الحب في زمن النفط

ذلك اليوم في سبتمبر ظهر الخبر في الصحف.

نصف سطر أخرجته المطابع متآكل الحروف:

«خرجت امرأة في إجازة ولم تعد.»

كان اختفاء النَّاس أمرًا طبيعيًّا، كل يوم تطلع الشمس بمثل ما تطلع الصحف، في الصفحة الداخلية ركن لأخبار النَّاس، كلمة «النَّاس» يمكن حذفها أو استبدالها بكلمة أخرى، دون أن يتغيَّر شيء في الكون، النَّاس، الشَّعب، الأمَّة، الجماهير؛ كلمات تعني الكل ولا شيئًا في آنٍ واحد.

في الصَّفحة الأولى كانت هناك صورة مُلونة لصاحب الجلالة، بالحجم الطَّبيعي، وعنوان كبير:

«الاحتفال بالعيد الميلادي الملكي.»

فرك النَّاس عيونهم، زوايا الجفون متآكلة، قلبوا الصفحة وراء الصفحة، تثاءبوا حتى طقطقت عظام الفكَّين، وظهر الخبر في الصفحة الداخلية، لا يكاد يُرى بالعين المجردة:

«خرجت امرأةٌ في إجازة ولم تعُد.»

لم تكن النساء تخرجن في إجازة، وإن خرجت واحدة فهي تخرج لقضاء حاجة ضرورية، قبل الخروج لا بد من تصريح مكتوب من زوجها، أو مختوم من رئيسها في العمل.

لم يحدث أن خرجت امرأة ولم تعُد، كان يمكن للرجل أن يخرج ولا يعود سبع سنين، ومن بعدها يحق للزوجة أن تتحرَّر منه.

نشط رجال البوليس في البحث عنها، خرجت منشورات وإعلانات في الصحف تطلب العثور عليها حية أو ميتة، ومكافأة سخيَّة من صاحب الجلالة الملك.

«ما علاقة صاحب الجلالة باختفاء امرأة من عامة النَّاس؟!»

كان معروفًا أن لا شيء يمكن أن يحدث في العالم دون أمر من صاحب الجلالة، مكتوبٍ أو غير مكتوب، لم يكن جلالته يعرف القراءة والكتابة، وكان ذلك نوعًا من الامتياز، فما جدوى القراءة والكتابة؟! كان الأنبياء لا يعرفون القراءة ولا الكتابة، فهل يمكن للملك أن يكون أفضل من الأنبياء؟!

وكان هناك أيضًا الآلة الكاتبة: وهي تدور بقوة الكهرباء.

وآلة كاتبة جديدة تدور بقوة النفط، وتكتب بجميع اللغات، وراء الآلة الكاتبة كان هناك كرسي من الجلد يدور، من فوقه جلس مندوب البوليس، فوق رأسه تتدلى من الجدار صورة مكبرة لصاحب الجلالة، داخل إطار من الذهب، حواشيه محلَّاة بحروف مقدسة.

– هل حدث أن خرجت زوجتك في إجازة من قبل؟

أطبق زوجها شفتيه في صمت، اتسعت عيناه كمن يصحو من النوم فجأة، كان مرتديًا منامة وعضلات وجهه متهدلة، فرك عينيه بطرف أصبعه وتثاءب، كان جالسًا فوق كرسي من الخشب ثابت في الأرض.

– لا.

– هل حدث بينكما شجار؟

– لا.

– هل خرجت عن طاعتك في يوم من الأيام؟

– لا.

كان التَّحقيق يدور في غرفة مغلقة، لمبة حمراء معلَّقة فوق الباب، لا يخرج شيء إلى الصحف، تُحفظ التقارير داخل ملفٍّ سرِّيٍّ له غلاف أسود، كُتب عليه:

«امرأة تخرج في إجازة.»

مندوب البوليس كان جالسًا فوق الكرسي المتحرك، يدور به فيصبح ظهره ناحية الجدار، وصورة صاحب الجلالة في مواجهته، كان الكرسي الآخر ثابتًا في الأرض، من فوقه جلس رجل آخر، ليس زوجها وإنَّما رئيسها في العمل.

– هل كانت من النساء المشاغبات أو المتمرِّدات على النظام؟

رئيسها في العمل كان واضعًا ساقًا فوق ساق، بين شفتيه غليون أسود يلتوي إلى الأمام مثل قرن البقرة، عيناه شاخصتان إلى أعلى.

– لا، كانت امرأة مطيعة تمامًا.

– هل يمكن أن تكون قد اختُطِفت أو اغتُصِبتْ؟

– لا، كانت امرأة عادية لا تُثير الرغبة في اغتصابها.

– ما معنى ذلك؟

– أعني كانت امرأة مستسلمة لا تُثير شهيَّة أحد.

هز مندوب البوليس رأسه علامة الفهم، استدار بالكرسي فأصبح ظهره ناحية رئيسها، دق بأصابعه فوق الآلة الكاتبة، تسربت رائحة غريبة تشبه الجاز المحروق، مدَّ ذراعه وأدار المروحة، ثم استدار بالكرسي.

– أتعتقد أنَّها هربت؟

– ولماذا تهرب؟!

لم يكن أحد يعرف لماذا يمكن لامرأة أن تهرب؟ وإذا هربت فإلى أين تذهب؟ وهل يمكن أن تهرب وحدها؟

– أتظن أنَّها هربت مع رجل آخر؟

– رجلٍ آخر؟!

– نعم.

– لا يمكن. كانت امرأة شريفة تمامًا، ولا شيء يشغلها إلا العمل والبحث.

– البحث؟

– كانت تعمل في البحوث بإدارة الحفريات.

– الحفريات! ما معنى هذا؟

– الحفريات هي الآثار المكتشَفة من حفر الأرض.

– مثل ماذا.

– تماثيل قديمة للآلهة القدامى مثل آمون، وإخناتون، أو الإلهات القديمات مثل نفرتيتي وسخمت.

– سخمط! ما هذا؟

– إلهة الموت القديمة.

– أعوذ بالله!

وجاء خبر من ناظر إحدى المحطات النائية، شوهدت امرأة تهبط إلى المركب، من فوق كتفيها تتدلى حقيبة جلدية بحزام طويل، تشبه الطالبات أو الباحثات في الجامعة، كانت امرأة وحيدة تمامًا بلا رجل، شيء يطل من حقيبتها له رأس حديدي مدبب يشبه الإزميل.

أصبح مندوب البوليس متوترًا، ظهرت حبَّات العرق فوق جبينه، ضغط فوق زرٍّ أسود فازدادت سرعة المروحة، كان لها عنق يدور حول نفسه، وهواء الغرفة شبه مخنوق.

– أكانت امرأة طبيعية؟!

فوق الكرسي الخشبي الثابت جلس رجل من علماء النفس، كان فمه يميل إلى الاعوجاج ناحية اليسار، والغليون ذو القرن الملتوي يميل ناحية اليمين، عيناه شاخصتان إلى أعلى قليلًا فوق الجدار، كانت الصورة داخل الإطار المذهب، نفث الدخان كثيفًا في وجه صاحب الجلالة، ثم انتبه في توجُّس، وأدار رأسه إلى الناحية الأخرى حيث المروحة وأسدل جفنيه.

– لا أظن أنها كانت امرأة طبيعية.

– أتعني انشغالها بهذا البحث؟

– نعم، غالبًا ما يشير انشغال المرأة بأمور خارج البيت إلى مرض نفسي.

– ماذا تعني؟

– امرأة شابة تنطلق في عمل بلا جدوى مثل جمع تماثيل قديمة؟! أليس ذلك دليلًا على المرض أو على الأقل الانحراف؟

– انحراف؟

– هذا الإزميل يكشف كل شيء.

– كيف؟

– المرأة كي تعوِّض عن رغباتها التي لم يتم إشباعها تستمتع بغرس رأس الإزميل في الأرض وكأنه عضو الرجل.

انتفض مندوب البوليس فوق الكرسي، دار به حول نفسه عدة دورات كالمروحة، تصلبت أصابعه فوق الآلة الكاتبة وهو يدق كلمة «عضو الرجل»، توقَّف عن الكتابة واستدار بحركة سريعة.

– المسألة تبدو خطيرة!

– أجل ولي عدة مؤلفات في هذا المرض؛ فالمرأة منذ طفولتها تبحث عن هذا «العضو» دون جدوى، ومع اليأس تتحول هذه الرغبة إلى رغبة أخرى.

– رغبة أخرى! مثل ماذا؟

– مثل النظر إلى نفسها في المرآة، كنوع من الحب المهووس للذات.

– أعوذ بالله!

– وتميل المرأة إلى العزلة والصمت وأحيانًا الرغبة في السرقة.

– السرقة؟

– سرقة التحف النادرة والتماثيل القديمة، وخاصة تماثيل الإلهات الإناث، فهي تنجذب إلى بنات جنسها دون الجنس الآخر.

– أعوذ بالله!

– وتراودها في الوقت ذاته رغبة ملحة في الاختفاء.

– الاختفاء؟!

– بمعنًى آخر انجذاب شديد نحو الانتحار أو الموت.

– يا حفيظ!

– واقع الأمر إنَّ النِّساء الباحثات عن الحفريات يشعرن بلذة شديدة حين يحفرن الأرض، وينجذبن إلى رأس الإزميل أكثر مما تجذبهن رأس الإلهة نفرتيتي، ومهما كانت محاولتهن فإنهن تعجزن عن تحويل عيونهن عن رأس الإزميل كأنما هو العضو المنشود.

– كفى! كفى!

بلغ التوتر بمندوب البوليس أقصاه، كف تمامًا عن التنفس، ثم بدأت أنفاسه تلهث، والكرسي يدور به دون توقف. ثبت الكرسي، وأمسك زجاجة «الكورِّيكتُر» وبدأ يمسح كلمة «العضو» من جميع الأوراق، لكن الخبر تسرَّب إلى الصحف رغم اللمبة الحمراء، بدأ الصحفيون يكتبون عن الموضوع بلا حياء، وكادت أخبار المرأة المختفية تحجب الأنظار عن الاحتفالات بعيد صاحب الجلالة.

في اليوم التالي صدر الأمر الملكي: تحريم الإجازات على النسوة، وإذا خرجت المرأة في إجازة محظور إيواؤها أو التستُّر عليها.

•••

ذلك الصباح من شهر سبتمبر هبطت امرأة في ربيع الشباب إلى المركب، كانت تلفُّ شعرها الأسود الغزير في ضفيرتين طويلتين، تدوران ثلاث مرات حول رأسها وتلتقيان فوق جبينها في عقدة كبيرة، جسمها طويل نحيف داخل ثوب واسع إلى ما تحت الركبتين، يطل من تحته سروال واسع طويل ينتهي برباط مشدود أعلى القدمين، من فوق كتفها تتدلى حقيبة لها حزامٌ جلديٌّ طويل، تشد بيدها فوق الحزام، وتمضي في طريقها بخطوات واسعة، عيناها إلى أعلى، تبدو كالموشكة على الانطلاق نحو مراكب الشمس. رمقها ناظر المحطة بفضول طبيعي، عند البوابة رآها تمد يدها للحارس بتذكرة السفر، حملق فيها لحظة، ثم ردَّها إليها، وكانت هي قد انطلقت خارج المحطة، لم يكن في حركتها شيء يثير الريبة، إلا ذلك الحماس غير المألوف بين النساء، وهي تتطلَّع نحو الشمس، بعينيها العاريتين من أي غطاء، وشيء يطل من حقيبتها يشبه رأس إزميل.

أمام المحطة كانت المركبات واقفة كالعادة في انتظار الركاب، وانطلقت المرأة نحو واحدة منها، ركبت بخطوات غير مترددة، واحتلَّت مقعدًا في المؤخرة.

بقيت المرأة في المركبة حتى النهاية، حين هبط منها جميع الركاب هبطت هي الأخرى، وسارت على قدميها، بدت معالم الطبيعة مزيجًا من الألوان الغريبة، متنافرة ومتداخلة، خضرة العشب، صفرة الصحراء، حمرة الصخور، زرقة السماء، بياض السحب.

واصلت السير بخطواتها الواسعة، تشد بيدها فوق الحزام المعلَّق فوق كتفها، كأنما تمضي بإرادتها أو بغير إرادتها نحو هدف معين.

ولم تعد هناك قرًى أو مساحات من الأرض المزروعة، حقول متناثرة وأشجار شوكية، ثم تغيرت التربة فأصبحت صحراوية نوعًا ما، ترابها أسود ناعم تشوبه حمرة داكنة، كأنما غرق في الدم ثم جف تحت الشمس، علق بقدميها وهي تمشي، بين الحين والحين راحت كتل من أشجار النخيل أو البلح تلقي بظلالها على الأرض، وظهرت وسط الرمال كأنما بطريق الصدفة بقعةٌ محددة سوداء.

تحت ظل جدار توقفت المرأة ربما للمرة الأولى منذ هبطت من المركبة، مسحت وجهها بكُمِّ ثوبها لتجفف العرق، راحت تحدق فيما حولها، خلعت عن كتفها الحزام الجلدي، وفتحت الحقيبة، أمسكت بالإزميل في يدها اليمنى، والحقيبة في يدها اليسرى ثم شرعت في السير من جديد، نافضةً عن قدميها التراب، خبطت كعبيها في الأرض عدة خبطات، ولاحت من بعيد مساحة كبيرة من الماء الأسود تشبه البحيرة الراكدة.

ثم اتسع الأفق وراء جبل منخفض، ظهرت قرية صغيرة بيوتها سوداء من الطين أو مادة أخرى تشبه الطين، متلاصقة في كتلة واحدة فوق السطح أكوام كالتلال السوداء وبراميل مقلوبة، الأزقة ضيقة مسدودة، بعض البيوت على هيئة أكواخ من الخشب أو الصفيح، ومساحة كبيرة من الأرض العراء.

في الأفق كانت هناك قمة جبل، ومن تحتها تمتد القرية تخترقها مواسير ضخمة كالأنابيب، غارقة فيما يشبه المياه السوداء، وآبار لها فوهات واسعة يتدفق منها سائل يشبه الزئبق له رائحة الجاز، امتزجت به رائحة البشر، وشيء أشبه بالسردين المملح أو الفسيخ، وكلاب ميتة في الطريق صدمتها المركبات المسرعة في الليل.

انحدر الطريق ومعه المرأة، كانت تسير بخطواتها السريعة متجهة نحو هدفها، حقيبتها معلقة بالحزام فوق كتفها، أطفال القرية يلعبون في البركة أمام الجامع، رجال عجائز جلسوا القرفصاء على الأرض العراء، عكفوا على النظر إلى أصابع أقدامهم، ومن حين إلى حين يرفعون عيونهم إلى السماء ويحدقون في اللاشيء، طابور طويل من النسوة المختفيات تحت العباءات السوداء يسرن بخطوة بطيئة، فوق رءوسهن البراميل.

كفَّت النسوة عن الحركة، وهن يرقبن المرأة، لمعت عيونهن من خلال الثقوب الصغيرة، لكن المرأة مضت في طريقها، الإزميل في يدها ولا شيء يعنيها إلا البحث، توفقت لحظة تمسح العرق بكُمِّ ثوبها وتحملق حولها، كانت الأنابيب تلتوي وتمتد بلا نهاية، والطريق ينحدر إلى البركة، أخرجت من حقيبتها خريطة صغيرة نظرت فيها طويلًا ثم رفعت إلى السماء عينين شبه غائمتين، في تلك اللحظة مرت بها طفلة من القرية، كانت ترتدي العباءة السوداء ولا شيء يظهر منها إلا عينان صغيرتان، سألتها عن الطريق لكن الطفلة انتفضت وابتعدت مسرعة.

بدت الحيرة على وجهها، ونوع من الاضطراب، كان الأفق يتسع وبعض طيور تحلق في الجو، حركة الأجنحة ومن خلفها زرقة السماء أعادت إلى نفسها بعض الثقة، الطريق يبدو أمامها مأمونًا، لكن الأرض تزداد بلولة وتلين تحت قدميها، والقرية بدت كأنما تغوص إلى أغوار البركة.

من مكانها حيث وقفت حملقت حولها، أي قرية هذي؟ حركت قدميها لتواصل السَّير لكن عاصفة هبَّت فجأةً كادت تقتلعها من الأرض، لولا أنَّها ثبَّتت قدميها، وأمسكت في جدار راح يهتز تحت ثقل جسمها.

أفاقت على أصوات تشبه الغمغمة، رأت الطفلة واقفة من بعيد تتحدث إلى طفلة أخرى، تقرب كل منهما رأسها ثم تنظران ناحيتها، أرادت أن تنادي عليهما وتسألهما عن اسم القرية، زعقت بأعلى صوتها، رأتهما تستديران، وأدركت من ظهرهما المقوَّس أنهما امرأتان عجوزتان.

نظرت إلى الساعة في يدها، كانت السابعة وعشرين دقيقة، ضربت الأرض بالإزميل، وخطر لها سؤال، أيمكن حقًّا أن تعيش الإلهات تحت سطح الأرض؟ ألا يكون ذلك مجرد خدعة بقصد استدراجها إلى هذا المكان؟

أغمضت عينيها فيما يشبه النوم، رأت الغرفة المربعة الأركان العارية من الأثاث، والسرير من الخشب يتسع لاثنين يعلوه غطاء أصفر باهت، بقعة دم قديمة فوق الغطاء، رفٌّ عليه بعض كتب عن الحفريات، وتمثال صغير من الحجر للإله ذي الثدي الواحد، وصورة الإله إخناتون له ثديان بارزان وردفان كبيران.

من وراء دخان الغليون يرمقها رئيسها في العمل، كان يؤمن بأن الإله الذكر يمكن أن يكون له ثدي أو ثديان، لم يكن يؤمن بوجود الإلهات، وإن وجدت واحدة فهي زوجة الإله وليست إلهة حقيقية.

زميلاتها وزملاؤها في القسم كانوا يؤمنون بما يؤمن به رئيسهم، جاءوا إلى قسم الحفريات عن طريق اليأس، يمطُّون شفاههم حين ينطقون الكلمة، «حفريات»، تجذبهم الموميات أكثر مما تجذبهم الكائنات الحية، عيونهم تتجه إلى أسفل كأنما إلى بطن الأرض، تكاد تكون مشيتهم واحدة، العنق يبدو ملتويًا والجفن مسدل فوق العين، عظمة الأنف منكسة، الردفان سمينان متهدلان من طول الجلوس وراء المكتب.

رفعت عينيها إلى السماء، رأت النجوم والكواكب ثابتة في مكانها القديم منذ كانت طفلة، خالتها كانت تشير بأصبعها إلى نجم بعيد لا تكاد تراه، هذا هو المريخ، وهذا هو عطارد، والمشترى، زحل، لكن هذه هي ست الكل الزهرة.

•••

تعلَّقت عيناها بالنجمة، وفجأة بدأت الحركة، انطلقت الزهرة من مكانها وعبَرت السماء، ذيلها من خلفها رفيع طويل، ثم بدأت النجوم تتباعد بعضها عن البعض، تجري هنا وهناك ولها أشكال الحيوانات، كان هناك نجم يشبه الثور، وآخر يشبه الأسد، والحوت، والعقرب.

الأرض أيضًا بدأت تتحرك تحت قدميها، حملقت فيما حولها، كان رجل يمشي من بعيد بظهرٍ مُنحنٍ، رأسه ملفوف بغطاء أبيض.

– أهو زلزال يا عم؟

– لا، إنه الثور يحرك قرنيه، وتنتقل الأرض من قرن إلى قرن.

كان صوت الرجل واضحًا كأنما يتحدث مباشرة في أذنيها، ومع ذلك بدا كأنما يأتي من قاع بئر، كان يبتعد في حركة المشي البطيئة، لا ترى منه إلا الظهر المحني، يختفي شيئًا فشيئًا داخل سحب كالشبورة.

صاحت بأعلى صوتها تنادي عليه، لكن صيحتها كانت تتبدد.

ثم رنَّت ضحكة مكتومة، إنها الطفلة العجوز واقفة داخل عباءتها، عيناها الصغيرتان تلمعان من داخل الثقبين.

– ليس الثور يا أختي.

– ما هو؟

استدارت الطفلة واختفت داخل غيمة من الغبار كالدخان، في مكانها وقفت تُثبِّت قدميها في الأرض، أمسكت حزام الحقيبة وراحت تشد عليه، ليس أمامها إلا الثبات في مواجهة هذه الحركة المجنونة.

رفعت عينيها إلى الأفق، كانت المساحات السوداء تمتد أمامها كالصحراء اللانهائية، رمالها متحركة لونها أسود، والهواء شديد الجفاف، سطح لسانها تشقَّق، وعيناها تبحثان في الظلمة عن قطرة ماء، لمحت شيئًا يتحرك، حيَّة صغيرة تشبه الحرباء، عينها تلمع، تزحف فوق بطنها وبشرتها سوداء، حركتها رشيقة، قفزاتها خفيفة مرحة، كأنما تبتهج بقدرتها على تغيير لونها.

تراخت قبضتها حول حزام الحقيبة، ربما لا يكون الثبات هو المطلوب، تركت نفسها للريح، حركة لم يألفها جسمها أول الأمر، بدا ثقيلًا، ثم أصبح أقل وزنًا، أغمضت عينيها فيما يشبه الاستسلام.

إحساس جديد بدأ يتسرب إليها على استحياء، كان الجو حارًّا، مع كل خطوة يعلق غبار أسود بحذائها، تتوقف لحظة، تخبط كعبيها أحدهما في الآخر، تفك الضفيرتين من حول رأسها، تنفضهما، تخبط الواحدة بالأخرى، تتطاير من حولها الذرات السوداء، تلتصق بأنفها وجبهتها كأنما تجذبها رائحة العرق.

جلست القرفصاء دون أن تلامس مؤخرتها الأرض، ولم تشأ أن تلوث ثوبها، فتحت الحقيبة وأخرجت الإزميل، ضربت الأرض عدة ضربات، لكن الرائحة كانت غير محتملة، وضعت المنديل فوق أنفها، عنقها يلتوي إلى أسفل، في القاع البعيد كانت الأرض تتسع، والظلمة تزداد كثافة، وهي تمشي نحو القاع، من يراها يظن أنها لم تكن تمشي، ارتطمت يدها بجدار من الطين، يشبه جدران البيوت في القرية، سمعت في الداخل أصواتًا، كانت واقفة تستند بيدها على الجدار، يدها الثانية تقبض على الإزميل، وأنفاسها تلهث.

انفتح باب في الجدار، أحدث صوتًا يشبه صرير الساقية، مفاصل حديدية صدئة أو طقطقة خشب قديم، وظهرت امرأة شابة داخل عباءة سوداء تحمل فوق رأسها برميلًا ضخم الحجم، منتفخ البطن يداها مشققتان، قدماها كبيرتان داخل خف جلدي، كعباها يطلان لونهما أسود، تلف رأسها بمنديل أسود مربوط فوق جبينها على شكل عقدة، حاملة فوق رأسها البرميل بشكل مائل، مملوء حتى الحافة يوشك على السقوط، دون أن يسقط، تلوي وتحرك رأسها دون أن تمسكه بيدها، دون أن تسقط منه قطرة واحدة.

