيموا في خدمتهم ويوفوا وظائف مأموريتهم بالصداقة، هو من جملة أوامرنا المؤكدة السلطانية ومن المسلم كون المصالح العظيمة الدولية قرينًا لحسن النتيجة بتوفيق حضرة موفق الأمور وبإقدام أركان الدولة واتفاقهم.

وإن إيصال الأمور لدولتنا العلية مدنية كانت أو مالية إلى درجة الانتظام والمضبوطية إنما هو بكمال التشبث بهذه القاعدة المسلمة، يعني كونه منوطًا بالاهتمام والغيرة من طرف الجميع على وجه الاستقامة والخلوص، ومن طرفنا نحن أيضًا منوط بالهمة والنظارة على أي وجه كان، وبالاتباع التام من جانب كل دائرة وإدارة لهما المخصوصة السلطانية التي تصرف في حق اندفاع المشكلات المالية عن قريب بعون الله تعالى، وهي التي عرضت منذ مدة ناشئة عن أسباب مختلفة، وكذا يعلم بأنه لم يكن لذاتنا فكر وأمل سوى إعادة شأن دولتنا وزيادة اعتبارها المالي ورفاهية أتباعنا، الغرض المتعاقب من خصوص المتصرفات الكاملة في استحصال أموال الدولة وصرفها والإصلاحات الموجبة لوقايتها من التلف والسرف عبثًا، والدقة في محافظة عساكرنا البرية والبحرية، التي هي إحدى أسباب الشوكة لدولتنا العلية، واستكمال رفاهيتهم في كل حال ومحل، وصرف المجهود وقتًا فوقتًا في تأكيد المناسبات والموالاة مع الدول الأجنبية الذين هم محبو سلطنتنا السنية، وكذا الرعاية لأحكام المعاهدات المنعقدة مستمرة.

والحاصل أن علم الجميع بأن وظائف الاستقامة والعفة والصداقة والغيرة هي أساس العمل والباعث للفلاح والسلامة في إدارة الدولة في كل جهة وفرع، لها كل ذلك من إرادتنا القطعية. وإني أعلن أيضًا حيث كان مرادي السلطاني لا يقبل الاستثناء كان الذين هم من الأديان والأجيال المختلفة يرون عمومًا من طرفنا الهمايوني دقة متساوية في العدالة والتأمين والهمة وحسن الحال، وأكرر أن التوسع التدريجي الذي هو ترقيات صحيحة توجب غبطة حال الجميع في ظل سلطنتنا لأسباب الثروة واليسار العظيمة التي أنعم الله بها على ملكنا، وكذا قضية الاستقلال المهمة لدولتنا العلية من أعز الأفكار عندنا، وفقنا جميعًا الفياض المطلق بحرمة حبيبه الأكرم آمين. في ٢٣ ذي الحجة سنة ١٢٧٧. ا.ﻫ.

ويؤخذ من نص هذا الأمر أن السلطان — رحمه الله — كان يود السير على خطة أسلافه من إصلاح الأحوال ومعاملة جميع الرعايا على السواء بدون نظر لجنسهم أو دينهم؛ حتى لا يكون لدول أوروبا سبيل للتدخل في شئون الدولة بحجة طلب هذه المساواة. ثم أنشأ نشان شرف جديدًا لمكافأة من يقوم بخدمة الدولة والملة والدين بكل صداقة وأمانة، ودعاه بالعثماني نسبة إلى السلطان الغازي عثمان الأول، رأس هذه الدولة المحروسة الملحوظة بالعناية الربانية يحيطها سياج التعطفات الإلهية، حتى إن تألب جميع الدول المسيحية عليها لم يزدها إلا رسوخًا وثباتًا. وقد أراحها هذا التداخل نوعًا ما بفصل بعض العناصر المغايرة للعنصر الإسلامي في الجنس والدين عنها، فإنها كانت أهم الشواغل للدولة مع عدم وصول أي فائدة منها إليها.

ولنذكر هنا قبل تفصيل ما حصل بالدولة من الإصلاحات تحت رعاية السلطان عبد العزيز ما جرى من المناقشات ودار من المخابرات بين الباب العالي والدول بشأن إمارات الجبل الأسود والصرب والأفلاق والبغدان، فنقول:
  • الجبل الأسود: إنه لما تجزأت مملكة الصرب الأصلية عقب موت الملك دوشان وقتل ولده أوروك، استقل أحد أشراف الصرب ببلاد الجبل الأسود، واسمها تشيرنا جوره، وجزء عظيم من بلاد الصرب، وجعل مقرَّ حكومته مدينة أشقودرة، ثم لما فتحها العثمانيون وطردوه منها تحصَّن بالجبل، وبه أمكنه صد هجمات العثمانيين عنه لوعورة المسالك وصعوبة المفاوز، وبذلك لم يتيسَّر للدولة ضم هذا الإقليم بنوع قطعي مطلقًا.

    وفي سنة ١٤٩٩ انتقلت حكومة الجبل إلى أيدي رئيس الأساقفة، وانحصرت السلطة الدينية والملكية في شخص واحد، وابتدأت العلاقات بينه وبين الروسيا لاتحاد الدين والمذهب، وبحسن سياسة الإمبراطور بطرس الأكبر صارت هذه العلاقات الحبية شبيهة بتابعية سياسية؛ إذ صار يتظلم إليه الأهالي لو اعتدى عليهم حاكمهم أو مسَّهم بسوء.

    ونفس رئيس الأساقفة كان يتوجه عند تنصيبه إلى مدينة سان بطرسبورج ليثبته القيصر في وظيفته الدينية بصفة رئيس ديني لجميع الأورثوذكس.

    ولما تعين البرنس «دانيلو» أو دانيال١ حاكمًا لهذا الجبل فصل السلطة الملكية عن الدينية مع بقاء وظيفة رئيس الأساقفة في العائلة الأميرية ومن بعدها في أقدم العائلات الشريفة، ولتجرُّد دانيلو عن الصفة الدينية تقرَّب من النمسا جارته لتساعده على حفظ استقلاله، بما أن الدولة العلية أرادت اتخاذ هذا التغيير في حكومة البلاد سببًا للتداخل فيها وتقرير سيادتها عليها، وأرسلت القائد الشهير عمر باشا لمحاربة دانيلو سنة ١٨٥٣ قبل أن يشتغل بمحاربة الروسيا، ولولا توسط النمسا والروسيا لاحتلَّ عمر باشا جميع بلاده، لكن ظروف الأحوال اضطرَّت الباب العالي لإيقافه قبل تتميم مأموريته اتباعًا لمشورة أوروبا.

    ولما انعقد مؤتمر باريس بعد انتهاء حرب القرم كما مر، طلب الأمير دانيلو من مندوبي الدول الاعتراف باستقلاله؛ فلم يحز طلبه قبولًا لديهم، بل نصحوا له بالانقياد للدولة وهي في مقابلة ذلك تعطيه جزءًا قليلًا من بلاد الهرسك لتوسيع حدوده، وتمنحه رتبة مشير، وترتب له مرتبًا ماليًّا على سبيل المساعدة؛ فحنق لعدم نوال استقلاله، لكنه التزم بالانصياع لنصائح أوروبا خوفًا من عدم مساعدتها له لو حاربته الدولة.

    وفي سنة ١٨٥٨ حصلت عدَّة وقائع حربية بين أهالي الجبل وعساكر الدولة؛ بسبب عدم الاتفاق على الحدود؛ فتداخلت الدول ومنعت الحرب، وعينت لجنة من مندوبيها ومندوب من طرف الدولة وآخر من حكومة الجبل لفصل الحدود ففصلتها، ثم قتل البرنس دانيلو في ٢٥ محرم سنة ١٢٧٧ (الموافق ١٣ أغسطس سنة ١٨٦٠) عن بنت وأخ؛ فاستلم زمام الأحكام البرنس نيقولا — ابن أخيه ميركو — ولمناسبة حصول بعض حركات ثورية في بلاد الهرسك ثار لمساعدتهم كثير من أهالي الجبل بإيعاز من البرنس ميركو؛ فسحقهم عمر باشا الذي أرسله الباب العالي لإخماد ثورة الهرسك، ثم حاصر إمارة الجبل من جميع جهاتها، وأمر البرنس نيقولا أن يحل الجيوش التي جمعها على الحدود وإلا يضطر هو لتفريقها. ولما لم يُصغِ الأمير لهذا البلاغ أغار عمر باشا على بلاد الجبل من ثلاث جهات في آن واحد، وجعل ثلاث الفرق تحت قيادة عبده باشا ودرويش باشا وحسين عوني باشا.

    وبهذه المناورة العسكرية المهمة التقت الجيوش الثلاثة في قلب الجبل بعد أن هزمت وفرقت كل ما وقف في طريقها، ولم يكن بذلك للبرنس نيقولا بدٌّ من إمضاء الشروط التي عرضت عليه من قبل عمر باشا للتوقيع عليها؛ فأمضاها رغم أنفه في ٤ ربيع الأول سنة ١٢٧٩ (الموافق ٣١ أغسطس سنة ١٨٦٢).

    ومن أهمِّ ما جاء بها أن لا يقيم ميركو — والد البرنس نيقولا — في بلاد الجبل مطلقًا، وأن تبني الدولة حصونًا وقلاعًا على الطريق الموصلة بين مدينة أشقودرة وبلاد الهرسك مارة ببلاد الجبل، وبدأت الجنود العثمانية على الفور في بناء حصن داخل بلاد الجبل على هذا الطريق؛ الأمر الذي لم يسبق لها أصلًا في هذه البلاد.

    لكن تعرضت الدول لنفاذ هذه المعاهدة بحجة أنها مجحفة بحقوق أمة مسيحية، وطلبت من الباب العالي بكل إلحاح — خصوصًا فرنسا والروسيا — عدم إبعاد البرنس ميركو عن بلاده؛ فتساهل شفقة منه، لكنه صمم على بناء الحصون بالصفة المشروحة، ومع ذلك فخوفًا من تداخل الدول بالقوة — كما حصل في بلاد الشام — أعلن الباب العالي الأمير، في ٢٣ رمضان سنة ١٢٨٠ (الموافق ٣ مارس سنة ١٨٦٤) أنه يتنازل عن بناء القلاع بأرضه مؤقتًا، إذا تعهَّد الأمير بحفظ هذه الطريق والتعويض ماليًّا عما يسلب من أموال التجار العثمانيين، فأجاب الأمير نيقولا هذا الطلب منشرحًا بما أن وجود الجيوش العثمانية في وسط بلاده يضعف استقلالها ويميت همتهم وشجاعتهم.

    ولم يهدم العثمانيون القلعة التي أقيمت في وسط بلاد الجبل إلا في محرم سنة ١٢٨١ (الموافق يونيو سنة ١٨٦٤) بعد أن أقاموا على الحدود قلعة منيعة على قمة عالية تصل مقذوفات مدافعها إلى أبعاد شاسعة من بلاد الجبل، وبذلك انتهت هذه الحروب، وهدأت بلاد الهرسك أيضًا.

  • بلاد الصرب: إنه بمقتضى المعاهدات السابقة ومعاهدة باريس الأخيرة المؤرخة ٣٠ مارس سنة ١٨٥٦ تكون جميع بلاد الصرب مستقلة تحت سيادة الباب العالي، ويكون للدولة حق في وضع حامية في ست قلاع بما فيها قلعة مدينة بلغراد عاصمة الصرب، واشترط فيما بعد أن لا يسكن المسلمون خارجًا عن هذه الحصون (انظر لهذا التعصب).

    لكن لم تتبع هذه النصوص تمامًا، بل أقام كثير من المسلمين بين منازل المسيحيين، ووزع الباشا القائد للحامية عدَّة قره قولات في المدينة لحمايتهم. ولما حصلت ثورة الهرسك سنة ١٨٦١ وما بعدها، وتبعها حرب الجبل الأسود، خشي الباب العالي من مساعدة الصربيين للثائرين؛ فجمع على الحدود عددًا عظيمًا من جيوش الباشيبوزوق، ولعدم انتظام هؤلاء الجنود حصلت عدَّة مشاجرات بينهم وبين أهالي الصرب سالت فيها الدماء. ولما وصل خبر هذه المناوشات إلى بلغراد تذمَّر الأهالي، وأظهروا العداوة للعثمانيين، وحدث في غضون ذلك أن تعدى أحد الأهالي في ١٢ ذي الحجة سنة ١٢٧٨ (الموافق ١٠ يونيو سنة ١٨٦٢) على جندي عثماني فقتله الجندي، وتعصب كل فريق لأحد الفريقين، وحصلت مقتلة كادت تعمُّ البلد؛ فتداخل القائد العثماني بجنوده، وبعد أن احتمى جميع المسلمين الساكنين بين النصارى في القلعة مع نسائهم وأطفالهم سلَّط الباشا مدافع القلعة على المدينة، وأطلقها عليها مدَّة أربع ساعات متواليات.

    ثم تداخل القناصل بين الفريقين فأبطلوا إطلاق القنابل، وقبل الباشا إخلاء قره قولات المدينة، واقتصار المسلمين على السكن داخل حدود القلعة. وبعد هذه الحادثة أرسل البرنس ميشيل خطابًا بتاريخ ١١ محرم سنة ١٢٧٩ (الموافق ٩ يوليو سنة ١٨٦٢) إلى اللورد «رسل» — ناظر خارجية إنكلترا — يطلب منه التوسط لدى الباب العالي لحسم هذه النازلة؛ فأجابه اللورد بما يؤخذ منه عدم تعضيد الحكومة الإنكليزية له في طلباته، وأنها تنصح له بالانصياع لأوامر الدولة صاحبة السيادة.

    ثم بناءً على إلحاح فرنسا والروسيا انعقد بالآستانة مؤتمر من مندوبي الدول الموقعة على معاهدة باريس، وبعد مناقشات طويلة طلب في خلالها مندوب فرنسا انجلاء العثمانيين من قلعة بلغراد بدون أن يعضده باقي المندوبين، تقرَّر بالأغلبية إخلاء قلعتين من الجنود العثمانية وبقاءها في أربع قلاع فقط، وهي بلغراد وسمندرية وفتح إسلام وشباتس، وأن لا يتداخل القواد العثمانيون في إدارة البلاد الداخلية مطلقًا، وأن يلزم المسلمون القاطنون خارج القلاع الأربع المذكورة ببيع ممتلكاتهم والمهاجرة عن البلاد أو الإقامة في حدود الحصون، وعلى حكومة الصرب أن تدفع لهم تعويضات عن ذلك، وأُمضي بذلك اتفاق بتاريخ ١١ ربيع الأول سنة ١٢٧٩ (الموافق ٨ سبتمبر سنة ١٨٦٢)، أُبْلِغَ إلى الصرب في دسمبر من السنة المذكورة. وغني عن البيان أن تحظير الإقامة في الصرب على المسلمين من أقبح ضروب التعصب التي يرمينا بها الأوروبيون، ولكن سيحفظ التاريخ هذه الحوادث الدالة على براءتنا منه واتصافهم به دون غيرهم.

  • ولايتا الأفلاق والبغدان: ذكرنا أن هاتين الولايتين انتخبتا البرنس كوزا أميرًا عليهما خلافًا لشروط معاهدة باريس، وأن الباب العالي تساهل في الاعتراف بهذا الانتخاب بنوع الاستثناء بشرط أنه بعد هذا البرنس تعود الأمور إلى ما جاء بمعاهدة باريس، ونقول الآن «كوزا» تسمى بعد ذلك بالبرنس «جان ألسكندر الأوَّل»، وفي أواخر سنة ١٨٦١ صدر فرمان يجيز له توحيد إدارة الإمارتين أيضًا، وبأن يكون لهما مجلس نواب واحد ووزارة واحدة، ثم سعى هذا الأمير في إصلاح الشئون الداخلية، وحوَّل أنظاره إلى مسألة الأوقاف المخصصة للأديرة والكنائس وبعض الأديرة الخارجة عن البلاد، مثل دير جبل طور سينا وديراثوس ببلاد الترك والأماكن المقدَّسة بمدينة أورشليم؛ فإن هذه الأملاك بلغت نحو جزء من ثمانية من مجموع أطيان البلاد وإيرادها يذهب خارجها إلى بطريرق الآستانة ليوزع على هذه الأديرة، فقال البرنس بضم جميع هذه الأوقاف إلى جانب الحكومة وهي تقوم بدفع مبلغ معين لنفقات الكنائس الداخلية والأعمال الخيرية الأهلية فقط ولا تدفع شيئًا للأديرة الخارجية، وعضده مجلس النواب وعموم الأهالي في هذا المشروع، لكن عارضه فيه بطريرق الآستانة وجميع الرهبان، وتداخلت الدول والباب العالي فعضده فريق وعارضه آخر، وأخيرًا لما رأى الأمير أن الإقدام أضمن لنجاح مشروعه أصدر أمرًا ساميًا في سنة ١٨٦٣ بمصادرة أملاك الأوقاف بأجمعها.

