الفصل الرابع

السلطان الغازي بايزيد خان الأول

وتولى بعده السلطان بايزيد خان الأول بِكْرُ أولاده، وكانت ولادته سنة ٧٦١ هجرية (الموافقة سنة ١٣٦٠م)، اتفق أركان الدولة على توليته. وكان له أخ أصغر منه بقليل يدعى يعقوب متصفًا بالشجاعة والإقدام وعلوِّ الهمة فخيف على المملكة منه، من أن يدَّعي الملك ويرتكن على أن الملك انتقل إلى السلطان أورخان بعد وفاة أبيه السلطان عثمان، ولم يتولَّ بعده ابنه البكر علاء الدين، ولذلك قتل باتفاق أمراء الدولة وقواد جيوشها، وادعى مؤرخو الإفرنج أن قتله كان بناءً على فتوى شرعية أفتى بها علماء ذلك الزمان منعًا لحصول الفتنة بناءً على قوله تعالى: وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ.

وابتدأ السلطان بايزيد الأول أعماله بأن ولى الأمير «إسطفن» بن لازار — ملك الصرب — حاكمًا عليها وتزوج أخته «أوليفيرا»، وأجازه بأن يحكم بلاده على حسب قوانينهم بشرط دفع جزية معينة وتقديم عدد معين من الجنود ينضمون إلى الجيوش الشاهانية وقت الحرب، وفعل ذلك ولم يضمَّ بلاد الصرب إلى أملاكه ويجعلها ولاية كباقي الولايات ليسكن بالُ الصربيين حتى لا يكونوا شغلًا شاغلًا له؛ نظرًا لشهامتهم وحبهم الاستقلال. ولما ساد الأمن في أوروبا قصد بلاد آسيا وفتح مدينة «آلاشهر» المعروفة عند الإفرنج باسم «فيلادلفيا» سنة ١٣٩١م، وهي آخر مدينة بقيت للروم في آسيا، وهابه أمير «آيدين»، فترك له أملاكه وعاش مطمئن الخاطر في إحدى المدن الخارجة عن النفود العثماني، وكذلك ترك أميرا منتشا وصاروخان ولايتيهما واحتميا عند أمير «قسطموني».

وتنازل الأمير علاء الدين — حاكم بلاد القرمان — للسلطان عن جزء عظيم من أملاكه ليؤمِّنه على الباقي.

وبعد هذه الفتوحات التي تَمَّ أغلبها بدون حرب عاد السلطان إلى أوروبا وحارب «إمانويل باليولوج» — ملك الروم — وحاصره في القسطنطينية، وبعد أن ضيَّق عليها الحصار ترك حولها جيشًا جرارًا وسافر لغزو بلاد الفلاخ؛ فقهر أميرها المدعو «دوك مانيس»، وأكرهه على التوقيع على معاهدة يعترف فيها بسيادة الدولة العلية العثمانية على بلاده، ويتعهَّد لها بدفع جزية سنوية مع بقاء بلاده له يحكمها بمقتضى عوائد وقوانين أهلها، وتم ذلك في سنة ١٣٩٣م.

وفي أثناء اشتغال السلطان بمحاربة الفلاخ أراد علاء الدين — أمير القرمان — أن يستردَّ ما تنازل عنه للدولة العلية؛ فجهز جيشًا عظيمًا، واستعان ببعض مجاوريه، وسار بخيله ورجله قاصدًا مهاجمة مدينة أنقرة بعد أن فاز على ديمورطاش باشا في إحدى الوقائع وأخذه أسيرًا. فلما بلغ خبره إلى مسامع السلطان قام بنفسه إلى بلاد الأناطول وجدَّ في طلب علاء الدين حتى تقابل الجيشان في موضع يقال له «آق جاي»، فهزمه السلطان بايزيد وأسره هو وولديه محمدًا وعليًّا، وضم ما بقي من أملاكه إليه. وبذلك انمحت سلطنة القرمان وصارت ولاية عثمانية، ثم فتحت إمارات سيواس وتوقات، وكان آخر أمرائها يدعى الغازي برهان الدين.

