هُدوء السِّرِّ

قد يغضب المجمع اللغوي لهذا العنوان الذي يصوِّر لغة العامة أكثر مما يصوِّر لغة الفصحاء، ولكني مع ذلك أوثره لأني أجد فيه الترجمة الصادقة للعنوان الفرنسي: La paix chez soi là، كما أجد فيه تصويرًا صحيحًا دقيقًا للقصة نفسها كما سيراها القارئ. ولست في هذه المرة ملخصًا ولا ذاهبًا ذلك المذهب الذي ألفه القراء فيما تعودتُ أن أكتب لهم من هذا الحديث كل أسبوع، وإنما أنا مترجم أضع لفظًا عربيًّا مكان لفظ فرنسي، وقد أختصر بعض الجمل إيثارًا للإيجاز وأترك للقارئ أن ينقد ويفسر ويقضي. فلا بأس بأن أريح القارئ من هذا التوسط بينه وبين كتَّاب الغرب من حين إلى حين، ولا بأس بأن أقف القارئ من وقت إلى وقت أمام هؤلاء الكتَّاب وجهًا لوجه.

والمسرح يصوِّر غرفة لأحد الكتَّاب وقد قام الكاتب أمام مائدة مرتفعة يكتب عليها لأنه من الذين يؤثرون الكتابة وهم قيام. والكاتب حين يُرفع الستار يحصي الأسطر التي كتبها ليعرف ما بقي عليه أن يكتبه من الجزء الذي يرسله إلى صحيفته في كل يوم، فهو يكتب في هذه الصحيفة قصة مسلسلة.

المنظر الأول

ترييل وحده قائمًا أمام مكتبه ومحصيًا بطرف قلمه الأسطر التي كتبها بعد جهد شديد ٢٧٤، ٢٧٦، ٢٧٨، ٢٨٠، ٢٨٥، لا بدَّ من ثلاثين سطرًا منها تقع في عشرين فقرة، ويضاف إليها مقدار ضخم من نقط التعليق، ثم جملة مقطوعة قطعًا حسنًا يؤثر في القارئ ويختم به الفصل، فإذا لم يرضَ القارئ مع كل هذا فله أن يذهب لينام. يا لها من مهنة! ثم يغمس قلمه في الدواة ويتهيأ للكتابة ويتنفس ويتمطى ويتثاءب تثاؤبًا طويلًا، ثم يتحدث إلى نفسه. وهذا يضايقك. تعلم، أيها الشيخ تشجع، خذ حظك من زيت كبد الحوت! ثم يستقر رأيه على الكتابة ويأخذ فيها ممليًا على نفسه بصوت مسموع: «ومع أن ساعة سان سفيران القديمة كانت منذ وقت طويل قد أسمعت الدقات الثلاث للساعة الثالثة في صمت الليل» … ثم يتحدث إلى نفسه: الدقات الثلاث للساعة الثالثة. يا لها من مهنة! ثم يسخر ويرفع كتفيه ويمضي في الكتابة والإملاء: «… كان الشيخ ماضيًا على بطء في الذهاب والمجيء، وقد التف من رأسه إلى قدمه في معطف قاتم اللون، وكانت تنحدر من عينيه دموع تتدحرج على لحيته البيضاء كأنها البرد.» ثم يقطع الإملاء. ما أشد شبه هذا بكلام الحمير! ثم يمضي في الإملاء: «وكان يغمغم بهذه الكلمات: يا للخزي! لقد أحسسته منذ عشرين سنة وما زال مع ذلك مضطرمًا لاذعًا!» ثم يقطع الإملاء ويقول متحدثًا إلى نفسه ومثيرًا للاضطراب لشدة سخفه. ثم يمضي في الإملاء: «ماذا؟ أأحمل إلى الأبد ثقل هذا الخزي؟ ماذا؟ أأشعر إلى باب القبر بأن الدم يسيل من جرحي قطرة قطرة؟» ثم يقطع الإملاء متحدثًا إلى نفسه: هذا الكتاب سخيف لا يشبهه في السخف إلا القارئ الذي قد يجد فيه متاعًا. ثم يستأنف الإملاء: «وقد أخذ البرد يسقط.» وهنا يطرق الباب طرقًا عنيفًا. حسن. امرأتي الآن. يضع قلمه، ولكن طرق الباب يستمر كأنه المطر. نعم دقيقة، يا للشيطان! يذهب إلى الباب فيفتحه.