    وخوفًا من اعتراض الباب العالي عرض عليه في ٣٠ ربيع الأوَّل سنة ١٢٨٠ (الموافق ١٢ سبتمبر سنة ١٨٦٣) دفع مبلغ أربعة وثمانين مليون قرش إلى بطريرق الآستانة تكون فائدته السنوية بمثابة تعويض عما كان يخص الأديرة الخارجية من إيراد الأوقاف بشرط أن هاته الأديرة تقدم حسابًا عن الأوجه التي صرفت فيها هذه الفائدة، وأن تخصص حكومة رومانيا مبلغ عشرة ملايين قرش يُبنَى بها في الآستانة مستشفى ومدرسة لجميع المسيحيين أيًّا كان مذهبهم فلم يقبل البطريرق ذلك. وبعد مداولات طويلة وتبادل مخاطبات سياسية كثيرة اقترح الباب العالي على حكومة رومانيا أن تبلغ التعويض إلى مائة وخمسين مليون قرش فقبلت، لكن أصرَّ القسوس على إبائهم، ولم يعبأ الأمير بهذا الإباء، بل جدَّ في طريق الإصلاح، وعرض على مجلس الأمة أمر مصادرة الأوقاف فصدق عليه في ١٢ ربيع الثاني سنة ١٢٨٠ (الموافق ٢٤ دسمبر ١٨٦٣) ثم في ١٧ ذي الحجة سنة ١٢٨٠ (الموافق ٢٤ مايو سنة ١٨٦٤) قرَّر هذا المجلس أن يكون تعيين القسوس على اختلاف درجاتهم بمعرفة حكومة الإمارة، وشكَّل لمعاقبتهم — لو وقعت منهم أمور مغايرة للقوانين الدينية — مجلسًا دينيًّا (سينود)، وأناط محاكمتهم في الأمور الدنيوية بمجلس التمييز الأعلى.

    وبذلك استقل الإكليرس في رومانيا استقلالًا تامًّا، ولم يبقَ لبطريرق الآستانة أقل سيطرة عليه، وأيَّد الباب العالي هذه التغييرات، واعترف ضمنًا بأن لحكومة رومانيا الحق في تغيير نظاماتها وقوانينها الداخلية بدون استشارة الباب مسبقًا، واعتمادًا على ذلك أدخل البرنس عدة إصلاحات مهمة تباعًا، فحوَّر قانون الانتخابات بكيفية خوَّلت حق الانتخاب لكثير من الأهالي لم يكن هذا الحق ممنوحًا لهم من قبل، وجعل التعليم إجباريًّا، وفتح عدة مدارس عالية ملكية وحربية ومستشفيات، وأصدر قانونًا بجعل قيد المواليد والوفيات وعقود الأنكحة مختصًّا بالمأمورين الملكيين بعد أن كان تابعًا للكنائس، لكن لعدم توفر الثروة في البلاد وكثرة الضرائب تذمَّر عليه الأهالي؛ فاستعمل الشدة في معاقبة كل من أظهر عدم الرضا من أعماله حتى كثرت الشكوى منه، وكتب إليه الصدر الأعظم فؤاد باشا بتداخل الدولة لرفع المظالم عن الأهالي لو استمرَّ الحال على هذا المنوال.

    ولما زاد في طغيانه وصار يُصدر الأوامر العالية واللوائح بدون عرضها على مجلس النوَّاب تآمر عليه عدَّة من الأعيان تحت رئاسة المسيو روزتي — مدير جريدة «رومانول» — وحصروه في سرايه في مساء يوم ٦ شوَّال سنة ١٢٨٢ (الموافق ٢٢ فبراير سنة ١٨٦٦)، وألزموه الاستقالة؛ فقدم استعفاءه، ثم اجتمع بباريس في ٢٢ شوَّال الموافق ١٠ مارس مندوبون من الدول المصادقة على عهدة سنة ١٨٥٦ للنظر في كيفية انتخاب خلف للأمير جان إسكندر الأوَّل؛ فأجمعوا إلا الروسيا على وجوب توحيد حكومة الولايتين خلافًا لما جاء في المعاهدة المذكورة، بشرط أن لا يكون الأمير عليها أجنبيًّا، بل من أشرف أبناء البلاد، لكن لم يُذعن أهالي رومانيا لهذا القرار، بل انتخبوا في ٣ ذي الحجة (الموافق ١٩ أبريل) البرنس شارل دي هوهنزولرن من عائلة بروسيا الملوكية أميرًا لهم، وهو ملك هذه البلاد الآن، وأُعطي له لقب ملك بعد حرب الروسيا الأخيرة كما سيجيء.

    أما السبب في تشبُّث الدول في تقوية هذه الإمارة وسعي الروسيا في عدم ضم الولايتين المكونتين لها إلى بعضهما أن الدول ترى هذا الرأي لتكون إمارة رومانيا بمثابة حاجز حصين ضدَّ تقدم الروسيا نحو الآستانة، خصوصًا وأن أهالي رومانيا لم يكونوا من العنصر الصقالبي الروسي؛ فيصعب على الروسيا استمالتهم إلى سياستها؛ لتمسكهم بجنسيتهم وخوفهم من تغلب الجنس الصقالبي عليهم، وهذا السبب عينه كان الباعث لدول أوروبا على تشكيل إمارة البلغار لتكون حاجزًا ثانيًا بعد رومانيا، وعلى مساعدة البلغار ضدَّ الروسيا في هذ السنين الأخيرة.

(١) فؤاد باشا الصدر الأعظم وإصلاحاته

قد ذكرنا أنه لما تولى السلطان عبد العزيز منصب الخلافة العظمى أبقى محمد أمين عالي باشا في الصدارة العظمى، لكن لم يلبث أن أقاله تبعًا للظروف في جمادى الأولى سنة ١٢٧٨ (الموافق نوفمبر سنة ١٨٦١)، وعين فؤاد باشا صدرًا أعظم، ولم تدم صدارته الأولى، بل فصل عنها، وبعد بعض تقلبات أُعِيد إليها بعد بضعة شهور؛ فبذل جهده في إصلاح المالية، التي كانت على شفا الإفلاس؛ بسبب الديون الكثيرة التي اقترضتها الدولة في أيام السلطان محمود الثاني وعبد المجيد بسبب إنشاء القوائم، التي هي عبارة عن أوراق صغيرة ملوَّنة بألوان مختلفة كل منها بقيمة معلومة من النقود، ولبيان سوء الأحوال المالية نقول: إنه لما انتشبت حرب استقلال اليونان، ودمرت الدول دونانماتها ظلمًا وتعصبًا التزمت الدولة — لتجديد مراكبها وتقوية جيوشها — إلى إصدار القوائم المالية، فأصدرت أوَّلًا في سنة ١٨٣٠ أوراقًا بمبلغ اثنين وثلاثين ألف كيسة بفائدة ثمانية في المائة سنويًّا تستهلك في ثماني سنوات، ثم بسبب حروب الشام بين مصر والدولة ما تيسر لها استهلاك هذا القدر، بل أصدرت أوراقًا بلا فائدة، وامتنعت عن دفع الفائدة عن الأوراق الأصلية، وتوالى بعد ذلك إصدار الأوراق في كل سنة تقريبًا.

ولما تربع السلطان عبد المجيد في دست الخلافة أراد سحب القوائم، إلا أن حرب القرم وما جرَّته على الدولة من المصاريف الباهظة منعه عن تتميم مشروعه، واضطرَّته الأحوال إلى الاستدانة من أوروبا للقيام بأعباء الحرب، ثم استغرقت المصاريف كلَّ القرض؛ فأصدر قوائم جديدة، واستمر الحال على هذا المنوال، وكل سنة تزداد الديون الخارجية والقوائم الداخلية حتى ولي فؤاد باشا منصب الصدارة؛ فأقنع جلالة السلطان عبد العزيز بضرورة إبطال القوائم وتسوية جميع الديون بكيفية منتظمة؛ فأصدر السلطان فرمانًا عاليًا في ٢٠ رجب سنة ١٢٧٨ (الموافق ٢١ يناير سنة ١٨٦٢) لفؤاد باشا بإصلاح المالية وإعمال ميزانية سنوية لإيرادات ومصروفات الدولة. ثم في ١٩ ذي الحجة سنة ١٢٧٨ (الموافق ١٧ يونيو سنة ١٨٦٢) أصدر إليه فرمانًا آخر أهم ما جاء به سحب القوائم بأجمعها، وتصفية جميع الديون السائرة، ودفع بدل القوائم نقودًا ذهبية أو فضية بقيمة أربعين في المائة وسهامًا جديدة بقيمة الستين في المائة الباقية.

واقترضت الدولة لإتمام هذه العملية المالية ثمانية ملايين جنيهًا إنكليزيًّا، ولما لم تَفِ اقترضت ثمانية أخرى بواسطة البنك العثماني الذي تأسس في هذه الغضون، ولكثرة المصاريف في الإصلاحات الداخلية وغيرها كثرت الديون وتراكمت، وصار دفع الكوبونات (الفوائد) حملًا ثقيلًا على عاتق ميزانية الدولة؛ فأمر السلطان بالاقتصاد من جميع فروع الميزانية حتى من المبالغ المخصصة لسرايته الخاصة، وبذلك أمكن ناظر المالية مصطفى فاضل باشا٢ القيام بدفع الفوائد، وأخيرًا لعدم موافقة ناظر المالية لفؤاد باشا على مشروعاته المالية عزل مصطفى باشا فاضل وعين كاني باشا مكانه، فقدم هذا الأخير بالاتحاد مع فؤاد باشا تقريرًا إلى السلطان بتاريخ ٢١ شوَّال سنة ١٢٨١ (الموافق ١٩ مارس سنة ١٨٦٥) قاضيًا بإنشاء سجل مخصوص لجميع الدينون وقيدها به بعد توحيدها، فصدرت إرادة سنية باعتماد هذا التقرير، وسجل بمقتضاه أربعون مليون جنيهًا عثمانيًّا، لكن لم يأتِ زمن دفع الكوبون إلا والخزينة ناضبة لا يوجد بها ما يكفي لدفعه؛ فاضطرَّت الدولة إلى إصدار سهام جديدة بواسطة البنك العثماني بمدينتيْ باريس ولوندرة؛ فأصدرها البنك في شعبان سنة ١٢٨٢ (الموافق دسمبر سنة ١٨٦٥) بفائدة ١٢ في المائة، ولضعف الثقة بمالية الدولة لم يقدم أصحاب الأموال على الاكتتاب، ولم يتحصل من هذه السهام الجديدة إلا ما يكفي لدفع الكوبون المستحق فقط.

ولاستمرار هذا الضيق وعدم وجود النقود الكافية للمصروفات الضرورية؛ سعى به أرباب الغايات لدى جلالة السلطان، وأفهموه أن هذا العسر ناشئ عن سوء تدابير فؤاد باشا للمالية؛ فعزله واستبدله بمحمد رشدي باشا، وأصدر له فرمانًا بذلك بتاريخ ٢١ محرم سنة ١٢٨٣ (الموافق ٤ يونيو سنة ١٨٦٦)، فسعى مرتين في إصدار قرض لتسوية الديون السائرة ولم ينجح، وأخيرًا اتفق مع البنك العثماني على أن يدفع البنك فوائد الديون المقيدة في السجل العمومي كل ثلاثة أشهر وتتنازل له الدولة لوفائها عن بعض إيرادات معينة، وبذلك أمكن دفع الكوبونات أوَّلًا فأوَّلًا، واتقى شرَّ تأخير دفعها الذي يعدُّ في عرف المالية إفلاسًا، وصارت الدولة تقترض ما يلزمها من البنوك بدون إصدار أسهم عمومية.

بعد أن استقرَّت أحوال الدولة المالية أو كادت تحرَّكت الفتن السياسية أوَّلًا بسبب عدم قبول حكومة الصرب باتفاق ١١ ربيع الأوَّل سنة ١٢٧٩ (الموافق ٨ سبتمبر سنة ١٨٦٢) (راجع صحيفة ٢٩١) القاضي ببقاء الجيوش العثمانية محتلة لأربع قلاع بداخل بلاد الصرب كما سبق ذكر ذلك، وطلبها من الدول بكل إلحاح إبطال هذا الشرط وانجلاء عساكر الدولة عنها قطعيًّا، فلم تقبل الدولة، بل هدَّدت الصرب بالحرب لو مست عساكرها المحتلين بسوء، ولكن اشتعال نار الفتن بكريد أشغلها عن إخضاعها، وقبلت أخيرًا في ذي القعدة سنة ١٢٨٣ (الموافق مارس سنة ١٨٦٧) سحبَ عساكرها؛ فكمل استقلال الصرب، ولم يبقَ على أميرها إلا لقب ملك.

ومثل ذلك حصل بخصوص الاعتراف بانتخاب البرنس شارل دي هوهنزولرن البروسي؛ فإن الدولة بعد أن جمعت جيشًا جرارًا على حدود رومانيا لفسخ الانتخاب وإلزام الأهالي باتباع نصوص المعاهدات اضطرَّتها ثورة كريد إلى العدول عن هذه الخطة والاعتراف بانتخابه. ولقد أصابت الدولة في ذلك؛ لأن وجود مثل هذه الإمارة في طريق الروسيا يفيدها وقت الحرب، خصوصًا إذا لم يكن أميرها مصافيًا للروسيا ولا متحدًا معها في المذهب والجنس.

ثورة كريد

أما ثورة جزيرة كريد فنشأت من دسائس اليونان بها وسعيهم في ضمها إليهم، لكن يظهر أن مصلحة الدول البحرية لم تسمح لهم هذه المرَّة بتأييد مطالب اليونان، بل كانت كلها مضادَّة لسلخ هذه الجزيرة عن أملاك الدولة العلية.

ولذلك منعت الدول مملكة اليونان من مساعدة الجزيرة الثائرة، وأرسلت الدولة العثمانية لقمعها جيشًا عرمرمًا، وأرسل المرحوم إسماعيل باشا — خديوي مصر الأسبق — فرقة لمساعدتها على مقتضى الفرمانات، وأظهرت الجيوش المصرية بها شجاعتها المعتادة، وفازت بالنصر في عدَّة مواقع مهمة، خصوصًا في واقعة أرقاذي (أركاديون) حتى استحقوا ثناء خديويهم عليهم وشكره لهم، فأرسل لهم بكريد رسالة قرئت على جميع العساكر والضباط المصريين، وكان المحرر لها المرحوم عبد الله باشا فكري، الذي كان إذ ذاك ناظر قلمي التحريرات والعرضحالات، وقد أردنا إيرادها حرفيًّا لرقة مبانيها ودقة معانيها شاهدة بفضل المصريين في براعة التحرير كما تشهد لهم بالنصر والفوز العظيم، وها هي بحروفها:

إلى من باشروا واقعة «أرقاذي» من الضباط الجهادية وأفراد العساكر المصرية، سلام من الله وتسليم ورضوان كريم يُهْدَى لأولكم وآخركم ويُسْدَى لمأموركم وآمركم، لا زلتم محفوفين من الله بنصره، محفوظين بأمره، غالبين على عدوِّكم بقهره، متقلبين في نعمته وبره، ولا انفكت عزائمكم في كروب الحرب عزائم، وصوارمكم في قطوب الخطوب بواسم، وأعلامكم للنجح والتمكين علائم، وأيامكم للفتح المبين مواسم، ورياح القهر والدمار على عدوِّكم سمائم، ونسمات النصر والفخار في رواحكم وغدوِّكم نواسم (وبعد).

