مَلهَاة السَّعادة

وأظنك لا تكره أن تلهو بعض الشيء عن حياتنا هذه اليومية التي يستقبلنا صبحها بما يحزن، ويلقانا مساؤها بما يسوء. ولا بأس من أن تقرأ الجهاد هذه المرة، فتجد فيه ما يسليك عن قصة وزير التقاليد مع مدرسة أسيوط، ومتاعها اليسير الذي اشتراه وزعم أنه هدية، والذي أخذه وزعم أنه حمل إليه. فمن الخير أن تألم لهذه المأساة الصغيرة الحقيرة، ولكن من الخير أن تسلو عن هذه المأساة الصغيرة الحقيرة أيضًا. وأنا متطوع يا سيدي بأن أسليك وأسلي وزير التقاليد نفسه عمَّا في هذه القصة مما يخجل، ويحزن، ويسوء. وأؤكِّدُ لوزير التقاليد أني دُفعت إلى قراءة هذه القصة لألتمس فيها التسلية عن قصته، وأني دُفعت إلى الحديث عن هذه القصة لأسلي القراء عن قصته، وأن شيئًا من العطف عليه والرفق به، فهو خليق بالعطف والرفق، يدعوني إلى أن أسليه هو عما قد تثير هذه القصة في نفسه من ألم وحسرة واستحياء.

وقصتي هذه خليقة أن تسلي وأن تلهي؛ فصاحبها لم يضعها إلا لهذا. أستغفر الله، بل هو وضعها لهذا، ووضعها لما يناقض هذا كل المناقضة. وضعها للتسلية والتلهية، ووضعها كذلك للتأمل والتفكير. ففي القصة عبث مضحك، وفي القصة فلسفة عميقة خالدة، وحسبك أنها تعرض عليك غرور الحياة. والناس جميعًا يعرفون غرور الحياة، ويؤمنون به، ولكنهم ينسونه أحيانًا حين يملأ هذا الغرور قلوبهم ونفوسهم، فليس عليهم بأس من أن يذكروه، وقد يستكشفونه أحيانًا فتضيق به صدورهم وتتأذى له نفوسهم، ولا بأس عليهم من أن يعزوا عن هذا الأذى وذلك الضيق، ومن أن ينبهوا إلى أننا قد خلقنا لنغر وإلى أننا محتاجون إلى هذا الغرور لنتعزى به عن أثقال الحياة ولنستعين به على احتمال هذه الأثقال، ولنستمد منه النشاط الخصب لكل عمل منتج مفيد.

وكاتبنا قد لاحظ هذا كله، وفكَّر فيه تفكيرًا قويًّا حين وضع قصته هذه الجميلة الرائعة، بل هو قد ذهب — كما سنرى — إلى أبعد من هذا، فودَّ لو عُنيت الدولة بتلهية الناس وتسليتهم وشغلهم بالغرور عن أن يطيلوا التفكير في آلام الحياة وأثقالها، فإن ذلك بعض ما يجب على الدولة لدافع الضرائب. وما دامت الدولة تكفل الأمن والعلم والسلم للمواطنين، فقد يكون من الحق عليها أن تكفل لهم اللهو أيضًا، وأن تحميهم من اليأس من هذا العدو المنكر الذي يأتيهم من أنفسهم، كما تحميهم من غارة العدو الخارجي الذي يتربص بهم الدوائر ليغير على الوطن، وليقتحم الحدود. وأنا أعلم أن هذا المذهب في السياسة قد لا يرضي وزير التقاليد؛ لأن فيه شيئًا من الدعابة، ووزير التقاليد صاحب جد، ولأن فيه شيئًا من العبث، ووزير التقاليد لا يحب العبث. أليس قد أغلق معهد التمثيل لأن فيه شيئًا من الإسراف في أموال الدولة؟ فأموال الدولة لا تُجبى لتنفق في اللهو، ولكنها تجبى لتنفق في تأثيث بيوت الوزراء بما تحتاج إليه وما لا تحتاج إليه من أكواب الشاي وموائد اللعب. ولكن وزير التقاليد يستطيع أن يقبل هذا المذهب السياسي ما دام بعيدًا عن الحكم، فأما حين يرقى إلى المنصب ويستقر فيه، فهو يستطيع أن يرفضه رفضًا وأن يعرض عنه إعراضًا.