المنظر الثاني

ترييل وفالنتين
فالنتين : ما هذا التستر؟ أتراك تزيف النقد؟
ترييل : لا شيء. لقد أغلقت الباب لأني محتاج إلى أن أكتب على عجل ومشفق أن أُصرف عن الكتابة. ادخلي.
فالنتين (وهي داخلة) : أغلق الباب مسرعًا حتى لا يفلت الإلهام.
ترييل : إن لديكِ دائمًا تحية حسنة تهدينها إليَّ.
فالنتين : وماذا تريد؟ وفيم إغلاق الباب من دونك وإكبارك نفسك إلى هذا الحد كأنك جوهرة من جواهر الترف! إنك لتنظر إلى نفسك نظرة الجد وترى نفسك شيئًا.
ترييل : إنكِ لسخيفة.
فالنتين : على كل حال لم أصل من السخف إلى حيث أقيس نفسي إلى لورد بيرون (ثم تغمز بعينها).
ترييل : لا تتخذي الإساءة مذهبًا يا فالنتين … أين استكشفت أني أقيس نفسي إلى اللورد بيرون؟ إنما أنبئك بأن عملي … (فلا تكاد تسمع كلمة العمل حتى تغرقَ في ضحك عالٍ)، لستِ موفقة حين تلقين هذا الضحك في وجهي. إنكِ لتخطئين إن ظننتِ أني أجد في هذا العمل لذة.
فالنتين : وأنت أشد خطأ إن ظننتَ أن غيرك يجد في عملك لذة ما.
ترييل : أيُّ لذة تجدين في أن لا تقولي لي إلا ما يسوء أو ما تريدين أن يسوء؟ … ومع ذلك فسنرى أينا يضحك أخيرًا (فالنتين دهشة تنظر إليه) صبرًا يا حبيبتي صبرًا.
فالنتين : ماذا؟
ترييل : أقول لكِ اصبري فالساعة قريبة.
فالنتين : أتعرف بماذا تذكرني؟!
ترييل : بالغزال.
فالنتين : هذا غريب. ما أصدق حدسك!
ترييل : أليس كذلك؟ وهكذا نحن حين نكتب في الصحف التي تأجر الكتَّاب ثلاثة فلوس على السطر. ولعلنا نحسن إذا لم نمضِ في المغازلة إلى أبعد من هذا الحد. وإذا انتقلنا إلى الجد. أتريدين أن تقولي لي شيئًا؟
فالنتين : في أكبر الظن، إلا أن أكون قد جئت لأستمتع بلقائك ولأتلقى حديثك كأنه جني النحل.
ترييل : لا أجرؤ على أن أرجو ذلك. وإذن فأنتِ تريدين!
فالنتين : أريد النقد.
ترييل : أنفِدَ ما عندكِ؟
فالنتين : ما أجمل هذا السؤال! نعم قد نفد. فنحن في أول أكتوبر.
ترييل : هذا صحيح.
فالنتين : قد نفد … قد نفد … وكم أحب أن أعرف من أين يكون لي شيء من النقد الآن. أتظن أني أستيقظ في الليل لأسرقك؟