فما زلت أتشوق من أخبار شجاعتكم ما يسرُّ الخواطر، وأتشوف من آثار براعتكم ما يقرُّ النواظر، واثقًا بعزمكم وحزمكم في المضايق مبتهجًا بما أبديتموه من حسن السوابق حتى ورد فابور الشرقية من طرف حضرة الباشا ناظر الجهادية بيوميات الوقائع العسكرية، مشتملة على واقعة أرقاذي وتفصيلاتها، وما كان من رسوخ أقدامكم وثباتها وأقدامكم في جهاتها، واقتحامكم مضايق حصونها واستحكاماتها، وتسخير مستعصماتها وتدمير أشقياء العصاة وكماتها، حتى زلرلت صياصيها، وذللت نواصيها، ودنا لكم قاصيها ودان عاصيها، فهكذا تكون رجال الجهاد وأبطال الجدال والجلاد، وهكذا تفتح الحصون ويبرز سرُّ النصر المصون، وفي ذلك فليتنافس المتنافسون. فقد أسفر لكم بحمد الله وجه التهاني، وأثمر فيكم بعون الله غرس الأماني، وأيدتم ما ثبت للعساكر المصرية من حسن الأمور العسكرية، فحصل لي من الأنس والسرور بهذه البشارة ما لا تقدر الألسن أن تصف مقداره ولا يتسع له مجال الإشارة، وتأيد فيكم حسن أنظاري، وظهرت ثمرات أفكاري، وتحققت أنكم الآن بعون الله الكريم لا تزلُّون عن هذا الطريق القويم، ولا تزالون في تأييد ما لكم من المجد القديم.

وقد شاع حديث نصرتكم بين الأهل والديار، وسارت الركبان بمحاسن هذه الأخبار كما نقلته صحائف الوقائع إلى جميع الأقطار؛ فانشرحت صدور أهلكم وإخوانكم، وفرحت بكم جميع أهل بلدانكم، وابتسمت ثغور أوطانكم، وافتخرت بأحاديث شجعانكم، وارتاحت أرواح الشهداء من أقرانكم. والمأمول في ألطاف الله العلية وبركات السلطنة السنية، ثم في حميتكم الملية وغيرتكم الوطنية أن يزول حال الاختلال عن قرب، وينتهي أمر القتال والحرب، ويطيع الجميع ويسهل كل صعب منيع، وتعودوا لوطننا العزيز ظافرين بالنصر والتعزيز، وقد قرب حصول الأمل ونجاح العمل، ومضى الأكثر وبقي الأقل، والحرب للرجل العسكري والبطل الجريء سوق عظيم وموسم كريم تُشترى فيه غوالي المعالي بأعالي الغوالي، وتُنال فيه منازل الأكارم في ظلال السيوف الصوارم، ويدرك الفخر الصادق بمرامي المدافع والبنادق.

وقد علمتم أن الشجاعة وإن كانت تبلغ الآمال لا تقصر الآجال، كما أن الجبن وإن كان يورث العار لا يؤخر الأعمار، وإنما هي آجال محدودة وأنفاس معدودة، لا تقبل التغيير ولا التقديم والتأخير. والشجاعة صبر ساعة ثم ينكشف الغبار وتسفر الأخبار، ويتناقل حديث الشجعان ويخلد في تواريخ الزمان، فدوموا على إبداء الاجتهاد وقوموا بأداء حقوق الجهاد، واثبتوا على الشجاعة والإقدام وثبات القلوب والأقدام، وأنجزوا بمعونة الله تمام هذا المرام، وكما جودتم براعة المطلع فأحسنوا براعة الختام. ا.ﻫ.

ولم يكن اهتمام الدولة العلية ورجالها بأقل من اهتمام الجنود المصرية المظفرة، فبعد أن وجهت إليها الجيوش أرسلت إليها مندوبًا ساميًا للمفاوضة مع الثائرين اسمه كريدلي محمد باشا لمعرفته أحوال البلاد، لكن لم ينجح في مأموريته لما كان بينه وبين أعيان الجزيرة من الشحناء؛ بسبب ولايته السابقة على تلك الجزيرة.

ثم في ٦ شوال سنة ١٢٨٣ (الموافق ١١ فبراير سنة ١٨٦٧)، استقال محمد رشدي باشا من منصب الصدارة، فعين السلطان مكانه محمد أمين عالي باشا ثانيًا، وأبقى محمد رشدي باشا المذكور في وظيفة السر عسكرية، وأعاد محمد فؤاد باشا — الصدر الأسبق — إلى نظارة الخارجية، وكانت أوَّل أعمال هذه النظارة أن استدعت كريدلي محمد باشا من جزيرة كريد، وأرسلت عمر باشا — بطل القرم — إليها بوظيفة قائد عام لجميع الجيوش المحاربة بها؛ فحارب الثائرين بكل شدَّة وصرامة، وعند ذلك تداخلت بعض الدول وطلبت إرسال لجنة دولية إلى الجزيرة لتسوية الأحوال؛ فرفض الباب العالي هذا الطلب لعدم اتفاق الدول عليه، واقترح من نفسه إرسال مندوب سامٍ سياسي للنظر في شئون الجزيرة، وسافر إليها بهذه الصفة الصدر الأعظم عالي باشا في ٤ أكتوبر سنة ١٨٦٧. وهناك بذل جهده في تسكين خاطر الأعيان بمنحهم الرتب والنياشين، ثم أقال عمر باشا لعدم اتفاقه مع رجال البحرية المراقبين لشواطئ الجزيرة، وأقام حسين عوني باشا مكانه، وعينه واليًا للجزيرة. وبعد أن رتب الأحوال عاد إلى الآستانة في أوائل سنة ١٨٦٨ لاطِّراد المخابرات السياسية بشأن تظاهر مملكة اليونان لمساعدة الثائرين، وطلبها ضم الجزيرة إليها بأي طريقة ولو أدَّت الحال إلى الحرب، لكن لم تساعدها الدول على ذلك، وأظهرت لها الجفاء، وتهدَّدتها بما لا تحمد عقباه لو أثارت نار الحرب.

وأخيرًا انعقد بباريس مؤتمر من مندوبي الدول الموقعة على عهدة سنة ١٨٥٦، وبعد مداولات وتبادل عدَّة محررات أصدر السلطان إرادة سنية بتاريخ ١٢ جمادى الثانية سنة ١٢٨٦ (الموافق ١٩ سبتمبر سنة ١٨٦٩) يمنح الجزيرة بعض امتيازات وإعفاء أهلها من دفع أموال سنتين كانت متأخرة عليهم ومن الخدمة العسكرية، وبذلك انتهت هذه الثورة مؤقتًا؛ إذ اليونان لا تترك أي فرصة لتحريضها على الثورة لضمها إليها.

(٢) سفر السلطان عبد العزيز لمصر

ومما امتاز به السلطان عبد العزيز خان عما عداه من السلاطين العثمانيين تفقده ممالكه المحروسة بنفسه وسياحته خارجًا عنها؛ فقد سافر — رحمه الله — إلى وادي النيل في ١٤ شوَّال سنة ١٢٧٩ يصحبه في معيته الشريفة الأمراء الأماجد: مراد أفندي الذي تولى منصب الخلافة بعد المرحوم السلطان عبد العزيز، وعبد الحميد أفندي خليفتنا الحالي، ورشاد أفندي، ويوسف عز الدين أفندي، والوزيران فؤاد باشا ومحمد باشا، فزار الإسكندرية ومحروسة مصر، ثم عاد إلى دار السعادة باليمن والإقبال. وكان سفره من الآستانة بعد أن افتتح المعرض العثماني الذي أقيم بها لتنشيط الصنائع الوطنية في ١٠ رمضان سنة ١٢٧٩ بحضور ضيفه الكريم إسماعيل باشا، خدوينا الأسبق.

(٣) سفر السلطان لباريس

وفي ١٩ صفر سنة ١٢٨٤ (الموافق ٢٢ يونيو سنة ١٨٦٧)، سافر قاصدًا مدينة باريس الزاهية الزاهرة، على دعوى الإمبراطور نابليون الثالث لحضور المعرض العام الذي أقيم فيها، ودعا إليه الإمبراطور أغلب ملوك الدنيا، وكان من ضمن المدعوين خديوي مصر إسماعيل باشا، فأبحر من الإسكندرية في ٧ من شهر صفر المذكور على سفينة المحروسة ليكون بباريس حين قدوم جلالة السلطان عبد العزيز إليها، ثم عاد جلالة السلطان المعظم إلى مقرِّ خلافته عن طريق وارنة في ٦ ربيع الثاني سنة ١٢٨٤ (٧ أغسطس ١٨٦٧) بعد أن تغيَّب عنها ستة أسابيع ألفى في خلالها من حسن الملاقاة وكرم الوفادة ما طُبِع عليه الفرنسويون واشتهر عنهم.

أما الإصلاحات التي أجريت في داخلية الممالك المحروسة في خلافته فيعد منها ولا تعد، فمنها القانون القاضي بجواز انتقال الأراضي الميرية (الخراجية) والموقوفة لورثة صاحب المنفعة، الصادر في ١٧ محرم سنة ١٢٨٤، وهو يشبه لائحة الأطيان السعيدية المصرية، والقوانين التي أجازت للأجانب امتلاك العقارات وكافة الحقوق العينية والتصرُّف فيها بجميع الممالك المحروسة بعد أن كانت ممنوعة عنهم كلية، وذلك في سنة ١٢٨٥ الموافقة سنة ١٨٦٩.

(٤) وضع مجلة الأحكام العدلية

ومنها وضع مجلة الأحكام الشرعية ليعمل بها في المحاكم النظامية التي أنشئت وكان جاريًا إصلاحها، وكان وضع هذه المجلة بمعرفة لجنة من أشهر متشرعي هذا العصر، وإليك نص التقرير الذي قدمته إلى محمد أمين عالي باشا — الصدر الأعظم — في غرة محرم سنة ١٢٨٦ منقولًا من منتخبات الجوائب:

لا يخفى على حضرة الصدر العالي أن الجهة التي تتعلق بأمر الدنيا من علم الفقه، كما أنها تنقسم إلى مناكحات ومعاملات وعقوبة، كذلك القوانين السياسية للأمم المتمدنة تنقسم إلى هذه الأقسام الثلاثة، ويسمى قسم المعاملات منها القانون المدني، لكنه لما زاد اتساع المعاملات التجارية في هذه الأعصار مسَّت الحاجة إلى استثناء كثير من المعاملات كالسفتجة التي يسمونها حوالة، وكأحكام الإفلاس وغيرهما من القانون الأصلي، ووُضِعَ لهذه المستثنيات قانون مخصوص يسمى قانون التجارة، وصار معمولًا به في الخصوصيات التجارية فقط.

وأما سائر الجهات فما زالت أحكامها تجري على القانون المدني، ومع ذلك فالدعاوى التي ترى في محاكم التجارة إذا ظهر شيء من متفرعاتها ليس له حكم في قانون التجارة مثل الرهن والكفالة والوكالة يرجع فيه إلى القانون الأصلي، وكيفما وجد مسطورًا فيه يجري الحكم على مقتضاه، وكذا في دعاوى الحقوق العادية الناشئة عن الجرائم تجري المعاملة بها على هذا المنوال أيضًا.

وقد وضعت الدولة العلية قديمًا وحديثًا قوانين كثيرة تقابل القانون المدني، وهي وإن لم تكن كافية لبيان جميع المعاملات وفصلها إلا أن المسائل المتعلقة بقسم المعاملات من علم الفقه هي كافية وافية للاحتياجات الواقعة في هذا الخصوص. ولقلما يُرى بعض مشكلات في تحويل الدعاوى السابق إلى الشرع والقانون، غير أن مجالس تمييز الحقوق لما كانت تحت رئاسة حكام الشرع، فكما أن الدعاوى الشرعية تصير رؤيتها وفصلها لديهم كذلك كانت المواد النظامية التي تحال إلى تلك المجالس ترى وتفصل بمعرفتهم أيضًا، وبذلك يجري حل تلك المشكلات من حيث إن أصل القوانين والنظامات الملكية ومرجعهما هو علم الفقه، وكثير من الخصوصيات المتفرعة والأمور التي ينظر فيها بمقتضى النظام يفصل ويحسم على وفق المسائل الفقهية. والحال أن أعضاء مجالس تمييز الحقوق لا اطلاع لهم على مسائل علم الفقه، فإذا حكمت حكام الشرع الشريف في تلك الفروع بمقتضى الأحكام الشرعية ظن الأعضاء أنهم يفعلون ما يشاءون خارجًا عن النظامات والقوانين الموضوعة وأساءوا بهم الظن؛ فيصير ذلك باعثًا على القيل والقال.

ثم إن قانون التجارة الهمايوني هو دستور العمل في محاكم التجارة الموجودة في ممالك الدولة العلية. وأما الخصوصيات المتفرعة عن الدعاوى التجارية التي لا حكم لها في قانون التجارة فيحصل بها مشكلات عظيمة؛ لأنه إذا صارت المراجعة في مثل هذه الخصوصيات إلى قوانين أوروبا وهي ليست موضوعة بالإرادة السنية فلا تصير مدار الحكم في محاكم الدولة العلية، وإذا أحيل فصل تلك المشكلات إلى الشريعة الغراء فالمحاكم الشرعية تصير مجبورة على استئناف المرافعة في تلك الدعوى، وحينئذٍ فالحكم على قضية واحدة في محكمتين كل منهما تغاير الأخرى في أصول المحاكمة ينشأ عنه بالطبع تشعب ومباينة. ففي مثل هذه الأحوال لا يمكن لمحاكم التجارة مراجعة المحاكم الشرعية، وإذا قيل لأعضاء محاكم التجارة أن يراجعوا الكتب الفقهية فهذا أيضًا لا يمكن؛ لأن هؤلاء الأعضاء على حدٍّ سواء مع أعضاء مجالس تمييز الحقوق في الاطلاع على المسائل الفقهية.

ولا يخفى أن علم الفقه بحر لا ساحل له، واستنباط درر المسائل اللازمة منه لحل المشكلات يتوقف على مهارة علمية وملكة كلية وعلى الخصوص مذهب الحنفية؛ لأنه قام فيه مجتهدون كثيرون متفاوتون في الطبقة، ووقع فيه اختلافات كثيرة، ومع ذلك فلم يحصل فيه تنقيح كما حصل في فقه الشافعية، بل لم تزل مسائله أشتاتًا متشعبة، فتمييز القول الصحيح من بين تلك المسائل والأقوال المختلفة وتطبيق الحوادث عليها عسير جدًّا، وما عدا ذلك فإنه بتبدل الأعصار تتبدل المسائل التي يلزم بناؤها على العادة والعرف، مثلًا كان عند المتقدمين من الفقهاء إذا أراد أحد شراء دار اكتفى برؤية بعض بيوتها، وعند المتأخرين لا بد من رؤية كل بيت منها على حدته، وهذا الاختلاف ليس مستندًا إلى دليل، بل هو ناشئ عن اختلاف العرف والعادة في أمر الإنشاء والبناء؛ وذلك أن العادة قديمًا في إنشاء الدور وبنائها أن تكون جميع بيوتها متساوية وعلى طرز واحد، فكانت رؤية بعض البيوت على هذا تُغني عن رؤية سائرها.

وأما في هذا العصر فحيث جرت العادة بأن الدار الواحدة تكون بيوتها مختلفة في الشكل والقدر لزم عند البيع رؤية كل منها على الانفراد. وفي الحقيقة فاللازم في هذه المسألة وأمثالها حصول علم كافٍ بالمَبِيع عند المشتري؛ ومن ثم لم يكن الاختلاف الواقع في مثل المسألة المذكورة تغييرًا للقاعدة الشرعية، وإنما تغير الحكم فيها بتغير أحوال الزمان فقط، وتفريق الاختلاف الزماني والاختلاف البرهاني الواقع هنا وتمييزها محوج إلى زيادة التدقيق وإمعان النظر. فلا جرم أن الإحاطة بالمسائل الفقهية وبلوغ النهاية في معرفتها أمر صعب جدًّا؛ ولذا انتدب جمع من فقهاء العصر وفضلائه لتأليف كتب مطولة مثل كتاب الفتاوى التاتارخانية، والعالمكيرية المشهورة الآن بالفتاوى الهندية، ومع ذلك فلم يقدروا على حصر جميع الفروع الفقهية والاختلافات المذهبية.