ولست أدري ما الذي يغريني بوزير التقاليد اليوم، وما الصلة بين هذا الحديث وبين وزير التقاليد، ولكنها قصة تذكر بقصة، وعبث يدعو إلى التفكير في عبث، فلندع وزير التقاليد — وإن كنا لا نحب أن ندع وزير التقاليد — ولنتحدث عن قصة هذا الكاتب الروسي العظيم.

ولا بدَّ من أن تهيئ نفسك لقصة كثيرة الدوران والتعقيد، محتاجة إلى شيء غير قليل من الصبر والأناة، فأنا سأبذل كل ما أملك من الجهد لتيسيرها، ولكنها رغم ذلك لن تكون يسيرة كهذه القصص التي تعوَّدتَ أن تسمع حديثي عنها. وحسبك أنها قصة روسية، وأن كاتبها متأثِّر بالكاتب الإيطالي العظيم بيراندلو أو مؤثر فيه، فالنقاد يختلفون في ذلك اختلافًا كثيرًا.

نحن على كل حال في غرفة غريبة مظلمة مضيئة في وقت واحد. في غرفة من غرف الأسرار هذه التي تملؤها الألغاز وتجري فيها أمور غير مألوفة. ولا غرابة في ذلك، فنحن في غرفة امرأة عرَّافة تنبئ بالغيب، تقص ما كان، وتصف ما هو كائن، وتنبئنا بما سيكون.

وبين يدي هذه المرأة العرَّافة سيدة جميلة غنية ظاهرة الغنى، كثيرة الكلام، منطلقة اللسان، لا تكاد تكفُّ عن السؤال، ولكنها في الوقت نفسه لا تكاد تكفُّ عن الشرح والتفسير، والتعليق على ما تقوله. وهي قد جاءت تسأل العرافة عن أمرها وتستعين بها على أن تهتدي إلى زوجها الذي خانها خيانة غريبة. فهو قد اتخذها له زوجًا حين كانت فتاة فقيرة بائسة تعيش عند خالة أو عمة لها وتلقى كثيرًا من الألم والحرمان في حياتها. فلما اتخذها له زوجًا أتاح لها من النعيم ومنحها من الحب ما حبَّب إليها الحياة وسلاها عن كل ما وجدت من شقاء.