ترييل : من حدثكِ عن السرقة؟ وما هذه الخصومة التي تتكلفينها؟ لا أظن شيئًا. فأنا أعطيكِ في أول الشهر ما يحتاج البيت إليه من النقد. وبينما يمضي الشهر يمضي معه النقد، فإذا انتهى فرغ الكيس؛ هذا يسير كما ترين.
فالنتين : وإذن فأدِّ إليَّ النقد واحتفظ بجملك هذه الرائعة لتضعها في قصصك، فهي أحوج إليها مني (ثم تغمز بعينها).
ترييل : صبرًا.
فالنتين : ماذا تقول؟
ترييل : إن الساعة قريبة، بل هي أقرب مما كنت أظن.
فالنتين : أتعرف ماذا تصنع بي؟
ترييل : أثقل عليكِ حتى أجهدكِ.
فالنتين : هذا غريب حقًّا. يحسن بك أن تصطنع قراءة النفوس.
ترييل : سأفكر في ذلك حين أدنو من الشيخوخة. أما الآن فسنتم حسابنا (ثم يذهب نحو مائدته ويخرج من بعض أدراجها أوراقًا مالية)وإذن.
فالنتين : ثمانمائة فرنك كما تعلم.
ترييل : ثمانمائة (ثم يقلب في الأوراق)، واحد، اثنان، ثلاثة …
فالنتين : وأجرة البيت؟
ترييل : سأؤديها على حدة. أربعة. خمسة. ستة، وسأدفع إليكِ الباقي نقدًا.
فالنتين : إن شئت.
ترييل : هذا أيسر لكِ (ثم يخرج من جيبه ذهبًا وفضة فيرصهما على المائدة)، وخمسين، فالمجموع ستمائة وخمسون. هذا حقكِ.
فالنتين (دهشة) : ما هذا؟!
ترييل : نقدك.
فالنتين : أيُّ نقد؟
ترييل : ما يحتاج إليه البيت في هذا الشهر.
فالنتين : ليس الحساب دقيقًا.
ترييل : كيف ذلك؟
فالنتين : كلا.
ترييل : بلى.
فالنتين : كلا، أصرت مغفلًا؟ اطرح خمسين وستمائة من ثمانمائة.
ترييل : يبقى خمسون ومائة فرنك.
فالنتين : وإذن؟
ترييل : وإذن ماذا؟
فالنتين : فأدِّها إليَّ.
ترييل : كلا.
فالنتين : لماذا؟
ترييل : لأنكِ مدينة بها لي.
فالنتين : أنا؟!
ترييل : نعم أنتِ.
فالنتين : ما هذا الهذيان؟ لم تقرضني نقدًا، على أني لم أتعود أن أقترض منك، فلعلي أحسن تدبير أمري في شيء من الاقتصاد والنظام، ولعلك تنبهت إلى ذلك منذ زواجنا الذي مضى عليه خمسة أعوام.
ترييل : إنكِ تبعدين عن الموضوع، فليس الأمر يمس فضائلك النادرة، ولكنه يمس عيوبكِ التي لا تحصى مع الأسف. أتسخرين مني؟ والغرامة؟
فالنتين : يظهر أني أتحدث إلى مجنون. أيُّ غرامة؟
ترييل : الخمسون ومائة فرنك التي فرضتها عليكِ غرامة — مع الأسف — لأنكِ تجاوزتِ ما ينبغي في حديثكِ إليَّ ساخرة مرة، عاصية مرة أخرى.