وفي الواقع فإن كتب الفتاوى هي عبارة عن مؤلفات حاوية لصور ما حصل تطبيقه من الحوادث على القواعد الفقهية وأفتيت به الفتاوى فيما مَرَّ من الزمان. ولا شك أن الإحاطة بجميع الفتاوى التي أفتى بها علماء السادة الحنفية في العصور الماضية عسر للغاية؛ ولهذا جمع ابن نجيم — رحمه الله تعالى — كثيرًا من القواعد الفقهية والمسائل الكلية المندرج تحتها فروع الفقه؛ ففتح بذلك بابًا يسهل التوصل منه إلى الإحاطة بالمسائل، ولكن لم يسمح الزمان بعده بعالم فقيه يحذو حذوه حتى يجعل أثره طريقًا واسعًا. وأما الآن فقد نَدَرَ وجود المتبحرين في العلوم الشرعية في جميع الجهات، وفضلًا عن أنه لا يمكن تعيين أعضاء في المحاكم النظامية لهم قدرة على مراجعة الكتب الفقهية وقت الحاجة لحل الإشكالات، فقد صار من الصعب أيضًا وجود قضاة للمحاكم الشرعية الكائنة في الممالك المحروسة.

بناءً على ذلك لم يزل الأمل معلقًا بتأليف كتاب في المعاملات الفقهية يكون مضبوطًا سهل المأخذ، عاريًا من الاختلافات، حاويًا للأقوال المختارة، سهل المطالعة على كل أحد؛ لأنه إذا وجد كتاب على هذا الشكل حصل منه فائدة عظيمة عامة لكلٍّ من نواب الشرع ومن أعضاء المحاكم النظامية وللمأمورين بالإدارة، فيحصل لهم بمطالعته انتساب إلى الشرع، ولدى الإيجاب تصير لهم ملكة بحسب الوسع يقتدرون بها على التوفيق ما بين الدعاوى والشرع الشريف، فيصير هذا الكتاب معتَبَرًا مرعيَّ الإجراء في المحاكم الشرعية، مُغْنِيًا عن وضع قانون لدعاوى الحقوق التي ترى في المحاكم النظامية.

ومن أجل الحصول على هذا المأمول عقدت سابقًا جمعية علمية في إدارة مجلس التنظيمات، وحرر حينئذٍ كثير من المسائل، ولكن لم تبرز إلى حيز الفعل، فصدق مضمون قولهم: إن الأمور مرهونة لأوقاتها، حتى شاء الله تعالى بروز ما في هذا العصر الهمايوني الذي صار مغبوطًا من جميع الأعصار بظهور مثل هذه الآثار الخيرية المهمة. ولأجل حصول هذا الأمر مع سائر الآثار الحسنة الكثيرة التي هي من التوفيقات الجليلة السلطانية المشهودة بعين الافتخار للبرية، أحيل على عهدتنا مع ضعفنا وعجزنا إتمام هذا المشروع الجميل والأثر الخيري السديد لتحصل به الكفاية في تطبيق المعاملات الجارية على القواعد الفقهية على حسب احتياجات العصر. وبموجب الإرادة العلية اجتمعنا في دائرة ديوان الأحكام وبادرنا إلى ترتيب مجلة مؤلفة من المسائل والأمور الكثيرة الوقوع اللازمة جدًّا من قسم المعاملات الفقهية، مجموعة من أقوال السادة الحنفية الموثوق بها، وقسمت إلى كتب متعددة، وسميت بالأحكام العدلية. وبعد ختام المقدِّمة والكتاب الأوَّل منها أعطيت نسخة منهما لمقام مشيخة الإسلام، ونسخ أخرى لمن له مهارة ومعرفة كافية في علم الفقه من الذوات الفخام. ثم بعد إجراء ما لزم من التهذيب والتعديل فيها بناءً على بعض ملاحظات منهم حررت منها نسخة وعرضت على حضرتكم العلية، والآن حصلت المبادرة إلى ترجمة هذه المقدِّمة والكتاب إلى اللغة العربية، وما زال الاهتمام مصروفًا إلى تأليف باقي الكتب أيضًا.

فلدى مطالعتكم هذه المجلة يحيط علمكم العالي بأن المقالة الثانية من المقدِّمة هي عبارة عن القواعد التي جمعها ابن نجيم ومن سلك مسلكه من الفقهاء رحمهم الله تعالى. فحكام الشرع ما لم يقفوا على نقل صريح لا يحكمون بمجرَّد الاستناد إلى واحدة من هذه القواعد، إلا أن لها فائدة كلية في ضبط المسائل، فمن اطلع عليها من المطالعين يضبطون المسائل بأداتها، وسائر المأمورين يرجعون إليها في كل خصوص. وبهذه القواعد يمكن للإنسان تطبيق معاملاته على الشرع الشريف أو في الأقل التقريب. وبناءً على ذلك لم نكتب هذه القواعد تحت عنوان كتب أو باب، بل أدرجناها في المقدمة، والأكثر في الكتب الفقهية أن تذكر المسائل مخلوطة مع المبادئ، لكن في هذه المجلة حرر في أوَّل كل كتاب مقدِّمة تشتمل على الاصطلاحات المتعلقة بذلك الكتاب، ثم نذكر بعدها المسائل الساذجة على الترتيب، ولأجل إيضاح تلك المسائل الأساسية أدرج ضمنها كثير من المسائل المستخرجة من كتب الفتاوى على سبيل التمثيل.

ثم إن الأخذ والعطاء الجاري في زماننا أكثره مربوط بالشروط، وفي مذهب الحنفية أن الشروط الواقعة في صلب العقد أكثرها مفسد للبيع؛ ومن ثم كان أهمُّ المباحث في كتاب البيوع فصل البيع بالشرط، وهذا الأمر أوجب مباحثات ومناظرات كثيرة في جمعية هؤلاء العاجزين؛ ولذا رُئِيَ مناسبًا إيراد خلاصة المباحثات الجارية في ذلك على الوجه الآتي:

فنقول: إن أقوال أكثر المجتهدين في حق البيع بالشرط يخالف بعضها بعضًا؛ ففي مذهب المالكية إذا كانت المدَّة جزئية، وفي مذهب الحنابلة على الإطلاق يكون للبائع وحده أن يشرط لنفسه منفعة مخصوصة في المَبِيع، لكن تخصيص البائع بهذا الأمر دون المشتري يُرَى مخالفًا للرأي والقياس. أما ابن أبي ليلى وابن شبرمة ممن عاصروا الإمام الأعظم — رضي الله عنه — وانقرضت أتباعهم، فكل منهما رأى في هذا الشأن رأيًا يخالف رأي الآخر؛ فابن أبي ليلى يرى أن البيع إذا دخله أي شرط كانَ فَقَدْ فَسَدَ البيع والشرط كلاهما، وعند ابن شبرمة أن الشرط والبيع جائزان على الإطلاق.

فمذهب ابن أبي ليلى يرى مباينًا لحديث «المسلمون عند شروطهم»، ومذهب ابن شبرمة موافق لهذا الحديث موافقةً تامة، لكن المتبايعين ربما يشرطان أيَّ شرط كان جائزًا أو غير جائز قابل الإجراء أو غير قابل. ومن الأمور المسلمة عند الفقهاء أن رعاية الشرط إنما تكون بقدر الإمكان، فمسألة الرعاية للشرط قاعدة تقبل التخصيص والاستثناء؛ ولذا اتخذ طريق متوسط عند الحنفية؛ وذلك أن الشرط ينقسم إلى ثلاثة أقسام: شرط جائز وشرط مفسد وشرط لغو؛ بيان هذا أن الشرط الذي لا يكون من مقتضيات عقد البيع ولا مما يؤيده وفيه نفع لأحد المتعاقدين مفسد والبيع المعلق به يكون فاسدًا، والشرط الذي لا نفع فيه لأحد العاقدين لغو والبيع المعلق به صحيح؛ لأن المقصود من البيع والشراء التمليك، والتملك أي أن يكون البائع مالكًا للثمن والمشتري مالكًا للمبيع بلا مزاحم ولا ممانع، والبيع المعلق به نفع لأحد المتعاقدين يؤدي إلى المنازعة؛ لأن المشروط له النفع يطلب حصوله والآخر يريد الفرار منه فكان البيع لا يتم. لكن بما أن العرف والعادة قاطع للمنازعة جُوِّز البيع مع الشرط المتعارف على الإطلاق.

أما المعاملات التجارية، فهي من أصلها في حال مستثنى كما تقدَّم، وأكثر ذوي الحرف والصنائع قد تعارفوا على معاملة مخصوصة تقررت بينهم، والعرف الطارئ معتبر؛ فلا يبقى ما يوجب البحث إلا بعض شروط خارجة عن العرف، والعادة تشترط في المعاملات المتفرقة في الأخذ والعطاء، وليس لهذه المعاملات شأن يوجب الاعتناء بالبحث عنها، فما مست الحاجة في تيسير معاملات العصر إلى اختيار قول ابن شبرمة الخارج عن مذهب الحنفية؛ ولهذا حصل الاكتفاء بذكر الشروط التي لا تفسد البيع عند الحنفية في الفصل الرابع من الباب الأوَّل كما وقع في سائر الفصول.

قد ذكر في المادة السابعة والتسعين بعد المائة والمادة الخامسة بعد الثمانين أنه لا يصح بيع المعدوم، والحال أن ما كان مثل الورد والخرشوم من الأزهار والخضراوات والفواكه التي يتلاحق ظهور محصولاتها يصح فيه البيع إذا كان بعض محصولاتها ظهر وبعضها لم يظهر؛ لأنه لما كان ظهور محصولاتها دفعة واحدة غير ممكن، وإنما تظهر أفرادها وتتناقص شيئًا بعد شيء، اصطلح الناس في العامل على بيع جميع محصولاتها الموجودة والمتلاحقة بصفقة واحدة؛ ولذا جوَّز الإمام محمد بن حسين الشيباني — رحمه الله تعالى — هذا البيع استحسانًا، وقال: اجعل الموجود أصلًا والمعدوم تبعًا له، وأفتى بقوله الإمام الفضلي وشمس الأئمة الحلواني وأبو بكر بن فضل رحمهم الله تعالى. وحيث إن إرجاع الناس من عادتهم المعروفة عندهم غير ممكن، كما أن حمل معاملتهم بحسب الإمكان على الصحة أولى من نسبتها إلى الفساد؛ وقع الاختيار لترجيح قول محمد — رحمه الله — في هذه المسألة كما هو مندرج في المادة السابعة بعد المائتين.

وفي بيع الصبرة كل مدٍّ بكذا عند الإمام الأعظم — رضي الله عنه — يصح البيع في مدٍّ واحد فقط، وعند الإمامين — رحمهما الله تعالى — يصح في جميع الصبرة، فمهما بلغت الصبرة يأخذها المشتري ويدفع ثمنها بحساب المدِّ بسعر ما جرى عليه العقد، وحيث إن كثيرًا من الفقهاء مثل صاحب الهداية قد اختاروا قول الإمامين في ذلك تيسيرًا لمعاملات الناس، حررت هذه المسألة في المادة العشرين بعد المائتين على مقتضى قولهما، وأكثر مدة خيار الشرط عند الإمام — رحمه الله تعالى — ثلاثة أيام، وعند الإمامين تكون المدَّة على قدر ما شرط المتعاقدان من الأيام. ولما كان قولهما هنا أيضًا أوفق للحال والمصلحة وقع عليه الاختيار، وذكر بدون مدَّة الأيام الثلاثة في المادة الثلاثمائة، وهذا الخلاف جارٍ أيضًا في خيار النقد، إلا أن عدم تقييد المدَّة بثلاثة أيام وصحة تقييدها بأكثر من ذلك هو قول محمد رحمه الله تعالى فقط، وإنما اختير قوله في هذه المسألة أيضًا مراعاة لمصلحة الناس كما ذكر في المادة الثالثة عشرة بعد الثلاثمائة.

وعند الإمام الأعظم أن المستصنع له الرجوع بعد عقد الاستصناع، وعند الإمام أبي يوسف — رحمه الله — أنه إذا وجد المصنوع موافقًا للصفات التي بينت وقت العقد فليس له الرجوع. والحال أنه في هذا الزمان قد اتخذت معامل كثيرة تصنع فيها المدافع والبواخر (الفابورات) ونحوها بالمقاولة، وبذلك صار الاستصناع من الأمور الجارية العظيمة، فتخيير المستصنع في إمضاء العقد أو فسخه يترتب عليه الإخلال بمصالح جسيمة، وحيث إن الاستصناع مستند إلى التعارف ومَقِيس على السلم المشروع على خلاف القياس بناءً على عرف الناس؛ لزم اختيار قول أبي يوسف — رحمه الله تعالى — في هذا؛ مراعاة لمصلحة الوقت، كما حرر في المادة الثانية والتسعين بعد الثلاثمائة من هذه المجلة.

فإذا أمر إمام المسلمين بتخصيص العمل بقول من المسائل المجتهد فيها تعيَّن ووجب العمل بقوله، وإذا صارت هذه المعروضات المبسوطة لدى حضرتكم العلية قرينة التصويب يجري توشيح أعلى المجلة الملفوفة بالخط الشريف الهمايوني، والأمر لولي الأمر.

أحمد جودت (ناظر ديوان الأحكام العدلية)
السيد خليل (مفتش الأوقاف الهمايونية)
سيف الدين (من أعضاء شورى الدولة)
السيد أحمد خلوصي (من أعضاء ديوان الأحكام العدلية)
السيد أحمد حلمي (من أعضاء ديوان الأحكام العدلية)
محمد أمين الجندي (من أعضاء شورى الدولة)
علاء الدين بن ابن عابدين (من أعضاء الجمعية)

هذا؛ ومن جهة الأمور المتعلقة بالإمارات الممتازة فقد ابتدأت دسائس جمعيات الصقالية في بلاد البلغار، الواقعة بين نهر الطونة وجبال البلقان، لسلخها عن الدولة، وكذلك في ولايتي البوسنة والهرسك، بدعوى الاشتراك مع الروسيين في الجنس والدين، وكانت رومانيا من أقوى المساعدين لهذه الجمعيات، فكانت تأوي إليها العصب المتسلحة وتشنُّ الغارة على بلاد البلغار؛ لتحريضهم على العصيان وطلب الاستقلال، لكن لم تمتدَّ بها الفتن، بل كان يطفأ شرارها أوَّلًا بأوَّل قبل أن يصير لهبًا بهمة أحمد مدحت باشا الشهير والي هذا الإقليم، وكذلك الحال في بلاد البوسنة والهرسك.

أما قطرنا المصري السعيد، فحصل على جملة امتيازات في عهد السلطان عبد العزيز لما كان بينه وبين إسماعيل باشا من الروابط الخصوصية وما كان له بين حاشية السلطان ووزرائه من المساعدين، جعلت ولاية مصر خديوية بمقتضى فرمان تاريخه ٥ ربيع الأول سنة ١٢٨٤.