كانت المرأة تحملق إلى الإزميل في يدها، لم ترَ في حياتها امرأة تحمل آلة حادة، تراجعت إلى الوراء خطوة.

– إنَّه إزميل.

– ماذا يا أختي؟

– أحفر به الأرض وأبحث عن الإلهات.

– ماذا؟

– الإلهة سخمت مثلًا.

– سخماط؟!

أصاب المرأة اضطراب، بدأ جسدها ينتفض، لكن البرميل كان ثابتًا في مكانه، متربعًا فوق رأسها رابط الجأش.

– قليل من الماء أرجوكِ.

– ماذا؟

– ماء … ماء …

راحت تصرخ وهي تردد: ماء … ماء … والمرأة واقفة ترمقها بعينين متسعتين من خلال الثقبين، كأنما هي ترى قطعة من الغنم تُمأمئ، هبَّت في تلك اللحظة عاصفة جديدة كادت تقتلعها من الأرض، والمرأة واقفة تهز رأسها والبرميل ثابت متربع فوق رأسها.

– مَن أنتِ؟

رأت الشك في عيني المرأة، أخرجت من حقيبتها بطاقتها الشخصية، الاسم، والجنس، ولون العينين، والمهنة، باحثة في قسم الحفريات، حسنة السير والسلوك، متزوجة، بدون أطفال، تقاريرها السرية لا غبار عليها، سددت أقساط التأمينات والضرائب، ليس عليها ديون، وليس لها سوابق، لم تصدر ضدها أحكام حتى الآن.

حملقت المرأة في البطاقة كأنما لا تعرف القراءة، تأملت صورتها المشبوكة بدبوس.

– لماذا لا تسترين وجهك؟ أليس عندك حياء؟!

أعادت إليها البطاقة واستدارت، مضت بخطوة بطيئة مبتعدة على امتداد المنخفض، تمصمص بشفتيها وتطرقع بالخف الجلدي، كعباها أسودان يحركان الغبار في الجو، فوق ظهرها نتوء يشبه صنم الجمل، من حولها تجمعت النسوة فوق رءوسهن البراميل، تُقرِّب كلٌّ منهن رأسها من الأخرى، يدور الهمس بصوت كالغمغمة، نهضت واحدة منهن، بدت من بعيد كالطفلة، عادت بعد لحظة ومن حولها عدد من الرجال، يرتدون الجلاليب الواسعة، فوق رءوسهم أغطية بيضاء.

ظلت أصوات النساء منخفضة لا تزيد عن الهمس، ارتفعت أصوات الرجال، كانوا يتكلمون في نفس واحد، كلٌّ منهم يحرك ذراعيه في الهواء، يضرب الأرض بقدميه، غبار كثيف يتصاعد، ثم توقفت الأصوات كلها فجأة، عم الصمت، لم تسمع فيه إلا نباح كلب من بعيد، استدارت لتمضي في طريقها، أسرعت الخطى تشد بيدها فوق الحزام المعلق على كتفها، لكن الأصوات كانت تتبعها، واستوقفها رجل يلف حول عنقه كوفية سوداء، فوق وجهه التصق ذرات سوداء كالنمش.

– إنت يا مَرهْ!

ارتطمت كلمة «مَرَهْ» بأذنيها مثل شفرة زجاج، تصلبت عضلات وجهها، كيف يمكن لرجل أن يستوقفها في الطريق ويسبها، أدارت له ظهرها ومضت في طريقها، تبعها وهو يضرب الأرض بقدميه، صوته لا يكف عن ترديد تلك الكلمة النابية.

مد ذراعه الطويلة كالعصا الخشبية وأمسك ذراعها، قرَّب فمه من أذنها وراح يزعق: يا مَرَهْ! رائحة نفاذة تدفقت من فمه، خليط من اللعاب الأسود يسيل من الزاوية بين الشفتين.

– مَن أنتِ؟

– أنا باحثة محترمة و…

– من أين أتيتِ؟!

استدارت وأشارت برأسها إلى الطريق الذي جاءت منه، بدا مثل سرداب طويل مظلم، طمسته المياه السوداء كالطوفان، أغمضت عينيها ثم فتحتهما.

– خرجت في إجازة و…

– لم نسمع هذا من قبل.

– يمكنني العودة.

– لا يوجد طريق في هذا الوقت.

– أيمكنني تأجير غرفة حتى الصباح؟

– أنتِ وحدكِ؟

هز الرجل رأسه عدة مرات: لا يمكن، ابتعد عنها يضرب الأرض بقدميه.

فتحت الحقيبة وأخرجت الخريطة، هل أخطأت المكان؟ انحنى جسمها فوق الأرض، بدت لمن يراها من بعيد أنها مقبلة على النوم، لكنها استغرقت طويلًا في تحديد المكان، عثرت على بقعة حددتها بالقلم، أمسكت الإزميل وحفرت.

تدلى رأسها وهي تحفر فيما يشبه الإعياء، ربما كان المكان صحيحًا وقد تكون واحدة من الإلهات مختفية، لكن الظلمة حالكة والذرات السوداء تتراقص أمام عينيها، أزاحت الطين ولمحت شيئًا يشبه قرن بقرة، قبل أن تمتد ذراعها سمعت الأصوات من خلفها؛ طابور من الرجال يطل عليها، يرتدون الجلاليب، رءوسهم ملفوفة بغطاء أبيض، من خلفهم طابور من النسوة داخل العباءات السَّوداء، أخرجت واحدة من تحت العباءة ثديها العاري، أخذت تشد الحلمة السوداء بين أصبعها حتى اندفع من الثقب خرطوم رفيع أسود اللون، ثم أخرجت من تحت العباءة طفلًا صغيرًا، قبض بكفيه الصغيرين على الحلمة وراح يرضع بصوت مسموع.

أصوات الرجال بدأت تنخفض كأصوات النسوة، جلسوا القرفصاء على شكل حلقة، في الوسط حجر كبير جلس عليه رئيسهم، في أصبعه الصغير خاتم تلمع من فوق رأسه صورة لصاحب الجلالة، تحوطها اللمبات الملونة، ومكبر للصوت على شكل القمع.

– بمناسبة عيد صاحب الجلالة أمرنا بالصرف.

الصوت هو صوت جلالته، شفتاه تتحركان في الصورة، فركوا عيونهم بأصابعهم، زوايا الجفون متآكلة يشوبها الاحمرار، يتبادلون النظرات، يرددون في نفس واحد: «قادر على كل شيء.» ثم يدب الصمت، يدعك كلٌّ منهم زاوية عينه، يتأمل الذرات السوداء العالقة بطرف أصبعه، يمسحه في جلبابه، ثم يدعك عينه الثانية.

غمغم صوت صاحب الجلالة من خلال القمع، كلماته متآكلة الحروف، لسانه معوج، ولم يفهم أحد ماذا يقول، هز رئيسهم رأسه علامة الإعجاب، هزوا رءوسهم، ثم توقف رأسه عن الاهتزاز، توقفت رءوسهم، نهض من فوق مقعده، فنهضوا، اختفى في عتمة الليل واختفوا من خلفه، ومن خلفهم النسوة.

لم يبقَ إلا صورة صاحب الجلالة، معلقة في السماء بلا أعمدة، ومن فوقها البوق، ورجل واحد يكنس الأرض، اقترب منها بخطوات بطيئة، كان هو الرجل ذو النمش، والكوفية السوداء، تمخط بصوت عالٍ.

– لا بد من إخلاء المكان.

– وأين أبِيت؟

– تعالَي معي.

قادها إلى الطريق المنحدر، يسبقها بخطوة أو أكثر، كلما أسرعت لتمشي إلى جواره ترمقها عيناه فتبطئ السير لتصبح في المؤخرة، هبط المزلقان يلقي بنصفه الأعلى إلى الأمام، ويده تهرش ظهره.

كانت تتبعه فوق كتفها حزام الحقيبة، تمسكه بأصابعها كأنما يحميها من السقوط، في يدها الثانية الإزميل، ينتفض بانتفاضة جسمها ويبدو في الظلمة كأنما هو ينتفض وحده.

انحدر الطريق وازدادت الأرض سيولة، الرائحة النفاذة تشتد، قدماها تغوصان حتى الركبتين، شمر الرجل جلبابه وربطه حول وسطه، ثم قفز داخل مركب، قفزت وراءه فاهتز المركب، كادت تسقط لولا حركة من ذراعها استعادت بها توازنها.

بدا لها المشهد طبيعيًّا، لولا الرائحة النفاذة، الذرات السوداء المتطايرة تدخل أنفها وأذنيها، وتلتصق بزوايا جفونها، الظلمة تتراكم أمام عينيها كالتلال، والصمت، إلا صوت المجداف يخبط في بحر أسود لا نهائي.

بدأ الرجل يدعك عينيه وهو يغني:

يا واهب الحياة
يا قابض الروح
ارحمنا من الطوفان
يا مفرج الكرب.

عيناه وهو يغني شاخصتان نحو الأفق، يحك زاوية عينه بطرف أصبعه ثم يقرب أصبعه من عينه، يتأمله طويلًا قبل أن يمسحه في جلبابه، ثم بدأ يهرش ظهره وتحت الإبط وما بين الفخذين، صوت غنائه يسري في الليل حزينًا، إلا في لحظات متقطعة، حين ينتفض كأنما بلذَّة مفاجئة.

أوقف المركب عند كتلة من الظلام تشبه الجدار، انحنى باتجاه الظلمة، تنحنح بصوت عالٍ معلنًا عن مجيئه، لم يسمع إلا نباح كلب، صاح وهو يدق على الباب: «افتح يا أخي.»

من وراء الباب جاءت نحنحة رجل آخر، ومن أعماق الظلمة انفتح الباب، اندفعت الرائحة تؤلم غشاء الأنف، ظهرت شعلة صغيرة تهتز في يد كبيرة، وصوت متحشرج يخرج من الحلق: «ادخلي يا مَرَهْ.»

واقفة في مكانها لا شيء فيها يتحرك إلا عنقها، يلتوي إلى أعلى نحو السماء، تبحث عن الهواء، من فوق كتفها الحزام تشده كأنما تشد ذاكرتها من الظلمة، كيف جاءت إلى هنا؟

ارتفع صوته أكثر: «ألا تسمعين الكلام؟»

حركت قدميها ودخلت، اجتازت عتبة منخفضة مألوفة الشكل، لكن البيت كان يهتز تحت قدميها كأنما هو مركب، انغلق الباب من خلفها فاستدارت، لم يكن الرجل ذو النمش الأسود هناك، وسمعت صوت المجداف يتحرك مبتعدًا، انخرط الرجل في سعال متقطع ثم تمخَّط بصوت عالٍ، تراجعت إلى الوراء خطوة، بدت في فزعها كأنما ترتد إلى الطفولة، وانطلقت من فمها صرخة، والضوء شاحب لا تكاد ترى شيئًا، دعكت بطرف أصبعها عينها، الغرفة عارية من الأثاث والمقعد ثابت في الأرض، ساورها الشك، ألم تغادر قط مكانها؟

– اخلعي ملابسك.

لم يعد صوته غريبًا على أذنيها، صوت الريح يضرب النافذة، خيوط من السائل الأسود تزحف من تحت عقب الباب، قطرات سوداء كالمطر تتساقط من السقف.

لم تكن في حقيقة الأمر نافذة، مجرد ألواح من الخشب، والأرض لم تكن أرضًا، وإنما هي الألواح تئن تحت قدميها مثل القطط المريضة، تندُّ عنها بلولة كالعرق يلتصق بكعب حذائها، أو بطن قدميها إذا خلعت الحذاء.

– الرائحة غير محتملة؟

وضعت المنديل فوق أنفها وأغمضت عينيها، صوته متحشرج بعيد، كأنما يأتي من العالم الآخر، جالس فوق مقعده الخشبي، لا ترى منه إلا قدميه وركبتيه داخل المنامة، نصفه الأعلى يختفي وراء الصحيفة، حروف سوداء من الرصاص، السطر وراء السطر، مصبوبة في خطوط أفقية دقيقة.

– مطلوب باحثون بقسم الحفريات.

•••

دقت الطلب على الآلة الكاتبة، ملأت خانة الاسم والسن، والديانة، وفي خانة الجنس دقت أربعة حروف «أنثى»، رمقها رئيس القسم بعيون متسعة.

– هذا القسم لا يقبل إلا الذكور، فالعمل غير ملائم. أعني حفر الأرض.

– كانت خالتي تحفر الأرض، وأمي كانت أيضًا تحفر الأرض، وتزرع و…

– الحفريات شيء آخر، أعني البحث عن الآلهة في بطن الأرض.

– الآلهة في السماء، أليس كذلك؟

– لكن هناك آلهة أخرى، ألم تقرئي شيئًا عن الحفريات؟!

انتبهت إلى شيء يزحف تحت قدمها، أصبع ناعم طويل يشبه ذيل الثعبان، يلتوي وينثني ويحفر لنفسه طريقًا هابطًا من السقف، سرسوب من السائل الأسود، تجمعت حوله جيوش من النمل والأبراص والسحالي، وصراصير تشبه الخنافس لها أجنحة ترفرف فيما يشبه المرح.

سمعت صوته من وراء الصحيفة، كان يكلم نفسه، أو يقرأ أحد المانشيتات بصوت مسموع، دبت بعض الحركة في الغرفة الغارقة في الظلمة، أشاعت بعض البهجة تلك الأجنحة الصغيرة، ترفرف حول ذؤابة الضوء، مدت ساقيها فوق مقعد منخفض، قدماها متورمتان من طول السير، حقيبتها فوق كتفها تتدلى من الحزام، والإزميل داخل الحقيبة بطبيعة الحال، عيناها تحملقان حولها تستكشف المكان، فوق الجدار الأسود رأتها مرة أخرى، السحلية السوداء أو الحرباء، رمقتها بعينين صغيرتين، أصبحت بينهما ألفة.

تنحنح الرجل بصوت مسموع، اختفت السحلية داخل الشق، لم تعرف كيف رآها من خلف الصحيفة، نصفه الأعلى كان مختفيًا تمامًا، لا يظهر منه إلا قدماه وركبتاه داخل المنامة، ربما هي قرون الاستشعار، يتوجس لأي صداقة قد تنشأ بينها وبين كائن آخر.

– جهزي العشاء.

قالها بلهجة من استأجر امرأة للطهي، لم تكن هناك خانة في الطلب الذي دقته على الآلة. في خانة العمل كتبت: باحثة عن الإلهات.

– أنا جائع!

صاح بصوت عالٍ، وهي جالسة ممدودة الساقين، قدماها ملتهبتان تسلَّخ عنهما الجلد، تكسوه طبقة سوداء.

في المطبخ كانت النافذة مسدودة، ألواح خشبية مدقوقة بالمسامير، ورق الصحف مضغوط بين الشقوق، مكوَّم وراء الباب يمنع دخول السرسوب من تحت العقب، وصنبور الماء مسدود بورق الصحف.

وهي واقفة أمام الحوض أحست بالرجل خلفها، أنفاسه فوق مؤخرة عنقها، لم تعرف كيف تشعل الموقد، ناولها شيئًا يشبه المسدس، تضغط عليه بالإبهام فيطرقع والشرارة تنطلق، ضحكت كالطفلة.

أشياء صغيرة كانت تُضحكها، تتبدد الظلمة ويلمع في الأفق ضوء، رأته يلوي عنقه إلى أعلى بكبرياء، تابعت بعينيها نظرته حتى السقف، كان السرسوب الأسود يزحف.

– ما هذا؟

– ألا تعرفين ما هذا؟

– لا.

– إنه النفط.

– أيتسرب النفط من السقف؟!

– بالطبع، حين يرتفع المنسوب في الأرض أو يهطل من السماء.

– أتمطره السماء أيضًا؟

– تُعطي السماء من تشاء بغير حساب.

في المدرسة وهي طفلة عرفت أن النفط لا يوجد إلا في بطن الأرض، عبر ملايين السنين يتوالد من الأجسام الميتة، تتحلل بسبب الحرارة، وكائنات صغيرة اسمها البكتريا، وذرات التراب والرمل، وغبار المعادن، كل ذلك يتحلل إلى قطرات دقيقة تشرب الماء، تُختزن في طبقات كالإسفنج، تنساب إليها الرمال وصخور جبرية متشققة، تُحبس بين حُبيباتها، وتخزِّنه في الشقوق داخل طبقات عازلة تحول دون تسربه إلى أعلى، وطبقة من المياه في جوف الأرض، يطفو فوقها، تحول دون تسربه إلى أسفل كالمصيدة، تنغلق عليه الأبواب من جميع الجهات تمنعه من الخروج إلى سطح الأرض، إلا إذا اهتزت بفعل زلزال أو بركان أو قنبلة تسقط في الحرب.

أطبقت شفتيها في صمت، كان عنقه لا يزال ملويًّا إلى أعلى يخاطب السماء كأنما هي واحدة من الإلهات. رفعت راسها فارتطم به من الخلف، كان واقفًا وراءها، يحتك بها دونما حياء، انكمشت داخل جسدها في حرج، لم يكن في عقد العمل خانة لهذه الأشياء، أشاع انكماشها في نفسه الثقة، فالتصق بها أكثر، أنفاسه تلفح عنقها من المؤخرة، ذراعه امتدت ودارت حول صدرها، ثم استقرت يده فوق النهد الأيسر، رأت أظافره سوداء تفوح منها رائحة النفط.

– ألا تأخذ حمامًا أولًا؟

– ماذا؟

بدا عليه الغضب، لم يحدث من قبل أن بلغت امرأة هذه الجرأة، كادت يده ترتفع وتسقط فوق وجهها، ربما ارتفعت فعلًا، ثم تراجع إلى الخلف، أدركه الإعياء فجأة، أشار إلى زجاجة صغيرة فوق رف خشبي، فتح فمه عن آخره حتى رأت اللهاة الحمراء تنتفض في حلقه.

– أربع نقط.

سكبت في حلقه أربع قطرات، أغمض عينيه طويلًا، ثم فتحهما، لعق شفته السفلى بطرف لسانه.

– أهو ماء؟

– لا، نوع مقطَّر من النفط يروي أكثر من الماء، ويطهر الأمعاء، افتحي فمك.

سكب في فمها القطرة الأولى ثم الثانية، أرادت القطرة الثالثة والرابعة، تشبثت بالزجاجة تقبض عليها بأصابعها الخمسة، لكنه شدها منها وخبأها.

– لك نقطتان فقط حسب القانون.

أطرقت برأسها، إرهاق أشبه بالاستغراق، كأنما سمعت عن هذا القانون من قبلُ، وسقطت في النوم، رأت نفسها تستحم في مياه دافئة، السماء زرقاء صافية، والحقول خضراء، في أنفها رائحة الزرع، تجلس فوق الجسر عند الغروب تنتظر ظهور الأضواء.

فتحت عينيها على شيء يحرق تحت الجفن، كانت الغرفة تغرق في الظلمة، ضوء خافت ينبعث من ذؤابة متهالكة، وهو جالس في مكانه وراء الصحيفة المفتوحة، قدماه حافيتان فوق البلاط.

أخفت حقيبتها تحت إبطها، سارت تجر قدميها إلى المطبخ، عادت وفي يدها كوب من الشاي الأسود، مد ذراعه وأمسك الكوب دون أن ينطق، وراح فيما يشبه النعاس وهو جالس، كانت الصحيفة متكورة فوق الأرض، فتحتها تقلب الصفحة وراء الصفحة.

«امرأة خرجت في إجازة ولم تعُد، محظور إيواؤها أو التستُّر عليها حسب القانون.»

علقت الحقيبة فوق كتفها بلا صوت، شدت الباب بحذر وخرجت، صوت الريح يعوي كصوت الذئاب الجائعة، قدماها تغوصان مع كل خطوة، لا تعرف السائل من اليابس، تتسند على الجدران كما كانت تفعل وهي طفلة، قبل أن تتعلم المشي، خالتها تمسك يدها: «تاتا خطي العتبة. هيلا هوب هيلا. يا ستنا الطاهرة.»

وهي طفلة لم تعرف من هي الست الطاهرة، ربما كانت مريم العذراء، في ظلمة الليل كانت روحها ترفرف أحيانًا فوق أسطح القرية، فيعود البصر إلى بعض العيون العمياء، وتدب الحركة في بعض السيقان الكسيحة، أو ربما كانت هي السيدة زينب، الوحيدة من الأنبياء القادرة على شفاء خالتها من الوجع.

– ماذا تقولين؟

– سأكون نبية؛ لأشفي النَّاس من الأمراض.

– هل فقدت عقلك؟ لا يوجد بين الأنبياء امرأة واحدة!

صوته كان يرن في أذنيها واضحًا، يبدد أحلامها، صوت رجل، ربما هو زوجها أو رئيسها في العمل، في امتحان الدخول كان جالسًا وراء مكتبه.

بين شفتيه الغليون الأسود يهتز وهو يسألها السؤال وراء السؤال: ماذا تعرفين عن «نمو» إلهة المياه الأولى؟

– نمو؟

– و«إنانا» إلهة الطبيعة والخصب؟

– إنانا؟

– و«سخمت» إلهة الموت؟

لم تكن تعرف أن هناك شيئًا اسمه إلهات، الأنبياء جميعهم رجال وليس بينهم امرأة واحدة، كيف إذن يكون بين الآلهة إناث؟! وأيهما أعلى درجةً، النبي أو الإله؟ أما إله الموت فقد كان اسمه عزرائيل بالمذكر وليس سخمت بالمؤنث.

تحت ضوء اللمبة كانت تقرأ، وهو جالس في مكانه المعتاد، يختفي نصفه الأعلى وراء الصحيفة.

– أتقرئين؟

لم يكن يظهر منه إلا القدمان والساقان، ركبتاه بارزتان مدببتان من تحت المنامة، أتكون عيناه في ركبتيه؟ ما إن تفتح الكتاب وتقرأ حتى تراهما تهتزان، تتوجسان!

– اتركي الكتاب.

– الامتحان غدًا ولم أكمل القراءة، و…

– أنا جعان.

نظرت للساعة في يدها، التاسعة وعشر دقائق، جهزت له الأكل منذ ساعة واحدة، كيف يجوع بهذه السرعة؟ وإن جاع فالوعاء فوق الموقد، والمطبخ على بعد ثلاث خطوات، رآه جالسًا يهز ركبتيه، يحرك قدميه في الهواء، يطرقع أصابعه.

– عطشان.

لم يكفَّ عن الطلب، كالطفل، لا يستطيع أن يُطعم نفسه، ولا يسقي نفسه، ما إن يراها تفتح الكتاب حتى يصيح، كأنما الكتاب رجل آخر يأخذها منه.