(فالنتين تلقاه بالصمت والدهش.)

ترييل : ألا تفهمين؟
فالنتين : لا أفهم حرفًا.
ترييل : سأقرأ عليكِ التفصيل وحينئذ تفهمين (ثم يخرج من جيبه دفترًا صغيرًا فيفتحه ويقرأ فيه): أول سبتمبر: لأنها قطعت بالرأي في مسألة دون أن تعلم منها شيئًا، فلما اقتنعت بخطئها تعلقت به مع ذلك سيئة النية؛ لتفرض رأيها فرضًا ولتغيظ السيد ترييل، وهو رجل معتدل صابر حلو الشمائل. تُفرض عليها غرامة قدرها ثلاثة فرنكات وخمسة وتسعون سنتيمًا.
فالنتين : أيُّ شيء هذا؟ ماذا؟ ما تقول!
ترييل : اليوم الثاني من سبتمبر: لأنها هيأت الغداء متأخرًا عن موعده ربع ساعة على حين كان السيد ترييل قد طلب إليها أن يتقدم الغداء ربع ساعة. فلما شكا من ذلك قالت له: إذا لم يعجبك هذا فالتمس عشاءك حيث شئت. تُفرض عليها غرامة قدرها ستة فرنكات وسبعون سنتيمًا.
فالنتين : هذا …
ترييل : اليوم الثالث من سبتمبر: لأنها سبَّت السيد ترييل ووصفته بأنه دنس وقذر، وذلك حين أبى عليها أن تشتري مصباحًا زجاجيًّا ملونًا قصد به إلى تقليد الحديد المصنوع. تُفرض عليها غرامة قدرها فرنكان وخمسون سنتيمًا.
في اليوم الرابع من سبتمبر: لأنها قالت للسيد ترييل حين شكا خلو الحساء من أطراف الدجاجة: إنك تعيد دائمًا ما تبتدئ، وهذا مع الأسف صحيح. تُفرض عليها غرامة قدرها فرنك وخمسة وأربعون سنتيمًا!

في اليوم الخامس: لأنها قالت له: أتذكر يوم عفوت عنك بعد أن عدت إلى البيت في الساعة السابعة صباحًا؟ تُفرض عليها غرامة قدرها واحد وسبعون فرنكًا.
فالنتين (دهشة) : كم؟
ترييل : واحد وسبعون.
فالنتين : ليس الثمن غاليًا.
ترييل : من عفا عن إنسان فلا ينبغي له أن يذكر عفوه كل يوم. ومع ذلك فعمَّ عفوتِ؟ فقد بيَّنتُ لكِ أني لم أدرك القطار.
فالنتين : لا أصدقك.
ترييل : صدقي ما شئتِ، ولكن إن آثرت أن تتعبيني برحمتك وتعذبيني بعظمة نفسك وتضطهديني حتى يدركني الموت بذكرى إحسانك؛ فاحتفظي لنفسكِ بهذا الإحسان؛ فإني أوثر عليه الموجدة والضغينة. فإذا لم يكن بدٌّ من أن أكون فريستكِ فإني أوثر ألا يكون لكِ عليَّ فضل. (ثم يغمز بعينه) ولا يتم.
في السادس: لأنها فوجئت وهي تحطِّم مصباح الدهليز لتُكره السيد ترييل على أن يشتري لها المصباح الزجاجي الملون الذي يقلد الحديد المصنوع. تُفرض عليها غرامة قدرها أربعة فرنكات وتسعون سنتيمًا.