(٥) الفرمان الشامل لجميع امتيازات الخديوية المصرية

وفي سنة ١٢٨٣ غيرت طريقة التوارث في الخديوية المصرية، وحصرت في ذرية إسماعيل باشا المذكور، ثم في سنة ١٢٨٩ أعطيت له عدة امتيازات جديدة، وفي ١٣ ربيع الآخر سنة ١٢٩٠ (الموافق ٨ يونيو سنة ١٨٧٣) أرسل إليه فرمان جديد شامل لجميع امتيازات مصر وكيفية التوارث في منصب الخديوية، ولكونه جامعًا لكافة ما سبق آثرنا نشره حرفيًّا اكتفاءً به عن باقي الفرمانات السابقة الداخلة معناها ضمن هذا الفرمان، وها هو:

فمن المعلوم لديكم أنكم استدعيتم منا جمع الخطوط الهمايونية والأوامر الشريفة السلطانية التي صدرت منذ توجيه الخديوية الجليلة بطريق التوارث إلى عهدة والي مصر الأسبق محمد علي باشا المرحوم إلى يومنا هذا، سواء كانت بخصوص تعديل توارث الخديوية المصرية، أو بخصوص إعطاء بعض امتيازات حسبما استوجبها موقع الخديوية وأمزجة الأهالي وطبائعها الخصوصية، وجعلها فرمانًا واحدًا مع التعديلات اللازمة في أحكامها والتفصيلات المقتضية في عباراتها، بشرط أن يكون هذا الفرمان الجديد قائمًا مقام الفرمانات السابقة، وأن تكون الأحكام المندرجة فيها معمولًا بها ومرعية الإجراء على الدوام والاستمرار، فقد قورن استدعاؤكم هذا بمساعدتنا الجليلة، وها نحن نذكر ونبيِّن لكم أحكامها على الوجه الآتي:

لما تحقق لدينا أن تعديل أصول توارث الخديوية المصرية التي صار تعيينها بالفرمان العالي الصادر في اليوم الثاني من شهر ربيع الأوَّل من شهور سنة ١٢٥٧ الموشح أعلاه بالخط الهمايوني، وتبديلها بأصول حصر الوراثة الخديوية في أكبر أولاد خديو مصر بطريق سلسلة النسب المستقيم، بأن يصير تخصيص مسند الخديوية الجليل وتوجيهه إلى أكبر أولاد الخديو الذكور وبعده إلى أكبر أولاد هذا الأكبر الذكور، وهكذا على النسب المستقيم الذكوري على الدوام، يكون مستلزمًا لحسن إدارة الخديوية المصرية وجالبًا لاستكمال سعادة أحوال أهاليها وسكانها، هذا مع ما حصل لدينا من استحسان مساعيكم الجميلة المصروفة في استحصال معمورية الأقطار المصرية المهمة الجسيمة ورفاهية أهاليها، وحصول وثوقنا بكم واعتمادنا الكامل عليكم، فلأجل أن يكون دليلًا باهرًا على ذلك قد أجرينا تعديل توارث الخديوية المصرية وتعيين وصايتها على الطريق الآتي بيانها وهي: أن خديوية مصر الجليلة وملحقاتها وجهاتها المعلومة الجارية إدارتها بمعرفتها مع ما صار إلحاقها بها أخيرًا من قائمقاميتي سواكن ومصوَّع وملحقاتهما يصير توجيهها بعدكم على الطريق المار ذكرها إلى أكبر أولادكم الذكور وبعده إلى أكبر أولاد من يكون خديويًّا على الأقطار المصرية من أولادكم. وإذا انحلت الخديوية المصرية بأن لا يكون للخديو ولد ذكر يصير توجيهها إلى أكبر إخوته الذكور، وإذا لم يوجد له أخ بقيد الحياة فإلى أكبر أولاد الأخ، وهكذا تتخذ هذه الأصول قانونًا مستمرًّا وقاعدة مرعية أبدية في توارث الخديوية المصرية، ولا يصير انتقال الوراثة الخديوية إلى الأولاد الذكور المتولدة من أولادكم الإناث أصلًا.

ولأجل تأمين أصول توارث الخديوية المصرية سنذكر صورة تشكيل الوصاية المقتضية في إدارة أمور الخديوية فيما إذا انحلت الخديوية وكان الوارث الذي هو أكبر أولادكم الذكور صغيرًا وصبيًّا؛ وهي أن الخديوية المصرية إذا انحلت وكان أكبر أولادكم الذكور — أعني الوارث — صغيرًا وصبيًّا، بأن يكون عمره أقل من ثماني عشرة سنة، ولو أنه يصير خديو بالفعل حسب استحقاق الوراثة، ففي الحال يصدر فرمان من طرف السلطنة السنية بتوليته على الخديوية، لكن إذا كان الخديو السالف عين ونصب وصيًّا ورتب هيئة وصاية لأجل إدارة أمور الخديوية لحين بلوغ الخديو اللاحق الصبي إلى سنِّ الثماني عشرة سنة، وكتب سند وصاية بذلك، وختم عليه هو، وختم أيضًا اثنان من الأمراء المصرية المأمورين بإحدى المأموريات المصرية على طريق الإشهاد وإجراء الوصاية، هكذا فالوصي مع هيئة الوصاية المذكورة يأخذ بزمام الإدارة في الحال، وبعد ذلك تعرض الكيفية إلى الباب العالي، ويصير التصديق على ذلك الوصي وهيئة الوصاية من طرف الدولة العلية بفرمان عالٍ، ويبقى الوصي وهيئة الوصاية على ما هم عليه لحين البلوغ.

وأما إذا انحلَّت الخديوية ولم يعين الخديو السالف وصيًّا ولم يرتب هيئة الوصاية على الوجه المذكور، تتشكل هيئة الوصاية من الذوات المأمورين على الداخلية والجهادية والمالية والخارجية ومجلس الأحكام المصرية وسردارية العساكر المصرية وتفتيش الأقاليم، ويصير انتخاب وصي في الحال من هؤلاء المأمورين على الوجه الآتي ذكره: وهو أنه في تلك الساعة تصير المذاكرة والمداولة ما بين هؤلاء الذوات في حق انتخاب وصي منهم، فإذا حصل اتفاقهم أو اتفاق أكثرية آرائهم على تسمية وجعل ذات منهم وصيًّا يتعين ذلك الذات وصيًّا على الخديوية، وإذا اختلفت الآراء بأن رغب نصفهم في تعيين ذات والنصف الآخر في تعيين ذات آخر يكون إجراء وصاية الذات المأمور على المأمورية المهمة والمقدَّمة في الذكر من تلك المأموريات؛ أعني المأمور على المأمورية المقدَّم ذكرها على الترتيب المحرر آنفًا من الداخلية إلى آخره، وتتشكل هيئة الوصاية من الذوات الباقية بعده ويباشرون إدارة الأمور الخديوية مع الوصي، وتعرض الكيفية بمضبطة من طرفهم إلى طرف سلطنتنا السنية، ويصير التصديق عليها بالفرمان الشريف، وكما أنه لا يجوز تبديل الوصي وتغيير هيئة الوصاية قبل ختام مدَّتها في الصورة الأولى؛ أعني فيما إذا كان تعيين الوصي وترتيب الوصاية وتركيب أعضائها بمعرفة الخديو السالف، فكذلك في الصورة الثانية؛ أعني فيما إذا كان انتخاب الوصي بمعرفة المأمورين المذكورين لا يجوز تبديل الوصي ولا تغيير هيئة الوصاية ولا أعضائها في تلك المدة.

وإذا توفي أحد من أعضاء هيئة الوصاية في ظرف تلك المدة يصير انتخاب واحد من المأمورين المصرية بمعرفة الباقين وتعيينه بدل المتوفى، وإذا تُوفي الوصي في تلك المدة يصير انتخاب واحد من أعضاء هيئة الوصاية بمعرفتهم على الوجه السابق وجعله وصيًّا وانتخاب واحد من المأمورين المصرية وإلحاقه بأعضاء هيئة الوصاية بدل الذي نُصِّب وصيًّا، وبمجرد بلوغ الخديو الصبي إلى سنِّ الثماني عشرة سنة صار رشيدًا وفاعلًا مختارًا؛ فيباشر هو بنفسه إدارة أمور الخديوية المصرية مثل سلفه، وهذا حسبما تقرَّر لدينا واقتضته إرادتنا الملوكية.

ولما كان تزايد عمارية الخديوية المصرية وسعادة حالها وتأمين رفاهية الأهالي والسكان وراحتها من أهمِّ المواد الملتزمة المرغوبة لدينا، وإدارة المملكة الملكية والمالية ومنافعها المادية وغيرها، المتوقف عليها تأسيس واستكمال وسائل الرفاهية وأسبابها عائدة على الحكومة المصرية، فنذكر بيان كيفية تعديل الامتيازات وتوضيحها بشرط بقاء كافة الامتيازات المعطاة قديمًا وحديثًا من طرف الدولة العلية إلى الحكومة المصرية، واستمرار جريانها خلفًا عن سلف، وتلك الكيفية هي أنه لما كانت إدارة المملكة بكل الصور والحالات، سواء كانت إدارتها الملكية أو المالية أو كافة منافعها المادية وغيرها هي من المواد العائدة على الحكومة المصرية والمتعلقة بها.

ومن المعلوم أن أمر إدارة أي مملكة كانت وحسن انتظامها وتزايد معموريتها وثروة أهاليها وسكانها لا يتيسر إلا بتوفيق معاملاتها وتطبيق إجراءاتها العمومية بالأحوال والموقع وأمزجة الأهالي وطبائعها، فقد أعطينا لكم الرخصة الكاملة في إعمال قوانين ونظامات داخلية على حسب لزوم المملكة، وكذا لأجل تسهيل تمشية وتسوية كافة المعاملات، سواء كانت من طرف الحكومة أو من طرف الأهالي مع الأجانب، وترقِّي وتوسُّع الصنائع والحرف وأمور التجارة وأمور الضبطية مع الأجانب، قد أعطينا لكم الرخصة الكاملة في عقد وتحديد المقاولات (المعاهدات) مع مأموري الدول الأجنبية في حق الكمرك وأمور التجارة وكافة المعاملات الجارية مع الأجانب في أمور المملكة الداخلية وغيرها بصورة لا تستلزم إخلال معاهدات الدولة العلية البولتيقية (السياسية)، وكذا لكون خديو مصر حائز التصرفات الكاملة في الأمور المالية قد صار إعطاء المأذونية التامة له في عقد استقراض من الخارج بلا استئذان من الدولة العلية في أي وقت يُرى فيه لزوم للاستقراض، بشرط أن يكون باسم الحكومة المصرية.

وكذا لكون أمر محافظة وصيانة المملكة الذي هو الأمر المهم والمعتنى به زيادة عن كل شيء من أقدم الوظائف المختصة بخديو مصر فقد أعطيت له الرخصة الكاملة في تدارك كافة أسباب المحافظة وتأسيسها وتنظيمها بنسبة إلجاءات الزمن والموقع، وكذا في تكثير أو تقليل مقدار العساكر المصرية الشاهانية بلا تحديد على حسب الإيجاب واللزوم، وكذا أبقينا لخديو مصر الامتياز القديم في حق إعطاء رتبة أميرالاي من الرتب العسكرية وإعطاء رتبة ثانية من الرتب الديوانية بشرط أن المسكوكات الجاري ضربها بمصر تكون باسمنا الملوكي، وأن تكون أعلام وصناجق العساكر البرية والبحرية الموجودة في الخطة المصرية كأعلام وصناجق سائر عساكرنا الشاهانية بلا فرق، وبشرط عدم إنشاء سفن زرخ؛ أي مدرعة بالحديد فقط بدون استئذان، لا غيرها من السفن الحربية؛ فإنها جائز إنشاؤها بلا استئذان.

ولأجل إعلان المواد المشروحة أعلاه وتأييدها أصدرنا لكم أمرنا هذا الجليل القدر من ديواننا الهمايوني بمقتضى إرادتنا الملوكية، وصار توشيح أعلاه بخطنا الهمايوني وإعطاؤه لكم متممًا ومكملًا ومصرحًا للخطوط الهمايونية والأوامر الشريفة الصادرة لحد هذا التاريخ، سواء كان في تأسيس وترتيب وراثة الحكومة المصرية، أو في تشكيل هيئة الوصاية، أو في إدارة الأمور الملكية والعسكرية والمالية والمنافع المادية والمواد السائرة، بشرط أن تكون الأحكام المندرجة بهذا الفرمان الجديدة نافذة وباقية ومرعية الإجراء على ممر الزمان وقائمة مقام أحكام الفرمانات السالفة على ما اقتضته إرادتنا الملوكية، فيلزم أن تعلموا قدر لطف عنايتنا الملوكية وأداء شكرها بصرف جلِّ هممكم في حسن إدارة أمور الخطة المصرية، واستكمال أسباب وقاية أمنية الأهالي المنوطة بها، واستحصال راحتهم على حسب ما جبلتم عليه من الشيم المرغوبة والغيرة والاستقامة، وما اكتسبتموه من الوقوف والمعلومات في أحوال تلك الحوالي والأقطار، وأن تراعوا إجراء الشروط المقررة في هذا الفرمان الجديد وأداء المائة والخمسين ألف كيسة التي هي ويركو مصر المقطوع سنويًّا بأوقاتها وزمانها إلى خزينتنا الجليلة الشاهانية على الترتيب والقاعدة المرعية في ذلك. تحريرًا في سنة ١٢٩٠. ا.ﻫ.

ثم وهب جلالة السلطان الأعظم إلى جناب خديو مصر مدينة زيلع وملحقاتها التابعة للواء الحديدة، وأصدر له فرمانًا بذلك في ٢٧ جمادى الأولى سنة ١٢٩٢ هجرية، وذلك بخلاف قائمقاميتي سواكن ومصوَّع المذكورتين في الفرمان السابق.

(٦) علاقات تونس مع الدولة العلية

ومما يذكر من أعمال السلطان عبد العزيز المأثورة توثيقه ربط التبعية بين أيالة تونس والخلافة الإسلامية العثمانية؛ ليثبت حقوق الدولة عليها؛ وذلك أنه لما بلغ مسامع جلالته أن بعض الدول تطمح إلى الاستيلاء عليها، فأراد رحمه الله أن يؤيد حقوق دولته عليها جهارًا؛ ليرتدع من ينظر إليها بسوء إذ تصير جزءًا من ممالكه المحروسة التي تعهدت الدول بصيانتها في معاهدة باريس المبرمة في سنة ١٨٥٦، فأرسل هذا الفرمان مؤرخًا في ٩ شعبان سنة ١٢٨٨ (الموافق ٢٤ أكتوبر سنة ١٨٧١)، لكن لم يمنع ذلك الحكومة الفرنساوية من دخولها بخيلها ورجلها وإشهار حمايتها عليها سنة ١٨٨١؛ إذ لا قيمة للحقوق في عصرنا هذا الموسوم بعصر التمدن والحرية، وها هو بحروفه نقلًا عن الرائد التونسي أردنا درجه في هذا الكتاب إفحامًا لأشياع فرنسا في هذه الديار الذين يدَّعون أن فرنسا لم تهتضم للدولة العلية حقوقًا برفع حمايتها على الأيالة التونسية، بدعوى أنها لم تكن تابعة لها مطلقًا:

الدستور المكرم المشير المفخم، نظام العالم، مدبر أمور الجمهور بالفكر الثاقب، متمم مهمات الأنام بالرأي الصائب، ممهد بنيان الدولة والإقبال، مشيد أركان السعاده والإجلال، المحفوف بصنوف عواطف الملك الأعلى الوالي بتونس الآن، الحائز الحامل للنيشان المجيدي الشريف من رتبته الأولى مع النيشان الهمايوني العثماني المرصع، وزيري محمد الصادق باشا أدام الله تعالى إجلاله آمين.

ليكون معلومًا عند ما يصل توقيعي الرفيع الهمايوني أنه منذ وجهت وأودعت من جانب سلطنتنا السنية إدارة الأيالة التونسية التي هي من ممالك دولتنا العلية المحروسة المتوارثة، إلى عهدتك ذات اللياقة والأهلية كما وجهت سابقًا إلى عهدة أسلافك، لم تزل تُظهر حُسن السيرة والخدمة، وتنهي إلى طرفنا الملوكي الأشرف خلوص النية والاستقامة، حتى صار ذلك قرينًا لعلمنا المضيء بالعالم، فمأمولنا السلطاني على مقتضى الشيم المرضية التي جبلت عليها، هو الدوام في ذلك المسلك المرضي والجدُّ والاجتهاد في كل ما ينمي عمران مملكتنا الشاهانية وسعادة أهاليها تبعة دولتنا العلية ورفاهيتهم وراحتهم، حتى تستديم بذلك استحقاق عنايتي الشاهانية واعتمادي السلطاني المبذولين في حقك آنًا فآنًا، وتعرف قدر تلك العناية والاعتماد وتشكرهما.