تُخفي الكتاب تحت الوسادة، تنتظر حتى ينام، ويغرق في النوم، يتصاعد الشخير بذلك الإيقاع المنتظم، تفتح الكتاب وتقرأ، كانت هناك وصية من الإلهة الأم إلى ابنتها: «لا تنسَي أمك. احمليها كما حملتك. حملتك في بطنها طول السنة. أعطتك حياتها وماتت.»

في هدأة الليل يسري الصوت في أذنيها، لم تسمع صوت أمها إلا وهي جنين في الرحم.

تراه يتقلب في نومه كأنما يسمع الصوت، تنتصب شعيراته في توجُّس، يفتح عينيه فجأة فتُخفي الكتاب، ينقلب على الجنب الآخر ويعاود النوم، ترقد في مكانها تنتظر، لا تعرف إن كان نائمًا أو متظاهرًا بالنوم، أنفاسه لم ترتفع بعدُ، وإيقاع الشخير لم ينتظم.

– صاحية؟

تُغمض عينيها وتُطبق شفتيها، تترك أنفاسها تعلو وتهبط، ثم تسقط في النوم، يتهاوى جسدها إلى أسفل كأنما سقط في بئر.

•••

كان كل شيء يغدو مبللًا، حتى أغطية الفراش، بلولة سوداء نفاذة الرائحة، رأته يجثو على يديه وقدميه، ثم مد ذراعه نحوها، راح يحدق في وجهها دون أن يغير وضعه، شفتاه منفرجتان على نحو غير طبيعي، يكشف عن الشعر فوق صدره.

أدركت أنه سيمضي قدمًا في تلك اللعبة، فانقبضت عضلاتها وأحكمت إغلاق جسدها، أطبقت شفتيها وتظاهرت بالنوم.

اشتد تدفق السائل الأسود بصوت كالشلال، ارتفع حتى ركبتيه وهو جالس، نهض بجسد ثقيل يتثاءب، يدعك عينيه، تمخَّط في الحوض، أحضر من المطبخ مغرفة الأكل، بدأ يغرف من الأرض، ينحني بجذعه إلى أسفل، يملأ المغرفة، يرفعها بذراعيه، ومعها نصفه الأعلى، ويُفرغها في البرميل، يملأ البرميل وراء البرميل دون توقف.

– المنسوب يرتفع بشكل مُفزع!

– خير من عند الله.

– إني أختنق.

– لا تقفي هكذا، اهبطي بركبتيك.

جعلها تبرك كالجمل، عصَر خرقة بالية، ثم لفها على شكل دائرة، وضعها فوق رأسها، ثبَّتها بدقات متتابعة، كأنما يدق مسمارًا في جدار، انثنى بنصفه الأعلى مثبِّتًا قدميه في الأرض، رفع البرميل بذراعيه الاثنين ثم وضعه فوق رأسها، التوى عنقها تحت الثقل، وكاد البرميل يسقط، هبَّت الريح فأمالت البرميل إلى جانب، تركته مائلًا وحركت قدميها، القدم وراء القدم، حركة السير العادية، الطريق أمامها كأنما مشت فيه من قبلُ، هذا الطابور من النسوة تعرفه، وهي واحدة من الطابور، يسرن بخطوة بطيئة ثابتة كالزمن، تزداد العاصفة والشلال يهدر، أجسادهن تهتز كالقشة في مهب الريح، كل شيء يهتز، إلا البرميل فوق الرأس، يظل ثابتًا في مكانه، رابط الجأش.

كانت تعود بجسد منهك، تتكور فوق الأرض، ركبتاها تحت ذقنها، حقيبتها تحت رأسها، حلقها جاف ولسانها تشقق، تفتح عينيها في الظلمة، تبحث عن الزجاجة، لم تكن في أي مكان، تعود إلى النوم، ثم تصحو على الصوت، كان قد اصطاد حيوانًا يشبه الخروف أو الماعزة، ذبحها بالسكين، تدفق الدم كالنافورة، العينان تنظران نحوها، تستنجدان بها، وصوته يزأر.

– هيا، اطبخي!

– أنا لا آكل اللحم.

– ليس من الضروري أن تأكليه، عليك أن تطبخيه!

– لن أطبخه!

مد ذراعه الطويل بالسكين، رمقت النصل اللامع، فالتوى عنقها إلى أسفل، انكمشت داخل جسدها تخفي رقبتها بيديها الاثنتين.

جرَّت جسدًا ثقيلًا إلى المطبخ، مسحت الدم حول العنق، أشعلت الموقد ووضعت الوعاء، تصاعد البخار حتى السقف، أحست به واقفًا خلفها، يتشمم رائحة اللحم، يحتك بها من الوراء، غريزة الأكل عنده كانت تصحو وتوقظ معها الغرائز الأخرى، تركت جسدها له وراحت في النوم، بينما هي نائمة شعرت بألم، يشبه وخز الإبرة، كان ضميرها يؤنبها، كيف أعطيته نفسي مقابل وجبة عشاء؟

في الصباح هب تيار عنيف، تناهى إليها على متن الريح صوت يشبه المجداف، أرهفت السمع وقلبها يدق، سمعت صوت امرأة يشبه صوت خالتها.

تبدَّد الصوت حين حرك الرجل جفونه، شدها إلى أعلى وظهر النِّنِّي الأسود محدقًا فيها، أمسك خرقة بالية، ربما هي سروالها، أخذ يلويه بين يديه كأنَّما يعصره، جعله على شكل حزام وضعه فوق رأسها، جعلها تثني جذعها، ثم رفع البرميل بيد واحدة.

– إنَّه ثقيل جدًّا! سوف يُحطِّم عنقي.

صوتها يرتد إليها، كأنَّما هي تُكلِّم نفسها، سارت به في الطَّريق نحو الشركة، كالنَّائمة في حلم، ربما لهذا السبب كان جسمها قويًّا، استطاعت أن تحمله دون عناء، بل أحست بنوع من الخفة كما يحدث في الأحلام، لكن قلبها كان ثقيلًا، هذا العمل ترفضه بقرة تحترم نفسها، ربما لا يقبله إلا نوع منقرض من الحمير، والبرميل أيضًا من النوع المنقرض، له أذنان كبيرتان، وبطن منتفخ بالحبل كالإله ذي الثدي الواحد.

ترددت بعض الأصوات من بعيد، صرخات خافتة ذات إيقاع واحد، أعقبها صوت كالغمغمة، وضحكات مكتومة ثم الصمت.

بدا لها أنها تمشي دون أن تتقدم خطوة واحدة، واقفة حيث كانت، لا يفصلها عن عتبة الدار إلا خطوتان، كان الباب مفتوحًا وهو جالس في مقعده وراء الصحيفة.

– العاصفة مستمرة.

– يمكنك الانتظار.

– في هذا الوضع؟!

– حين يزحف النفط فلا شيء يقف في طريقه، وعليك التعامل معه نهارًا حين تسطع الشمس ويجف.

– وهذا البرميل يسخن رأسي!

– لا بد من الانتظار، لا بد!

– قال: «لا بد» وهو ينظر إلى أعلى، دارت سحابة رمادية عند الخط الفاصل بين السماء والأرض.

– النفط يشرب بخار الماء في الجو، وحين تتبدد السحب بواسطة الشمس يحدث الجفاف.

– الجفاف؟

– نعم، وينحسر السائل متحولًا إلى صلب، ويمكنك السير بسهولة دون أن تغوص قدماك، ويمكن أيضًا أن تسير فوقه الدبابات.

حين قال: «الدبابات» كست عينيه لمعة، تشبه الدموع، ربما أخذوه إلى الحرب، ستصبح مساحته فوق الفراش خالية، وتكف عن الطبخ، شدت عضلات عنقها تحت ثقل البرميل، ضربت الأرض بقدميها.

كان الرجل منشغلًا بالتطلع إلى الطريق، ظهرت بشائر الموكب الكبير، صف من حملة الطبول يدقون النشيد الوطني، سرب من الدراجات البخارية، والألعاب النارية، موظفو البلاط داخل سيارات سوداء طويلة، من خلفهم الصحفيون، دبابة ضخمة يطل منها صاحب الجلالة يلوح بيديه كأنما للجماهير، إلى جواره رئيس الشركة يرفع القبعة علامة التحية.

كان الطريق خاليًا أمامها وهي تسير حين لسعتها العصا الخيزران فوق ردفيها.

– انحني بسرعة!

لم تكن تعرف بعد كيف تؤدي التحية، انحنت إلى الأمام وثنت جذعها إلى الخلف، أصبحت مثل جمل يبرك، بدأ الرجل يعلِّمها الأنشودة، ترددت نغمة صوتية هادئة شبه موسيقية، مع كل مقطع يجفف عرقه بكمِّ جلبابه.

– أهي أنشودة وطنية؟

– نعم، فنحن هنا نتبع المبدأ: أنا أحب وطني.

– أهو وطنك؟

– أمي دُفنت هنا، وحيث تدفن الأم يكون الوطن.

قال: «الوطن» وأطرق إلى الأرض، جعل جفونه تنسدل فوق عينه كأنما يخفي الدموع، لم يكن يذكر أمه إلا حين يتهدده الموت، بين يديه ورقة صغيرة مختومة بوجه صاحب الجلالة، والاستدعاء الفوري.

رقدت مفتوحة العينين تُرهف السمع، أحست به يدخل إلى جوارها في الفراش، أعطى وجهه للحائط، مدت ذراعها وربتت على عنقه من الخلف.

– لا تذهب، فليس لك إلا مقبرة أمك.

– مَن لا يذهب يُقتل.

– ومَن يذهب يُقتل.

– لا مفر من الموت.

– إذن نموت بإرادتنا.

قالتها بلا صوت وهي تخرج من الفراش، علقت حقيبتها فوق كتفها وأمسكت الإزميل، سارت بخطوة سريعة تُطبِق عينيها في مواجهة العاصفة، قدماها تغوصان في المياه السوداء حتى الركبتين، بدت الحركة مستحيلة، توقفت تشق بعينيها الظلمة وأذناها مرهفتان، كانت الأصوات خافتة أول الأمر، مثل حفيف الهواء أو هفهفة الجلاليب، تأتي من أسفل المنحدر حيث بيوت القرية، وتعلو بالتدريج، تشبه إيقاع الدفوف ودقات الطبل، رأت امرأة تدور حول نفسها فوق قدم واحدة، من حولها النسوة على شكل دائرة، نافشات شعورهن، أسنانهن تصطك، باسطات أذرعهن، يخبطن الأرض بأقدامهن، يدرن حول أنفسهن مع دورة الأرض، ينشدن في نفس واحد: «يا ستنا الطاهرة. خففي عنا الأثقال.»

المرأة في الوسط طويلة، رأسها مربوط بمنديل أسود، تشبه خالتها، تدب الأرض بقدميها، ترفع عينيها إلى السماء كأنما تناجي الإلهة الأم، ينتفض جسمها مع كل دورة، تزداد حركتها سرعة وخفة، وفي قمة الانتفاضة الأخيرة يخف جسمها كأنما يتلاشى، يتوقف الزمن ويدب الصمت، ثم تشع الحركة من جديد، تفيض نحو المحيط، وأجساد النسوة تنتفض.

– يا ستنا الطاهرة. نجينا من الطوفان.

كأنما هي أنشودة قديمة كانت تغنِّيها البنات في المدرسة، انفرجت شفتاها وبدأت تهمس بالأغنية، لكن الكلمات تجمدت فوق شفتيها، وانشقت الظلمة عن كشافات الضوء، أغمضت عينيها ولم تسمع إلا نباح كلاب، وعجلات من حديد تدق الأرض، اختفت النسوة يخفين شعورهن تحت المناديل السوداء، لم تبقَ إلا المرأة الطويلة التي كانت في الوسط، حوَّطها الرجال وحملوها إلى العربة، صرخة واحدة ثم دب الصمت.

لم تعرف كيف عادت إلى الدار، جفونها كانت ملتصقة، تدعك زواياها بطرف أصبعها، ترى الذرات السوداء كالضباب، ومن حولها يتدفق الشلال، الرائحة النفاذة في أنفها تعيدها إلى الواقع، كل شيء يبدو كالحلم، الحركة الوحيدة المؤكدة هي حركة النفط، حركة غريبة كأنما هي النقيض لأي حركة أخرى.

كان الرجل قد عاد من الحرب بذراع واحدة، في الصباح خرج يملأ البراميل، ذراعه حين تدفعها تبدو رفيعة ناحلة، كأنما فقدت نصف وزنها، تهتز تحت الريح، ترتفع وتهبط في حركة لا نهائية، كمن ينزح الماء من البحر.

– عبث! عبث!

قالها بصوت غير مسموع، وانثنى عنقها تحت الثقل، حركة ذراعه وهو ينزح النفط تشبه حركة عنقها وهي تحمل البرميل، توقفت في مكانها كالحصان الجامح، ثبتت قدميها في الأرض، لكن التوقف بدا مستحيلًا، كان النفط يتدفق وله شكل السائل، يمكن للأجسام الخفيفة أن تطفو عليه، إذا خف جسمها يمكنها السباحة، لكنها لم تتعلم كيف تطفو فوق الماء، قبل أن تنزل البحر كان عليها أن تخلع ملابسها، ولم يكن للنسوة أن يخلعن الملابس.

أغمضت عينيها دون أن تعرف الوقت، نظرت إلى الساعة في يدها وجفونها مغلقة، ثم تذكرت أنه لا يمكن أن تعرف الزمن دون أن تفتح عينيها، شدت جفونها فانفتحت نصف عين، كانت الساعة الخامسة وعشر دقائق، في الأفق شعاع خافت لم تعرف إن كان الفجر أو الغروب.

بدأت في النهوض من الفراش، قبل أن تتحرك أرادت أن تتأكد أن الرجل غارق في النوم، راحت تنقل القدم وراء القدم بلا صوت، انقلب الرجل على الجنب الآخر وغاب في النوم، تأملته طويلًا، متكوِّر حول نفسه مثل الطفل اليتيم، مستسلم للنوم فيما يشبه اليأس، ثنت جذعها إلى الأمام كأنما ستطبع فوق جبينه قبلة وداع. ماذا يقول عنها حين يصحو فلا يجدها؟ ضميرها لا يزال حيًّا أو هكذا تصورت، لن تسبب لها قبلة الوداع أي أذى على أي حال.

فتحت الباب وخرجت، تقدمت بضع خطوات وبدأت الأرض تلين، قدماها تغوصان حتى الركبتين، نجحت في إخراج ساقها اليمنى ثم اليسرى، ثم عادت أدراجها تلهث.

كان الرجل جالسًا مطرقًا فيما يشبه الحزن، امتلأت عيناها بحنان له شكل الدموع.

– حاولت الهرب لكني لا أستطيع الحركة.

ظل الرجل صامتًا لا شيء فيه يتحرك.

– لن أستطيع البقاء هنا!

تصلبت واقفة وصوتها اختنق، اكتسب صمت الرجل وإطراقة رأسه معنًى مخيفًا، هل ارتبط مصيرها بمصيره إلى الأبد؟

كانت الشمس قد ارتفعت في السماء، تلتهب أشعتها بلون أحمر، اشتعلت بعض أطراف البركة بالنار، تصاعد الدخان يحجب السماء وقرص الشمس، رفع رأسه وهو يفرك عينيه.

– هذا الدخان نعمة من الله؛ فهو يخفف الحرارة.

لم يعد صوته يثير في جسدها موجات الغضب، ارتسم فوق وجهها تعبير يائس، كانت واقفة حافية القدمين، رأسها يتدلى فوق صدرها، عظام جسمها تهدلت في استسلام وحزام الحقيقة يتدلى فوق كتفها.

– نعم، المقاومة لا معنى لها.

صوتها متهالك النبرة، تكاد لا تسمعه، ولم يكن للرجل أيضًا أن يسمعها، كان مطرقًا برأسه، وفي إطراقته شيء إنساني، عاطفة ما تربطها به، ليست هي الحب عن يقين.

انزلقت قدمه فجأة وسقط فوق وجهه، ساعدته في النهوض تنفض الغبار عنه، لكنه دفعها بعيدًا، وعضلات وجهه تتقلص.

– لولا وقوفك هكذا ما وقعت.

– قدمك انزلقت.

– ليست قدمي!

– إذا لم تكن قدمك فماذا تكون؟

– أنتِ! وقوفكِ هكذا في طريقي.

كانت واقفة بعيدة عنه، لا يمكن مهما حدث أن تكون سبب وقوعه، لكنه كان عاجزًا عن إدراك آخر، كان يؤمن بهذا المبدأ: إذا أصابه شر فهو من المرأة، وإن أصابه خير فمن نفسه.

لم تفتح فمها بكلمة واحدة، أمسكت رأسها بيديها، عليها أن تتظاهر بأن قدمه لم تنزلق، وأنها السبب في وقوعه، وعليها أن تعتذر عن خطئها وتطلب منه المغفرة.

تكوَّرت عند قدميه، عيناها تتطلعان إليه وهو واقف، كفَّت عن الحركة تمامًا، تظاهرت بالموت لحظة، ثم أفاقت، كان الشلال يتدفق، يُغرق كل شيء، لكن أهل القرية يسيرون في طريقهم كأنما لا يحدث شيء، أصوات باعة الصحف تتصاعد، وهو واقف بلا صوت، الصمت يؤكد أن كل شيء واضح دونما كلام، البرميل أمامها والبركة خلفها ولا شيء آخر.

تهالك جسمها فوق الأرض، ربطت المنديل حول رأسها وأجهشت بالبكاء، انهمرت الدموع تحرق زوايا الجفون الملتهبة، تذوب في الغبار العالق برموشها، تهبط فوق خديها كالخيوط السوداء.

حرَّكت رأسها ناحية الرجل، كان واقفًا في مكانه، خلع قميصه وكشف عن صدره، راح يداعب بأصابعه كتل الشعر الملتصق بعضه البعض، في جسده العاري شيء غير إنساني، لم يكن في مقدورها أن تضع رأسها فوق هذا الصدر، مربع عريض ومغلق كالصندوق، لاحت لها فكرة أن تفتحه بالإزميل، لكن يدها لم تتحرك من مكانها، كانت الفكرة خيالًا يروح في رأسها ويجيء.

مدت يدها لتمسك الإزميل، في تلك اللحظة أصابها ألم حاد في الصدر، كأنما قطعة متجمدة من النفط دخلت مع الهواء إلى الرئة.

أطلقت الصرخة فوثب فوق قدميه، ظل واقفًا مترددًا بعض الشيء متهدل الملامح، لم يكن ثمة أمل في قدرته على إزالة الألم، لكنه كان موجودًا، في وجوده شيء ما، أو في الحركة التي وثب بها فوق قدميه، أو في ملامحه رغم تهدلها، أو نظرة الفزع في عينيه، كان هناك شيء ما يخفف الألم.

استطاعت أن تحرك قدميها نحوه بضع خطوات، يدها فوق صدرها تدوس على الألم، اقتربت منه فلم يعد بينها وبينه إلا خطوة واحدة، لم يسبق في حياتها أن شاهدت وجه رجل بمثل هذا اليأس.

رفعت عينيها إلى السماء، كانت الشمس تغرب، والضوء انطفأ، أتت بحركة انحناء مفاجئة كأنما ستنام، التوى عنقها بزاوية حادة إلى الأمام، أفزعتها الحركة فانتفضت واقفة، أمسكت الحزام الجلدي فوق كتفها وشدته بقوة، انزلقت الحقيبة من فوق كتفها وسقطت إلى الأرض، انطلق الإزميل خارجًا منها بحركة مباغتة.

هبت نسمة هواء طرية، فتحت أزرار ثوبها تتلقى الطراوة فوق بشرتها العارية، كان للهواء ملمس منعش، أعاد إليها شيئًا من سعادتها الطفولية، لم تكن كل طفولتها أحزانًا، كانت هناك بعض لحظات سعادة، حين كانت تجلس فوق الجسر، عند الغروب، رأته ينظر إليها، يركز النظر إلى صدرها العاري، لم يكن بها أي رغبة لإغوائه، كانت تريد الهواء فحسب، يرطب بشرتها الملتهبة، ويجفف العرق.

كان عريها طبيعيًّا تحت وطأة الحر، لكنه ظل يحملق في صدرها كأنما كشفته عمدًا، مدت ذراعها لتغلق الثوب فلم تمتد ذراعها، أغمضت عينيها في إعياء، أجل يمكن لها أن تهرب، ألم تهرب من قبل مرة؟ ألم تصنع ثغرة في الجدار تسلك منها وخرجت في إجازة؟

تلفتت حولها، لم تكن هناك جدران أربعة تحوطها، مجرد مساحات ممدودة من السائل، بركة أو بحيرة أمواجها سوداء، يمكن العثور على قارب، أو تصنع لنفسها مركبًا من الجريد، في طفولتها صنعت سفينة صغيرة من زعف النخيل، وصنعت أيضًا طائرة بجناحين من ورق الشجر.

بدأت تشد جسمها وتنهض، حركت قدميها في الاتجاه الآخر بعيدًا عن الرجل.

ابتعدت بضع خطوات، رأته عن بعد أكثر إنسانية، ينظر إليها بعينين أكثر رقة، عيناها تنجذبان نحوه، يمكنه أن ينادي عليها لو أراد، لكنه صامت، وفي صمته شيء غير مستقيم.

لم تسِر إلا بضع خطوات وعادت، كان الرجل قد دخل إلى الدار، رأته مستلقيًا فوق ظهره يقطر في فمه من الزجاجة، بطرف لسانه مسح قطرة سقطت فوق شفته العليا، تطلَّع حوله كأنما لم يتوقع مجيئها.

– أنت أناني، أليس كذلك؟

– نعم، ولكني أفضل من رجال كثيرين.

– هذا أكيد.

– غدًا سأعطيك نصيبك، حين يصرفون المنحة.

– غدًا لن أكون هنا.

– ماذا تقولين؟

– أرجوك، ساعدني لأعود، فهناك زوجي ينتظرني، قد تساوره الشكوك، وأيضًا رئيسي في العمل لا يقل عن زوجي تشككًا، وقد خرجت في إجازة، وهذا أمر يثير الشكوك، ولكن لم يكن يشغلني شيء، إلا البحث عن الإلهات، ولعلك سمعت عن الإلهة سخمت.

– سخمط؟!

مط شفتيه إلى الأمام، وهو ينطق الكلمة، انقلبت شفته السفلى إلى الخارج، وقلب حرف التاء إلى الطاء.

– ألا تعرف شيئًا عن الحفريات؟

– في عيد صاحب الجلالة يأمرون بالصرف.

– صرف ماذا؟

– الزجاجات.

– لم أعد أريد شيئًا!

– ما المشكلة إذن؟

– لا أفهم لماذا لا تطلق سراحي؟

– سراحك؟

– نعم، فأنا مثلك إنسانة ولي حقوق.