في اليوم السابع …
فالنتين : أيستمر هذا وقتًا طويلًا؟
ترييل : ماذا؟ نظام الغرامات؟ سيستمر هذا النظام إلى أن تعودي إلى ما ينبغي لي من الاحترام الذي لن أتسامح به منذ اليوم.
فالنتين : احترام!
ترييل : نعم.
فالنتين : هذا مضحك.
ترييل : طبعًا. منذ خمسة أعوام قد اجتهدت في أن أغفر ذنوبك وأخلق لنفسي واجبات لأشغل بتأديتها. أما اليوم فإني أغلو في الغرور حتى أفرض أنك ولو مصادفة قد لاحظت ذلك وتأثرت به. فأنا إذن مخطئ. وإذن يا ابنتي فسأبقى على هذا الخطأ، فقد ضقت بك وقد أخذت تخرجينني عن طوري.
فالنتين : لسنا في إصطبل، ولم أتعود أن أخاطب على هذا النحو.
ترييل : لن تحتاجي إلى أن تعلمي ذلك.
فالنتين : سنرى.
ترييل : لقد رأيت.
فالنتين : أيها العزيز …
ترييل : تريدين أن ندخل في الشروح؟ فلندخل، ففي هذا رياضة. لقد مضت أعوام خمسة وعفوي يشمل ذنوبك، وأنا أتبع قلبك كما يتبع الصائد طريدته، قلبك الذي هو هنا وأنا أعفو كل يوم متعلقًا بأمل لا يكاد يدركه الغد حتى يخيب. فأما في أول عهدنا بالزواج وقد كنت أحاول الإقناع وأمدح لك فضائل الوفاق ومزاياه ولذة الاتحاد الذي لا يفسده شيء، وأحدثك أحاديث تمليها حلاوة الشمائل والعطف. فكان هذا كله جهدًا ضائعًا.
وذات يوم أضعت ساعة في هذا الإقناع من غير جدوى، ففقدت الصبر. فنهضت وأخذتك من أذيال ثيابك، فلما أقررتك إقرارًا محكمًا تحت ذراعي اليسرى أدرت ذراعي اليمنى كما تصنع الغاسلة بثيابها ومنحتك …
فالنتين : يا له من عمل عظيم! ما أجدرك أن تفتخر أيها الأحمق! أيها الجبان! أيها الوضيع!
ترييل : سأنتفع بإذنك وسأفاخر بحقي. فإذن هذا العمل القوي الذي لم يذهب ضياعًا قد ألهمك خواطر نافعة، وقد عرفت دهرًا كيف أستبقي نفعه حين كنت أهدي إليك من حين إلى حين بعض هذه الضربات في الظروف المناسبة وفي غير جور ولا ظلم. فلست في حقيقة الأمر جبانًا ولا وضيعًا كما تحبين أن تقولي، وإنما أنا رجل أديب بائس.
فالنتين : لا حظَّ له من كفاية …
ترييل : نعم لا حظ له من كفاية، ولكنه يطمع في أن يجد في بيته من الهدوء ما يمكنه من الظفر بها أو بشيء منها. ولكنكنَّ — مع الأسف — أيتها النساء تتعودن بسرعة أحسن الأشياء. فقد رأيت مع الحزن وقتًا أخذت لا تحفلين فيه بالضرب، وكاد يقبل وقت آخر تجدين فيه للضرب لذة، فتحولت إلى نوع آخر من التمرين. هنالك خطر لي أن أنتقم من أثاث البيت.
فالنتين (ساخرة) : لقد كنت ذكيًّا.