وبذا لم يبقَ من الإمارات التي قامت على أطلال دولة آل سلجوق إلا إمارة قسطموني خارجة عن أملاك الدولة العثمانية، وكان أميرها يسمى بايزيد أيضًا، واحتمى ببلاده كثير من أولاد الأمراء الذين فتحت بلادهم؛ فكان ذلك سبب غزو بلاده، وذلك أن السلطان أرسل إليه من يطلب منه تسليم أولاد صاحب آيدين وصاروخان فامتنع، فسار إليه السلطان بايزيد بنفسه وأغار على بلاده، وفتح مدائن ساسون وجانك وعثمانجق. وبذلك انقرضت جميع الإمارات الصغيرة القائمة ببلاد الأناطول، وصار العَلَم العثماني يخفق منصورًا فوق صروحها، أما بايزيد — صاحب قسطموني — فلجأ إلى تيمورلنك سلطان الموغول.١

ومع استمرار الحصار حول القسطنطينية ضم السلطان بلاد البلغار إلى الأملاك العثمانية؛ فصارت ولاية عثمانية كباقي الولايات بعد أن قتل أميرها «سيسمان» وأسلم ابنه وعين حاكمًا لسمسون سنة ١٣٩٤م.

واقعة نيكوبلي

فلما علم «سجسمون» — ملك المجر — خبر ما حلَّ ببلاد البلغار خشي على مملكته؛ إذ صار متاخمًا في عدَّة نقط للدولة العلية، فاستنجد بأوروبا وساعده البابا، وأعلن الحرب الدينية بين أقوام أوروبا الغربية، فأجاب الدعوة دوك «بورغونيا»،٢ وأرسل ابنه الكونت دي نيفر ومعه ستة آلاف محارب أغلبهم من أشراف فرنسا، وفيهم كثير من أقارب ملك فرنسا نفسه، وانضم إليه حين مسيره إلى بلاد المجر أمراء «بافاريا»٣ وإستيريا وشواليه القديس حنا الأورشليمي٤ وكثير من الألمانيين، ثم اجتاز هذا الجيش نهر الدانوب وعسكر حول مدينة نيكوبلي لمحاصرتها، فسار إليهم السلطان بايزيد ومعه مئتا ألف مقاتل بهم كثير من أهالي الصرب تحت قيادة أميرهم «إسطفن» بن لازار وغيرهم من الأمم المسيحية الخاضعة لسلطان العثمانيين، وقاتلهم قتالًا عنيفًا في يوم ٢٣ ذي القعدة سنة ٧٩٨ (الموافق ٢٧ سبتمبر سنة ١٣٩٦). كانت نتيجتها انتصار العثمانيين على الجيوش المتألبة عليهم، وأسر كثير من أشراف فرنسا منهم الكونت دي نيفر نفسه، وقتل أغلبهم، وأطلق سراح الباقي، والكونت دي نيفر بعد دفع فداء اتفق على مقداره، ويقال: إن السلطان بايزيد لما أطلق سراح الكونت دي نيفر وكان قد ألزم بالقسم على أن لا يعود لمحاربته قال له: إني أُجيز لك أن لا تحفظ هذا اليمين فأنت في حلٍّ من الرجوع لمحاربتي؛ إذ لا شيء أحب إليَّ من محاربة جميع مسيحيي أوروبا والانتصار عليهم.

هذا؛ وقد شدد الحصار بعد ذلك على مدينة القسطنطينية، ولولا إغارة الموغول على بلاد آسيا الصغرى لتمكَّن من فتحها، لكن الأمور مرهونة بأوقاتها؛ فاكتفى بإبرام الصلح مع ملكها هذه المرة بشرط دفع عشرة آلاف ذهب سنويًّا من عملة وقتها، وأن يجيز للمسلمين أن يبنوا بها جامعًا لإقامة شعائر الدين الحنيف، وأن تقام لهم محكمة شرعية للنظر في قضايا المستوطنين بها منهم.

إغارة تيمورلنك على آسيا الصغرى وواقعة أنقرة ووقوع السلطان بايزيد أسيرًا في أيدي تيمور

وسبب إغارة تيمورلنك التتري الموغولي على الدولة العثمانية أن أمير بغداد والعراق المدعوَّ أحمد جلاير التجأ إلى السلطان بايزيد حينما هاجمه الموغول في بلاده، فأرسل تيمورلنك إلى السلطان بطلبه فأبى تسليمه إليه، فأغار تيمور بجيوشه الجرارة على بلاد آسيا الصغرى وافتتح مدينة سيواس بأرمينيا وأخذ ابن السلطان بايزيد المدعو أرطغرل أسيرًا وقطع رأسه، ولذلك جمع السلطان بايزيد جيوشه وسار لمحاربة تيمور الأعرج، فتقابل الجيشان في سهل أنقرة، واستمرت الحرب من قبل شروق الشمس إلى بعد غروبها، وأظهر السلطان خلالها من الشجاعة ما بهر العقول وأدهش الأذهان، ولكن ضعف جيشه بفرار فرق آيدين ومنتشا وصاروخان وكرميان وانضمامها إلى جيوش تيمور لوجود أولاد أمرائهم الأصليين في معسكر التتار، ولم يبقَ مع السلطان إلا عشرة آلاف انكشاري وعساكر الصرب، فحارب معهم طول النهار حتى سقط أسيرًا في أيدي الموغول هو وابنه موسى، وهرب أولاده سليمان ومحمد وعيسى، ولم يوقَف لابنه الخامس مصطفى على أثر، وكان ذلك في ١٩ ذي الحجة سنة ٨٠٤ (الموافق ٢٠ يوليو سنة ١٤٠٢م)، فعامل تيمورلنك أسيره بايزيد بالحسنى وأكرم مثواه، لكنه شدَّد في المراقبة عليه نوعًا بعد أن شرع في الهروب ثلاث مرات وضُبط. ويقال: إنه سجنه في قفص من الحديد حتى مات في ١٥ شعبان سنة ٨٠٥ (الموافق ٩ مارس سنة ١٤٠٣م) وعمره ٤٤ سنة، ومدة حكمه ١٣ سنة.