وقد ضمن لها السعادة عشر سنين، ثم ماتت خالتها أو عمتها وأصبحت هي غنية واسعة الغنى، وإذا زوجها يتركها فُجاءة دون أن يعدَّها لذلك أو ينبهها إليه؛ وهي تبحث عنه، وتلح ُّفي البحث، ولكنها لا تهتدي إليه، وإنما تهتدي إلى أنه قد تزوج امرأة أخرى خرساء صماء، فمنحها حظًّا من سعادة. ثم استخفى، وبحثت عنه الخرساء الصماء، فلم تهتدِ إليه، ولكنها اهتدت إلى أنه قد تزوج امرأة ثالثة، كانت مومسًا، ملحَّة في الغي، فاستنقذها من الإثم، ومنحها حظًّا من سعادة وحب، ثم استخفى منها، فلم تقف له على أثر. وصاحبتنا هذه لم تيأس، ولم تكل، فهي ملحة في البحث عنه، قد وكَّلت به من يلتمسه في كل مكان وفي كل بيئة، وجاءت تسأل عنه العرَّافة لأنها تحبُّه أشد الحب، ولا تستطيع أن تسلوه ولا أن تتعزى عن هذه السعادة التي وجدتها في عشرته. وهي لا تكتفي بسؤال العرافة عن أمر نفسها، ولكنها تسأل العرافة أيضًا عن أمر كلبها هذا الذي تصطحبه، والعرافة تعبث بها، وترثي لها، وتنبئها من أمر الكلب بما ترضى وما تكره. فإذا خرجت هذه المرأة أقبل على العرافة رجل شيخ ضعيف مريض محزون يستعينها على ابنه الشاب الذي يطلب العلم في الجامعة، والذي أفسدت أزمات الشباب عليه أمره، فهمَّ أن يقتل نفسه، فلما حيل بينه وبين ذلك مرة همَّ به مرة أخرى. والعرافة تعده بالنظر في ذلك والجد في شفاء ابنه من هذا الداء العضال. ويخرج هذا الرجل وتدخل امرأة جميلة تصطنع الرقص في بعض ملاعب التمثيل، جاءت تستعين بهذه المرأة على زوجها الشاب الذي لا يحبُّها ولا يحرص على عشرتها، وإنما هو يهملها إهمالًا، ويلهو عنها بكل من تعرض له من صاحبات العبث والمجون، والعرافة تعدها وتمنيها وتشجعها وتؤكد لها أنها تعرف زوجها حق المعرفة ولا تشك في أنه ثائب إليها إذا عرفت كيف تثير الغيرة في نفسه، ثم تتنبأ لها بأن حياتها ستتغير إذا كان المساء. فسيعرض عليها في الملعب شيء ذو بال. فإذا خرجت هذه المرأة أقبلت امرأة أخرى متقدمة في السن، ومعها ابنتها وشاب آخر لا نكاد نسمع حديثه حتى نعرف أنه طالب في الجامعة مفتون بعلم العلماء، ساخر من هذه العرافة ومن سخفها، وحتى نعرفه فهو ابن ذلك الشيخ الذي تحدَّثنا عنه آنفًا، وهو الشاب الذي همَّ أن يقتل نفسه مرات.

أما الفتاة التي تصاحب هذه الشيخة، ففتاة بائسة قبيحة الشكل دميمة الصورة مريضة قد أصابها السل، وهي تأبى أن تستشير الطبيب؛ لأنها يائسة من الحياة أشد اليأس. وهي اليوم تشكو ألمًا في أسنانها، وقد زعمت لها أمها أن هذه العرافة تشفي من كل داء، فأقبلت تلتمس عندها شفاء مما تجد. وهذه العرافة تنهض وتصطحب الفتاة لحظة ثم تعود، فتطلب إلى الفتى أن ينصرف، وتتحدث إلى الشيخة حديثًا نفهم منه أنها قد سلَّطت على الفتاة النوم المغناطيسي لتعرف سرها ولتتبين مصدر هذا اليأس الذي يملأ قلبها، ويزهدها في الحياة. ثم تدعو الفتاة، فإذا أقبلت سألتها عما تجد، فتعلن الفتاة أنها محزونة يائسة؛ لأنها قبيحة الشكل دميمة الصورة، تتمنى الحب، ولا تجد إليه سبيلًا. ومن ذا الذي يحب فتاة مثلها لها هذا الشكل البغيض. ثم توقظ العرافة هذه الفتاة، وإذا هي قد برئت مما كانت تجد من ألم. فإذا انصرفت المرأة وابنها أقبل رجل آخر لا يريد أن يسأل العرافة عن شيء، وإنما يريد أن يلقى طبيبًا يقيم في هذا البيت، واسمه الدكتور فريجولي، فلا يكاد يسأل العرافة عن هذا الطبيب حتى تلقي عن نفسها ثوبًا وعن رأسها شعرًا، وإذا هي من دون ذلك رجلٌ كان مستخفيًا قد اتخذ زي المرأة، وهو الدكتور فريجولي نفسه. وصاحبه الذي جاء سائلًا عنه ودهش أشد الدهش، لم يكن يقدِّر أن الطبيب يتخذ زي المرأة ويحترف صناعة العرافة ويعبث بعقول الناس ويأخذ أموالهم، ولكننا نفهم من هذا الحديث أن الطبيب ليس صاحب لهو ولا عبث، وإنما هو رجل قد وقف جهوده على معونة الفقراء والبائسين، وهو يأخذ المال من الأغنياء ولكنه يعين به الفقراء، وهو إنما ضرب لصاحبه هذا الموعد ليتحدث معه في بعض هذا الشأن، وليتمَّ معه اتفاقًا غريبًا له خطره وقيمته.