– ماذا؟

– حقوق المرأة! ألا تعرفها؟!

– هذا شيء لم نسمع به، وعندنا قانون حقوق الإنسان فقط.

نكست عينيها، تنهدت بلا صوت، تهاوت ملامحها وتهدلت كتفاها، لم تبذل محاولة للرد، بدا لو كان الكلام بلا معنى.

غاب هو الآخر في صمت طويل، أطرق برأسه كأنَّما يتطلع إلى قدميه، أو ربما سقط في النُّعاس، ثم رفع رأسه، عيناه تنظران إليها.

– لماذا لا تريدين البقاء هنا؟

– ولماذا تريد اللقاء هنا؟

– عملي هنا.

– أتسمي هذه السخرة عملًا؟

– هناك طابور طويل ينتظر بلهفة أن يخلو مكاني.

رفع ذراعه وأشار إلى خط أسود في الأفق، تابعت عيناها حركة أصبعه، كان الخط على شكل قوس منحنٍ، يختفي وراء سحابة قاتمة، تتبدد قليلًا تحت ضوء الشمس، يبدو الخط متحركًا، على شكل نقط سوداء، آلاف النقط، تظهر على شكل رءوس متلاصقة، منحنية إلى أسفل، يسيرون بحركة بطيئة تشبه الزحف، يجرون أقدامهم جرًّا، يتقدمون خطوة وراء خطوة بظهور محنية، رجال لهم شوارب مفتولة، ونساء رءوسهن مربوطة بلا وجوه، تهب العاصفة وسحابة جديدة تظهر، يختفون تمامًا عن الأعين، لا يبدو لهم أثر، إلا ذلك الخط الأسود يتبدَّى في الأفق على شكل القوس.

حركت عينيها ناحية الرجل، أمسك فأسًا وراح يضرب الأرض، يملأ البراميل واحدًا وراء الآخر، ظهره كان ناحيتها، تسللت على أطراف أصابعها، يمكنها أن تبتعد قليلًا وتهرب، ربما تنجح في الهرب قبل أن يستدير إليها.

لمحت الرغيف فوق لوح الخشب، أحست آلام الجوع فجأة، خلعت الحقيبة عن كتفها ومدت ذراعها، قضمت بأسنانها قطعة خبز، تلتها بقضمة ثانية، وثالثة، رآها الرجل وهي تأكل.

– كيف تأكلين طعامي ثم ترفضين الخضوع لطاعتي؟

– أهو طعامك؟

– بالطبع.

– أنا لا آكل من عرقك، أنا أعرق مثلك؟

– مثلي؟

– نعم مثلك، ألا أحمل البراميل كل يوم إلى الشركة؟

– الشركة؟!

رنَّت الكلمة في أذنيها غريبة، كلمة غامضة، الشركة، ما هي؟ مَن هم الشركاء في هذه الشَّركة؟ لمن يبيعون البراميل؟ كم يدفعون لها في اليوم؟ هل يأخذ الرجل أجرها؟ منذ جاءت لم تقبض شيئًا، لم تمسك بين يديها شيئًا من النقود.

غامت الدنيا في عينيها، حركت رأسها ناحية الرجل، بدأ يضرب الأرض بالفأس، ضربة وراء ضربة، حركة ثقيلة بطيئة، ثم يلقي الفأس جانبًا، يتثاءب، يمسح عرقه بكمِّ جلبابه، يملأ القفة حتى الحافة، يرفعها على مهل بحركة متثاقلة، ثم يُفرغها في البرميل، يطقطق البرميل بصوت عالٍ.

– المرأة لا يصح أن تعمل من أجل النقود.

– ولماذا تعمل؟

– من أجل هدف أكبر.

بدا الكلام منطقيًّا، هناك هدف آخر لحياتها، من أجل الهدف الأكبر يمكنها أن تخضع لهدف أصغر، أحست بالارتياح لهذه الفكرة.

رفعت البرميل بذراع واحدة، ووضعته فوق رأسها، الْتَوَت عضلات عنقها تحت الثقل، لكنها عادت واعتدلت، كان النفط المتجمد على قدر كبير من اللزوجة، يرتجُّ داخل بطن البرميل ومن الفوهة يتصاعد شيء كالبخار.

تقدمت في طريقها نحو الشركة، انعكس خيالها فوق سطح البركة، بدت والبرميل فوق رأسها كأنما هي الإلهة حتحور تحمل قرص الشمس بين قرنيها.

شدت عضلات عنقها بما يشبه الكبرياء، من قعر البرميل كانت السخونة تنفذ مثل الشمس، سارت بخطواتها الثابتة لا تأبه لشيء.

بدت الشركة من بعيد كبقعة سوداء في مساحة أكثر سوادًا، قطعة من الأرض مرتفعة في السماء على شكل مدخنة تقذف اللهب، وذرات سوداء تبدو تحت لهيب الشمس حمراء.

ربما وُلدت هنا وليست لديها حياة أخرى، التوى عنقها بحركة مفاجئة وكاد البرميل يسقط، رفعت ذراعها وأمسكته بحركة سريعة.

كانت الشركة تبتعد كلما هي اقتربت، غابت الشمس وبدأ الليل يزحف، أتت بحركة انحناء مفاجئة كأنما ستنام، منذ الطفولة لم تحمل شيئًا فوق رأسها، أرسلتها خالتها إلى المدرسة، كانت تربط المنديل وتلفه حول جبينها ثلاث مرات، وتقسم بالسيدة الطاهرة ألا تحمل بنت أختها شيئًا فوق رأسها.

رفعت البرميل من فوق رأسها وحملته فوق ظهرها، ربما يكون هذا الوضع أفضل؛ إذا تسربت السخونة إلى الظهر فلا شيء هناك إلا العظم، أما سخونة الرأس فهي تذيب العقل.

«ألهذا السبب تحمل الحمير فوق ظهرها وليس فوق رءوسها!»

أدهشتها الفكرة، أصبح ذهنها أكثر نشاطًا، بدت لها الحمير أكثر ذكاءً من النِّسوة، أدركت أيضًا لماذا يرفض الرجال أن يحملوا فوق رءوسهم؟ أزاحت البرميل قليلًا أسفل ظهرها، فأصبح أقل وزنًا، بدأ الهواء المنعش يدخل صدرها ببطء، تحرر رأسها من الثقل، طرأت لها فكرة جديدة، كانت دهشتها تزداد كلما أوغلت في الفكرة، بدأ جسدها يرتعد، موجة من التمرد تغزوها على شكل الرعشة.

مسحت العرق عن جبينها بكفها، أمعنت النظر إلى حياتها، ما الذي يعجزها؟ في طفولتها ماذا أرادت أن تكون؟ تساقط جسدها من الإعياء، كانت تريد أن تكون نبيَّة مثل السيدة الطاهرة، بمقدورها أن تعيد الحركة إلى السيقان الكسيحة، والبصر إلى العيون المريضة.

– امرأة نبية؟! لم نسمع عن هذا من قبل!

– ورثت الجنون عن خالتها.

– ركبها عفريت.

أغمضت عينيها وراحت في النوم، كانت تقاوم اليأس بالسقوط في النوم، يسترد عقلها بعض الحماس، يزحف الأمل إلى جسدها مثل دودة الأرض، نظرت إلى الساعة فوق معصمها، الوقت يمضي وهي راقدة، هبَّت فوق قدميها، مدت ذراعها وقبضت على الإزميل.

كانت الأرض تتغير مع تغيُّر النفط، وكان النفط يتغير مع حركة الشمس والريح، وأنفاسها في صدرها تعلو وتهبط مع ارتفاع درجات الأمل واليأس، واندفاعة الدم من القلب إلى الذراعين، ومن الذراعين إلى الإزميل، ومن الإزميل إلى الأرض، ومن الأرض إلى النِّفط والرِّيح والشَّمس.

بدا كل شيء يدور في توازن عجيب كأنَّما هو ناموس الكون، إذا تغير النفط فكل شيء من حولها يتغير، الأرض والسماء وجسدها أيضًا يتغير، ربما هي قوة للنفط غير معقولة، أو طبيعة أخرى غير مألوفة، فالنفط المتجمد ليس هو النفط السَّائل، وطين النفط الرَّاسب في القاع له قوام آخر، ومقاومة مختلفة تمامًا، وفي بطن الأرض يتغير كل شيء حتى الرُّطوبة، وفي رأسها تدور الفكرة وراء الفكرة، والإزميل يضرب الأرض الضربة وراء الضربة، دون جدوى، لا أثر لشيء وكل شيء ينتهي إلى لا شيء.

حين عادت رأت الرجل راقدًا فوق ظهره وعيناه مفتوحتان وفي يده سيجارة مشتعلة، حرك رأسه قليلًا ناحيتها وسأل: هل قلتِ شيئًا؟ لم تكن تكلمتْ، كانت ترمق الشعلة في يده، ربما كان الحريق هو الخلاص.

– ماذا قلتِ؟

– لا شيء.

قالت «لا شيء» برنَّة خضوع، غرق المكان في الصمت، إذا اشتعلت ذرة واحدة فسوف تلتهم النار كل شيء، لم تجذبها فكرة الموت حرقًا، حركت قدميها ناحية الباب، شدت المقبض بذراعيها الاثنتين لم ينفتح، تشرَّب بالبلولة والتصق بالأرض.

أطفأ الرَّجل السِّيجارة في كعب حذائه، ثم أمسك الصحيفة واختفى وراءها، رأت صورة صاحب الجلالة والمانشيت الكبير.

«بمناسبة العيد أمر جلالته بغسل تمثال النصر.»

أغمضت عينيها، ثم فتحتهما، رأت شيئًا يجري يشبه الثعبان، رفع ذيله حين رآها، كأنما يؤدي التحية، هزت رأسها ترد التحية، نفخ الهواء بصوت مسموع، أدركت أنه يقول شيئًا بلغة أخرى، هزت رأسها علامة الفهم.

تحولت الاهتزازة إلى حركة مباغتة من يدها، وشدت الصحيفة من فوق رأس الرجل.

– لا يمكن لواحد من البشر أن يحتمل هذا، وأنت تتمدد فوق الكرسي تدخن وتقرأ كأنما لا يوجد خلل في العالم!

– أي خلل؟

– هذا الخلل! ألا تراه؟

تابعت عيناه أصبعها وهي تشير إلى أعلى في حركة دائرية.

كان تمثال النصر من حجر السيج، تعلوه طبقة سوداء من غبار النفط، يبدو وجهه قبل الغسيل أسود تطفو عليه بقع الزيت.

ولم يكن لها أن تتخلف عن حضور الاحتفال، صدر الأمر مكتوبًا على الآلة، ومختومًا بالصقر، على النسوة أن يقمن بالغسيل، وعلى الرجال الوقوف في صفوف منتظمة، وأداء التحية.

لم تعرف كم من الزمن مضى وهي تغسل، بدا لها التمثال طيعًا تحت يديها، أنفاسها كانت تتلاحق مع حركة ذراعيها، والخفقات تحت ضلوعها، ودقات الساعة فوق معصمها، بدت حركة الغسيل لا نهائية أو ربما حركة لا إرادية، أو محاولة للهروب من حركة أخرى.

بعد الغسيل أصبح الوجه أبيض اللون، كوجه صاحب الجلالة، مملوءًا باللحم، وصدره عريض، يعلوه نهدان بارزان كصدر الإله إخناتون.

استمرَّت حملقتها في التمثال طويلًا، هبَّت ريح من الجنوب ملأت عينيها بذرات النفط، اشتد الألم كالحرق فأغلقت جفونها، من ورائها سمعت الصوت، ويد الرجل تكاد تلمسها.

فتحت عينيها نصف فتحة، لم يكن هو الرجل، رأت امرأة واقفة، تحمل فوق رأسها الكرة الأرضية أو قرص الشمس، لها قرنان طويلان يلتويان إلى الأمام، الضوء كان خافتًا، أو ربما هو التهاب العينين أضعف بصرها، لم ترَ وجه المرأة، ولم تتأكد مما تحمله فوق رأسها.

لم يعد عقلها قادرًا على التمييز، كل شيء اختلط داخل رأسها مع اشتداد الحرارة، ارتفع قرص الشمس في السماء، وازدادت حركة الريح مع تدفق السائل الأسود، هبط العرق على شكل قطرات من أنفها، لم يكن لذراعها أن ترتفع لتمسح العرق، تركته يتساقط مع دموعها ويفيض، ربما كان قرص الشمس هو العدو، اشتغل عقلها من جديد وهي تفترش الأرض لكن صوت المرأة قطع عليها التفكير.

– قومي يا أختي استحمي، كل عيد وأنت طيبة.

تقلبت في موضعها تتأملها، جلبابها أسود طويل، لها ملامح خالتها، عنقها يلتوي تحت الثقل، إلى جوارها طشت الغسيل، أمسكت قطعة حجر وراحت تدعك قدمها المشققة، تزيل عنها الطبقة السوداء، تصقلها بقوة كأنما هي قدم تمثال النصر، أحدث الدعك في رأسها خدرًا لذيذًا، لم تعرف ما علاقة القدم بالرأس.

لولا ضربة الشمس كان يمكنها الاستمتاع أكثر بعملية الغسل، ولولا أيضًا بعض الحياء، فهي امرأة غريبة عنها وليست خالتها، وهي تخلع ملابسها كلها، كان العري مفزعًا، لم يحدث قط أن تعرت أمام امرأة أو رجل، على الأخصِّ زوجها، كانت في نظره طاهرة كالعذراء مريم، ورئيسها في العمل كان يسميها الست الطاهرة، حتى دخل فجأة في حملة تفتيشية.

– أين المنشور؟

– ماذا؟

– المنشور الذي أخفيته.

– لم أُخفِ شيئًا.

– رأيته معك بخط يدك ضد صاحب الجلالة.

– لم أكتب شيئًا.

– ارفعي ذراعيك!

رفعت ذراعيها إلى أعلى، أحست أصابعه تفتش بين نهديها، وتهبط إلى أسفل حيث المنطقة المحرمة.

– هذا انتهاك لحرمة الجسد!

حين ثابت إلى وعيها كانت تصيح: أين حقوق الإنسان؟ رأت نفسها راقدة في الفراش، من حولها النسوة حاملات البراميل، فوق عيونهن سحابة، طبقة داكنة من النفط تحجب النني، وكان هناك أمر من صاحب الجلالة: «أي امرأة تُضبط وفي حوزتها ورقة وقلم تُقدَّم للمحاكمة.»

كلما نظرت في عيونهن اشتدت وطأة الألم، اختفت الواحدة وراء الأخرى، بدأت واحدة منهن وتبعتها الأخريات، سمعت أصواتهن عبر الجدار، يلهثن بصوت متقطع، طقطقت فقرات أعناقهن تحت البراميل، وقد أقدامهن فوق الأرض مكتوم، تحمله الريح إلى بطن الجسر حيث بيوت القرية، نباح الكلاب يأتي من بعيد، والسؤال يدور في رأسها: هل تهرب وحدها أم تكشف لهن الخطة؟

•••

لم تكن الخطة مكشوفة بعدُ، وكتب رئيسها في العمل تقريرًا سرِّيًّا، كانت التقارير عنها لا تُكتب إلا في السر، امرأة أخرى احتلت مكانها في القسم، تراها جالسة في مكتبها تحملق حولها في فضول، لن تكف عن الحملقة حتى تعرف السر، تفتح أدراجها تفتش الأوراق، تقبض بأصابعها على رسالة حب قديمة، أبيات من الشعر تقرؤها، بين كل بيت وبيت ترتفع أنفاسها في تنهيدة طويلة، في الملف السري تعثر على تاريخ ميلادها، صورة خالتها من حول رأسها المنديل، تتوقف عيناها فوق البيت، غرفة بلا دورة مياه في الزقاق، يدفعها الفضول إلى النظر من شق الباب، ترى الغرفة راقدة في الظلمة عارية من الأثاث، بحركة جانبية من عينها تلمح زوجها جالسًا يقرا الصحيفة، يحرك رأسه قليلًا فترى أنفه من الجانب، كبير ومقوس يشبه أنف صاحب الجلالة، لكن صورته غير منشورة واسمه مجهول، جالس بلا حراك صامت تمامًا، يشي الصمت بغيابها، تمتلئ نفسها بالحسد لأنها استطاعت أن تهرب، كيف هربت؟ خرجت في إجازة ولم تعد؟ تكتم السر في قلبها ثم ينفجر رغمًا عنها، تنتشر الإشاعة في قسم الحفريات، يتهامس الزملاء والزميلات وتطفو فوق عيونهم نظرة تنم عن الغيرة.

لم تكن الغيرة أمرًا مضادًا للعقل، كانت طبيعية تمامًا في عيون الموظفين، فليس هناك إنسان أشد غيرة من الموظف، خاصة في قسم الحفريات، يرى النَّاس من حوله تتحرك وهو حبيس مكتب من الخشب، يتحدث النَّاس عن المستقبل وهو يعيش في الماضي مع الحفريات، والحياة تمضي في طريقها بدونه، لا يتغير شيء في الكون إن عاش أو مات، ليس أمامه إلا النعاس وهو يقرأ الصحيفة، أو البحث عن الآلهة في بطن الأرض، نوع من العشق الإلهي، يقوده إلى الحنين للموت، أو الخروج في إجازة.

•••

– هل حدث بينكما شجار؟

– أبدًا.

رد زوجها على السؤال في غرفة التحقيقات، أدار رجل البوليس جسمه مع الكرسي.

– أتظن أنها انتحرت؟

– أبدًا.

– ألم تكن تحنُّ للموت؟

– أبدًا.

– كيف تفسر اختفاءها إذن؟

– لا شيء.

– لا شيء؟

– نعم لا شيء!

مط زوجها شفتيه وهو يقول لا شيء، تثاءب حتى طقطقت عظام فكيه، حرك وجهه ناحية الصحفيين، انطلق شعاع الفلاش وحرق سطح عينيه، ظهرت صورته في الصفحة الداخلية، فكُّه مربع والوجه مستطيل أكثر من اللازم، لا علامات مميزة إلا شامة سوداء فوق خده الأيسر، من بين شفتيه المطبقتين أفلتت الابتسامة، في خياله منذ الطفولة كان يرى صورته إلى جوار صاحب الجلالة، ترفع أمه ذراعيها إلى السماء، تدعو السيدة الطاهرة أن يصبح ابنها مثل الملك. «لمَ لا يا ستنا الطاهرة؟ ألم تلده بطن مثل البطن التي ولدت الملك؟»

كان لهاث النسوة قد اختفى مع خيالهن الأسود، نباح الكلاب من بعيد بدأ، لم تكن الكلاب تنبح دونما سبب، أتُدبِّر هؤلاء النسوة حركة ما؟ في عيونهن تحت السحابات نظرة متمردة، عمل مضاد في حالة كمون دائم.

فتحت عينيها فأحست حرقة الشمس، كانت تهذي بالحمى، وكلمة العمل المضاد ترسم من حولها ستائر من الوهم، ترى نفسها متربعة كالبرميل فوق رءوس النسوة، يسرن بها في أزقَّة القرية، تطل عليهن العيون من فوق الأسطح، يخبطن الأرض بأقدامهن، وتهتز صورة صاحب الجلالة فوق العمود، ثم تسقط تحت الأقدام تدوسها.

دعكت عينها بطرف أصبعها، الألم حارق، وهي ممدودة فوق الأرض، منهوكة القوى، طارت ذبابة ووقفت فوق أنفها، راحت تأكل قطعة متسلخة من الجلد، رفعت ذراعها لتهشها، لكن الذبابة بقيت في مكانها، في يدها الأخرى كان الإزميل راقدًا، بلا حراك، ترامى من بعيد صوت نباح، وأطفال يتقاذفون بالحجارة، ورجال يتشابكون بالأيدي، والنفط يتدفق بلا اتجاه، وألوان السماء تغيب في الظلمة.

– جهزي العشاء!

صوت الرجل يخرق أذنيها، نبرة آمرة، طبيعية تمامًا حين يخاطب الرجل زوجته، خادمة غير مدفوعة الأجر، أيكون هو زوجها؟ لا تعلم تمامًا متى تزوجها، ربما أقدم على الزواج منها في غيابها وحرر العقد دون حضورها، لم تكن المرأة تحضر عقد زواجها على أي حال، وكل شيء يمكن أن يتم دون الحاجة إلى وجودها.

تقلصت عضلات أصابعها حول الإزميل، شحنة مفاجئة من الغضب، دفعت الدم في العضل، رفعت ذراعها وضربت بطن الأرض، ارتطم رأس الإزميل بشيء صلب، تمثال من البرونز، أو حجر السيج، لونه أقل عتامة كالزجاج البركاني.

ارتعدت أصابعها وهي تشده إلى الخارج، لامست أطراف أناملها سطحه الناعم، تحسست العنق والصدر، ارتطمت يدها بالنهدين البارزين، أطلقت صيحة وفتحت عينيها، كانت هي الإلهة حتحور، عارية الثديين، تمسك نهديها بكفيها في وضع عطاء كامل، ممسكة بزوج من الأفاعي.

كادت تمسكها لولا أن تدفقت كثبان النفط وأغرقت كل شيء، أيكون هو طوفان نوح؟ في كتاب الحفريات قرأت عن الطوفان، سنين القحط والجفاف، وزحف الجبل والصحراء، كانت الأرض مقبلة على العصر الجليدي، وحدث خلل في التوازن الحيوي للغلاف الجوي، وانقلب نظام الحكم بعد مقتل الإلهة الأم.

– جهزي الأكل، أنا جعان!

لم تسمع هذه المرة، كان صوت النفط المتدفق يغطي على كل شيء، تراخت أصابعها حول الإزميل وسقط، كاد التيار يجرفه لولا أن مدت جذعها وأطلت برأسها حتى الحافة، تشبه دوامة البحر، تدور حول نفسها بسرعة دورات الأرض، يتصاعد منها الدخان كأنما هي تغلي، ارتدَّت طفلة تصرخ: يا أماه!

ارتجَّ جسدها مع الكلمة، أماه؟ لأول مرة تنطق الاسم بوضوح، منذ وُلدت لم يحدث أن نادت على أمها، ربما لأنها ماتت وهي تلدها، أو لأنها لم تكن تعرف النطق بعد.

حين هدأت العاصفة تمددت في استرخاء، أنفاسها تلهث وعيناها مغلقتان، عادت إليها صورة الطوفان القديم، كان الخوف من الغرق يملأ قلوب النَّاس، وفي قمة الخوف يلهجون مثلها باسم الأم، خالتها حين كانت تخاف تصرخ: «يا امه»، بدلًا من «يا أماه!» تبصق في فتحة جلبابها، الأزقة كانت ضيقة مسدودة بأكوام السباخ، البيوت طينية لا يظهر منها إلا ذؤابات ضوء، ترسم الظلال كالأشباح، ليل القرية كان مخيفًا، ليل مسكون يلائم الشيطان تمامًا ليتجول فيه، كانت خالتها تمشي في بطن الجسر حين رأته تلك الليلة، كان هو الشيطان بلحمه ودمه متجسدًا على شكل البشر، وقال النَّاس: الطوفان من الشيطان. وراحوا ينادون على الإلهة الأم لتنقذهم: يا أمنا الحبيبة، أين أنت؟

– أهو الشيطان الذي أخفاك؟

– وضع غلالة سميكة فوق وجهك؟

– شوه صورتك وغيَّر اسمك؟

كانت نائمة حين قرأت الأغنية في الكتاب، صوت غنائهم يسري في أذنيها من تحت الوسادة، ينقطع الغناء فجأة، ويدوي صوت زوجها.