ولما كان المقصود الأصلي والمراد القطعي لسلطنتنا السنية هو ارتقاء طمأنينة الأيالة المهمة الراجعة لدولتنا العلية، ونموُّ عمرانها، وتأسيس أبنية الأمن والراحة لسكانها يومًا فيومًا، وكان من البديهيات أن السلطنة العزيزة لا يعزها ولا يؤيدها إلا صرف الهمة والعناية العائدة إلى حقوقها الأصلية لتمام استحصال هاته المطالب، وورد الطلب المندرج بكتابك المخصوص الموجه من طرفك أخيرًا إلى جانب الخلافة العلية، قررت وأبقيت أيالة تونس المحدودة بحدودها القديمة المعلومة بعهدتك بضم امتياز الوراثة وبالشرائط الآتية، وحيث إن مرغوبنا السلطاني على ما تقدَّم بيانه إنما هو تزايد عمران تلك المملكة الشاهانية وثروة أهاليها وهي الآن في حالة مضايقة وتأخر في الواردات لكل من الحكومة والأهالي، قد سمحت السلطنة السنية بعدم إرسال ما كان يرسل باسم معلوم من الأيالة لطرف دولتنا العلية بموجب التبعية المقررة المشروعة رحمة لأهالي تلك الأيالة. ولما كانت الأيالة المشار إليها من الأجزاء المتممة لممالكنا الملوكية صدرت إرادتنا السنية بأن يكون الوالي بتونس مرخصًا له في تولية المناصب الشرعية والعسكرية والملكية والمالية والسياسية لمن يكون متأهلًا لها، وفي العزل عنها بمقتضى قوانين العدل، وفي إجراء المعاملات المعلومة مع الدول الأجنبية كما كانت سابقًا فيما عدا المواد السياسية العائدة إلى حقوقنا المقدَّسة الملوكية، ونعني بها ما كان كعقد الشروط المتعلقة بأصول السياسة والحرب وتغيير الحدود ونحوها مما يكون إجراؤه راجعًا إلى حقوق سلطنتنا السنية.

وعند حلول القدر المحتوم في الولاية، وتقديم المعروض بطلب الفرمان الشريف من الوارث الأكبر من عائلتك لطرف سلطنتنا السنية يرسل له الفرمان الشريف مع منشور الوزارة والمشيرية الهمايوني، كما استمر العمل بذلك إلى الآن بشروط أن تستمرَّ الخطبة باسمنا السلطاني وتزين به السكة التي تضرب هناك؛ علامة علنية للارتباط القديم الشرعي لأيالة تونس بمقام الخلافة الجليل، وأن يبقى السنجق على لونه وشكله، ومهما وقع حرب لسلطنتنا السنية مع أجنبي يرسل العسكر من تلك الأيالة الشاهانية بقدر الاستطاعة طبق ما جرت به العادة القديمة في الجميع. ومع تلك المواد يكون أمر الولاية بطريق الوراثة مخصوصًا بعائلتك، على أن تبقى سائر المعاملات الارتباطية مع دولتنا العلية جارية مرعية كما كانت سابقًا، وأن تجري الإدارة الداخلية لتلك الأيالة مطابقة للشرع وموافقة لقوانين العدل التي يقتضيها الوقت والحال الكافلة بتأمين السكان في النفس والعرض والمال.

فاعلًا لما ذكر، أصدر هذا الفرمان الشريف الجليل القدر من ديواننا الهمايوني، وأرسل موشحًا أعلاه بخطنا الميمون السلطاني، فخلاصة نياتنا الشاهانية إنما هي إصلاح حالة تلك المهمة وما لآل بيتكم، وتقوية ذلك حالًا ومآلًا، واستكمال أسباب السعادة والرفاهية والأمنية لصنوف تبعتنا المستظلين بظل عدلنا السلطاني. ومأمولنا القطعي الملوكي أن يبذل من جهتك الجهد في حصول ما ذكر، ثم حيث كان تمام المحافظة على حقوق سلطنتنا السنية المحققة بتونس من قديم الأزمان وعلى أمنية الأهالي القاطنين بتلك الأيالة المودعة بعهدة صداقتك من حيث النفس والعرض والمال وسائر الحقوق العمومية شرائط امتياز الوراثة الأساسية المقررة، فيقتضي أن تتأكد محافظتها عن تطرق الخلل دائمًا سرمدًا، ويتباعد عن وقوع الخلل والحركة على خلافها، إذا علمت ذلك، فلا بد أن تعرف أنت ومن يقام في أمر الولاية بالتوارث من أعضاء عائلتك قدر هاته النعمة العلية الشاهانية وتشكروها، فعلى ذلك تسعى لتحصيل رضاي السلطاني بالغيرة ومزيد الاهتمام بإجراء هذه الشروط المؤسسة. حرر في اليوم التاسع من شهر شعبان المعظم سنة ثمان وثمانين ومائتين وألف. ا.ﻫ.

هذا؛ ومن أراد الوقوف على علاقات الأيالة التونسية مع الدولة العلية العثمانية، فليراجع الجزء الأوَّل والثالث من كتاب صفوة الاعتبار، تأليف الشيخ محمد بيرم. أما نحن فقد اكتفينا بنقل صورة فرمان ٩ شعبان سنة ١٢٨٨ السالف الذكر، نقلًا عن منتخبات الجوائب واللائحة المؤرخة ١٠ مايو سنة ١٨٨١، التي أرسلها الباب العالي إلى سفرائه لدى الدول الأوروبية؛ احتجاجًا على احتلال فرنسا لتونس، وذلك نقلًا عن كتاب صفوة الاعتبار. وإليك نص تعريبها:

القسطنطينية ١٠ مايو سنة ١٨٨١: إن إعلاماتي المختلفة عرفت فطانتكم الوقائع التي صارت في المسألة التونسية، وقد نسبت بهجوم بعض القبائل البدويين جهة الجزائر، ولهذا الهجوم فالحكام التونسيون أعلنوا بأنهم حاضرون ليضبطوه من غير تراخٍ، فالدولة الفرنساوية حكمت بأنه يلزمها إرسال عدد وافر من العساكر الذين قد استولوا على جزء كبير من الولاية ولم يبعدوا عن المركز إلا بعض فراسخ، فمن غير التفات إلى ما كنا أكدنا به على حضرة الباشا ليأخذ التدابير اللازمة لتمهيد الراحة في المواضع الثائرة، فدولة الجمهورية لا تريد أن تنظر للمخالطة الاقترانية بتونس مع السلطنة العثمانية التي هي محسوبة جزءًا متممًا للسلطنة المذكورة، وأظهرت بأنها لا تقبل قولنا للاتفاق الودادي معها لقطع الاختلاف الذي وقع، وترتيب حقوق الباب العالي مع منافع فرنسا في ذاك المحل، وترتيب الأشياء الموجودة من زمن قديم ولا نقدر أن نزيد في إيضاحها كما يلزم، وهي سيادة السلطان التي ليس فيها اختلاف على هاته الولاية، وهي سيادة لا تنكرها ولا دولة عمومًا. وهذا الحق بقي إلى الآن صحيحًا ولم ينقطع من زمن فتحها، وهو إذ ذاك سنة ١٥٣٤ بخير الدين باشا، وفي سنة ١٥٧٤ بقليج علي باشا وسنان باشا، وكانت الدولة العلية أرسلت إلى تلك المواضع قوَّة عظيمة برًّا وبحرًا، ومن زمن ذلك الفتح، فالتأسيسات التي فعلها الباب العالي هي أن جميع ولاة تونس يتوارثون الولاية من ذرِّية الوالي الأوَّل المسمى من السلطان، ويتقلدون إلى الآن المنصب منه، وفرمانات الولاية تبقى في خزنة الديوان، وكذلك جميع المكاتيب التي تأتي منهم للباب العالي فإنها تارة تكون في شأن مخالطتهم مع الدول الأوروباوية وتارة تكون في شأن أحوالهم الداخلية، والتي لهاته المدَّة الأخيرة، فإن الباب العالي من استحفاظه على حقوقه زيادة على كونه يسمي الوالي العام فإنه يرسل من القسطنطينية إلى تونس قاضيًا وباشكاتب الولاية، ولم يكن إلا من ترحم الدولة العلية أن منحت الوالي أن يسمي هو بنفسه هذين المتوظفين.

وأيضًا فاتباعًا للمذهب وخصوصية سيادة السلطان، فإن الخطب يذكر فيها اسم جلالته ويضرب على السكة أيضًا، وفي وقت الحرب ترسل تونس الإعانة إلى التخت، وعلى حسب العادة القديمة يأتي إلى القسطنطينية دائمًا أناس رسميون ليقدِّموا تعظيمات الوالي وخضوعه لأعتاب السلطنة، وليقبلوا أيضًا الإذن اللازم من الباب العالي لأمور عظيمة في الولاية، ثم إن الباشا الموجود الآن والأهالي التونسيين طلبوا زيادة في التفضل، وأعطي ذلك لحضرته السامية بالفرمان المؤرخ في سنة ١٨٧١ وتعرف به جميع الدول، والآن قد استغاث الوالي بجهده سيده الحقيقي ليعينه على الحالة الرديئة التي وقعت فيها تونس الآن، وهاته الأشياء التحقيقية لا ينكرها أحد، فهل تريدون أن تعرفوا الآن تقريرها بالتاريخ وبالمكاتبات الرسمية؟ هو سهل لكن نقتصر على المهمِّ منها؛ لئلا يطول الكلام في هذا التلغراف؛ ففي المعاهدات القديمة التي بين تركيا وفرنسا تعدَّد ألقاب الحضرة السلطانية، ويكون منها لقب سلطان تونس، «فانظر مثلًا» معاهدة ١٠ صفر سنة ١٠٨٤ﻫ/١٦٦٨م، وفي هاته المعاهدات أيضًا يوجد بأن كل المعاهدات التي بين الدولتين تجري أيضًا في تونس، وفي نصف القرن السابع عشر؛ أي في ١٥ صفر سنة ١١٦٦ (٢٢ دسمبر ١٧٥٢) أرسل السلطان فرمانًا للباي والحاكم الكبير بالولاية في رضاء الباب العالي بأن قنصل فرنسا يجمع خدمات قناصل الدول الذين لم يكن لهم إذ ذاك نوَّاب بالقسطنطينية كالبرتقال وكتالوني وإسبانيا وفينيسيا وفرنسا وغيرهم، والقنصل وكالته هي حماية السفن تحت الراية الفرنساوية في المراسي المشهورة بالولاية.

والفرمان يمنع قناصل الإنكليز والهولنديين وغيرهم من التداخل في خدمة نائب فرنسا، وكذلك سند منع التعدِّي بين الباب العالي والنمسا، المؤرخ في ٩ رمضان سنة ١١٩٧ هجرية، المتقرِّر بمعاهدة ستوفا في ١٢ ربيع الآخر سنة ١٢٠٥؛ فإنه يأذن حكام الجزائر وتونس وطرابلس الغرب بأن يجمعوا على اسم السلطان سفن المتجرية لسلطنة الرومان الفخيمة، وأيضًا فإن الاتفاق الذي تقدَّم هذا السند وتمم في ١٥ شوَّال سنة ١١٦١ﻫ بالإذن من السلطان، وكان هذا الاتفاق وقع بين الحكام المذكورين والسلطنة، فإن الوالي العام بتونس — وهو إذ ذاك في رتبة بكلر بك ونال اسم علي باشا — يذكر في مقدِّمة كل مكتوب ممضي عليه منه هاته الكلمات بعينها، وهي «مولانا السلطان الغازي محمود».

وعلى ذكر واقعات ذاك الزمان أستطرد لكم الإذن الصادر من الباب العالي في ١٥ ربيع الأوَّل سنة ١٢٤٥ﻫ/١٨٢٧ لحكام الجزائر وتونس وطرابلس الغرب، فإنه يأمرهم أن لا يتداخلوا في الخلاف الواقع بين سلطنة النمسا ومملكة المغرب، وكذلك الإذن الصادر من القسطنطينية لوالي تونس في ١٤ صفر سنة ١٢٤٧ﻫ/١٨٣٠؛ فإنه يأمر بترتيب العسكر النظامي بالولاية على نمط الترتيب العسكري النظامي العثماني، وأيضًا قد أتى مكتوب معين بالطاعة من الباشا التونسي لجلالة السلطان في سنة ١٨٦٠، وذلك الباشا هو الذي سماه السلطان واليًا عامًّا، وقد انتشر هذا المكتوب في جميع صحف أوروبا من غير أن يعارض ولا من جهة واحدة، ونزيدكم شيئًا آخر، وهو أنه في سنة ١٨٦٣ في واقعة القرض التونسي الذي وقع في باريس من غير رضاء الباب العالي كان رسيودواروان دولويس — وزير خارجية الإمبراطور نابليون الثالث — قد أعلن رأيه بناءً على شكايات الدولة العثمانية، وقال: إنه يلزَم إما الباشا بتونس أو الصراف الذي يريد عقد القرض معه أن يطلب رضاء الباب العالي ليصحَّ هذا القرض، وللمدافعة عن حقوق الباب العالي فإن الوزير الفرنساوي أرسل يقول هذا الكلام للصرَّاف المشار إليه، وها نحن نضع بثبات الكلام السابق لدى ميزان العدل والحق الذي للدول الممضين على معاهدة برلين، وإنا لمتحققون بأن فكر الدول محيط بدلائل كثيرة في الواجبات العمومية التي يقتضيها المؤتمر المحترم، وأنهم يريدون أن يفصلوا بالعدل قولنا الذي قدَّمناه، وأنهم يتحفَّظون على حقوق الباب العالي الأخرى المحفوظة بالمعاهدة المذكورة، ويصلحون الحال بين الدولتين فرنسا وتركيا في علائقهما التي لهما في هاته الولاية المرءوف بها التونسية المتممة للسلطنة العثمانية، والمرغوب من جنابكم أن تتكلم مع وزير الخارجية في مضمون هذا التلغراف وتشرح له ما تراه نافعًا، ولكم الإذن بأن تعطوا نسخة من هذا لجناب الوزير إذا طلبكم. ا.ﻫ.

الإمضاء: مصطفى عاصم
ولنذكر هنا أنه بسبب انخذال فرنسا في حربها مع بروسيا في سنة ١٨٧٠، وتشكيل الإمبراطورية الألمانية، ومساعدة الروسيا لألمانيا مساعدة معنوية كانت من أقوى أسباب نجاحها؛ طلبت الروسيا من الدول إبطال الشروط المقيدة لحريتها في البحر الأسود من معاهدة سنة ١٨٥٦ التي أمضيت بباريس عقب حرب القرم، ولضعف فرنسا عن معارضة هذه الطلبات انعقد مؤتمر في مدينة لوندرة للنظر فيها، وأيد مطالب الروسيا بمقتضى وفاق تمَّ بين مندوبي الدول في ١٣ مارس سنة ١٨٧١ قبل توقيع فرنسا على معاهدة فرنكفورت٣ بقليل، وبذلك انتقمت الروسيا من فرنسا أيَّ انتقام؛ لمساعدتها إنكلترا والدولة العلية عليها في حرب القرم بأن تركتها وحيدة أمام قوى ألمانيا ومنعت الدول من مساعدتها ولو سياسيًّا.
وأخيرًا بإبطال أهم شروط معاهدة باريس المزرية بشرفها، فأبطلت نتائج تلك الحرب وجعلت كل ما صرف فيها من أموال وأهرق فيها من دماء هباءً منثورًا، وإليك نص التعديل:
مما تقرَّر في معاهدة سنة ١٨٧١ التي أمضيت في لوندرة في ١٣ مارس من السنة المذكورة فيما يتعلق بإعادة النظر في معاهدة سنة ١٨٥٦ المنعقدة في باريس، فيما يتعلق بالسفر في البحر الأسود والطونة:
  • (١)

    فصل ١١ و١٣ و١٤ من معاهدة ٣٠ مارس سنة ١٨٥٩ المنعقدة في باريس يكون تعديلها بالصورة الآتية:

  • (٢)

    يبقى منع السفن الحربية من المرور في جناق قلعة والبوغاز كما هو منصوص في معاهددة ٣٠ مارس سنة ١٨٥٦، إلا أنه يسوغ للحضرة السلطانية أن تأذن بمرور السفن الحربية للدول المتحابة إذا رأت لزوم مرورها مع المحافظة على نص معاهدة باريس التي انعقدت في ٣٠ مارس سنة ١٨٥٦.