فهذا الرجل مدير ملعب من ملاعب التمثيل، وقد أقبل يتم مع الطبيب عقدًا يبيح للطبيب أن يأخذ من فرقته بعض الممثلين؛ ليستعين بهم على تمثيل قصة خاصة في ملعب خاص، على نحو غير مألوف. وقد تم الاتفاق بين الرجلين وأمضى العقد ودفع الأجر في حديث ممتع لذيذ.

وقد خرج الرجلان ليذهبا إلى الملعب حيث الممثلون يتهيئون للتمثيل، وحيث يستطيع الطبيب أن يختار من بينهم من يريد.

ويتغير المنظر، فإذا نحن في الملعب نشهد الممثلين وهم يجرِّبون أنفسهم للتمثيل، وهم يعدون قصة معروفة تصوِّر الحياة الرومانية في عصر نيرون. وكم كنت أحب أن ألخِّص لك هذا الموضع من القصة، فهو طريف حقًّا؛ لما فيه من تصوير حياة الممثلين إذا خلوا إلى أنفسهم وأخذوا يتهيئون من وراء الستار للتمثيل أمام النظارة. ولكني مضطر إلى أن أهمل هذا القسم البديع من القصة اجتنابًا للإطالة، ولما تستتبعه من الشرح والتفسير. ولكننا نتبين بين هؤلاء الممثلين ثلاثة أشخاص ممتازين، فأما أحدهم فشاب جميل وسيم له حظ عظيم من الرشاقة وخفة الروح، وهو يمثل في القصة رجلًا رومانيًّا جميلًا خلابًا، وهو زوج الراقصة التي أشرنا إليها في أول الحديث. والشخص الثاني هو الراقصة نفسها، وهي فتاة جميلة خلابة تحب الفن وتخلص له. والشخص الثالث رجل خفيف الروح غليظ الجسم محبَّب إلى النفوس، كان يمثل في القصة الرومانية مضحك نيرون. وقد اختار الطبيب هؤلاء الأشخاص الثلاثة واتفق معهم على قصته الخاصة، وعرض على كل واحد منهم دوره في هذه القصة وأرضاه فيما طلب من أجر. وهذه القصة الخاصة التي يريد الطبيب من هؤلاء الأشخاص أن يمثلوها يسيرة جدًّا. فهي ستمثَّل في غير ملعب، وهي ستمثَّل بغير قصة مكتوبة. هي قطعة من الحياة اليومية سيمثلها هؤلاء الناس ليعينوا بها قومًا بائسين على احتمال البؤس، وينقذوا بها قومًا أشقياء مما يجدون من شقاء.

فأنت قد رأيت في أول الفصل هذه الفتاة البائسة اليائسة التي تؤثر الموت؛ لأنها دميمة لا تجد سبيلًا إلى الحب، ورأيت هذا الفتى الذي همَّ أن يقتل نفسه مرتين، ورأيت هذا الشيخ البائس المريض المشفق على ابنه من الموت، فلا بدَّ من أن يتعزى هؤلاء الأشخاص الثلاثة، وعزاؤهم هو قصة هؤلاء الممثلين. فأما الممثل الجميل فيجب أن يتكلَّف حب الفتاة الدميمة حتى يرد إلى قلبها الأمل وإلى جسمها الصحة. وأما الراقصة الجميلة، فيجب أن تتراءى لهذا الفتى اليائس وتتلطف له وتُظهر له حبًّا وكلفًا، حتى ترد إلى نفسه الرجاء والإيمان بالحياة. وأما مضحك نيرون فيجب أن يتكلَّف صداقة الشيخ المريض حتى يعينه على احتمال مرضه وفقره، ويجب أن ينهض مع ذلك بتلهية القوم جميعًا. ومن أجل هذا كله ستصبح الراقصة خادمًا عند تلك الشيخة، وسيصبح الفتى موظفًا في بعض الشركات يستأجر غرفة من الغرفات عند هذه الشيخة أيضًا، وسيصبح المضحك طبيبًا من أطباء الجيش قد أحيل إلى المعاش. أما الدكتور فريجولي نفسه فسيتغير اسمه مرة أخرى، فيصبح تاجرًا لأسطوانات الفنوغراف يسمى شميدت.