– أنا جعان! ألا تسمعين؟!

لم تغير وضع جسمها الممدود فوق الحافة، صوته الغاضب كان يأتي من بعيد، كأنما من قاع البئر، لا تكاد تسمعه بأذنيها، لا يلامس منها إلا حافة الوعي، انقلبت على جنبها الآخر لتخفف من حدة الشمس، صوته رغم الغضب يشبه صوت طفل رضيع، ألم تفطمه أمه بعد؟ قبل أن تفطمها خالتها كانت تمسك بفكيها حلمة الثدي، كانت الدنيا ليلًا، والحرارة انخفضت بعد غياب الشمس، وصوت الطوفان كأمواج البحر.

– أنا جعان.

صوته أصبح مملوءًا بالرقة، كان الجوع يهذب من طبيعة الرجال، يكشف عن الإنسان تحت القشرة الخشنة، وامتلأ قلبها بالشفقة كالأم، دخلت المطبخ وأشعلت الموقد، ضغطت على المسدس فانطلقت الشرارة، ضحكت كما كانت تفعل وهي طفلة، سخنت له الحساء في وعاء من الألومنيوم، قشرت البطاطس ورءوس البصل قطعتها بالسكين، تصاعد البخار من الوعاء، وتساقطت ذرات النفط من السقف، صنعت طبقة معتمة فوق سطح الحساء، راحت تنزعها بيد المغرفة، لكنها كانت تعود وتسقط فتنزعها فتعود، إلى أن نجحت في نزعها تمامًا، إلا ذرات قليلة سوداء ظلت طافية فوق السطح كالذباب الميت.

كان يرشف الحساء بصوت مسموع يشبه الأنابيب وهي تشفط النفط، بين كل رشفة يزمجر بصوت يشبه قرقعة الريح، ويدب الصمت بعد أن ينتهي من الأكل، يغمض عينيه دون أن يخلع بدلة الشركة، لونها أزرق تعلوها بقع النفط كالزيت، تفوح منها رائحة الجاز المخزون في بطن الأرض، يبدو وهو نائم كطفلتها التي ولدتها في حياتها السابقة ثم ماتت، حين يصحو من النوم تخلع عنه ملابسه، تدعك جسمه بقطعة من الحجر، ثم تنشفه بسروالها القديم، تلوي المنشفة بين يديها حتى تصبح مثل حزمة من سلك الألومنيوم، تنشفه بقوة كأنما هو قاع الصحن، من بعيد يترامى نباح الكلاب، ولهاث النسوة، في إيقاع منتظم يشبه اللحن، تهز رأسها بالإيقاع ذاته، مع حركة ذراعيها وأنفاسها المتصاعدة، والدقات تحت ضلوعها، ثم تصبح الحركة بطيئة، رتيبة متكررة تجلب لها النعاس وهي واقفة.

تثاءب بصوت عالٍ، رأته يدخن وهو جالس وراء الصحيفة، ينفث الدخان من بين شفتيه ويغيب في اللذة.

– نفس أرجوك!

– ماذا تقولين؟!

– نفس واحد من السيجارة!

– النسوة لا تدخن بأمر صاحب الجلالة.

أطبقت شفتيها ولم ترد، كانت قد أطعمته وحممته، جعلت منه طفلتها الغائبة، مسحت عنه الألم، أليس من حقها أن تغيب في اللذة مثله؟

حين ناولها البرميل لتحمله أرادت أن تقلبه فوق رأسه، لكنها تراجعت، يمكنها الخضوع اليوم من أجل هدف أكبر في الغد، لا يمكن أن تخسر كل شيء من أجل نفس واحد.

كان الدخان يتسرب من فتحتَي أنفه، تتسع الفتحتان وتهتز شعيراتهما من شدة اللذة، جذبت نفسًا عميقًا من الهواء، شهيق عميق مرة ومرتين، تسرب بعض الدخان إلى صدرها، نفثته من فمها وأنفها، أجل، إذا لم يكن في الحياة لذة فمن حقها أن تنفث الدخان في الهواء، قد يتسرب الغضب مع الدخان خارج جسمها، وتبدو الدنيا أقل كآبة، أو ربما يصعد الدخان إلى رأسها فتعثر على فكرة عبقرية تخلصها من حياتها.

كانت ترى صور العباقرة في الكتاب، تحوط رءوسهم سحب الدخان، يميل الواحد منهم برأسه إلى ناحية، يسند ذقنه بيده، عيناه نصف مفتوحتين شاخصتان إلى أعلى، ثابتتان فوق اللاشيء، والدخان يتصاعد من فتحتي أنفه المتسعتين، وفي الكتاب أيضًا كانت ترى صورة الأنبياء، ولا يمكن للواحد منهم أن يرى الإله إلا من وراء سحابة دخان.

جذبت نفسًا آخر أكثر عمقًا، امتلأ رأسها بالدخان، بدا عقلها ينبض تحت العظام، والفكرة تولد بحركة محسوسة، حوطت رأسها بيديها تخشى عليها الإفلات، قد تتسرب الفكرة من الثقوب التي تفتح على الأذنين أو العينين أو الأنف، راحت تضغط بيديها على عظام رأسها، لم يكن في مقدورها أن تستمر على هذا الوضع فسقطت ذراعاها إلى جوار جسمها.

– أتنامين وأنت واقفة؟

تمطت وتثاءبت بصوت يشبه مأمأة الماعز، سمعت بأذنيها الصوت كصفير الريح، كانت العاصفة تهدر والذرات السوداء تزحف من تحت ملابسها، تغزو فتحات الجسم، أغمضت عينيها تمامًا وذابت اليقظة في حلم غريب، رأت نفسها تمتطي صهوة الإزميل كأنه حصان، يجري بها عبر مدينة مجهولة، مبانيها عالية، أطراف المباني تشق السحب، شوارعها ضيقة لا تكاد تسمح بمرورها، يطير بها الإزميل في الجو بلا أجنحة، يحلق فوق الأسطح وهي تهز رجليها كأنما تركب المرجيحة، عيون النسوة ترمقها بإعجاب مملوء بالحسد، أيديهن ترتفع في الهواء تصفق، ثم تشدها الأيادي إلى أسفل بأمل إسقاطها، تهز رجليها بقوة ليرتفع بها الحصان، الذي لم يعد حصانًا، وإنما عصا من الجريد، تركبه كما يفعل أطفال القرية.

تشدها الأيادي فتسقط، يتهاوى جسمها ويغرق في الضباب، ثم ترى نفسها تمشي فوق الأسفلت، يذوب تحت قدميها من شدة الحر، تعلق بكعب حذائها قطعة من القطران لها رائحة النفط، تسرع الخطى وهي تلهث، وتدخل في بناية سوداء، بلا نوافذ ولا أبواب، إلا الأعمدة الحديدية، والرائحة خانقة، الإزميل داخل حقيبتها، والحزام فوق كتفها تشد عليه، قدماها تصعدان السلالم، توشك على الانزلاق، تستعيد توازنها دون أن تمسك شيئًا، لم يكن هناك درابزين، والسلَّم حلزوني ضيق، لا يسمح بمرور جسمها، تندفع داخل باب صغير ينفتح فجأة، فإذا بها داخل الغرفة العارية من الأثاث، إلا مقعد يدور حول نفسه، ومنضدة يتحلق حولها عدد من الرجال، لا يظهر منهم إلا النتوءات البارزة في عظام الوجه، الجبهة، الخدان، الفكان، عظمة الأنف، والذقن.

لم يرفعوا رءوسهم حين دخلت، عاكفون في استغراق فوق كتاب، يقلبون أوراقه بأصابعَ مفاصلها بارزة، يبدءون من الغلاف حتى الصفحة الأخيرة، ثم يبدءون من جديد.

– أهذا هو اسمك؟

الصوت يشبه زوجها، لكن الغليون الأسود في الفم يؤكد أنه رئيسها في العمل، دار حول نفسه وهو جالس في المقعد، أصبح أمامها مباشرة، رأت وجهه وأدركت أنه المحقق في البوليس، دب الصمت، سمعت قرقعة الأوراق، وسحب الدخان تتصاعد إلى السقف، أصبعه يشير إلى الاسم فوق غلاف الكتاب.

– إنه اسمك أليس كذلك؟

– نعم.

– والكتاب؟!

– عن الإلهات.

– أليس ذلك تجديفًا في حق الآلهة.

أرادت أن ترفع يدها وتسأل، ما هو التجديف، وأين المجداف، لكن الضباب أعاقها عن الرؤية، وسمعت ضجة مفرقعة صادرة عن أوراق تتكسر، ملأت أنفها رائحة دخان، كان الورق يحترق، طارت شرارة من فوهة الغليون المشتعل، امتد الحريق إلى براميل النفط، انفجر الواحد وراء الآخر وارتفعت ألسنة النيران في السماء.

حين فتحت عينيها كان أنفها مملوءًا بالدخان، الرجل جالس في مكانه يحدق فيها، تصور أنها سرقت سيجارة من جيبه وهو نائم، قبل أن ينام كان يعد السجائر، والقروش في جيبه الداخلي، والزجاجة يخبئها في مكان لا تعرفه، لكن الدخان كان يُغرق المكان، يزحف فوق بيوت القرية كالشبورة السوداء.

خرجت الصحف تعلن أن الحريق تم بفعل الشيطان، رفع أهل القرية أذرعهم نحو السماء، يرجمون الشيطان بالحجارة، ارتفعت أصواتهم كهدير الرياح، لكن السماء لم تسمع دعاءهم، كان الشيطان يتمشى فوق الجسر، ترمقه عيون النساء من وراء الشيش، تنتفض أجسادهن داخل الجلاليب السود، يربطن رءوسهن بالمناديل، تشد الواحدة منهن المنديل، وتلفه ثلاث مرات، تعقده فوق جبينها على شكل رأس الثعبان، تدور حول نفسها وتضرب الأرض بقدميها: «يا ستنا الطاهرة!» ترتفع أصوات النسوة، ودقات الطبول، وصياح الأطفال، وقرقعة العصا في أيدي الرجال، ونقيق الضفدع في البركة، ونباح الكلاب تجري هنا وهناك، والغبار يتصاعد في السماء، ويمتلئ الكون بضباب أسود، يزحف متدفقًا كالشلال، لا هو بالسائل ولا هو بالدخان، ولا يمكن الإمساك به بين أصابع اليد.

– أين أخفيت الزجاجة؟

قالتها وهي تصحو فجأة من النوم، حلقها تشقق من الظمأ، والسخونة في جوفها كالحريق، كان الرجل راقدًا وجهه للحائط، دست يدها تحت رأسه، لم يكن هناك إلا عقب سيجارة محترق، تسللت على أطراف أصابعها، فتحت الباب وخرجت، لكن الهواء لم يعد له ملمس الهواء، يدها حين تمتد أمامها تصطدم بشيء صلب، تراجعت إلى الوراء خطوة وراء خطوة، حتى دخلت بظهرها من الباب، حركة لم يألفها جسمها منذ الطفولة، كانت تمشي إلى الأمام ووجهها إلى الخلف، أو تخرج من الباب بظهرها، في تلك اللحظة تكون خالتها واقفة أمامها، تحدق فيها بعينين يرتعش لهما البدن، لم تكن فعلت شيئًا سوى أن سألتها: هل صحيح يا خالتي الشيطان يتمشى فوق الجسر؟ فانقلبت عيناها إلى الداخل ثم إلى الخارج، كانت العاصفة في أوجها، والمطر يهطل وانطفأت كل الأضواء، ولم تعد تسمع إلا صفير الريح، وصوت خالتها يدوي في ظلمة الليل: «ما شيطان إلا بني آدم.»

قبل الفجر سمعت الكلاب تنبح، وقرقعة العجلات مع صفير الريح، هجم الرجال على خالتها وحملوها إلى العربة، قفزت خلفهم تجري، تمد ذراعها عن آخره لتمسك يدها، قدماها تغوصان في البركة حتى الركبتين، العجلات تشق المياه السوداء وتختفي في الظلمة، الكلاب تسبح من خلفها، لا يظهر منها إلا رءوس سوداء مستطيلة مثل سرب من الضفادع، وهي تغوص في البركة، تمتلئ أذناها بطين أسود وأصوات تأتي من بطن الأرض.

– امرأة لا تؤمن بوجود الشيطان؟!

– إنها مجنونة يا صاحب الجلالة.

– بل كافرة!

– نعم يا صاحب الجلالة، والكفر والجنون شيء واحد.

كانت قد غاصت تمامًا، ولم يظهر منها في ضوء الشفق إلا ذراع ممدودة عن آخرها، وأصابعها الخمسة متقلصة، تقبض على قطعة من الطين المتجمد.

امتدت إليها الأذرع تشدها إلى الخارج، كأنما يشدونها خارج الرحم.

وجوه النسوة من حولها سمراء مليئة بالتجاعيد، اندفع الهواء إلى صدرها بصوت حاد كالصرخة وفتحت جفونها الملتصقة، رأت الرجل راقدًا مغمض العينين، ذراعه تنزف الدم، وهي إلى جواره عارية الجسد، والدم لونه أسود، يتجمد في أجزائه، وتظل أجزاء أخرى ما بين السيولة والصلابة، وهي تمد ذراعها لتمسك بالدرابزين، رائحة في أنفها غريبة، تشبه الجاز المتعفن.

– جهزي الشاي.

سمعت صوته وهو يشد سرواله إلى أعلى، كان نصفه الأعلى عاريًا، يجلس أمام عتبة البيت، من حوله أربعة من الرجال، عاكفين في استغراق حول لعبة ما، أوراق سميكة مربعة، كان هو جالس في الوسط يوزع عليهم الأوراق، جسده يرتخي فوق المقعد، والصدارة تلائم جسده تمامًا، تتسق مع ملامحه، أصابعه يضمها بالأوراق ويفردها ثم يضمها، وعيون الآخرين تنظر إلى يده متلهفة.

– الشاي!

في صوته لهجة الأمر، كأنما هو زوجها، وهي تنظر إليه من خلال غشاوة، ربما استبدلوا زوجها برجل آخر، انبعثت خشخشة صادرة عن حركة توزيع الورق، وجوه الرجال مشدودة، عيونهم ثابتة فوق الورق، داخل كل عين يدور «النني» حول نفسه، لا بد أنهم خمسة وليسوا أربعة، كان رأس خامسهم يختفي وراء الصحيفة، أيكون هو زوجها؟ ساقاه ممدودتان أمامه، قدماه كبيرتان، وأصابعه متلاصقة، بين الأصبع والأصبع غشاء أسود.

كانت الشمس قد بدأت في الهبوط، سقط الضوء الشاحب على الصفحة الأولى، ذرات سوداء تسبح في الشعاع المائل، أعلى الصفحة قرأت التاريخ، الثلاثاء الموافق السادس عشر، نظرت في الساعة، الثانية، وعقرب الثواني يتحرك، لا بد أن الزمن يمر كالمعتاد، وقرأت المانشيت الكبير.

– صاحب الجلالة يعلن الحرب على الشيطان.

أوراق اللعب لم تكن هي الكوتشينة، وإنما هي شيء يشبه الشطرنج، أجسام العساكر مصنوعة من الخشب، واقفة في مكانها عاجزة عن الحركة، أصابع كبيرة تلتف حولها، وتحركها من مكان إلى مكان.

– كش ملك!

ليس صوت زوجها بالتأكيد، لم يعد يطلب الشاي، استغرق في اللعب، يبدو أن الملك لا يريد أن يكش، ارتفع الصوت مرددًا: كش! بدأت النبرة يعلوها الغضب، والأصوات تختلط بعضها ببعض.

– هذه قواعد اللعبة يا أخي.

– أنت تغش.

– أنا أكثر أمانة منك.

– أنت جاهل.

– أنت حمار.

تركوا الملك واشتبكوا في معركة بالأيدي، ارتفع الغبار في الجو، وانتشر رذاذ لعابهم من حولهم، وأنفاسهم تلهث، لم يفطن أحدهم إلى الصحيفة، دحرجتها الريح، تقلب الصفحة وراء الصفحة، وفجأة رأت صورة تشبهها.

«امرأة خرجت في إجازة ولم تعد، مطلوب العثور عليها حية أو ميتة، ممنوع إيواؤها أو التستُّر عليها.»

لم يكن لها هذا الأنف في الصورة، أيكون هو أنف امرأة أخرى خرجت في إجازة؟ كان رئيسها في العمل يقول إن أنفها روماني، تصورت الأمر أنه نوع من الهجاء. كان الرومان في نظرها من آكلي اللحوم.

في الصفحة نفسها رأت صورة المحقق، كان جالسًا فوق الكرسي يدور به حول نفسه ثم يتوقف، فيصبح ظهره للحائط ووجهه ناحية زوجها.

– أهذه صورة زوجتك؟

– نعم.

– متأكد؟

– نعم متأكد.

– مائة في المائة؟

– ليس هناك ما هو مائة في المائة.

– أنت غير متأكد إذن؟

– نعم، لا.

– ماذا تعني بنعم، لا؟ أهذه إجابة؟

– ماذا تكون الإجابة؟

– إما نعم، وإما لا.

– إذن نعم.

– أنت غير متأكد إذن؟

– نعم.

– مائة في المائة.

– لا.

ضرب رجل البوليس الأرض بقدميه، فإذا الكرسي يدور حول نفسه دون توقف، انتهز زوجها الفرصة، فأخفى وجهه وراء الصحيفة، حين توقف الكرسي أصبح وجه المحقق ناحية الحائط، راح يدق بأصابعه على الآلة الكاتبة، ثم استدار، كان رئيسها في العمل جالسًا، والغليون الأسود بين شفتيه، يهتز والدخان يتصاعد.

– لم أكن أتغزَّل في أنفها، فأنا لست من المعجبين بالأنوف الرومانية، وأفضِّل عليها الأنوف الوطنية من النوع الأفطس.

– ماذا تقول؟

– كانت امرأة مطيعة تمامًا ولا شيء فيها يثير الشهية.

كان المحقق يدور بالكرسي حول نفسه، وعاصفة من الهواء تقلب الأوراق، لم يكن هناك دليل على شيء، والصحيفة مفتوحة أمام عينيها، صورتها تظهر وتختفي مع حركة الريح، وأخبار المفقودين من النَّاس أسفل الصفحة، كان اختفاء النَّاس أمرًا طبيعيًّا، وهناك قانون للمفقودين من الرجال، على المرأة أن تنتظر زوجها المفقود سبع سنوات، ولا تذهب لرجل آخر، فالجنين يبقى في الرحم حيًّا سبع سنين، وهو ملك الرجل المفقود حتى يعود، والمرأة ليست إلا وعاء، المفقودات من النساء لم يكن لهن قانون، ليس على المرأة أن تصبح مفقودة ليذهب زوجها لامرأة أخرى.

أغمضت عينيها في مواجهة الريح، شعاع الشمس مثل لسان اللهب، كانت الفكرة تدور في رأسها مؤلمة كالمسمار، إذا كان التحقيق مستمرًّا فلا بد أن هناك حملات تفتيش، وهناك من يتعقب خُطاها، ربما هناك كلاب من النوع الجيد، ذلك النوع المستورد الذي يميز رائحة البشر، يدربونها على التقاط الرائحة من المسافات البعيدة، ورؤية النجوم وقت الظهيرة، والدق على الآلة الكاتبة، واستخدام الأدوات الحديثة، وهي لا تعرف شيئًا عن الحداثة، كل ما تعرفه ينتمي إلى الماضي والحفريات، لن تحميها الإلهة حتحور أو سخمت من أي كلب مدرب، لكن في أعماقها شيء غامض، ربما كان الأمر عائدًا إلى ذلك الرجل الآخر، أيكون هو الذي أرسل البلاغات عنها إلى البوليس؟ أو ربما هو رئيسها في العمل، لقد لمح بطرف خفي إلى شكل أنفها، وهذه دعوة صريحة لما هو أكثر من الأنف.

أفاقت على صوت الشخير المنتظم، كان الرجل يغط في نومه فوق عتبة الباب، راح يتنفس بصوت عالٍ كعادته، ينفخ الهواء وشفتاه تهتزان، راقدًا فوق ظهره، واضعًا ساقه اليمنى فوق اليسرى، يهز قدمه في الهواء، ارتفعت الشمس في كبد السماء، وصلت الحرارة إلى درجة حطمت فيها كل شيء، حتى تلك الغلالة الباقية من الحياء، رأته ينزع عن جسمه السروال أيضًا، أصبح عاريًا كما ولدته أمه، لكن الحياء سرعان ما عاوده مع انخفاض الشمس، فارتدى السروال على حين ظل نصفه الأعلى عاريًا.

لم تكن عيناها تتابعان حركة الشمس، كانت تُثبِّت نظرتها فوق الصورة في الصحيفة، تحت الأنف الروماني كان فمها مطبقًا مزمومًا، زاوية كل عين ملتهبة، واسمها الثلاثي غائب، ليس هناك أي تقرير من البوليس، ربما كف الرجل عن إرسال البلاغات.

أشاعت الطمأنينة في جسدها نوعًا من النشاط، نهضت من مكانها وداست فوق النفط المتجمد، لم تكن ترتدي إلا السروال الواسع، منتفخ إلى حد كبير، وجذعها عارٍ تمامًا، كان الهواء رغم انعدامه يتخلل بشكل ما إلى تحت الإبط، رفعت ذراعيها إلى أعلى تستشعر بعض الارتياح، تراكم النفط حول خصرها حيث أحكمت ربط الحزام، أرادت أن تهرش زاوية كل عين، حين تذكرت فجأة أن الظمأ يحرق جوفها.

استدارت لتبحث عن الزجاجة، وفي الاستدارة أصبحت الشمس في عينيها تمامًا، لم تستطع أن تخطو نحو البيت، بدا الكون من حولها مشتعلًا بنار حمراء، ولا أثر للرجل، كان ذلك أمر طبيعي فهو يختفي حين يشاء، ويعود متى يشاء، وقد يغيب سبع سنين، وعليها أن تنتظره بحكم القانون.

بدا غياب الرجل عاديًّا، مع طوفان النفط، يمكن لأي شيء أن يغيب في غمضة عين، خارج العتبة مباشرة كان الشلال يتدفق كأنما العاصفة تبدأ من جديد.