وهذه رواية نقلها بعض مؤرخي الإفرنج بدون تروٍّ؛ وذلك أن بايزيد رغب أن يسير مع جيش تيمورلنك في تختروان، يحمله حصانان ومقفلة شبابيكه بقضبان من حديد. ولكون بعض مؤرخي الترك أطلق على التختروان لفظ قفص ظن بعض المترجمين من الإفرنج أنه وضعه في قفص كما توضع الوحوش الكاسرة، ونقل هذه الرواية على علاتها كثير من المتقدِّمين، لكن لما تقدَّم علم التاريخ وترجمت التواريخ التركية أصلح متأخرو المؤرخين خطأهم، وأجمعوا على أنه لم يضعه في قفص مطلقًا (راجع الجزء الثاني من مؤلف همر المطبوع بباريس سنة ١٨٣٥ صحيفة ٩٦ وما بعدها).

ومما يؤيد حسن معاملة تيمورلنك للسلطان بايزيد أنه صرَّح لابنه موسى بنقل جثته بكل احتفال إلى مدينة بورصة، حيث دفن بجانب السلطان مراد (مع بقاء موسى في حالة الأسر وفي حراسة أمير كرميان).

الفوضى بعد موت السلطان بايزيد

وبعد موت السلطان بايزيد تجزأت الدولة إلى عدة إمارات صغيرة كما حصل بعد سقوط دولة آل سلجوق؛ لأن تيمورلنك أعاد إلى أمراء قسطموني وصاروخان وكرميان وآيدين ومنتشا وقرمان ما فقدوه من البلاد.

واستقل في هذه الفترة كلٌّ من البلغار والصرب والفلاخ، ولم يبقَ تابعًا للراية العثمانية إلا قليل من البلدان. ومما زاد الخطر على هذه الدولة الإسلامية عدم اتفاق أولاد بايزيد على تنصيب أحدهم، بل كان كلٌّ منهم يدَّعي الأحقية لنفسه؛ فأقام سليمان في مدينة أدرنة، حيث ولاه الجنود سلطانًا، ولأجل أن يستظهر على إخوته عقد محالفة مع ملك الروم «إيمانويل الثاني»، وتنازل له عن مدينة سلانيك وسواحل البحر الأسود لينجده على إخوته الباقين، ولزيادة الوثوق منه تزوَّج إحدى قريباته.

وكان محمد بن بايزيد يحارب جنود تيمورلنك في جبال الأناطول، واستخلص منهم مدينتيْ توقات وأماسية. أما عيسى فلما بلغه خبر وفاة والده جمع ما كان معه من الجند بمدينة بورصة، حيث كان مختفيًا، وأعلن نفسه خليفة آل عثمان بمساعدة القائد «ديمورطاش باشا». ومما يوجب الأسف والحزن أن استنجد كل من هؤلاء الثلاثة بتيمورلنك، سبب هذه الفتن والمفاسد، فقَبِلَ وفودهم بكل ارتياح وشجَّعهم على المثابرة والثبات في الحرب؛ يريد بذلك إضعافهم ببعضهم حتى لا تقوم للدولة العلية بعدهم قائمة.