ثم يُرفع الستار بعد شهر من هذا التدبير، وإذا نحن في الفصل الثاني من فصول هذه القصة نشهد الممثلين وهم يعملون. فأما الفتاة الراقصة فهي خادم تغسل الأرض، وقد وقف الفتى الذي كان بائسًا منها غير بعيد ينظر إليها، وينظر في كتاب من كتب الفقه الروماني يتحدث إليها ويتكلف القراءة في الكتاب، والفتاة رفيقة به مغرية له شفيقة عليه، وهو من غير شك مشغوف بها، يحبها أشد الحب، ويريد أن يُعرب لها عن ذلك، ولكنه لا يجد الجرأة على هذا الإعراب. وأما الفتاة التي كانت مريضة يائسة منذ شهر، فقد عاد إليها شيء من الصحة، وكثير من النشاط، وأخذت تحب الحياة وتتزين لها، فأصلحت من زيها ومن شكلها؛ لأنها أخذت تحس أن الممثل الجميل يُظهر ميلًا إليها، وعناية بها. ولِمَ لا؟ إنه يتعلم عليها الكتابة على الآلة الكاتبة. وانظر إليه وقد أقبل يتلقى درسه فإذا هو يداعب الفتاة ويلاطفها، ثم ينتهي به الأمر إلى أن يعلن إليها حبه، وإذا الفتاة قد رُدَّت إليها الحياة، وانفتحت لها أبواب الأمل على مصاريعها، وهي مجنونة أو كالمجنونة مرحًا وفرحًا، تضحك وتبكي في وقت واحد.

وأما الشيخ الذي كان مريضًا منذ شهر مشفقًا على ابنه متألمًا لفقره، فقد عاد إليه شيء من صحة ونشاط أيضًا، أليس المضحك قد أصبح له رفيقًا يذهب معه إلى الكنيسة ويلعب معه الشطرنج، ويسليه ويسلي غيره من أهل البيت عن آلام الحياة؟ كلهم راضٍ وكلهم مبتهج، إلا امرأة تقيم في البيت وتعمل في بعض المدارس قد أحبَّت العلم، وآمنت به، واستسلمت له، فجفَّف عقلها تجفيفًا، وملأ قلبها قسوة وجدًّا، فهي تنكر ما ترى، وتأنف من هذا العبث الذي تراه بين هؤلاء الناس، ومن هذا الحب الآثم الذي تحس نشأته بين هؤلاء الشبان. وإن كانت هي في حقيقة الأمر تكذِّب نفسها بعض الشيء؛ فهي تحب هذا المضحك وتخفي هذا الحب، حتى على نفسها. وهي تتكلف المرض لتستشير هذا المضحك الذي ينتحل الطب، والمضحك لا يكره هذا الحب لأنه ينتظر من ورائه مالًا.