حين رفعت قدمها لتجتاز العتبة رأت الإزميل راقدًا، من حول رأسه حزام الحقيبة ملفوفًا على شكل عقدة، تدفق في جسدها إحساس بالألفة، كأنما هي ترى الرجل الغائب، وقد عاد متنكرًا على هيئة الإزميل.

ربما كان ثمة شيء قد حدث، أصبح للإزميل الحديدي وجود إنساني، بدد الوحشة، وامتدت يدها إليه، تُربِّت عليها فوق صدرها، كالأم تعثر على طفلها المفقود، وكأنما الإزميل كان يتحرك وحده، فانزلق إلى الأرض، يحفر فيها برأسه المدببة الصغيرة، بإصرار عجيب، راح يحفر بإصرار وعناد، كأنما هو طفل يبحث عن أمه، ويدرك عن يقين أنها هناك، راقدة في تلك الحفرة، في بطن الأرض.

– ألا تكفِّين عن البحث؟

فاجأها صوته، ثبتت في موضعها متجمدة، سقط الإزميل من يدها، برزت الأوردة الزرقاء فوق يديها المشققتين، أدركت وهو ينظر إليها أن نهديها عاريان، حوطت صدرها بالملاءة وفي عينيها النعاس، لم تكن صاحية تمامًا، ولا تعرف إن كان هو زوجها أم رجل غريب، لو كان هو زوجها فمن الأفضل أن تصرخ، فهي لا تذكر أنها تزوجت رجلًا له هذا الشكل، وإذا كان الرجل غريبًا فسوف يمضي إلى حال سبيله دون حاجة إلى الصراخ.

لم يكن صوتها حين صرخت ينتمي إلى عالم البشر، ربما لم تفتح فمها على الإطلاق، خشية امتلائه بذرات النفط، ومع ذلك رأت النسوة يتجمعن حولها، ومن فوق رءوسهن البراميل، أدركت أنها تحت المراقبة، ويمكن للآذان أن تسمع صوتها وإن لم يخرج، وعيونهن كانت ترمقها بنوع من الغضب.

– أنت امرأة مثلنا؟ لماذا لا تحملين البرميل؟!

أرادت أن تُثبِت أنها ليست مثلهن، وأنه لا يمكن أن تعيش وتموت مثل حيوان.

– عندي هدف آخر!

– ماذا يا أختي؟

وتذكرت كل شيء دفعة واحدة، راحت تحكي الحكاية وراء الحكاية، بدأت بخالتها والسيدة زينب والسيدة مريم العذراء، وأنها أرادت أن تكون نبيَّة لتشفي النَّاس من الأمراض مثل الإلهة سخمت.

رنت كلمة «سخمت» في الجو المعفَّر بذرات النفط، انقلب حرف التَّاء إلى الطَّاء، وما إن سمعت النسوة الاسم حتى ربطن رءوسهن بالمناديل السوداء وبدأن يلطمن خدودهن ويصرخن في نفس واحد.

– سخماط!

لم يكن وقوع الأمر على هذا النحو بالأمر الغريب، كان أشبه ما يكون بالعودة إلى الطفولة، وخالتها تربط رأسها بالمنديل الأسود، وتسبُّ كلَّ من يقترب منها، وإذا كانت نساء هذه القرية من نوع خالتها فلا بد أن الطوفان الأسود أمر طبيعي، وامتلأ قلبها باليأس، وعيناها تتحركان وتدوران بحثًا عن الفرار.

رأت أمامها امرأة من الجارات، تحمل البرميل فوق رأسها، وجهها يختفي تمامًا وراء حجاب أسود لا يطل منها إلا نصف عين، فانفجرت فيها مثل بركان.

– أنت لست بقرة عمياء تدور في ساقية؟ ينبغي أن يكون من حقك أن تري ما حولك، أليس كذلك؟ أم أنك اقترفت جريمة في الخفاء فلم يعد في مقدورك أن تظهري أمام أهل القرية بوجهك المكشوف؟

– لا أريد أن أكشف وجهي.

– أهناك سبب يدعوك لكل هذا التخفي.

– ليس هناك أي سبب يدعوني لكشف وجهي.

– تستطيعين على الأقل رؤية العالم.

– رؤية ماذا؟

– العالم، ألا يكفي أن تري العالم؟ ألم تشعري برغبة في رؤية العالم من حولك؟

– كانت عندي رغبة، ثم سئمت كل شيء.

– اسمعي يا أختي! حتى البقرة تنزع الرباط من فوق عينيها والحيوانات في القفص ترفس.

– كنت أرفس كثيرًا حتى سئمت الرفس أيضًا.

– غيَّرت الجارة لهجتها فجأة وقالت برقَّة: سمعناك تصرخين؟ أكان يضربك؟

– يضربني؟

في صوتها وهي تسأل دهشة، أكان الرجل يضربها برأس الإزميل؟ سيطر عليها الغضب، كانت تريد ألا يعرف أحد، لكن يبدو أن هذه القرية لا يخفى عنها شيء، والرقابة مُحكمة، أرادت أن تخفي وجهها، ألا تعترف أبدًا أنه ضربها، ماذا لو عرف أهل القرية أنها مثل غيرها من النساء؟ سرت القشعريرة في جسدها، كانت بشرتها قد تخربشت من الضرب، والجفاف في حلقها، أرادت أن تترك جسمها يسقط إلى الأرض، لكن من حولها عيون مفتوحة، تنتظر سقوطها، فإن سقطت مرة واحدة فسوف يسهل من بعد أي شيء، من الأفضل أن تعترف، وليس في مقدورها الهرب.

كان الرجل قد عاد، رأته يقترب منها من الخلف، ضغط ركبته اليمنى في ظهرها، ثم حوطها بذراع واحدة، انبعثت رائحة نفط راكد من تحت إبطه، مرر أصابعه المشققة صعودًا وهبوطًا فوق عمودها الفقري، بقيت مكانها متصلبة، ثم ندَّت عنها صرخة الألم حين ضغط بقسوة على الفقرة الأخيرة.

– أتشعرين بلذة؟

– لا.

ضحك الرجل، وبدا أنه يداعبها، تمهيدًا لشيء، وإن كانت حركته مفاجئة، كأنما هي طبيعية، أو ربما أصابعه انزلقت وحدها على نحو بريء.

استدارت لتواجهه، لم تكن ثمة براءة، ولا هي أيضًا شهوة الحب، كان يدفعها إلى الركوع، ومن بعد أن تركع يصبح كل شيء ممكنًا، رأت أن النوم هو المهرب الوحيد، ربما كانت نائمة فعلًا؛ لأن أنفاسها كان لها صوت مرتفع، وساقاها وذراعاها في حالة انتفاض، أكانت غاضبة، ربما، فهذا الرجل يحاول على الدوام أن يفسد عليها النوم، وهو ينجح في ذلك على الدوام حين يشاء، أما هو فيغط في النوم دون أن يقلقه شيء.

حين تقلبت في نومها علقت ذرات النفط بأذنيها، وحول العينين، التصقت ذرة في الزاوية فأزالتها بطرف أصبعها، مدت ذراعها في الظلمة تبحث عن الزجاجة، لم تكن هناك، كان الرجل راقدًا وجهه للحائط وظهره ناحيتها، بدا ظهره أقل إيلامًا من وجهه، وأصبح الأمر محتملًا بعض الشيء، لكن الليل طويل لا يريد أن ينتهي، والأرق كالمطرقة تدق في الرأس، ربطت المنديل وعقدته فوق جبينها كما كانت ترى خالتها تفعل، أغمضت عينيها وجعلت أنفاسها منتظمة، ثنت ركبتيها وتكورت حول نفسها كالجنين، حاولت أن تتذكر وجه أمها قبل أن تلدها، تتبعت الطريق الذي مشت فيه كل يوم من البيت للمدرسة، كان هناك شجرة ونهر طويل، رأت مكانها المعتاد فوق الجسر حين كانت تجلس ساعة الغروب، وتنتظر ظهور الأضواء، راحت تعدد أسماء النجوم، بدأت بزحل والمشتري وانتهت بالزهرة والمجرة، حاولت أن تعد على أصابعها أسماء الإلهات القديمات، بدأت بنون ونمو وانتهت بنوت وسخمت.

لكن الأرق لم يفارقها، ظل كالمطرقة بدق رأسها، حركت عينيها ناحية الرجل، رأته يغطي وجهه بالصحيفة، كان لا يزال نائمًا أو ربما كان يقرأ الأخبار ثم نام وهو يقرأ، أنفاسه منتظمة كالشخير، خشخشة الورق تحت ضربات الريح، ونباح الكلاب من بعيد، ولهاث النسوة، أعناقهن تطقطق تحت البراميل، لكن هدير الشلال المتدفق يكتسح كل الأصوات، والأوراق كالشاكوش يدق رأسها، والساعة فوق معصمها تدق، والدقات تحت ضلوعها، وأنفاسها، كلها تدق في أذنيها.

أطبقت جفونها في محاولة أخيرة للنوم، لكن ما إن فقدت الرؤية حتى سقطت فيما يشبه البئر، وكل الأصوات توقفت، تجمد الزمن، لم تعد الساعة فوق معصمها تُصدر أي صوت، زحفت ذرات النفط تحت القرص وغطت العقربين، عقرب الثواني أيضًا كف عن الحركة، لم يكن شيء يتحرك إلا أوراق الصحيفة تنقلب وحدها تحت حركة الهواء، تكشف كل صفحة عن عناوين بالخط الأحمر والأسود.

«صاحب الجلالة يتبرع بثلاثة ملايين دولار لحديقة الحيوان في القطب الشمالي.»
«قتل نصف مليون في حرب النفط.»
«حرم صاحب الجلالة توزع الحلوى في عيد الطفولة.»
«إطلاق الرصاص على امرأة ضبطت في الشارع وهي تمشي بوجه مكشوف.»
«بيع الديون الخارجية بالمزاد.»
«وزير النفط يحصل على رشوة أكبر من ميزانية الدفاع.»
«بيع المخدرات في فصول المدارس.»
«انتشار فيروس الإيدز بين الأطفال.»
«من الإلحاد إلى الإيمان ومن الشك إلى اليقين، بقلم رئيس الصحوة الدينية ورئيس الحزب الشيوعي سابقًا.»
«مصرع ثلاثة من النسوة في الطابور أمام المخبز.»
«ثمانية رجال يغتصبون طفلة في المدرسة.»
«أم تذبح أطفالها الأربعة في عيد الأم ثم تنتحر.»
«رجل مفقود يعود بعد سبع سنوات فلا يجد زوجته، مطلوب العثور عليها حية أو ميتة، ممنوع إيواؤها أو التستُّر عليها.»
«معلومات جديدة يحصل عليها البوليس عن المرأة التي خرجت في إجازة، كانت المرأة شديدة الشغف بالبحث عن الموميات كنوع من الترفيه.»

مضى الوقت وهي تحملق في كلمة «الترفيه»، لا بد أن النوم غلبها لأن عقلها كان متوقفًا، الترفيه، لم تعرف معنى الكلمة، والشمس بدأت تصعد، ربما خرج الرجل إلى الشركة، وحاملات البراميل ليس لهن صوت، نهضت على أطراف أصابعها، زحفت يدها تحت الفراش وأخرجت الحذاء، كان مملوءًا بالنفط حتى الحافة، أفرغته ونفضت كل فردة بالأخرى، وضعت الإزميل في الحقيبة، والخريطة، علقت الحزام فوق كتفها، وانطلقت قبل أن تلحظها عين، أغلقت جفونها وهي تجري، كأنما إغماض عينيها يخفيها عن الأعين.

كان الخلاص يبدو وشيكًا، والهروب أكثر يسرًا لو أنها استمرت في عدم الرؤية، لكن فكرة جديدة طرأت على عقلها، يمكنها أن تُخفي وجهها عن الأنظار تمامًا، دون أن يتعرف على وجهها أحد، من حق المرأة أن تخفي وجهها بالكامل دون أن يطاردها أحد.

لكن الأمر في حالتها كان مختلفًا، فهي امرأة مكشوفة الوجه، الصحيفة نشرت صورتها واسمها الثلاثي وعنوانها، غرفتها أيضًا ظهرت في الصورة، والسرير الخشبي الساقط الألواح، واللمبة المتهالكة فوق مكتب يعلوه الغبار، وكتاب مفتوح تطل منه رأس مومياء، ودرج في المكتب به بعض قطع النقود، ودفتر توفير في البنك بلا رصيد، ثم هناك ذلك الحبل المتدلي من السقف، كأنما جاهز للالتفاف حول العنق، والذباب الميت الملتصق به، وفي نهايته اللمبة المحروقة، ثم الصمت، أجل الصمت الذي يُصفِّر في الأذنين كالريح، أو ذلك الشخير المعتاد لرجل يغطُّ في النوم.

كان زوجًا مثاليًّا يوفر لها السكينة، وكل شيء يشير إلى رغبته الصادقة في استمرار الزواج.

قالها رجل البوليس وهو يدور بالكرسي، يهز يده في الهواء ممسكًا بهراوة طويلة، أشار بها إلى المكتب.

– لا شيء يثير الاشتباه إلا رأس المومياء، هذي! أتعرف رأس من هذه؟!

– رأس أم الهول.

كان رئيسها في العمل يرد بصوت مملوء بالثقة، فيضغط على كلمة «أم الهول» بفكيه وأسنانه، ثم ينفث الدخان في السقف، والغليون بين شفتيه، رمق رجل البوليس بطرف عينه، وراح يؤكد بصوت عالٍ: نعم أم الهول.

– أم الهول؟ لم نسمع بها من قبل؟

– عدم السماع بها لا يعني عدم وجودها.

– أهي زوجة أبو الهول؟

لم يعد رجل البوليس مستقرًّا في الكرسي، يدور به حول نفسه والهراوة في يده، رفع ذراعه وكادت تهبط فوق رأس أم الهول، لكن رئيسها في العمل كان جالسًا مستقرًّا، ينفث الدخان من فتحات أنفه وفمه، أذناه أيضًا خرج منهما الدخان، الغليون الأسود يلتوي إلى الأمام بزاوية حادة، وعنقه أيضًا يلتوي بالزاوية نفسها، عيناه إلى أعلى نصف مفتوحتين، يرمق رجل البوليس بطرف عين.

– بعد أن اغتصب أبو الهول العرش أمر بإزالة النهدين من التمثال، وإضافة اللحية.

– اللحية؟!

– نعم، لحية مستعارة، انظر!

مد رجل البوليس يده بالهراوة وفحص شعر اللحية المتدلية من الذقن، انتهز رئيسها في العمل الفرصة وراح يستعرض الكثير من علمه بالحفريات.

– صانعو التماثيل سخروا أنفسهم لخدمة الإله الجديد، وتغير الفن بتغير الحكم، حتى شكل العيون تغير، فالعين المستقيمة ذات الخطوط المباشرة أصبحت خطوطًا ملتوية ذات نظرة مزدوجة.

– نظرة مزدوجة؟ كيف ذلك؟

– مثلًا حين تنظر بعينك اليمنى إلى زوجتك، وإلى امرأة أخرى بالعين اليسرى.

– هذا أمر طبيعي، أليس كذلك؟

– كان غير طبيعي حينئذٍ، وقد تغيرت الشفتان أيضًا لتتحول الابتسامة إلى تقطيبة، وكانت اليد مفتوحة فأصبحت مغلقة والأصابع ممسكة بهراوة.

خرجت كلمة هراوة من بين شفتيه من دخان الغليون، فانتفض رجل البوليس واقفًا دونما سبب، مخفيًا الهراوة في يده وراء ظهره.

– ماذا تعني من كل ذلك؟

– أصبحت أم الهول، تغيرت الميم إلى باء، وكان الطوفان يكتسح كل شيء، والزراعة تموت، ومياه الأنهار تتحول إلى سائل أسود له طعم حادق كالملح، وأمر الإله الجديد بإزالة النهدين من فوق التماثيل وإضافة عضو الذكر.

تصلبت أصابع رجل البوليس وهو يدق فوق الآلة.

لم يكن بمقدوره أن يدق كلمة العضو، واستدار داخل الكرسي بحركة دائرية، لم تظهر الحركة في الصورة داخل الصحيفة، لكنها استطاعت أن ترى كل شيء وهي نائمة، عيناها نصف مغمضتين، وفي الحلم تبدو لها الحقيقة أكثر وضوحًا.

•••

في الحلم كانت تبحث عن شيء تقوله لزوجها، فقد انقطع الحديث بينهما منذ بدأ، لم يكن هناك طريقة لجذبه إليها إلا الاختفاء، كانت في حاجة أيضًا إلى جذب الآخرين، والأخريات من النسوة، تدخل عليهن كل يوم في المكتب، شفتاها تنفرجان عن ابتسامة أو تكاد، لولا التكشيرة فوق جبينهن، وعيونهن المنكسة فوق الكتاب، أو وجه صاحب الجلالة يتدلى فوق رءوسهن، أو صورة الإله إخناتون قبل إزالة النهدي، أو ابنة أم الهول التي نزعت عن أمها اللحية المستعارة وكشفت عن أنها امرأة، (مريت-را) ابنة حتشبسوت!

كانت تفتح الباب كل يوم وتطل على تمثالها، الابنة الوحيدة التي تعرفت على وجه أمها، تجلس إلى مكتبها تتطلع إلى وجوه النسوة، لون البشرة أصفر كأنما من الصلصال، رءوسهن نُحتت من الحجر الجيري، يغوص في أعماقها إدراك أنها واحدة منهن، تبتلع لعابًا مرًّا يفيض كراهية للذات، لكن عيد صاحب الجلالة يأتي وتنتشر الأضواء، صوت الغناء والموسيقى يتردد في الآذان، يرتدي الأطفال الملابس الجديدة، العيد في الشوارع غيره في البيوت، لا شيء في البيوت إلا أزواج يُخفون وجوههم وراء الصحف، يلفُّون رءوسهم بسحائب من الدخان، تقف الزوجات في المطبخ، يسلقن الفراخ المثلجة لها رءوس من البلاستيك، علب السردين من الصفيح الممغنط، بعد الأكل هناك سفينة للنزهة تُبحر ولا تعود، في الطابور الطويل تسقط الشهيدات، وفي نهاية العيد هناك الأتوبيس المتهالك الذي يسقط بمن فيه، قبل انصرام اليوم تذبح الأم أطفالها ثم تُلقي بنفسها في اليم، لكن ما أحد يرغب في ارتكاب معصية، والكل يؤدي الفرائض، يرسم فوق وجهه علامة الابتهاج، يرسمها بالقلم الملون فوق بشرة مشققة، وجوه كثيرة تطل في العيد من عربات الأتوبيس، وفوق المراجيح، وفي الاحتفالات الرسمية، لم يكن هناك شيء يبدد الفرحة إلا وجه امرأة مكشوف.

•••

– أتعتقد أنها ارتكبت معصية؟

– بالطبع، هذا طبيعي.

– ماذا تعني؟

– بصرف النظر عن كشف الوجه فالنسوة بالطبيعة آثمات، إن كيدهن عظيم.

اختلط عليها الصوت، لم تعرف أهو زوجها أو رئيسها في العمل، كان الوجه مثل كل الرجال الآخرين، مكشوف مع جحوظ العينين، يبدو كمن صحا من النوم فجأة، يُظهر على الدوام غيرة عليها من الرجال، قد يغار من صداقة تنشأ بينها وبين الكائنات الأخرى، كالزواحف مثلًا، عداء قديم غير مفهوم بينه وبين السحلية، وهو من النوع المكتوم، كعادة الأزواج أو الرؤساء، لا يطلع أحدًا على خلجات نفسه، إلا أمام رجل البوليس في التحقيق، حين بدأ يتعرف لأول مرة.

– يراودني الشك.

– لم نسمع منك هذا من قبل!

– هذا العيد مثلًا …

– ماذا في العيد؟

– يجعلنا نعتقد أن شيئًا ما موجود، بينما لا وجود له؛ ولهذا فإني أفضل العمل في شركة النفط.

– النفط؟

– نعم، إنه سائل بلا قوام لكنه يبعث أكثر على الطمأنينة.

– لا أفهمك.

– لا أستطيع التعبير عن نفسي بصورة أدق.

– أتعني أنك متورط مع المرأة؟

– لا، ولكني حين يزداد التدفق فأنت نفسك تصبح مثل النفط، وهكذا يتبدد القلق بشأن الموت.

– لا بد أنك مقتنع بما تقول، وأحسب أنك أقنعتها، فخرجت في إجازة، أليس كذلك؟

– لم تكن في حاجة إلى اقتناع مني.

– كيف؟

– أعتقد أن فيها شيئًا يشبه النفط مثل سائر النسوة.

•••

أمسكت رأسها بيديها الاثنتين، لأول مرة تسمع رأيه فيها وهي غائبة، كان حضورها الدائم يحجب الحقيقة، وأصبح الغياب في حد ذاته هدفًا، قد يكشف فيه عن خلجات نفسه، كان بينهما ما يشبه الثأر، يرتدي ثوبًا آخر أكثر رقة، وينتهي الحوار بينهما بالصمت، تخرج من البيت إلى العمل كل يوم كأنما تخرج من قبضة لتسقط في قبضة أخرى، والسقف واحد يشبه القبو، تشد نفسها من القبو لتصبح تحت قبو آخر، والضجة تشبه الصمت.

لم يكن طلب إجازة لم تعلن عنه لأحد، لكن الحسد ظهر على الفور في عيون النسوة، يتخفى تحت طبقة من اللوم، وكلهن رغبة في المعصية، يضقن ذرعًا بالفضيلة، لولا أن طلب الإجازة كان يستوجب التصريح، وجرأة غير مسبوقة للحب.

– الحب؟!

أجل، كان يمكن لقلبها أن يخفق، فالأمر بسيط للغاية، والحب لم يكن معدومًا بينها وبين الرجل، كان يربطهما بقوة إلى حد وقوع خصام كل يوم، ولا فكاك من التواجد معًا تحت سقف واحد.

– كيف كانت العلاقة بينكما؟

– شرعية بالطبع.

– أهناك عقد مكتوب؟

– بالطبع.

– من أي نوع؟

– عقد عمل وزواج.

تتسع عينا رجل البوليس ويشتد جحوظهما، ثم يدور بالكرسي، «والنني» يدور حول نفسه، وتستقر عيناه في السقف.

– أتعني أنها كانت تعمل عندك؟

– كلنا نفعل ذلك، أليس كذلك؟

– لكن نحن ندفع شيئًا على الأقل.

– لزوجاتنا؟

– لعشيقاتنا على الأقل، أليس كذلك؟

لم تكن بها رغبة لمتابعة التحقيق، بدا لها الهروب نوعًا من المستحيل، حركت قدميها فوق الأرض فلم تتقدم خطوة واحدة، كان النفط قد امتصَّ قوتها، وانتهى الرجل من ملء البرميل، وقف ينتظرها وهي لا تتحرك، راح يحدق فيها طويلًا، ثم رفع ذراعه إلى أعلى.

