الفصل الخامس والثلاثون

خليفة المسلمين وسلطان العثمانيين محمد رشاد خان الخامس

ولد جلالته سنة ١٨٤٤م، وقد قضى أغلب عمره في قصر زنجيرلي كوي محوطًا بالجواسيس الذين يرصدون حركاته ويقدمون التقارير المشوهة عنه، فظل كذلك إلى حين حدوث الانقلاب العثماني، وتخلص مع الشعب العثماني من الاستبداد والمراقبة؛ إذ دالت دولة الجواسيس وثُلَّ عرش الاستبداد.

إلا أن عبد الحميد الذي طبع على الاستبداد لم يَرُقْهُ أن يرى أمته متمتعة بالحرية راقية أوج الكمالات منظمة أمورها بنفسها مقيمة العدل؛ فسولت له نفسه إحداث تلك الفتنة الارتجاعية لتقويض صروح الإدارة الدستورية، ولولا أن أدرك الآستانة في ذلك الوقت بطل الحرية وقائد جيش الفدائيين محمود شوكت باشا وبطلا الحرية نيازي بك وأنور بك لتمَّ له ما أراده ولذهبت أتعاب حزب الاتحاد والترقي الذي جاهد في سبيل الحرية ثلاثين عامًا أدراج الرياح.

اجتمع المجلس العمومي اجتماعًا سريًّا، وخلع عبد الحميد بموجب فتوى من شيخ الإسلام هذا نصها:

إذا اعتاد زيد الذي هو إمام المسلمين أن يرفع من الكتب الشرعية بعض المسائل المهمة الشرعية، وأن يمنع بعض هذه الكتب ويمزق بعضها ويحرق بعضها، وأن يبذِّر ويُسْرِف في بيت المال، ويتصرف فيه بغير مسوغ شرعي، وأن يقتل الرعية ويحبسهم وينفيهم ويغربهم بغير سبب شرعي وسائر أنواع المظالم، ثم ادعى أنه تاب وعاهد الله وحلف أنه يصلح حاله، ثم حنث وأحدث فتنة عظيمة جعلت أمور المسلمين كلها مختلة وأصر على المقاتلة، وتمكن منعة المسلمين من إزالة تغلب زيد المذكور ووردت أخبار متوالية من جوانب بلاد المسلمين أنهم يعتبرونه مخلوعًا، وأصبح بقاؤه محقق الضرر وزواله محتمل الصلاح، فهل يجب أحد الأمرين خلعه أو تكليفه بالتنازل عن الإمامة والسلطنة على حسب ما يختاره أهل الحل والعقد وأولو الأمر من هذين الوجهين؟

الجواب: يجب.

كتبه الفقير
السيِّد محمد ضياء الدين
عفى عنه

فلما قرئت هذه الفتوى الجليلة على الأعيان والمبعوثين سألهم سعيد باشا — رئيس الأعيان — الذي كان يرأس الجلسة أتختارون خلعه أم تكليفه بالتنازل، فأجابوا بصوت واحد: الخلع الخلع.

وهذه ترجمة قرار هذا المجلس العمومي (المؤلف من الأعيان والمبعوثين):

يوم الثلاثاء سابع ربيع الآخر سنة ١٣٢٧ و١٤ نيسان سنة ١٣٢٥ (٢٧ أبريل سنة ١٩٠٩م) الساعة السادسة ونصف (الواحدة بعد الظهر) قرئت الفتوى الشرعية الموقع عليها بتوقيع شيخ الإسلام محمد ضياء الدين أفندي في المجلس العمومي المؤلف من المبعوثين والأعيان، ورجح بالاتفاق وجه الخلع الذي هو أحد الوجهين المخير بينهما، فأسقط السلطان عبد الحميد خان من الخلافة الإسلامية والسلطنة العثمانية، وأصعد ولي العهد محمد رشاد أفندي باسم السلطان محمد خان الخامس إلى مقام الخلافة والسلطنة.

خلع عبد الحميد سنة ١٩٠٩؛ فبويع بالخلافة الإسلامية الخليفة الشوري العادل أمير المؤمنين محمد رشاد الخامس.

فلما ولي الخلافة أعاد إليها عهد عمر بن عبد العزيز؛ إذ سار في المؤمنين سيرته، فكان من كل قلب قاب قوسين أو أدنى، وعمل على خدمة الأمة؛ فأعزَّته، وأخذ بيدها فأحبته، وأجلَّها فأجلَّته، وكانت الكلمة التي امتاز بها عهده السعيد تلك التي قالها على مسمع من وزرائه: «إننا جميعًا خدام الشعب.»

ولم يمضِ على توليته الخلافة إلا قليل حتى ألَّف بين قلوب الأمة في ظل الدستور، فكان لعناصر هذه الأمة أبًا رحيمًا وراعيًا حكيمًا. ولقد رأى العثمانيون جميعًا من حكيم تدبيره وسياسته ما ملأ قلوبهم ثقة وتعلقًا به وحبًّا وإقدارًا له، فكان عهده فاتحة لرقي الممالك العثمانية وإصلاحها.

ومنذ ارتقاء جلالته على العرش تسلَّم حزب الاتحاد والترقي إدارة الحكومة العثمانية، وإنا لنذكر الإصلاحات التي تمت منذ ثلاث السنين الماضية والاتحاديون يديرون الحكومة العثمانية.