وقد جاء وقت الغداء واجتمع القوم إلى طعامهم وهم يعبثون ويمضون في تمثيلهم هذا على أحسن وجه، لا يحس أحد أن في الأمر مكرًا مدبرًا، إلا أن الممثلين أنفسهم يعرفون ما يأتون، ويجدُّون في إتقان التمثيل. وهذه المعلمة تنكر تكلف ذلك العبث، كما تنكر تكلف الأدب، وكما تنكر التكلف كله. وهنا يصطدم الجد والهزل ويصطدم الصدق والكذب، وتصطدم الصراحة والمصانعة، وتتبين الحقيقة واضحة جلية مؤلمة؛ لأننا لا نريد أن نعترف بها. فهذه المعلمة تريد أن يعود الناس إلى طبيعتهم، وأن يطرحوا التكلف والرياء، وهؤلاء الناس يبينون لها أن التكلف والرياء أصل من أصول الحياة المنظمة وأساس من أسس الحضارة التي لا تستقيم بدونها، فإذا أنكرتْ عليهم ذلك أظهروا الرجوع إلى الطبيعة، فملئوا قلبها خوفًا ورعبًا واضطروها إلى الفرار. أما هذا فيأكل بملء يديه، وأما هذا فيتجشأ في غير احتياط، وأما هذا فيتجرد من ثيابه، والمعلمة ترى فتنكر ثم تفزع ثم تولي منهم فرارًا. وإذن فلا حياة بين الجماعات إلا إذا قامت على التكلف، ولا حضارة إلا إذا قامت على الرياء. والخير أن يُتخذ الرياء الذي لا بدَّ منه وسيلة إلى السعادة وسببًا إلى الأمل والرجاء.

•••

ثم يُرفع الستار بعد ستة أشهر، وقد أشرفت هذه القصة الغريبة القريبة على آخرها، فلا بدَّ لكل قصة من آخر. وهذا اليوم الذي نحن فيه هو الذي سيشهد انتهاء التمثيل. ولا بدَّ من أن ينتهي التمثيل انتهاء حسنًا، والقوم مبتهجون مضطربون يتهيئون لعيد من أعياد الكرنفال سيكون فيه عبث كثير وسيكون فيه تنكُّر وتغيير للأزياء. وهم يعدُّون ثياب الكرنفال، كلٌّ قد اختار الزي الذي يرضيه والشكل الذي يلائمه، وإنما يعنينا من هذه الأزياء والأشكال زيان اثنان؛ أحدهما هذا الزي الذي اختاروه للمرأة المعلمة، وهو زي يمثل الموت، وهم يقدِّرون أنها سترفض اتخاذ هذا الزي، بل سترفض اتخاذ أي زي آخر. والثاني زي الدكتور فريجولي، فهو قد اتفق معهم على أنه سيتخذ زي شخص من أشخاص اللهو، ولكنه اتفق سرًّا مع الممثل الجميل على أنه سيرى في بعض الوقت مَقدِم راهبٍ من الرهبان؛ ذلك أن هذا الممثل الجميل يشتغل بحرفة أخرى يكتمها، فهو جاسوس، وهو يبحث لأولئك النسوة الثلاث اللاتي أشرتُ إليهن في أول القصة عن هذا الرجل الذي خدعهن وتزوَّج بهن جميعًا. وقد وعدته العرافة بأن تدلَّه على هذا الرجل، وقد أنبأته بأن هذا الرجل سيشهد العيد معهم اليوم في زي راهب. فما عليه إلا أن يدعو هؤلاء النسوة ليستكشفنه وليظفرن به وليدفعنَّه إلى موقف القضاء.