كانت لديها فكرة المقاومة، ورد الصفعة بالصفعة، لكن ذراعها ظلت ملتصقة بجسمها، ربما هي لُزُوجة النفط تجعل الأشياء تلتصق، أو لأن حركة ذراعه جاءت مباغتة، ولم يكن أمامها وقت للحركة، في أعماقها أرادت الانقضاض عليه، لم يتحرك فيها شيء إلا الفكين، وانطلقت الصرخة من الحلق.

– لا تصرخي.

– أتضربني؟

– ما عليك إلا حمل البرميل؟

بدت في وقفتها كاملة الخضوع، لم تُظهر مقاومةً ما، كانت في حالة أشبه بالنوم، أو أن الصفعة غير المتوقعة انتزعت منها إرادتها جعلتها تبرك كالجمل، وضع الحواية فوق رأسها ومن فوقها البرميل، وكان عليها أن تمضي قدمًا مع النسوة إلى الشركة، وكل واحدة منهن تقول كلمة، لمجرد الثرثرة في الطريق.

– أتفهمين؟ لن يضربك إذا واصلت العمل.

– هل أنت عصيتِ يا أختي؟

– ليس من الضروري أن تحدث المعصية، يكفي أن تفكري فيها.

– أحيانًا يكون الفكر أخطر.

واصلت السير بعنق ملتوٍ وأنفاسها تلهث، يتقلص صدرها هبوطًا وصعودًا مع حركة التنفس، تدفع بفمها المزموم ذرات النفط المتطايرة حولها، تنفخها بعيدًا عن وجهها، قدماها مشدودتان إلى الأرض، تغوصان إلى ما تحت الركبتين، تركت نفسها تغوص، لا شيء أمامها إلا أن تغوص، أن تصل إلى القاع، ومن بعد القاع لا يكون هناك طريق آخر إلا الصعود.

– منذ جئت لم آخذ أجرًا!

– ألا يكفيكِ أن أتستَّر عليكِ؟

أرهفت السمع للكلمة «أتستَّر»، اتسعت عيناها بزواياها الملتهبة، لم يكن هدفها الستر، كان لها هدف آخر، عن يقين كان لها وإن لم تعرف ماذا كان، قدماها تتحركان دون أن تخطو فوق الأرض شبرًا، والهواء لا يكفي لشهيق عميق، تورَّم قدماها وتساقط عنهما الجلد، زحف النفط تحت أظافرها كالطين الأسود، البرميل فوق رأسها ثقيل، يسخن دماغها تحت الشمس، شفتاها زرقاوان مفتوحتان وأنفاسها متلاحقة، ضغطت بأسنانها على شفتها السفلى فانفجر منها الدم، لونه أزرق ينساب فوق ذقنها ساخنًا، له طعم حادق على طرف لسانها، فوق سطح البركة رأت صورتها منعكسة، كالشبح الهائم على وجه الأرض، خُيِّل إليها أنها تصرخ.

– النجدة!

حركت عنقها ناحية الرجل، لم يعد يسمعها، وإن سمع الصوت لا يبدو عليه الفهم، يحملق فيها بنظرة لم ترَها من قبلُ، أيفكر في قتلها؟

رفعت ذراعها وهمَّت بإلقاء البرميل فوق رأسه، بدت لها الحركة مشروعة تمامًا، مجرد دفاع عن النفس، قبل أن ترتفع ذراعها عاودت النظر في عينيه، ثم تراجعت إلى الوراء، عيناه لم ترَهما أبدًا بهذا الشكل، لم تكن الرعدة ظاهرة، لا شيء فيهما يعبر عن الخوف، لكن كل شيء فيه كان كأنما مات من الخوف.

امتدت يدها وأمسكت يده، تشابكت أصابعهما، حوطها بذراع واحدة وحوطته بذراعيها الاثنتين، أغمضت عينيها، وكان هو مغمض العينين، كانا يسيران متعانقين، لا يريان الأرض تحت أقدامهما، يغوصان معًا إلى أغوار البركة كأنما يسقطان في قبضة قوة أكبر منهما، لا يستطيعان الفكاك منها.

في تلك اللحظة أصبح كلٌّ منهما يمسك بجسم الآخر، يشتد التماسك، يصبح الجسدان كتلة واحدة تتشبث بأجزائها، لا يبغي الانفصال عن جزء منها.

– أكان ذلك هو الحب؟

ربما كان؛ لأنها لم تسمع صوت النسوة، كانت مغمضة العينين، غائبة فيما يشبه الإغماء، ثم بدأت أصوات النسوة تدنو منها، مجرد أصوات بلا أجسام، أسندت رأسها فوق حافة البركة، كأنما تهم أن تأخذ شربة ماء، أو تقذف الغصة من حلقها، سمعت صوتها يخرج من جوفها كأنما تتقيأ، تخفف صدرها من الألم وبدأت الأضواء تظهر، كان الطابور يتحرك من بعيد فوق الخط الفاصل بين السماء والأرض، أشباح سوداء فوق رءوسهن البراميل، يقتربن منها والملامح تزداد وضوحًا.

– ماذا تفعلين هنا يا أختي؟

رأت المرأة واقفة أمامها تحت عباءة سوداء لا يظهر منها شيء.

– أنا؟

– نعم أنتِ؟ مَن غيرك؟

– أنا باحثة في علم الحفريات.

دوت ضحكة واحدة تبعتها ضحكات خافتة مكتومة.

– ألم تحبلي يا أختي؟

لطمت الكلمة وجهها مثل الصفعة، تحبلي؟ أيكون ذلك هو سبب احتجازها هنا؟ كانت قد أضربت عن الحبل منذ ماتت أمها وهي تلدها، لم تكن تعرف ما جدوى الحبل، كل النساء يحبلن.

– هل ينقلب العالم إذا كفت امرأة واحدة عن الحبل؟!

– أيتها الحمقاء!

تجردت فجأة من الظلمة، ظهر ضوء من بعيد، حملقت ناحية المرأة، ثم انحنت جالسة فوق الأرض، تحت إليتها عثرت على شيء صلب، كان هو الإزميل، رأسه ملفوف بحزام الحقيبة، مشدود حول عنقه كحبل المشنقة.

– مَن منا الحمقاء؟

لم يكن هناك صوت، مجرد غمغمة كالصمت، أو ذرات سابحة في الجو، واصلت الحديث وهي تضرب رأس الإزميل في الأرض.

– أنا حمقاء؟! ألا يشغلك إلا الحبل؟! وأنا ماذا يشغلني؟! أجل، أنا باحثة، باحثة عن ماذا؟ أجل أبحث عن أشياء لا تعرفينها، «نمو» إلهة المياه الأولى، وإنانا الإلهة الأم، وسخمت.

– سخماط؟

– أليس هذا دليل جهلك؟ خير لك أن تنصرفي عني وتحملي برميلك إلى الشركة، ستظل النسوة على حالهن إلى يوم القيامة، أليس هناك من يقاوم النفط؟ ألم تفكري أبدًا في التضامن؟ فكري في الأمر، لن تلومي إلا نفسك إذا دُفنت في هذه البركة، سوف يسيطر النفط على كل شيء، ويشق طريقه إلى كل مكان، ماذا حدث؟ لماذا لا تنطقين؟!

بدلًا من أن ترد المرأة اختفت على نحو بدا طبيعيًّا، استدارت دون أن تُخلِّف وراءها صوتًا، ولا أي أثر لقدميها على الأرض.

– أتهربين دون كلمة واحدة؟!

صرخت بصوت عالٍ متخاذل غير مسموع على الإطلاق، كفت عن الحركة وأعادت الإزميل إلى الحقيبة، لسانها بدأ يحتك بسقف حلقها، صوت الاحتكاك في أذنيها مسموع، لمحت الزجاجة فجأة فوق الرف، كانت جافة تمامًا، رفعتها إلى فمها تهزها عدة مرات، لم تسقط قطرة واحدة، انخرطت في نشيج بلا صوت، بلا دموع بلا حزن، أو أي شيء، لم تحس شيئًا على الإطلاق، كانت امرأة أخرى تلك التي تنشج وليست هي.

التصقت بالأرض تتظاهر بالموت، تتكور حول نفسها أملًا في النجاة، حركت عينيها قليلًا ناحية الباب، كان الرجل واقفًا على العتبة منكوش الشعر، هل كان يتنصَّت عليها؟ تركت دموعها تهبط قبل أن تضيع الفرصة، لم يكن البكاء مجديًا، تحركت شفتاها بما يشبه التردد، ربما كانت الابتسامة أفضل، لم تشعر بوخز الضمير، يمكنها أن تبتسم في وجهه رغم كل شيء، لولا الإعياء الشديد، ونوع من التنميل كالشلل يسري في شفتيها.

كان وجهه للحائط وظهره ناحيتها، بدت الابتسامة غير ضرورية، كان البرميل ساخنًا بفعل الشمس، وأنفاسها تتقطع مثل بقرة تحتضر، لوت عنقها إلى الناحية الأخرى للتخفيف من الثقل، فتحت عينيها لحظة في مواجهة الشمس، ثم أغلقتها على الفور بإحكام شديد.

حين وصلت الشركة كان وجهها مثل سمكة مشوية، خدَّاها عظامهما متفحمة، فوق رأسها تحت قاع البرميل حفرة عميقة، في مؤخرة عنقها ورم ينزُّ سائلًا أسود، جلبابها تعلوه البقع، والرائحة تفوح من العرق.

رمقها رئيسها في العمل من بين أطراف جفونه المغلقة.

– عليك بارتداء ثوب نظيف، وضعي بعض العطر تحت الإبط.

– نعم …

– حان وقت وصول جلالته ولا نريد أن نؤذي أنف جلالته، أليس كذلك؟

لم تكن عضلات لسانها تطاوعها للرد، وخرج صوتها مكتومًا.

– في ليلة … العيد … طلع … البدر …

تذكرت أغنية في الطفولة، كانت تغنيها مع البنات في المدرسة، حين كان يصل الرئيس، ويُغنِّين في نفس واحد: طلع البدر علينا، ومن خلفه تُقبِل حرم الرئيس ترتدي دوائر من الضوء حول العنق واليدين والرجلين، من خلفها النسوة يتسابقن فوق الكعوب الرفيعة، ينكفئن على وجوههن وأردافهن تهتز من الخلف.

– طلع البدر علينا …

لم تكن تعرف لماذا ينثني عنقها ويلتوي إلى الداخل، بدا لو كانت تنحني لأداء التحية، تخفي الورم البارز بين طيات العنق، تمسح الجلد بكفها تمحو البقع السوداء.

– لماذا كانت تشعر بكل هذا الخزي؟

كانت تظن أنها ضحية العيد، وعليها أن تُخفي أثر الدم بعد الذبح، كان يمكن لها أن تواجه الخزي، لولا الرجل، أجل، لولاه ربما استطاعت أن تنجو، وماذا بعد أن تنجو؟!

خطر لها السؤال فجأة، ولم تعرف ماذا تفعل لو قُدِّر لها أن تنجو.

– سأكتب قصة حياتي.

سمعت الرجل يضحك بصوت كالسعال، كان منثنيًا فوق البرميل يملؤه، فارتجَّ البرميل بالصوت، سمعت القرقعة داخل بطنه الممتلئ فأدركت أنه النفط أيضًا يضحك.

– أتفكرين في الكتابة حقًّا؟!

– أعني، في غير أوقات العمل، قد يهبط الوحي.

– الوحي؟

– أجل قد يهبط الوحي أحيانًا على راعي بقر أو دودة نفط.

– هذا النفط يتغلب على أي وحي وإن هبط من السماء.

– قد يختلف الأمر، حين يأتي الوحي من بطن الأرض.

– ماذا تقصدين يا مره؟!

لم يكن عقلها قادرًا على الرد، وبدا الحوار بلا معنًى، السخونة في رأسها تشتد، والوجع في مؤخرة الدماغ كالمطرقة يدق، حشدت المنديل وعقدته فوق جبينها، لم تعرف من أي حفرة في رأسها خرجت فكرة الكتابة.

كان الوحي ينزل دون حاجة إلى كتابة أو قراءة، يرفع صاحب الجلالة عينيه إلى أعلى فإذا بالوحي يهبط من السماء كالمطر، يعبئونه في الزجاجات، وفي العيد يصرفونه من المنحة، يحصل الرجل على زجاجة كاملة لنفسه، ولامرأته النصف، لم يكن للمرأة أن تتسلم نصيبها بنفسها، ولا بد من زوج ينوب عنها أو وكيل آخر.

– خداع الذات لا يفيد شيئًا يا مره، ثم إن مثل هذه الأوهام لا جدوى منها.

– ماذا تعني؟

– الكتابة مثلًا ليست إلا نوعًا من الوهم، وإذا كان صاحب الجلالة لا يكتب ولا يقرأ، وجميع الأنبياء، لم يكونوا في حاجة إلى الكتابة أو القراءة، ثم ما هو الفارق بين حمل القلم وحمل البرميل؟! هيا انطقي! ولا تكوني غبية!

ثنت المرأة عنقها ولم ترد، كان الصمت شيئًا طيبًا للغاية، دفعها إلى إغلاق عينيها في يأس كامل.

رفعت البرميل فوق رأسها واندفعت إلى الخارج، من الناحية الأخرى من البركة هبت عاصفة جديدة، ليس أمامها إلا أن تمضي في الطريق حتى النهاية، لا يزال بعيدًا عن عقول النسوة فكرة الكشف عن وجوههن، لقد حملن البراميل قبل طلوع الشمس واختفين في الظلمة، امتدت ذراعها إلى أعلى، وهزت البرميل بقوة، لم تنسكب منه إلا قطرة متجمدة من النفط، كانت عيناها تتطلعان إلى السماء، لم ترَ شيئًا، قربت أصابعها من أنفها فانبعثت رائحة الجاز العفن.

– ما الذي يحدث لو استمرت حياتها بهذا الشكل؟!

ربما تكون هناك مؤامرة، رئيس الشركة له بشرة حمراء، يرطن بلغة أجنبية، وتقول الصحيفة إنه رجل كبير القلب، يتبادل البراميل مع صاحب الجلالة علامة الحب، وفي هذه المنطقة الأثرية أيضًا رفات الموتى، وحفريات مقدسة من الآلهة القدامى، وبعض الإلهات من الزمن الحجري.

– أجل، تغيرت المقدسات مع هبوب العاصفة.

– ألا يوجد حفريات هنا في بطن الأرض؟

– لا يوجد إلا النفط يا مره.

– ما هذا؟

– زجاجة إضافية في عيد صاحب الجلالة، ألم أقل لك إنه كبير القلب واسع الرحمة لا ينسى الرعية، ما رأيك في جرعة صغيرة؟ لنحتفل معًا بعيد جلالته.

التوى لسانها داخل حلقها، حركت قدميها في الهواء مثل بقرة مربوطة الوثاق، هذا الرجل ليس زوجها وليس مندوب الشرطة، لماذا لا يفك وثاقها ويتركها تعود؟ إنها شابة في ربيع العمر، وتحمل لقب «باحثة» ولها زوج ينتظرها.

– سأملأ لك كأسًا.

– أليس الشرب حرامًا؟

– ما دمنا وحدنا ولا أحد يرانا، وإن كان الأمر يستوجب بعض الحرص.

إنهم يوزعون علينا هذه الزجاجات، ومعنى ذلك أن الشرب مباح ليلة العيد حتى يضرب مدفع الإمساك، هل أنتِ على قيد الحياة؟ أراكِ لا تتنفسين؟ خذي هذا الكأس، وانسي كل شيء.

– سأنسى.

– أهذا وعد؟

هزت رأسها علامة الإيجاب، بدت ليلة العيد ملائمة تمامًا للهروب، بعد أن يشرب الرجل يفقد وعيه، وليس عليها إلا أن تشتري تذكرة العودة، فتحت الحقيبة لتُخرج النقود، لم يكن هناك شيء، قلبت البطانة وهزت الحقيبة، لم يسقط قرش واحد.

– أين النقود؟

– ماذا تقولين؟

– أنا أعمل وأستحق بعض الأجر.

– أود أن أسألكِ سؤالًا صغيرًا لمجرد إرضاء فضولي.

– نعم.

– ألستُ أوفِّر لك كل شيء حتى الحب؟ هل ينقصكِ شيء؟ هيا انطقي ولا تكوني جاحدة!

– أنت رجل مثالي، هذا صحيح، ولكن أنا أعمل طول النهار وجزء من الليل، من يدفع الأجر؟

– أجرك على الله.

– الله؟! ماذا تقول يا رجل؟

– ألا تؤمنين بوجود الله يا مره؟!

صوته أصبح غاضبًا، والنبرة مهدِّدة، كانت تطالبه بأجرها، فإذا به يطالبها بالإيمان، ما علاقة الإيمان بالأجر؟ لم تكن تعرف، لكن الوضع انقلب، أصبح هو صاحب الحق، وهي لم تعد لها طلب، أجلسها في قفص الاتهام، وراح يدور حولها نافشًا شعره، مزمجرًا بالغضب.

– امرأة مثلك لا يمتلئ قلبها بالإيمان، ماذا تستحق إلا الحرق في النار! هيا انطقي ودافعي عن نفسك!

التوى لسانها في حلقها وعجزت عن الرد، كانت مؤمنة تمامًا مثل الرجل وأكثر، قلبها كبير، أكبر من قلبه، يتسع لإيمان أكبر من إيمانه، بل يشمل الآلهة القدامى أيضًا، والإلهات، لكن ما علاقة الآلهة بالنقود؟ وهي امرأة تؤدي عملها بالكامل، تحمل فوق رأسها البرميل، في شركة رسمية للنفط، والعمل شاق، ازداد مشقة بعد قيام العاصفة، وكان يمكنها أن تتجنب كل هذه المشاق، ضربت بقدميها الأرض وهي تصيح: كل هذه المشاق!

– ولماذا أتيت في الأصل؟

تجمدت في مكانها لا تنطق، كان الرد واضحًا لا يحتمل وضوحًا أكثر، لقد جاءت لأنها عجزت عن الاستمرار هناك، أجل جاءت لتتجنب مشاقَّ أكثر، هذا كل ما في الأمر.

– أهذا كل ما في الأمر؟!

– نعم، كل ما في الأمر.

بدا الأمر بسيطًا غاية البساطة، انفرجت شفتاها عن تنهيدة عميقة تشبه الراحة، وانكفأت رأسها بحركة مباغتة فوق صدرها كأنها تنام، لكن الحركة أيقظتها فانتبهت، كان رأسها ثقيلًا، والسخونة تتدفق من أعلى مع الثقل، كأنما تحمل قرص الشمس في منتصف النهار، مع أن الدنيا ليل، والرجل راقد إلى جوارها مفتوح العينين.

– ألم تحصلي على إجازة؟!

– ماذا تعني؟

– هذا أمر يقلق صاحب الجلالة ورئيس الشركة بطبيعة الحال.

– ألم تنجح امرأة واحدة في الحصول على إجازة؟

– كانت هناك امرأة من أسرة فقيرة، وأهلها جميعًا من اللصوص، قالوا إن عفريتًا ركبها، فالعفاريت تتبع الفقر، واللصوص تتبع العفاريت، ومع ذلك لم تنجح في الهرب.

– كيف كان ذلك؟

– نشرت الصحف صورتها وأعادوها قبل أن تجتاز الحدود.

– أتعني أنه لم تهرب امرأة واحدة؟!

– ولا رجل واحد.

تهاوى جسدها وهي راقدة، كأنما تسقط في نوم أعمق، تكورت حول نفسها مثل دودة النفط، أصبح وجهها بلون الأرض، ضغطت بيدها فوق صدرها، ثم انتفضت.

– لا يوجد نبض!

نهض الرجل من الفراش، بدأ يدلك قلبها بأطراف أصابعه، أخذتها الدهشة ولم تستطع الرفض، كان ينتهز فرصة غياب النبض ليدوس بأصبعه فوق نهدها، يمرره داخل الشق بين النهدين، كانت هناك طبقة متجمدة من النفط لها رائحة العرق، تململت فيما يشبه الحرج.

– كنت أنوي الاستحمام، لكن …

– لا داعي للحرج فأنا لست رجلًا غريبًا.

كان القمر يطل فوق البركة بضوء شاحب، بقعة مستديرة من لون متهالك البياض فوق مساحة كالحة السواد، والنافذة مصنوعة من ألواح الخشب لها مزلاج عريض، نمت فوقه طحالب النفط فاخضوضرت أطرافه، كانت النافذة واطئة فيها شقوق، تطل من بينها عيون النسوة، ثلاثة أو أربعة يضحكن بصوت مكتوم، واحدة من النسوة تتحدث إلى جارتها في البيت الملاصق، تحكي لها ما يفعله معها زوجها في الفراش، تقطع الحديث بضحكات كالشهقات، ثم تُجهش بالبكاء.

– عشر سنين مضت على زواجك ولم تحبلي؟!

– أمر الله.

– بل هي ضرتك الملعونة، سحرت لك.

– أهو سحر إذن؟ يا للمصيبة!

– أنت أسعد حظًّا مني، ولك ضرة واحدة وأنا لي ثلاث ضرائر، وما إن أُبطل سحر واحدة حتى يأتي سحر الأخرى.

– ومع ذلك حبلتِ، أليس كذلك؟

صوتها يتسرب إليها من وراء الجدار يشبه صوت خالتها، كانت تلفُّ حول رأسها الطرحة السوداء وتخرج، تجوب الأزقة تلم الودع والقواقع، وعظام الموتى من بطن الأرض، تصحنها في الهون ومعها الشبة واللبان الدكر، تشربها على الريق وقبل النوم، تبلل به وسادة زوجها وما بين الفخذين، كان لكل عفريت من الجن حجاب خاص، يكتبه شيخ أعمى في غرفة مظلمة، كان الأعمى أكثر قدرة من المبصر على طرد العفاريت الجان، وكان الشيخ الميت أكثر قدرة من الأعمى بطبيعة الحال، وتدفع المرأة قطعة من الفضة أو فرخة مذبوحة، لم يكن للمرأة أن تحبل دون أن تدفع شيئًا.

في نهاية الليل انقطعت أصوات النساء، جاء الصباح بشعاع أحمر يلسع مثل لسان من اللهب.

– أرجوك، هل لي في شربة ماء؟

لا بد أنه كان غائبًا في النعاس، لم تسمع أي رد، جلبابه ممزق من الصدر، غارق في عرق أسود كالدم المتجمد، ذرات النفط تلتصق بالشعر، وشفتاه مشققتان مثل أرض قحط.

– ألم تسمعني؟ قطرة واحدة لو سمحت.

صوتها جاف، وجسدها يرتعد بالحمَّى، تصعد السخونة من تحت الجلد، تذيب القشرة شيئًا فشيئًا، انفرجت شفتاها تلهث، ولعقت بطرف لسانها السائل الذائب.

– سأعطيك الزجاجة بشرط واحد.