ترييل : كنت ذكيًّا جدًّا، فلم أكد أحطِّم بضربة واحدة تلك المرآة حتى رأيتكِ واجمة، فابتهجت لذلك وفرحت به حتى لم تمضِ ستة أسابيع إلا وقد ضحيت في سبيل حاجتي الشديدة إلى الهدوء كرسيين، وإبريقًا، ومكتبة الموسيقى، والمصباح، والساعة، وآنية الحساء، وتمثال عمك أرسين الذي كان زينة صالوننا المتواضع، وأشياء أخرى تمس إليها الضرورة. ولكن المحزن يا فالنتين أن الأثاث ليس كذلك الطائر الذي يُبعث بعد أن يصير رمادًا. فلما رأيت أني مضطر إلى أن أعوض ما أحطم، فسدت عليَّ اللذة التي كنت أجدها في تحطيم الأثاث، واضطررت إلى أن ألتمس شيئًا آخر، ولكن ماذا؟ الرحيل! ولكن إلى أين؟ فهذه هي المسألة بالقياس إلى رجل من الطبقة الوسطى يكره الحياة التي لا تبيحها القوانين كما يكره الحياة المضطربة في الفنادق. وقد أخذت أجد اليأس لولا أن الله ألهمني أن أفرض عليكِ أن تدفعي ثمن أغلاطك من جيبكِ الخاص. حلٌّ سعيد فيما أظن. حل حاسم على كل حال لن أتحول عنه، فمنذ الآن إذن تستطيعين بكل هدوء، قوية بهذه اليمين التي أقسمها لك، على أني لن أغضب مهما يكن ما يدعو إلى الغضب. تستطيعين أن ترسلي أخلاقكِ الجهنمية على سجيتها. مهما تقولي ومهما تفعلي، فلن تنالك مني أية لطمة ولا أقل دعوة إلى النظام، إنما أقيد ذلك في الدفتر ليس غير، وتؤدين آخر الشهر. صيحي، اجأري، ازأري، اصخبي. أعلني ما استطعتِ من الفضائح، أزعجي الجيران كما تريدين، فلن يشغلك شيء، ستؤدِّين آخر الشهر. لا خصومة فقد زهدت فيها، لا نضال فقد تعبت منه. لقد أزمعت في حزم أن أظفر بالهدوء في بيتي، وإذ لم أستطع أن أبلغه لا بالحسنى ولا بالعنف فقد آثرت أن أشتريه بمالك الخاص. وقد كان لك مندوحة عن هذا لو منحتني هذا الهدوء بغير ثمن. لقد قلت فلن أؤخرك بعد الآن. بونجور. تستطيعين أن تنصرفي إلى ما يشغلك. إني لمحزون لفراقك في هذه السرعة، ولكن الواجب يدعوني والساعة تحثني وصحيفتي لا تنتظر.
فالنتين : إذا بلغت حاجتك من الكلام فأنبئني.
ترييل : لقد بلغت حاجتي منه.
فالنتين : هذا خير، والخمسون ومائة فرنك؟
ترييل : لا شيء.
فالنتين : لا تريد أن تؤديها إليَّ؟
ترييل : لا.
فالنتين : هذه فكرة ملحة.
ترييل : نعم.
فالنتين : إن البيت ثقيل.
ترييل : أعلم ذلك.
فالنتين : وأعباؤنا كثيرة.
ترييل : لا أنكر ذلك.
فالنتين : فأنا أنبئك أن من المستحيل أن أستقبل هذه الأعباء بخمسين وستمائة فرنك.
ترييل : فاستدبريها إذن.
فالنتين : كما تريد، فسنعيش إذن على الخبز والماء النقي.
ترييل : كلا لا تظني هذا، ستنظمين أمركِ كما تستطيعين. ولكن إذا لم أجد في أوقات الطعام الغذاء الصحي الغزير الذي تحتاج إليه شهيتي، وهي آية ضمير المستريح؛ فسألتمس غذائي في المطعم على حسابكِ بالطبع. فقد يكون من المضحك أن يفرض عليَّ الخبز الجاف كلما ساء خلقكِ أو فوجئت وأنت تحطمين المصباح.
فالنتين : أهذه كلمتك الأخيرة؟
ترييل : الأخيرة.
فالنتين : حسن (ثم تمد ذراعيها نحو النافذة) ستدفع إليَّ هذا المقدار أو سألقي نفسي من النافذة.
ترييل : من النافذة؟
فالنتين : من النافذة!
ترييل (يذهب متئدًا إلى النافذة فيفتحها) : شبِّي! … لحظة … هلمِّي شبِّي!
فالنتين (تبقى ساكنة وقد علقت بزوجها عينين يملؤهما البغض، ثم تقول) : تبتهج لهذا أيها القاتل؟