ونحن نفهم مما نسمع من أحاديث القوم أن أعضاء الفرقة التمثيلية سيحضرون جميعًا متنكرين ليشهدوا هذا العيد، وأهل البيت يعلمون حق العلم أن القصة تنتهي اليوم. فأما الممثل الجميل فقد أنبأ الفتاة التي كانت بائسة بأنه يحبها حقًّا، ولكنه متزوج وامرأته مريضة فلا بدَّ له من أن يسعى إليها. وأما الراقصة فقد أنبأت الفتى الذي كان بائسًا بأنها مضطرة إلى أن تعود إلى أهلها في الريف، وإن كانت تجد في هذه العودة ألمًا شديدًا لأنها تحبه حقًّا، وقد رضيت الفتاة عن سفر صاحبها، فهي تحبه ولكنها لا تريد أن تدفعه إلى القسوة والإثم. والحب الصادق لا يدفع إلى قسوة ولا إثم، وحسبها أنها ظفرت منه بهذه السعادة التي ردَّت إليها الأمل والحياة، والفتى راضٍ عن صاحبته، وإن كان يحزنه هذا السفر؛ فهو يحبها ولكنه لا يستطيع أن يفرِّق بينها وبين أهلها. فالحب الصادق لا يحتمل القسوة ولا الجحود، وحسبه منها أنها أسعدته وردَّت إليه الأمل والحياة. وهذه المعلمة قد أقبلت وهم يتحدثون إليها عن زيها، فتعلن كما كان مقدَّرًا أنها لن تشترك في هذا العبث، وليس في الأرض قوة تستطيع أن تكرهها على ما لا تريد. ولكن صاحبها المضحك قد تبعها إلى غرفتها وخرج يعلن إلى أصحابه أنها قد رضيت أن تشترك معهم في لهوهم، وقبلت أن تتخذ زي الموت. والحب من غير شك هو الذي استطاع أن يردها إلى قبول ما كانت ترفضه منذ حين.