فسار محمد لمحاربة أخيه عيسى وهزمه في عدة مواقع وقتله في الأخيرة منها، ولم يبقَ له بعد ذلك منازع من إخوته في آسيا الصغرى، واستخلص أخاه موسى بعد ذلك من أمير كرميان وسلمه قيادة جيش جرَّار أرسله به إلى أوروبا لمحاربة أخيه سليمان فلم يقوَ عليه، بل انهزم أمامه وعاد مقهورًا إلى آسيا، ثم جمع جيشًا آخر وعاد به إلى أوروبا وحارب أخاه سليمان وقتله خارج أسوار مدينة أدرنة في سنة ١٤١٠، وبعدها أغار على بلاد الصرب وعاقب أهلها على خروجهم عن الطاعة، وقاتل سجسمون — ملك المجر — الذي تصدَّى له لردِّه عن بلاد الصرب، لكن داخل الطمع الأمير موسى فعصى أخاه محمدًا الذي أمدَّه بالجنود لمحاربة أخيهما سليمان وأراد الاستقلال ببلاد الدولة بأوروبا، وحاصر القسطنطينية ليفتحها لنفسه؛ فاستنجد ملكها بالأمير محمد، فأتى إليه مسرعًا لمحاربته وألزمه بعد محاربة شديدة برفع الحصار عنها، ثم حالف الأمير محمد ملك القسطنطينية وأمير الصرب وبثوا الدسائس في جيش موسى حتى خانه أغلب قوَّاده، ووقع أخيرًا بين يديْ أخيه محمد فأمر بقتله سنة ٨١٦ هجرية (الموافقة سنة ١٤١٣ ميلادية).

١  أي تيمور الأعرج، ولد سنة ١٣٣٦ ميلادية تقريبًا ببلدة بالقرب من سمرقند، ويتصل نسبه بجنكيز خان التتري من جهة النساء، وخلف عمه سيف الدين في إمارة كيش سنة ١٣٦٠، وأخذ في فتح ما حوله من الإمارات والقبائل، ثم فتح بلاد خوارزم، وكشغر، وبلاد إيران، ومنها سار إلى جنوب الروسية، وفتح إقليم آزاق، ثم قصد بلاد الهند فانتصر على صاحب «دهلي»، وفتح معظم الهند الإنكليزية، ومنها عاد إلى الغرب ففتح بلاد الشام ومدينة بغداد؛ التي خرَّبها عن آخرها. وقبل أن ينظم هذه الفتوحات العديدة قصد بلاد الصين في جيش يجل عن الحصر بعد أن حارب السلطان بايزيد العثماني، وأخذه أسيرًا، فعاجله المنون قبل أن يصل الصين في إقليم خوقند في ١٧ شعبان سنة ٨٠٧، الموافق ١٩ فبراير سنة ١٤٠٥ ميلادية. وبعد موته تفرقت مملكته بين ولده شاه رخ وأحفاده وأولاد أحفاده.
٢  كانت ولاية عظيمة في شرق فرنسا شبه مستقلة، لم يكن لملوك فرنسا عليها سوى السيادة، وحق طلب الجنود للحرب عند الضرورة. وأهم أمرائها شارل الجسور الذي توفي سنة ١٤٧٧ عن غير عقب ذكر، وضمت أملاكه إلى مملكة فرنسا، وصارت كباقي الولايات. وفي سنة ١٧٨٩ قسمت إلى عدة مديريات؛ بمقتضى الترتيب الذي وضع أثناء الثورة الفرنساوية العظمى، ويشتهر هذا الإقليم بالنبيذ الجيد.
٣  مملكة مستقلة بألمانيا؛ يبلغ عدد سكانها خمسة ملايين من النفوس، وتختها مدينة «مونيخ» أو «مونكن»، كما يسميها الألمان، وهي داخلة الآن ضمن الإمبراطورية الألمانية التي تشكلت سنة ١٨٧١ عقب تغلب الروسيا على فرنسا مع بقاء استقلالها وحكومتها وملوكها كما كانت.
٤  هم طائفة من الرهبان الذين ذهبوا إلى بلاد فلسطين في القرن الحادي عشر للمسيح أثناء الحروب الصليبية، التي أثارها المسيحيون على المسلمين لامتلاك القدس الشريف لخدمة حجاج النصارى. ولما استولى السلطان صلاح الدين الأيوبي على مدينة أورشليم سنة ١١٨٧؛ انتقلت هذه الطائفة إلى عكا، ثم إلى جزيرة رودس، واتخذتها مركزًا لمحاربة المسلمين وتعطيل تجارتهم ونهب مراكبهم وأسر من بها. ولما فتح السلطان سليمان القانوني هذه الجزيرة سنة ١٥٢٢ كما سيجيء؛ رحلت هذه الطغمة إلى جزيرة مالطة التي أعطاها لهم الإمبراطور شارلكان؛ فاحتلوها إلى أن فتحها بونابرت سنة ١٧٩٨ أثناء مجيئه إلى مصر؛ فانمحت هذه الطائفة تقريبًا، ولم يبقَ إلا اسمها.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