(ترييل يغلق النافذة ويعود إلى المكتب.)

فالنتين (وهي تتبعه) : قاتل، قاتل، قاتل.
ترييل (إلى مائدته وقد انحنى على الدفتر) : أول أكتوبر: لأنها أنذرت السيد ترييل بأن تقتل نفسها بين يديه مستغلة بذلك حنان زوجها المخلص، تُفرض عليها غرامة قدرها … أربعة فرنكات وخمسة وتسعون سنتيمًا.
فالنتين : جبان، جبان، جبان!
ترييل (ممليًا على نفسه) : ولأنها لم تنفذ نذيرها تفرض عليها غرامة قدرها خمسون سنتيمًا.
فالنتين : إني لأعلم ما تريد أن لا أعلمه. إنما تتمنى مهلكي.
ترييل : مهلك … (ثم يكتب) خمسة وسبعون سنتيمًا؛ لأنها استعملت في الحديث كلمة أخذتها من المعجم.
فالنتين : ما أكثر ما تألمت دون أن أشكو، لأعودنَّ إلى أهلي (ثم تخرج مسرعة).

المنظر الثالث

ترييل وحده

ولا بأس بالإعراض عن هذا المنظر، فقد عاد الكاتب إلى ما كان فيه أول القصة من الكتابة والإملاء على نفسه.

المنظر الرابع

ولا بد من تلخيص هذا المشهد اجتنابًا للإطالة، وتستطيع أنت أن تقرأه إن شئت. فهذه فالنتين تمر في طريقها إلى الباب فتلقي إلى زوجها كلمة الوداع، ويرد عليها معرضًا عنها، ولكنها تتلكأ تسأله أليس يريد أن يقول لها شيئًا؟ فإذا أجابها سلبًا، ألقت إليه كلمة الوداع مرة أخرى ورد عليها معرضًا عنها كذلك. وما تزال تتلكأ وما يزال هو يعرض عنها حتى يضطرها إلى الخروج. ولكنها لا تكاد تتجاوز الباب حتى تعود إليه فتتعلق به وتسأله أن يؤدي إليها هذا المقدار الذي اقتطعه منها، فإذا أبى ألحَّت، وينتهي الإلحاح بها إلى التوسل ثم إلى التضرع والاستعطاف، ثم إلى أن تقبل منه اقتطاع هذا المقدار، ولكن في الشهر المقبل لأنها محتاجة إليه اليوم.

ويفهم هو، بل يرى، من حديثها ومن شكلها أنها محتاجة إلى هذا المقدار حقًّا، فإذا سألها عن ذلك واستوثقت من أنه لن يشقَّ عليها في الغضب والعقاب، اعترفت له بأنها قد اشترت المصباح الذي كان يأباه عليها، واشترته نسيئة وكتبت صكًّا بالدين وزورت إمضاء زوجها ليقبل البائع منها هذا الصك. ولا يقف أمرها عند هذا الحد، فلم تكد تعود بالمصباح إلى بيتها حتى وجدته محطَّمًا. فإذا قصت على زوجها هذا كله مستخذية خجلة باكية رقَّ لها وعطف عليها، ولكنه مع ذلك يتكلف الجد والغضب، ثم ينتهي برد المقدار الذي كان اقتطعه منها، فترضى وتطلب مثله، فإذا سألها دهشًا: لماذا؟ أجابته بأنها قد أخذت حقها وبقي عليه أداء الدين. هنالك يفقد ما يتكلف من الجد ويلقي السلاح ويعدها بأن يؤدي هذا الدين بنفسه.

وأمام هذا الوعد تدهش فالنتين وتنظر إلى زوجها نظرة يملؤها العجب كأنها تستكشفه لأول مرة، ثم تعرب عن هذا الاستكشاف بهذه الجملة: «حقًّا إنك زوج كريم.» وإذا هي بين ذراعي زوجها نادمة معتذرة ملاطفة، قد وضعت رأسها على كتفه وهو يقول جملة يونانية معناها: رأس جميل، ولكن فيه عقلًا صغيرًا. فإذا سمعت هذه اللغة الغريبة سألته عما يقول، فينبئها بأنه يقول كلامًا يونانيًّا، فتُظهر ما أخفت من الإعجاب به، ثم تنصرف عنه ويخلو الفتى إلى نفسه لحظة، ثم يعود إلى ما كان فيه من الكتابة فيحصي أسطره، حتى إذا انتهى من الإحصاء رأى أنه قد بلغ ما يكفي لحاجة الصحيفة، فيكتب هذه الكلمة التي يمليها على نفسه بصوت مسموع: «يتبع».

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