ولكن انظر هذا الدكتور فريجولي قد خلا لحظة إلى المضحك، وإذا هو يعلم منه أنه قد خدع المعلمة وخيَّل إليها أنه يهواها فانخدعت له وصدَّقته، وأنه قد انتهى إلى ما كان يريد، فستمنحه مقدارًا ضخمًا من المال يستعين به على إنشاء ملعب خاص له. ولا يكاد الدكتور يسمع منه هذا حتى ينكره أشد الإنكار، ويشفق على هذه المرأة من هذا الكذب والتضليل، ومن هذا الخداع الذي اتُّخذ وسيلة إلى الشر. وهو يحاور صاحبه ويريد أن يصرفه عن ذلك فصاحبه يأبى عليه. والخصام بينهما شديد قد انتهى إلى الفرقة، وهذا المضحك يعلن إلى الطبيب أنه سيفضح الأمر كله، وسيعلن أن القصة من أولها إلى آخرها كيد متكلف لا أصل له، فليس هناك حب ولا شيء يشبه الحب، وكل هذه الأسماء، وكل هذه الأعمال قد اختُرعت اختراعًا ودُبِّرت تدبيرًا. ويلح الطبيب على صاحبه ألا يفعل فلا يسمع له، فيدعه وما يريد بعد أن يعلن إليه أن أحدًا لن يصدقه ولن يطمئن إلى ما يقول. وهما في هذا الحوار، وإذا باب المعلمة قد فُتح ووقفت المعلمة من دونه تسمع لهما دون أن يشعرَا بها، ثم يُغلَق الباب وقد فهمنا نحن ولم يفهما أن المعلمة قد عرفت كل شيء، وعرفت بنوع خاص أن صاحبها قد كان كاذبًا فيما زعم لها من حب. وقد افترق الرجلان؛ فأما المضحك فذهب ينبه أهل البيت جميعًا إلى أن القصة كلها كيد وخداع، ولكن أحدًا لا يسمع له، ولا يحفل به، وإنما هم جميعًا يسخرون منه، ومنهم من يتجاوز السخرية إلى البغض وإلى النذير. ويعود الرجل مستيئسًا، ولكنه ينظر فيرى شبح الموت، فيتحدث إليه يظن أنه المعلمة، ولكنه ينظر فلا يرى شيئًا، فيرتاع لذلك ويستغيث، فإذا أسرع إليه أهل البيت دخلوا معه غرفة المعلمة فوجدوها ميتة. وبينما هم جميعًا مرتاعون لما يرون مشغولون به، يُقبِل النساء الثلاث يلتمسن الراهب فيجدنه، فإذا كشف لهن عن وجهه عرفنه، وهذه زوجته الغنية تعنِّفه وتريد أن تقوده إلى القضاء، ولكن هذه زوجته التي كانت مومسًا فاستنقذها من الإثم تحبُّه وتدافع عنه، وتقوم دونه وتراه قديسًا، وتتحدث إليه بنفس اللهجة التي كانت تتحدث بها الخاطئات إلى المسيح. وزوجه الخرساء الصماء مضطربة بين المرأتين، ثم منتهية إلى الرضى والصفح، والغنية تحس الخذلان من صاحبتيها فتنصرف معهما راضية أو كالراضية. بل راضية، أليست مستعدة لأن تدفع إلى الجاسوس أجره، وإن لم يصنع شيئًا؟ وهذا الجاسوس قد أقبل وأراد أن يأخذ الراهب ليقدِّمه إلى القضاء، ولكن الراهب قد ألقى عن نفسه ثياب الرهبان، فإذا هو يظهر في زيه الذي تم عليه الاتفاق، وإذا هو يعرِّف نفسه إلى صاحبه، فهو الطبيب، وهو العرافة، وهو الزوج الخائن، وهو الراهب. هو كل هؤلاء الأشخاص، وهو يدفع إلى الجاسوس ما كان ينتظر من أجر. وهذا شخص آخر يقبل راضيًا، فالمعلمة لم تمت وإنما همَّت أن تذوق الموت حين عرفت خيانة صاحبها فرُدَّت إلى الحياة. وهؤلاء قوم كثيرون يُقبِلون متنكرين في أزياء مختلفة، وهم أعضاء الفرقة التمثيلية الذين اختار الطبيب من بينهم أشخاصه الثلاثة الممثلين. فقد تمت القصة ولا بدَّ من أن تُعرف لها خاتمة. وهم يتساءلون فيما بينهم عن هذه الخاتمة كيف تكون أو كيف يقدِّر النظارة أنها ستكون. وهم يقترحون حلولًا لهذه العقد، فمن يدري لو استمرت القصة، لعل الراقصة كانت تحب صاحبها البائس حبًّا صحيحًا وترغب في فراق زوجها، ولعل زوجها كان يحب صاحبته حبًّا صحيحًا ويرغب في فراق امرأته. ولكن الطبيب يريد أن يريح جمهور النظارة من هذا التفكير الطويل، وأن يظهر لهم حقيقة الأمر. وحقيقة الأمر سهلة جدًّا، فكل هؤلاء الذين تراهم على المسرح ممثلون من أولهم إلى آخرهم. الطبيب ممثل، والشيخة ممثلة، والفتاة البائسة والفتى البائس والشيخ المريض والمعلمة؛ كلهم ممثلون، ولكنهم أرادوا أن يمثلوا الحياة وأن يمثلوا التمثيل نفسه، فوفِّقوا من ذلك إلى ما رأيت. وهم جميعًا يعلنون الحق ويعترفون به، وينبئونك أنت وينبؤنني أنا بأنهم لم يكن فيهم خادع ولا مخدوع، وإنما كانوا جميعًا خادعين، يخدعونك أنت ويخدعونني أنا، ويخدعون غيرك وغيري من هؤلاء النظارة الذين يملئون دار التمثيل. وهم يريدون أن يعزوك ويعزوني ويعزوا النظارة جميعًا عن هذا الخداع، فيفرحون ويمرحون ويرسلون نيران الفرح والمرح. وتنتهي القصة التمثيلية في هذا الابتهاج العام: ممثلون قد أتقنوا التمثيل حتى خدعوك وغروك وهم مبتهجون بهذا الإتقان، ونظارة قد أحسنوا الاستماع، وأحسنوا الانخداع، وأحسنوا التأثر بالتمثيل، وهم مبتهجون لهذه الحقيقة التي تتجلى لهم، بعد أن خفيت عليهم وغرَّتهم عن أنفسهم غرورًا.

أرأيت إلى هذا الفن الطريف في التمثيل؟ فاعلم إذن أن بيراندلو قد أتقنه وبرع فيه ووضع فيه قصصًا ثلاثًا، هي حديث النظارة والنقاد في هذه الأعوام الأخيرة، وأنا أرجو أن أتحدث إليك عنها أو عن بعضها في يوم من الأيام.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