  • (٣)

    البحر الأسود يبقى مفتوحًا كما في السابق لتسير فيه السفن التجارية الأجنبية. انتهى.

وعقب التوقيع على اتفاق ١٣ مارس السالف الذكر توفي القائد الشهير عمر باشا في ١٨ أبريل، ثم الصدر الأعظم محمد أمين علي باشا. وبعد موته وجه هذا المنصب الخطير إلى محمود باشا في ٢٢ جمادى الثانية سنة ١٢٨٨ (الموافق ٧ سبتمبر سنة ١٨٧١)، ولبث في الوزارة إلى ٢٣ مارس سنة ١٨٧٣، ثم عقبه أحمد مدحت باشا، ثم محمد رشدي باشا، فأحمد أسعد باشا، فحسين عوني باشا.

وأخيرًا عادت الصدارة إلى محمود باشا في ٢٥ رجب سنة ١٢٩٢ (الموافق ٢٣ أغسطس سنة ١٨٧٥).

ومن أعماله المضرَّة عدم ضبط المالية حتى عجزت عن سداد الكوبونات في أوقاتها، واضطر إلى الإعلان رسميًّا بتوقيف دفع الفوائد في ٦ أغسطس سنة ١٨٧٥، وهو ما يسمونه في عرف المالية إشهار الإفلاس، كما فعلت مملكة البرتغال في سنة ١٨٩٢. ولسوء إدارته تألَّب العلماء والطلبة وطلبوا عزله؛ فعزل في ١٧ ربيع الثاني سنة ١٢٩٣ (الموافق ٢٤ مايو سنة ١٨٧٦)، وأسند منصب الصدارة إلى محمد رشدي باشا، وهو الملقب بالمترجم الذي سبق تعيينه في هذا المنصب عدة مرات، وعين معه بفرمان واحد حسن خير الله أفندي شيخًا للإسلام. وبما أن عزل السلطان عبد العزيز كان بدسيسة هذين الشخصين وغيرهما فسنرجئ الكلام على كيفية عزله وموته إلى بعد ذكر مسألة برزخ السويس الذي تمَّ فتحه في سنة ١٨٦٩.

(٧) مسألة قنال السويس

إن أهمية إيصال البحر الأحمر بالبحر الأبيض المتوسط لم تخف على أحد بل الكل مسلم بها؛ ولذلك فطن لها قدماء المصريين وأوجدوا اتصالًا بين البحرين، لكن على غير الصورة التي عليها قنال السويس الآن؛ فقد قال هيرودوت٤ — المؤرخ اليوناني الشهير — حين زار وادي النيل:

إن طول الخليج الموصل بين البحرين مسيرة أربعة أيام وعرضه كافٍ لمرور سفينتين من أكبر السفن في آنٍ واحد بكل سهولة، وهو يتفرع عن فرع النيل الذي يصب عند مدينة بيلوزة (القائمة مدينة بورسعيد بالقرب من أطلالها)، ويبتدئ عند مدينة بوباستيس (الموجودة أطلالها بالقرب من الزقازيق، ويطلق عليها اسم تل بسطة)، ويتجه شرقًا حتى يصل إلى البحر الأحمر. ا.ﻫ.

فيظهر من هذا الشرح أن المراكب كانت تأتي من البحر الأبيض فتصعد فرع النيل الشرقي إلى قرب الزقازيق، ثم تدخل في الخليج حتى تصل إلى البحر الأحمر، وظل هذا الاتصال باقيًا حتى انهالت رمال الصحراء الشرقية على الخليج فردمته. ويقال إن أبا جعفر المنصور العباسي أمر بإبطاله عندما خرج عليه الحجاج وتحصن في المدينة المنورة؛ حتى لا تأتي إليه المؤن بسهولة عن طريق هذا الخليج.

ثم خطر ببال السلطان مصطفى الثالث العثماني أن يعيد الاتصال كما كان، وكلف البارون دي توت بدرس هذا المشروع، ولم يتمَّ بسبب موت السلطان وترك من خَلَفَه له. ولما أتى بونابرت الفرنساوي إلى مصر أرسل لجنة علمية للتحقق من إمكان إيصال البحرين بخليج يصل بينهما بدون أن تمر المراكب في وسط البلاد المصرية، فأجابته اللجنة بالإيجاب، ولداعي خروجه من مصر سريعًا كما سبق شرحه لم يمكنه تنفيذ مشروعه.

وكان يظن قبلًا أن حفر خليج يصل بين البحرين مباشرة أمر مستحيل؛ بسبب ادعاء بعض العلماء أن سطح مياه البحر الأحمر أعلى بنحو عشرة أمتار عن سطح مياه البحر الأبيض كما قرَّرته بعثة علمية فرنساوية في سنة ١٧٧٩، ولم يخالفها في هذا الرأي إلا الرياضي الشهير لابلاس،٥ لكن أسقط هذا القول البحث الذي أُجرِيَ في أواسط هذا القرن بمعرفة بعض ضباط من الإنكليز في سنة ١٨٤٠ ولجنة من عدَّة مهندسين فرنساويين في سنة ١٨٤٧، وأخيرًا بمعرفة لبنان باشا في سنة ١٨٥٣.
ولما تحقق لدى العموم بإجماع العلماء أن مسطح البحرين متساوٍ؛ سعى المسيو فردينان دي ليسبس — قنصل فرنسا في مصر — لدى المرحوم سعيد باشا٦ والي مصر إذ ذاك للحصول على فرمان يخوِّله امتياز تشكيل شركة عمومية لإتمام هذا العمل.

وبعد مساعٍ لا مزيد عليها تحصَّل على هذا الفرمان مؤرخًا ٣٠ نوفمبر سنة ١٨٥٤. ومما جاء فيه أن يكون الخليج المزمع إنشاؤه ملكًا للشركة مدَّة ٩٩ سنة تبتدئ من يوم فتحه للملاحة، وأن يجوز لها إنشاء خليج آخر يصل بين النيل والخليج المالح، وأن تتنازل لها الحكومة عن الأراضي الأميرية غير الصالحة للزراعة التي تمر الترعة الحلوة فيها، بشرط أن تزرعها الشركة على مصاريفها، وأخيرًا أن لا يعمل بهذا الفرمان ولا يبتدأ في العمل إلا بعد تصديق الباب العالي عليه.

وفي ٢٠ يوليو سنة ١٨٥٦ تعهَّدت الحكومة للشركة بإحضار من يلزم لها من العملة من المصريين قهرًا بالطريقة التي كانت متبعة في الأعمال العمومية، وأن تدفع لهم الشركة الأجر من طرفها لمن عمره أقل من اثنتيْ عشرة سنة قرشًا صاغًا يوميًّا، ومن زاد سنه عن ذلك تكون أجرته من قرشين ونصف إلى ثلاثة قروش، وذلك خلاف الجراية التي تُعطى لكل واحد منهم، وقيمتها قرش صاغ، واشترط على الشركة إنشاء إسبتاليات، وترتيب أطباء لمعالجة المرضى على طرفها، ولولا هذه الشروط لما أمكن الشركة إتمام هذا المشروع، وعدم وجود شرط مثله كان سببًا في عدم نجاح مشروع فتح برزخ بناما؛ لأن الشركة لم تجد عمالًا بهذه الصفة يكونون موجودين دائمًا في العمل بأجرة تافهة كهذه. ولما أصدرت سهام الشركة لم يقبل الجمهور على شرائها لمعارضة الجرائد الإنكليزية لهذا المشروع، فبقي في أيديها مائة وسبعة وسبعون ألف وستمائة واثنان وأربعون سهمًا قيمة كل منها خمسمائة فرنك؛ أي إن ثمنها عبارة عن ثلاثة ملايين وخمسمائة وخمسين ألف جنيه مصري وزيادة، فحسن المسيو دي ليسبس للمرحوم سعيد باشا أن يشتريها للحكومة المصرية فاشتراها.

ولما طلب منه عشريْ ثمنها عند الابتداء في العمل اقترضه له، وربما كان هذا أوَّل ديون مصر التي تربو الآن على مائة مليون وستة ملايين من الجنيهات المصرية. ولم ينتظر المسيو دي ليسبس تصديق الدولة، بل ابتدأ في العمل.

ولما لاحظت الدولة العلية على أن ذلك مخالف لنص الفرمان المعطى للشركة من سعيد باشا، أجابها أن هذه أعمال ابتدائية ضرورية لتخطيط المشروع، ولا تعتبر بدءًا في العمل. وأخيرًا بعد أن دارت المخابرات عدَّة سنوات بين الشركة والباب العالي والحكومة الفرنساوية التي تداخلت لحماية هذا المشروع الفرنساوي أرسل الباب العالي إلى المسيو دي ليسبس بلاغًا في ٦ أبريل سنة ١٨٦٣ مفاده أن الدولة ترى أن امتلاك الشركة للأراضي الواقعة على ضفتي الترعة الحلوة وزراعتها بمعرفتها مما يضر بحقوق السلطنة في مصر؛ إذ يجعل لدولة أجنبية حقوقًا في مصر، خصوصًا إذا أنشئت بها مستعمرات زراعية يؤتى لها بالزراع من الخارج، ولذلك لا تصدِّق على هذا المشروع إلا إذا ضمنت جميع الدول حرية القنال المراد إنشاؤه كما ضمنت بوغازي الآستانة، وأن تترك الشركة حقوقها في الترعة العذبة وما على ضفافها من الأراضي، وأن لا يُستعمل المصريون قهرًا في أشغال الشركة؛ إذ كان يستغل بها في هذه الأثناء نحو ستين ألف مصري بطريق السخرة، وأمهلت الدولة الشركة ستة أشهر لإعطاء الجواب وإلا يسقط حقها في جميع الأراضي الممنوحة لها.

ولما انقضى هذا الأجل ولم تجب الشركة بشيء أعلنتها الحكومة المصرية بسقوط حقها في ١٢ أكتوبر سنة ١٨٦٣؛ فأرعد المسيو دي ليسبس وأزبد، وتداخلت فرنسا، وكاد الأمر يُفضي إلى ارتباكات سياسية، فقبلت الحكومة المصرية بحكم نابليون الثالث — إمبراطور فرنسا — ظنًّا منها أنه ينصفها ضدَّ الشركة، وغاب عنها أنه لا بد أن يميل إلى الشركة بعاملي الجنسية والسياسية ولو لم يكن الحق من جانبها. وحقيقة إنه اتخذ هذه الفرصة وسيلة للحكم للشركة بمبالغ وافرة كانت سببًا في إتمام المشروع، فأصدر حكمه في ٦ يوليو بعد أن استشار لجنة من أهل الدراية بالأحكام القانونية حضرها نوبار باشا بصفة مندوب عن خديو مصر، ولا حاجة لذكر الحكم بأسبابه، بل يكتفى بالقول إنه حكم بما يأتي:
  • أوَّلًا: أن تدفع الحكومة المصرية للشركة مبلغ ثمانية وثلاثين مليون فرنك في مقابلة إبطال الشرط القاضي عليها بإحضار العمال.
  • ثانيًا: ثلاثين مليون فرنك نظير ترك الأراضي التي رخص للشركة بإحيائها وزراعتها.
  • ثالثًا: ستة عشر مليونًا في مقابلة تخلي الشركة عن الترعة الحلوة وفوائدها، وتلتزم الحكومة زيادة على ذلك بحفرها من القاهرة إلى الوادي وبجعلها صالحة للملاحة في جميع أوقات السنة، وعلى الشركة تطهيرها سنويًّا بمعرفتها في مقابلة ثلاثمائة ألف فرنك تأخذها من الحكومة، ويكون للشركة الحق في أخذ سبعين ألف متر مكعب من المياه في كل أربع وعشرين ساعة، فيكون مجموع هذه المبالغ أربعة وثمانين مليون فرنك عبارة عن ثلاثة ملايين جنيه وأربعمائة وثلاثة وستين ألف جنيه، يدفع على جملة أقساط بالكيفية الآتية من ابتداء سنة ١٨٦٤ لغاية سنة ١٨٦٧: يدفع مبلغ ستة ملايين ونصف من الفرنكات سنويًّا، وفي كل من سنتي ١٨٦٨ و١٨٦٩ مائتان وأربعون ألف جنيه، ومن سنة ١٨٧٠ لغاية سنة ١٨٧٩ ثلاثة ملايين وستمائة ألف فرنك سنويًّا عبارة عن مائة وأربعين ألف جنيه سنويًّا.

ولما تمَّ الحكم على الوجه المذكور الظاهر إجحافه بحقوق مصر حررت الشروط النهائية بين الحضرة الخديوية الإسماعيلية والمسيو دي ليسبس — رئيس الشركة والنائب عنها — في ٢٢ فبراير سنة ١٨٦٦، وتقدَّمت للباب العالي؛ فصدر عليها الفرمان السلطاني مؤرخًا ١٩ مارس سنة ١٨٦٦ (الموافق ٢ ذي القعدة ١٢٨٢ﻫ).

وبعد ذلك عُدِّلَتْ مواعيد الدفع بكيفية أرجح للشركة، وزيادة على ذلك جميعه تنازلت الشركة للحكومة عن أرض الوادي التي قدر مساحتها ثلاثة وعشرون ألفًا وسبعمائة وثمانون فدانًا في مقابلة عشرة ملايين من الفرنكات، وكانت قد اشترتها الشركة قبلًا من الحكومة بمبلغ مليون واحد وسبعمائة وسبعين ألف فرنك تقريبًا، فيكون ربحها من هذه المسألة فقط زيادة عن ثمانية ملايين؛ ولذلك فيمكننا القول بأنه لولا نقود مصر وفلاح مصر الذي ما زال يجبر على الاشتغال قهرًا بأجرة زهيدة رغمًا عن الشروط السالفة الذكر لما أمكن دي ليسبس أن يتمَّ هذا المشروع الذي كان سببًا فيما نحن فيه من الاحتلال الأجنبي وما سنراه نحن وأولادنا إن لم تساعدنا المقادير.

والأغرب مما ذكر أنه لما تمَّ فتح البرزخ أرادت الحكومة الاستيلاء على كمرك بورسعيد كما تسمح لها المعاهدات الابتدائية، فامتنعت الشركة وتداخلت حكومة فرنسا، وقبلت الحكومة المصرية أن تدفع لها ثلاثين مليون فرنك لمنع هذه المعارضة العارية عن الأساس، وبذلك يكون ما دفع من الحكومة المصرية بسبب عدم تبصر رجالها مائة واثنين وعشرين مليون فرنك، منها أربعة وثمانون قيمة ما حكم به نابليون للشركة، وثمانية قيمة ربحها من أراضي الوادي، وثلاثون في مقابل تنازلها عن المعارضة في كمارك بورسعيد.

ولما توفر المال لدى الشركة أخذت في بذل الهمة لإنجاز القنال، وفي شهر مارس سنة ١٨٦٩ توجَّه الخديو إسماعيل باشا إلى أوروبا لدعوة ملوكها لحضور الاحتفال الذي صمم جنابه على إجرائه إظهارًا لسروره من إتمام هذا العمل المضر بمصر ماليًّا وسياسيًّا، وما دعاهم إلا ليستميلهم لأغراضه السياسية.

الاحتفال بفتح قنال السويس

ولما عاد إلى بلاده أخذ في الاستعداد لاستقبال الزائرين بما يَلِيق بمقامهم. ولما لم يكن بمصر تياترو وكان وجوده أمرًا لا بد منه — على زعمه — لتمام الانتظام؛ أمر المهندس فرنس النمساوي — الذي رقي فيما بعد إلى رتبة باشا — ببناء تياترو الأوبرا والتياترو الصغير الذي كان بالقرب من الأول، وهدم عند بنائه عمارة البوسطة الجديدة. ولضيق الوقت استمرَّ العمل ليلًا ونهارًا حتى تمَّ بناؤهما، وجعل أكثر بناء التياترو الكبير من الخشب، ثم أرسل درانت باولينو باشا لمقاولة أحسن جوق من الممثلين والممثلات.

وأخذ أيضًا يجهِّز ما يلزم لإقامة الملوك والوزراء من السرايات اللائقة بمقامهم، وأنشأ لهم سراية في مدينة الإسماعيلية الجديدة؛ أنشأتها الشركة على نفقة الحكومة بمليونين من الفرنكات.