(١) الإصلاحات الداخلية

تسلَّم حزب الاتحاد والترقي إدارة الحكومة وأعداؤه من رجال العهد الماضي يُعَدُّون بالمئات؛ أولئك المنافقون الذين ارتكبوا من الأعمال المضرة في العهد البائد ما تقشعر منه الأبدان. وكانت الحكومة في اختلال تام والأمة قد فقدت أسباب الأمن، والموظفون لا يتقاضون مرتباتهم، والديون الخارجية لا تدفع أقساطها في أوقاتها، واشتعلت في الولايات نيران الفتن والمشاغبات.

تلك هي حال الحكومة عندما تسلَّمها حزب الاتحاد والترقي. أما حال العناصر العثمانية المختلفة فكان على أسوأ ما يكون، وكل عنصر كان يتأهب للفتك بأخيه، وكان بين المبعوثين لأول مرة من لم يفهم معنى الحرية ولا يعرف واجباته نحو الأمة ولا الفائدة من الاجتماع بمجلس المبعوثين.

تسلَّم حزب الاتحاد والترقي الحكومة في ذلك الوقت، وبدأ في أعماله وإصلاحاته بهمة لا تعرف الكلل ولا الملل.

كان أول ما ابتدأ في تنفيذه من الوسائل النافعة تعميم المساواة بين أفراد الأمة بوضعهم جميعًا في مستوى واحد أمام قانون واحد.

ومن المعلوم أن هناك بعض بقاع في الدولة العلية لا يمكن الإنسان فيها أن يخرج من منزله إلا بعد أن يرخي الظلام سدوله، وهناك بلاد لا يستطيع الإنسان أن يسير فيها نهارًا إلا وهو مدجج بالسلاح، وغيرها حيث لا يمكن الإنسان أن يتجول إلا إذا اصطحب معه أربعين أو خمسين رفيقًا، كما كان هناك بلاد يحارب أهلها بعضهم بعضًا، فبدأ حزب الاتحاد والترقي يسعى سعيًا متواصلًا لإزالة تلك العوائق وتذليل هذه المصاعب بإخضاع الجميع لسطوة القانون، حيث تتوطد بذلك أركان الجامعة العثمانية.

ولقد وفقت الحكومة لجمع الأسلحة من الأشقياء الذين يلجئون إلى الجبال في الروم إيلي؛ فأثار أولئك من أجل ذلك ثورات جديدة قاومتها الحكومة وأخمدتها، فعادت السكينة في أنحاء الدولة العلية، وعمَّ الأمن، وانتشرت الطمأنينة.

الإصلاحات المالية

قبض حزب الاتحاد والترقي على إدارة الحكومة العثمانية والخزانة خاوية على عروشها، فبدأ في إصلاحها، وتمكَّن من وضع ميزانية لمالية الحكومة العثمانية، فكانت عبارة عن خمسة وعشرين مليونًا واردات وثلاثين مليونًا مصروفات، وكانت قد تراكمت الديون من جهة ولم تحصل الضرائب منذ سنين من جهة أخرى. فلما وضعت الميزانية المذكورة لم يكن أحد يعتقد إمكان تحصيل ٢٥ مليونًا من بلاد الدولة، ولكن كان المتحصل عقب إعلان الدستور لأول مرة ٢٦ مليونًا ونصفًا سنة ١٩١٠.

وفي سنة ١٩١١ بلغ المتحصل ثلاثين مليونًا.

ولقد زادت واردات جميع مصالح الحكومة؛ وبالجملة فإن المواد الأساسية لإيرادات الحكومة نمت وازدادت إلى درجة كبيرة.

وكانت إيرادات الكمارك سنة ١٩١٠ ثلاثة ملايين ونصفًا، فوصلت إلى خمسة ملايين سنة ١٩١١، وكانت واردات العشور سنة ١٩١٠ ستة ملايين فأصبحت سبعة ملايين ونصفًا.

الإصلاحات الحربية

لو لم يهتمَّ حزب الاتحاد بتنظيم الجيوش العثمانية إلى تلك الدرجة التي أصبح يفوق فيها أعظم جيوش دول أوروبا نظامًا وتدريبًا، لفاجأ الأعداء الدولة العثمانية من كل ناحية. ولو لم يقف الجيش العثماني على حدود الروم إيلي صادًّا الأعداء عن التقدم لقام الأعداء وسخروا من الدولة العلية.

•••

وبالجملة فإن حزب الاتحاد قد عرف أدواء الأمة وعلاجها؛ فنجح في تقليل الهجرة وعدد المهاجرين في الروم إيلي، وقلل من العشور في الأناضول. وقصارى القول إن الحزب قد نجح في مداواة هذه الأمراض نجاحًا باهرًا.

ولقد وزَّع حزب الاتحاد المبالغ الجسيمة على سكان الجزيرة والموصل والأناضول؛ لإحياء أراضيهم، وتعميم الزراعة بينهم بعد الموات.

فلا عجب إذا ابتهج المسلمون في شرق الأرض وغربها بارتقاء جلالة مولانا السلطان الأعظم محمد الخامس عرش الخلافة العثمانية.

نسأل الله أن يمد في عمر جلالته، ويزيده توفيقًا، ويجعل عهده المحبوب عهد إسعاد للدولة والملة آمين.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