وفي ١٧ سبتمبر سنة ١٨٦٩ قدم الوافدون على البرزخ، وفي مقدمتهم إمبراطورة فرنسا٧ وإمبراطور النمسا، ووليا عهد ألمانيا وإيطاليا، فقضوا الليلة في مدينة بورسعيد في غاية السرور، وفي صباح اليوم التالي قام الجميع على الوابورات البحرية التي أُعدَّت لذلك ونزلوا في مدينة الإسماعيلية حيث قضوا الليلة فيما لا يوصف من الملاهي والمراقص والزينات. وفي اليوم الثالث ساروا جميعًا إلى السويس، ثم أتوا إلى القاهرة، ومنها رجع كلٌّ إلى بلاده إلا من أراد السياحة إلى الجهات القبلية لمشاهدة آثار مصر القديمة. وقد وجه الخديو كل همته إلى إكرام إمبراطورة فرنسا وتوفير أسباب الراحة لها أثناء سياحتها في صعيد مصر، فأصحبها بنجله دولتلو حسين باشا، وبأعظم رجال هذا العصر صاحب الدولة والوطنية رياض باشا، وعين لخدمتها ستة عشر وابورًا بحريًّا اختص بعضها لركوبها ومعيتها والبعض الآخر لإحضار كل ما يلزم لها من المأكل والمشرب والفواكه وغير ذلك من القاهرة يوميًّا. واستمرت مشمولة بالتفات الحضرة الخديوية مدة الاثنين والعشرين يومًا التي قضتها في هذا السفر، ولم تزل كذلك حتى عادت إلى بلادها مسرورة شاكرة. وقد قال سعادة المرحوم علي باشا مبارك في الصحيفة الأخيرة من الجزء الثامن عشر من الخطط الجديدة التوفيقية ما يأتي:

وقد طار ذكر هذا المهرجان حتى ملأ البقاع وتحدَّث الناس في ترتيبه ونظامه ومصرفه؛ لأنه فريد في ذاته، لم يَجْرِ على مثال سابق عليه، والذي تعجب الناس منه غاية العجب هو استعداد موسيو يوسف بنطليني التلياني المتعهد بمأكول جميع من حضر هذا المحفل كل إنسان على حسب مقامه، فكان هو ورجاله يؤدون الخدمة بغاية النشاط والانتظام مع مراعاة الواجب والأدب، وكان الناس يتعاقبون على السفر الإفرنجية والعربية فوجًا بعد فوج، وفي كل مرة تتغير أدوات السفرة بغيرها وتقدم ألوان الأطعمة على التعاقب في أسرع زمن مع مراعاة مقتضيات خدمة كل سفرة عربية كانت أو إفرنجية.

واستمرت هذه الحالة في الخيم والصواوين والوابورات وجميع المحلات المعدة لذلك مدة أربع عشرة ساعة، والذي صرفته الحكومة للمتعهد المذكور في مقابلة المأكول والمشروب ولوازمهما من أدوات ومهمات وخدمة وخدم هو مبلغ مائتين وخمسين ألف بنتو، وهذا خلاف أجر نقل مهماته ورجاله ذهابًا وإيابًا؛ فإنها كانت على الحكومة أيضًا. وقد بلغ ما صرف على هذا المهرجان من أجر سفر أشخاص ومنقولات ومأكولات وغير ذلك مليونًا و١١١٩٣ جنيهًا إنكليزيًّا، فلو أضيف إلى ذلك أجر سكة الحديد ما صرف على وابورات البحر في النيل والخليج المالح مع ما صرفته الحكومة على المباني في مدن القنال والقاهرة وثغر الإسكندرية وغيرها، وما صرف في الزينة ومهماتها وشراء عربات ومهمات للسكة الحديدية لأجل المهرجان المذكور؛ لبلغ مصرف هذا المهرجان ما يزيد عن مليون ونصف من الجنيهات، وذلك قدر السدس من إيراد مصر سنة كاملة. ا.ﻫ.٨

(٨) عزل السلطان عبد العزيز

هذا؛ ولنأت هنا على ذكر هذه الحادثة المفجعة مع بيان الأسباب التي تنسب لها بقدر ما وصل إليه بحث هذا العاجز فنقول:

إنه بعد الحوادث التي مر ذكرها اقتنع السلطان — رحمه الله — أن تحالف الدول مع الدولة في حرب القرم وما بعدها لم تكن نتيجته إلا إضعافها بالتداخل في شئونها الداخلية، ومساعدة الطوائف المسيحية الخاضعة لها على الانشقاق عنها، وبث روح الفتن والفساد في ممالكها تحت غطاء الحرية ونشر العلوم، وأن كل ذلك يعود بالنفع على الروسيا جارتها القوية وعدوَّتها القديمة، لا سيما وقد عدَّل الدول بعد الحرب الفرنساوية الألمانية أهمَّ بنود معاهدة باريس التي أبرمت بعد حرب القرم لحفظ التوازن في البحر الأسود وعدم مراعاتها عقب إبرامها في حق ولايتي الأفلاق والبغدان؛ فلهذه الأسباب علم جلالة السلطان أن الأولى والأنجح لسياسة الدولة هو التباعد عن الدول الغربية والتحالف مع الروسيا، وعضَّده في هذا الفكر الصدر الأعظم محمود نديم باشا؛ فأكثر السلطان من الاجتماع مع الجنرال أغناتيف — سفير الروسيا بالآستانة — والمتواتر — وإن لم تثبته أوراق رسمية — أنهما كانا يسعيان لوضع أساس معاهدة هجومية ودفاعية يكون من أهمِّ بنودها الاختصاص بجميع بلاد الشرق وتتبع الولايات الإسلامية أو التي يغلب فيها العنصر الإسلامي للدولة العلية الإسلامية، وضم جميع الأقاليم المسيحية أو التي يسود فيها هذا العنصر للدولة الروسية.

ولما شاع هذا المشروع لم يَرُقْ في أعين الدول الأوروبية التي لها مصالح في الشرق، وخصوصًا إنكلترا، فأخذ عمالهم وسفراؤهم الظاهرون والسريون يلقون الوساوس في عقول السذج من أهل الآستانة وينسبون السلطان للتبذير والإسراف وعدم الأهلية لإدارة مهام الملك، وربما استعان هؤلاء المغررون بطرق أخرى المطالع بها أدرى، وما زالوا يوسوسون ويلقون بذور الفساد حتى أقنعوا الوزراء بوجوب عزله، وأن إقالته من الأعمال الواجبة لانتظام الدولة وسيرها على المحور المستقيم. وصادفت دسائسهم أذنًا صاغية عند بعض العلماء؛ لما خالج صدورهم من عدم الميل للسلطان بسبب عدم اتباعه بعض العوائد المألوفة لديهم مثل خروجه من ممالكه وزيارة معرض باريس وحضوره التشخيصات التياترية والباللوات (المراقص).

وكيفية خلعه — على أصح الروايات — أن المؤامرة التي أوصلت إلى هذه النتيجة حصلت بين كل من محمد رشدي باشا الصدر الأعظم، وحسين عوني باشا ناظر الحربية، وأحمد باشا قيصرلي ناظر البحرية، وأحمد مدحت باشا، وشيخ الإسلام حسن خير الله أفندي. وقبل الشروع في تنفيذ ما صمموا عليه أصدر شيخ الإسلام فتوى بوجوب ذلك هذا نصها:

الفتوى بعزله

إذا كان زيد الذي هو أمير المؤمنين مختل الشعور وليس له إلمام في الأمور السياسية، وما برح ينفق الأموال الميرية في مصارفه النفسانية في درجة لا طاقة للملك والملة على تحملها، وقد أخلَّ بالأمور الدينية والدنيوية وشوشها وخرب الملك والملة وكان بقاؤه مضرًّا بها، فهل يصح خلعه؟

الجواب: يصح.

كتبه الفقير حسن خير الله
عفى عنه

ثم أناطوا حسين عوني باشا بأمر خلع السلطان عبد العزيز وشيخ الإسلام وباقي الوزراء بمبايعة السلطان مراد. وفي يوم الاثنين ٦ جمادى الأولى سنة ١٢٩٣ (الموافق ٢٩ مايو سنة ١٨٧٦) أخذ ناظر البحرية في تجهيز المراكب لحصر السراية السلطانية بحرًا، فاستغرب السلطان حصول المناورات بالبحر تحت شبابيكه بدون سابقة علمه، فأرسل يستعلم عن السبب؛ فأجيب بأن دواعي الحال أوجبت ذلك، ثم أخبر أحمد باشا قيصرلي الصدر الأعظم ومدحت باشا بسؤال السلطان فعزموا على تنفيذ مشروعهم في مساء ذلك اليوم خوفًا من أن يكون السلطان قد شعر بسيئ قصدهم، واتفقوا على تكليف من يُدعى رديف باشا بحصر السراية برًّا، وتعهد أحمد باشا قيصرلي بحصرها بحرًا. وفي الساعة الثانية بعد غروب ذلك اليوم اجتمع المتآمرون في ديوان السر عسكرية وتوجه رديف باشا مع آلاي من الجند مؤلف من ٢٥٠٠ عسكري، وأمر سليمان باشا رئيس المدرسة الحربية بخفر باب السراي مع مائة من تلامذة هذه المدرسة راكبين خيولهم ومسلحين بالبنادق الجديدة. ولما تم حصارها برًّا وبحرًا وأخبر المتآمرون بذلك، توجه حسين عوني باشا في عربة إلى مقر السلطان مراد وأركبه معه، وعادا معًا إلى السر عسكرية حيث كان بانتظارهما شيخ الإسلام والشريف عبد المطلب وجميع أعيان الدولة من عسكريين وملكيين، ولما دخلاها أحاطت بالسراية فرقة من الجنود لمنع من فيها من الخروج، ثم حصلت المبايعة للسلطان مراد خان الخامس من جميع الحاضرين على الأسلوب المتبع.

١  ولد هذا الأمير سنة ١٨٢٨، وتربَّى في مدينة ويانة عاصمة النمسا، وتولى بعد بطرس الثاني، وتوفي مقتولًا سنة ١٨٦٠.
٢  هو نجل المرحوم إبراهيم باشا، نجل المرحوم محمد علي باشا الكبير والي مصر. ولد سنة ١٢٤٥ھ، وتوجَّه إلى أوروبا مع أخيه المرحوم أحمد باشا، والخديوي الأسبق إسماعيل باشا، وتوظَّف بوظائف عالية بالآستانة؛ فأحيلت إليه نظارة المعارف سنة ١٢٧٩، ثم المالية. وفي أوائل سنة ١٢٨٧ عُيِّنَ ناظرًا للعدلية (الحقانية)، وبعد ذلك بقليل أنعم عليه بالنيشان العثماني المرصع، وتقلد بعد ذلك عدة مناصب أخرى. وتوفي في ٤ ذي القعدة سنة ١٢٩٢، ودفن بالآستانة.
٣  مدينة بألمانيا واقعة على نهر ماين، كانت إحدى المدائن الأربع الحرة، ومقرًّا للمجمع الجرماني العمومي، وبها كنيسة شهيرة. كانت إمبراطورة ألمانيا تتوَّج فيها، وبها الآن كثير من المدارس العالية، وتجارتها عظيمة جدًّا، وبها نشأت عائلة روتشلد الشهيرة بالثروة، واجتمع بها عدة مجامع دينية. وفي ١٠ مايو سنة ١٨٧١ أمضيت بها معاهدة صلح بين فرنسا وألمانيا؛ أهم شروطها سلخ إقليم الألزاس وجزء من إقليم اللورين من فرنسا وضمها إلى ألمانيا، وتعهد فرنسا بدفع غرامة حربية قدرها خمسة مليارات من الفرنكات عبارة عن مائتي مليون جنيه.
٤  هو المؤرخ اليوناني الشهير الملقب بأبي التاريخ. ولد سنة ٤٨٤ قبل الميلاد، وراد بلاد اليونان ومصر وآسيا؛ ليطلع على عوائد أهلها وأخلاقهم حتى يكتب تاريخهم عن رؤية وخبرة. وتوفي حوالي سنة ٥٠٦ قبل الميلاد.
٥  رياضي شهير، ولد سنة ١٧٤٩ بفرنسا، ونبغ في الرياضة من صغره حتى عين أستاذًا لها في إحدى المدارس الحربية ولم يتجاوز سنه ١٩ سنة، وإليه يرجع فضل تتميم اكتشاف نيوتن الإنكليزي المختص بدوران العوالم حول بعضها، وله عدة مؤلفات شهيرة في جميع العلوم الرياضية وما يتعلق بها، ورقَّاه نابليون الأول إلى درجة كونت، ومنحه لويس الثامن عشر لقب مركيز، وانتخب عضوًا في جمعية العلوم الفرنساوية (أكادمية) وفي مجمع الإنستيتوت، واشتغل قليلًا بالسياسة، وانتخب عضوًا في السناتو سنة ١٧٩٩، ونيطت به رياسته مدة. وتوفي سنة ١٨٢٧.
٦  هو رابع أولاد محمد علي باشا الكبير، تولى على مصر سنة ١٢٧٠ھ، الموافقة سنة ١٨٥٤ ميلادية، وكانت ولادته سنة ١٨٢٢ ميلادية، وتوفي سنة ١٢٧٩ھ الموافقة سنة ١٨٦٣ ميلادية. ومن آثاره لايحة الأطيان الخراجية، وقانون المعاشات لجميع الموظفين، ومنح الأهالي حرية التجارة بعد أن كانت خاصة بالحكومة، لكن هذه المنح الجليلة لم تعادل ما لحق مصر من الضرر المالي والسياسي بإيجازاته حفر قنال السويس الذي قرب المسافة بين أوروبا والشرق؛ وكان سببًا فيما نطلب منه تعالى أن يخلصنا منه وهو الاحتلال الأجنبي.
٧  ولدت هذه الإمبراطورة المسماة «أوجيتي» بمدينة غرناطة بإسبانيا في ٥ مايو سنة ١٨٢٦ من عائلة أثيلة في الشرف عريقة في المجد اسمها عائلة «مونتيخو». ولشهرتها في الجمال والتربية والكمال تزوجها الإمبراطور نابليون الثالث في ٢٠ يناير سنة ١٨٥٢، وولدت منه غلامًا في ١٦ مارس سنة ١٨٥٦؛ ولم يمل إليها الفرنساويون لحبها الاستبداد ومساعدتها زوجها على الاستئثار بالسلطة. وينسب لها تحريضه على محاربة البروسيا في سنة ١٨٧٠، ولما هزم نابليون الثالث في واقعة «سيدان»، وأعلنت الجمهورية الثالثة الحالية في ٤ سبتمبر سنة ١٨٧٠، هاجرت إلى إنكلترا مع ابنها ثم لحقها زوجها، وأقام معها إلى أن توفي في ٩ يناير سنة ١٨٧٣. وفي أول يونيو سنة ١٨٧٩ قتل ابنها الوحيد في محاربة الزولوس بجنوب أفريقيا؛ حيث كان ضابطًا في الجيش الإنكليزي، وبعد أن احتفلت بدفنه في بلاد الإنكليز؛ سافرت إلى بلاد الزولوس لزيارة المحل الذي قتل فيه، ولم تزل عائشة حتى الآن.
٨  ومما يوجب الاستغراب أكثر مما مرَّ أن الخديوي الأسبق لم يكتفِ بما صرفه عند الاحتفال بهذا الخليج، بل باع الأسهم التي كان اشتراها المرحوم سعيد باشا إلى إنكلترا بأربعة ملايين جنيه مع أنها تساوي الآن ثمانية عشر مليونًا، وحيث إنه كان قد رهن أرباحها مدة طويلة تنتهي في يوليو سنة ١٨٩٤؛ فتعهَّد للحكومة الإنكليزية بأن يدفع لها سنويًّا فائدة عن ثمن هذه الأسهم تبلغ قيمتها سنويًّا نحو مائتي ألف جنيه، ولم تزل الحكومة تدفع هذه الفوائد، وستستمر على دفعها إلى منتصف السنة القابلة سنة ١٨٩٤.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