– ما هو؟

– أن تكفِّي تمامًا عن تلك المؤامرة.

– ماذا تعني؟

– ألا تعرفين أنك مراقبة بدقة وحركتك مرصودة.

– مرصودة؟

– كل حركة، بل كل خلجة.

– خلجة.

– نعم، عليك أن تنسى كل شيء عن أمك وخالتك وحتحور وسخمت وجميع النسوة، نعم، جميع النسوة، أتفهمين ذلك؟

هزت رأسها علامة الفهم، لم تكن تفهم شيئًا، كانت تريد الزجاجة ولا شيء غيرها، خطا الرجل فوق الأرض نافضًا عنه ذرات النفط، قرب عنق الزجاجة من شفتيها، التهمتها بأسنانها تهزها عدة مرات، تتلوى مثل دودة الأرض، كانت الزجاجة جافة بلا قطرة واحدة مقلوبة فوق فمها، قعرها سميك مرفوع إلى السماء، ينفذ منه قرص الشمس مباشرة إلى عينيها، كأنما هو عمود ممدود من نار الآخرة.

طوحت بالزجاجة في عين الشمس، أطرق الرجل رأسه في خزي.

– ألم تكن تعرف أنها فارغة؟

– أعرف، لكن …

– إذا افترضنا أن للمرأة روح مثل الرجل …

– أجل.

– فلا بد أن هذه الروح تسكن جسدها.

– أجل، لكن …

– لكن ماذا؟

– بعد الاحتفال بالعيد ينسون الصغار من أمثالنا ويستولي على نصيبنا الكبار.

كانت تنظر في عينيه، تدرك أنه يغطي بالكلمات على شيء آخر، كان يختفي في الغرفة الخلفية، ويأخذ نصيبها، ثم يخفي الزجاجة في مكان لا تعرفه، أيحاول السيطرة عليها عن طريق العطش؟

كان الرجل واقفًا يحملق في الفراغ، يتحاشى النظر إلى عينيها، ربما كان يعلم كل شيء، له ضلع في المؤامرة، في اللحظة الحاسمة سوف يقف مع صاحب الجلالة أو على الأقل رئيس الشركة.

تصلَّبت عند مدخل البيت تلوي عنقها نحو الأفق، السُّحب تتراكم على شكل نطف سوداء، ليس هناك ما يشير إلى هدوء العاصفة، ارتفع صدرها وهبط في زفير عميق، مع كل نفس بدت روحها كأنما تخرج من جسدها.

ظلت مطبقة شفتيها في صمت، لم يكن في الصمت إنقاذ لشيء، عليها أن تكشف الأمر للجارات، ربما تستطيع النسوة عمل شيء.

– أجل، يمكنها اللجوء إلى النسوة.

سمعته يقهقه بصوت قرقعة البرميل، تجمدت في مكانها من الفزع، أيعرف النسوة أكثر منها؟ أيمكن أن تضحي بها النسوة إذا لزم الأمر؟

ظلت واقفة حيث كانت، لفَّت ذراعيها حول صدرها كمن تحس البرد، عيناها تتذبذبان دونما وعي، تقدم قدمًا وتؤخر الأخرى، كالفأرة الواقفة أمام ثقب في الجدار، لا تعرف إن كان طريقًا للهرب أم فوهة مصيدة، غلبها الإعياء وهي واقفة، تساقطت قطرات العرق من جبينها، لعقتها بطرف لسانها تستشعر الطراوة، بدت كأنما استعادت شيئًا من الثقة، عليها أن تتقدم وليكن ما يكون، أجل، دون مخاطرة لا تُحدث حركة.

حركت قدميها وتقدمت نحو الطريق، كان قرص الشمس يختفي وراء الأفق، رياح شمالية تهب مع ذرات النفط، على حافة البركة رأتها جالسة تفك الرباط الأسود من فوق وجهها، تدعك أنفها وزوايا عينيها، ومن حولها النسوة يفعلن مثلها، يكشفن وجوههن، تمسك كل واحدة الرباط الأسود بين يديها، ثم تهزه في الهواء عدة مرات، محدثًا صوتًا مثل طرقعة الهواء، بدأت تدب بقدميها فوق الأرض، تدور حول نفسها دورة كاملة، والأصوات ترتفع كدقات الطبول، النسوة يرقصن على شكل حلقة، وأقدامهن تدب بالإيقاع ذاته، الغناء يتصاعد إلى السماء مع الغبار.

– أهو قدرنا أن نحمل فوق رءوسنا!

– براميل النفط إلى الأبد!

– لا يا أختاه! لا يا أختاه!

– ليس هو قدرنا! ليس هو قدرنا!

كان مدهشًا أن تلمح ذؤابة الضوء في الظلمة، أن تكشف الصلة بين القدر والنفط، بدا لها جسدها مثل الجدار، منتصبًا في وجه العاصفة، لا شيء يمكن أن يسقطها.

في تلك اللحظة ظهر الرجل رافعًا ذراعه، كادت الضربة تفلق رأسها، لكنها وثبت متفادية الموت، انثنى فوقها فيما يشبه العراك، طرحته أرضًا رغم الإعياء، خطف الإزميل من يدها ليجردها من السلاح، فأمسكت البرميل من أذنيه.

– القوة لا تهزمها إلا القوة.

دارت بها الأرض وهما يتصارعان، في لحظة خاطفة أصبح فوقها، ملأه الغرور بامتلاكها فانتصب شعر رأسه، بدا في انتصابه أشبه بعُرف الديك، وكان يمكن للمعركة أن تنقلب إلى شيء آخر يشبه الحب، لولا أنها خطفت الإزميل من يده.

تذكرت فجأة أنها كانت تحمل لقب الباحثة، أنها خرجت في إجازة، كان هناك شيء تبحث عنه، راحت الحمى التي انتابت جسدها تنحسر، بدا لها أن المرأة التي خرجت في إجازة لم تكن هي الباحثة، أنها لا تستطيع أن تحب الرجل دون أن يُخضعها، وإن بدت حركة الإخضاع بريئة، إلا أنها لم تكن بريئة تمامًا.

كانت مع رجلها الآخر تتفادى هذا الخطر، كان مصابًا بفيروس مجهول الاسم، يندرج تحت بنت الحب، لم يكن هو الحب على وجه اليقين، وإن لم يكن هناك ما يثبت العكس، في لحظة تتوقع فيها الحب تراه يجز على أسنانه من شدة الكره، وفي مرة انهال بأسنانه على كتفها في عضة كبيرة، رقدت في الفراش تهذي، تصدر أصواتًا تشبه نباح كلب، وجاء الطبيب فغرس في فخذها إبرة ضد السعار، كتب فوق ورقة كلمات غير مقروءة، من نوع: الامتناع الكامل عن الحب وعن أكل المخللات المنقوعة في النفط.

– بمقدوركِ النظر إليَّ دونما ألم؟

نعم، في أعماقها كانت راضية عنه، ويمكن أن تنظر إليه دون ألم، فلم يكن هناك بديل آخر، كان الأمل معدومًا تمامًا، ولا بد من كتابة العقد.

– ألا يكفي الوعد؟

– لا بد من كتابة ورقة.

– ألا توجد عندك ثقة؟!

– ماذا تعني؟

وقعت على العقد بحركة أشبه بتسليم الروح، كانت الصحف تنشر بإسهاب عن حوادث الاغتصاب، اغتصاب الجسد بطبيعة الحال، فلم يكن أحد يعرف شيئًا اسمه اغتصاب الروح.

– أتبولين وأنت واقفة؟ هذا ممنوع للنسوة!

من شق الباب كان يراها، لم يكن مسموحًا للمرأة أن تقف حين تبول، وكانت هي تفضِّل الوقوف، فالمرحاض غارق فيما يشبه البركة، وإن جلست تخشى أن يلامس جسدها المقعد، كانت الصحف تتحدث عن الفيروس، ينتقل عن طريق الجلوس، وعن طريق الشيطان أيضًا، ما إن ترفع المرأة ثوبها حتى يكون هناك متجسدًا على شكل البشر.

– إذا اجتمع رجل وامرأة فثالثهما الشيطان.

لم يكن الجماع يتم دون وجود الشيطان، كالسير في الظلمة فوق الجسر، فجأة يظهر الشيطان، واقفًا منتصب الشوارب مثل قط جائع، الرجال والنساء على السواء أسرى الوقوع بين أنيابه، كل منهم يتشكك في الآخر، من الذي بدأ، لا أحد يعرف عن يقين ما الذي حدث، ولإثبات البراءة يكتبون ورقة، من لا يعرف الكتابة يستأجر قلمًا، والأقلام كثيرة، أكان هناك ولع الكتابة؟!

– لا، صاحب الجلالة نفسه لم يكن يكتب.

– ما المشكلة إذن؟

– مجرد ضوابط.

– ماذا تعني؟

– إذا هاجت الروح فلا حدود لهياجها، وإذا لم يكن هناك ورقة فلا ضوابط على الإطلاق، أليس كذلك؟

لم تفتح فمها لترد، كان قد رآها من شق الباب، لم يكن بمقدورها أن تتخفى، لا مجال للحركة حين تلتف الشبكة، من السماء تسقط شباك الموت كالمطر الأسود، في الزواج أيضًا يبدو أن هناك شبكة، وهياج الروح مثل هياج العاصفة، ليس أمام الجسد إلا الخضوع، أو ربما هو هاجس غامض، ربما تكون الورقة هي الضمان.

– ليس هناك ضمان لشيء.

– ماذا تقول؟

– في غمضة عين ينقلب كل شيء إلى النقيض، كنت أراك شابة موفورة الحماس، فإذا بك كهلة عجوز، ألا ترين نفسك؟

كانت المرأة مستلقية في الخلاء أمام البيت، تدلَّى طرف ثوبها فوق حافة البركة، تطلعت إليه بعينين متسعتين، عينا بقرة مذعورة، حملق الرجل فيها بعين واحدة جاحظة، عين قرموط من السمك مخنوق، فركت زوايا عينيها بطرف أصبعها، دققت النظر إليه، أيكون مثل هذا الرجل حقيقيًّا؟! بدا لها غير حقيقي، ومع ذلك استمرت في النظر إليه، وانهال تدفق النفط مع الريح، تسلل من تحت ثوبها إلى السروال، وزحف فوق فخذيها، راحت تقاوم الزحف، لكن بعد فوات الوقت.

انتفضت واقفة تنفض عنها السائل الأسود، لكنه راح يزحف رغم إرادتها، يتكور تحت جدار البطن ويتراكم فوق الذراعين والكتفين، نشجت بصوت مبحوح، أصبح أكثر إصرارًا، زحف فوق النهدين ومن هناك صعد إلى العنق، أكان يخنقها؟

– لسوء الحظ ليس النفط رجلًا حتى يمكن التخلص منه.

سمعت الصوت الغريب يخترق جسمها، بدا لو كان هو صوتها، أو صوت أمها وهي داخل الرحم، لم تكن هي أمها فيما يبدو، وإنما امرأة أخرى استعارت جسمها، وقد انتهت مدة الإعارة، وعاد الجسم إلى صاحبته الأصلية، ربما كانت تخدع نفسها لمجرد الإفلات، لكنها لم تكن تنسى صوت أمها قبل أن تولد، كانت تعوم في سائل غليظ القوام، وتغرق في أحلام كثيرة، آخرها حلم بأنها تبول في الخلاء وتخشى أن يراها أحد.

– أنا باحثة محترمة.

أجل، كم مرة حاولت أن تعرفه بنفسها، كم مرة أكدت له حقيقتها، وكونها باحثة في علم الحفريات، ولها زوج ينتظرها هناك، ورئيس في العمل يشهد بكفاءتها، وزميلاتها من النسوة عن يقين يتذكرنها، أيمكن أن تفقد النسوة ذاكرتهن أيضًا؟

– أليس من العدل أن تدفع لي أجري؟ هل يمكن أن أفقد عرق جبيني كل هذا العمر؟ وأنا لا أريد إلا تذكرة العودة.

بلل الرجل شفته السفلى بلسانه، وابتسم دون أن ينظر إليها، بدت ابتسامته مجرد تجاعيد في الجلد حول الفم، لم يكن أمامها إلا أن تمسك الإزميل، بينما هي ترفع ذراعها انطلقت منه الصرخة.

– أتنوين قتلي؟!

هبطت ذراعها ولم تنطق.

– من المؤكد أن الحوار انقطع.

– يمكننا أن نبدأ من جديد.

– كيف هذا؟

– يمكننا الوصول إلى حد أدنى من الاتفاق، ليس أمامنا إلا هدف واحد، أن نحمي أنفسنا من الموت، أليس كذلك؟ لحسن الحظ ما زلنا أشداء، ولنا سواعد قوية ونستطيع العمل، وهذا هو الهدف من بقائنا هنا، فالنفط رغم كل شيء أفضل من كائنات أخرى أشد قسوة، ويمكن للنفط أن يترفق بنا إذا استسلمنا له، لكنك لا تكفِّين عن المقاومة.

اتسعت عيناها ولم تنطق.

– نحن لا نطلب إلا الرحمة، وكلنا نعلم أن المستفيد الوحيد من النفط هو صاحب الشركة، وصاحب الجلالة بطبيعة الحال، وهذا أمر منطقي، ما الخطأ في هذا؟ إنه حقهم بأمر السماء، ألا تكفِّين عن الطمع؟!

لم تكن تعرف عن يقين أنه صوت الرجل، ربما يعود الأمر كله إلى خيالها، وفي الخارج كانت أصوات النسوة كالغمغمة، وضحكات متقطعة كالنشيج.

– ما بالك تدخلين في أمور لا تخصنا.

– كيف؟ ألا نحمل البراميل؟

– عليها اللعنة، أصابتنا بوجع الدماغ وسوف تقضي علينا جميعًا.

– لا بد من التضامن لنصبح قوة.

– لا حول ولا قوة إلا بالله.

كان الرجل قد شرع في العمل، رأته يحرك ذراعيه بهمة جديدة، وعضلاته نافرة، مسح العرق بكُمِّ قميصه وتوقف فجأة، حرك رأسه ناحيتها، لمحها من بعيد تحادث النسوة، لعب الفأر في عبِّه وحلق صقر في الأفق على ارتفاع منخفض، فرد جناحيه الكبيرين وحجب الشمس، تطلعت المرأة إلى السحب، بدا وجهها شاحبًا تعلوه الذرات السوداء كالنمش، غامت عيناها وأصبح الدم في عروقها لونه أحمر، وانفتحت حقيبتها فجأة بقوة الريح، رأت أنفًا طويلًا يعبث بمحتوياتها يشبه أنف فأر، أخرج الإزميل، وراح يفتش داخل البطانة، اشتدت الريح وكادت تقتلعها من مكانها، تدفق الشلال كالمطر فوق وجهها، مسحته بكُمِّ جلبابها وفتحت عينيها، لم يكن فأرًا وإنما هو الرجل، تكوَّر حول نفسه فوق الأرض كالدودة، وراح يفتش جيوب الحقيبة.

– هذا ليس حقك!

– ما هذه الورقة؟

– لي أوراقي الخاصة.

– أعندك زوج آخر؟!

كان له أصابع غريبة الشكل، والورقة كانت مطوية في القاع تحت البطانة، لا يمكن لأي أصبع أن يصل إليها، إلا بعد تدريب طويل في مدرسة البوليس، مدت ذراعها واختطفت الورقة، ألقت بها داخل حلقها وابتلعتها، هجم عليها بحركة مباغتة، أصبح فوقها يركبها كالحصان، أدخل أصبعه في حلقها ليُخرج الورقة، يدور به تحت اللهاة، وبين ثنايا اللحم، أنفاسه تتدافع من فمه المفتوح، كالبخار يندفع من فوهة القطار، ثم أخرج أصبعه في النهاية بشيء صغير، يشبه حبة الفول، أو قطعة متجمدة من النفط.

– أنت تستحق الشكر رغم كل شيء.

قالتها بصوت مفعم بالصدق، بدا جسمها أكثر قوة، وأنفاسها تدخل صدرها وتخرج بسهولة أكثر، لقد استطاع أن يخلصها من الغصة في حلقها.

يبدو أنه لم يسمعها، كان يرقب حركة الورقة داخل أحشائها، لم يحدث قط أن انتوى خداعها بهذا الشكل، سيراقب مواعيد دخولها إلى المرحاض، لن تفلت بأي حال.

– لنفرض أنها عقد زواج فمن هو الرجل؟ وإن لم تكن عقد زواج فماذا تكون؟ رسالة حب؟

بدا الحب في عينيه أقل خطرًا من الزواج، فليس في الحب شيء مُلزِم، أخرج من جيبه سيجارة، انتفضت أصابعه وهو يشعل الكبريت، كان جالسًا فوق برميل مملوء، وانتشر الدخان من حوله على شكل دوائر، ثم رفع عينيه إلى الأفق، كان الصقر قد حط فوق حافة البركة، وراح يأكل شيئًا صغيرًا، يتلوى بين أسنانه كالدودة.

– إذا كان الأمر في نهاية المطاف مجرد الحب، فأي نوع من الحب يكون؟!

هكذا راح يسائل نفسه وهو ينفث الدخان، لم يكن يعرف من الحب إلا نوعًا واحدًا، ذلك الذي لا يدفع فيه شيئًا.

تعبت المرأة من الوقوف فجلست فوق المقعد، من وراء الباب كان يرقبها من شق المفتاح، ربما تكون الورقة قد هُضمت تمامًا، أو ربما الكلمات ذابت مع ذوبان الحبر، رآها تضغط بيدها فوق أحشائها، كأنما تُثبِّت الحروف فوق الورقة، تحميها من الزوال، ألهذا الحد يكون الحب؟!

سمعها تدندن بصوت مرتفع، بدأت تغني أغنية كانت تغنيها في الطفولة، ترفع صوتها فتغرق الأصوات الأخرى في الصمت، من وراء الباب يتسرب غناؤها، لقد أنقذت الورقة وما عليها من حروف، وطرأت لها فكرة وهي جالسة، ستكون ليلة العيد أفضل وقت للهرب؛ فالرجل يذهب إلى الحفل، إنها دعوة صاحب الجلالة، ولا يمكن أن يتخلف، يرتدون الثياب اللامعة والأحذية الجديدة، يجلسون الساعة وراء الساعة والأبواب مغلقة، لا يمكن أن يخرج وإن جاءه مغص، يتلوَّى في مقعده الساعة وراء الساعة، وقد يفلت منه البول قبل وصول صاحب الجلالة، يتحسس الواحد منهم المقعد من تحته، ثم يقرب أصبعه من أنفه خلسة، تتسع عيناه في فزع، ليست هي رائحة البول، فوق أصبعه يرى طبقة سوداء، لا هي بالسائل ولا هي بالصلب، ولها رائحة النفط، لكن أحدًا لا يستطيع النطق، يمسح كل منهم أصبعه في سرواله خلسة ويبقى في مقعده جالسًا ينتظر فتح الأبواب.

– ربما يجتاز الحدود قبل عودته من الحفل.

كان الرجل ثابتًا وراء الشق في الباب، لم يعرف تمامًا متى يمكنه الانقضاض، بدت له المرأة نائمة وهي جالسة، رأسها يتدلى فوق صدرها، وعيناها مغلقتان، كان يفكر أيهما أكثر خطورة، أن تكون رسالة حب أم عقد زواج، ربما كان بمقدوره أن يكشف عن الخطرين معًا، إذا كان الرجلان واحدًا.

في تلك اللحظة هبَّت العاصفة فانسد الشق من الباب، بدا الطريق أمامه مسدودًا تمامًا، ولا شيء يراه إلا الظلمة، سمع المرأة كأنما تضحك من وراء الباب، أتكون هناك علاقة بين الحب والنفط؟ أصابته الفكرة بالرعب، وتراجع إلى الوراء خطوة، فإذا به ينقلب فوق ظهره.

لم ترَه المرأة حين انقلب، تصورت أنه لا يزال وراء الباب، كان الألم يمزق أحشاءها، وأنفاسها تتلاحق كأنما تشهق، لم يكن هو الضحك أو النشيج المتقطع، كانت تحاول الصراخ طالبة النجدة، لولا أنها تذكرت أنه وراء الباب ويمكن أن ينقضَّ لسماع الصوت.

– كيف تشد السيفون بلا صوت؟!

لم يكن هناك ماء بطبيعة الحال، ولا شيء تزيل به الأثر، لم تشأ أن تفتح الباب وتخرج بوجه بريء، أكثر ما كان يقلقها هو الرائحة، مزيج من العرق والنفط وبقايا السردين والمخلل، أكانت رائحة منفردة؟! بالطبع لا، كانت شديدة الألفة تحس نحوها بالحب، لكن الرجل وضع يده فوق أنفه وصرخ فيها يشبه النجدة، فانتهزت الفرصة ووثبت خارج الباب.

كانت الشمس تنكسر عند المغيب، وفي ضوء الغسق، بدأت تتحسس موضع قدمها على الأرض، عثرت على البقعة المحددة فوق الخريطة، رفعت ذراعها وضربت بالإزميل المرة وراء المرة، وفجأة أحسَّت به يرتطم بشيء صلب، كان تمثالًا صغيرًا من البرونز، النهد البارز بوضوح لا يقبل الشك، والردفان أيضًا يؤكدان أنها امرأة، فوق رأسها تحمل قرص الشمس والقرنان يلتويان إلى الأمام، لا بد أنها الإلهة حتحور، مَن غيرها؟ كانت في الرأس حفرة، والجلد تآكل بفعل النفط ومياه المجاري في بطن الأرض، لكن الوجه كان مستديرًا، والابتسامة فوق الشفتين، والذقن والأنف يتسمان بالرقة، والحزام حول الخصر النحيل، والثعبان الملفوف والمعقود حول الجبين، فوق الصدر لم يكن هناك إلا ثدي واحد، ربما أكل النفط الثدي الآخر، لكن الحروف كانت محفورة فوق الحجر، والاسم داخل برواز، الإله ذو الثدي الواحد، اتسعت عيناها ودققت النظر، أدركت أن الثدي قد أزيل بفعل فاعل، كانت هناك النية لإزالة الثاني، لكن الوقت لم يكن كافيًا لاستكمال الإزالة، كانت هناك محاولة أيضًا لمسح الابتسامة، أو رسم خطوط حول الفم ليكتمل العبوس، لكن الجسد ظل كما كان ممتلئ الردفين، والروح ترفرف حول النهد الواحد كأنما هو ثدي الأم.

– سيجذب هذا التمثال كثيرًا من السياح، ويأتي الفوج بعد الفوج، وتتدفق العملة الصعبة.

– ماذا تقول؟

– ألا تفهمين كلامي؟ ماذا حدث لك؟ هل أنت مريضة!

– لا، ولكني طلبت إجازة.

– ماذا تقولين؟

– مجرد طلب.

– هل فقدت عقلك؟!

لم يكن رئيسها في العمل يدرك ما تقول، كانت قد اكتشفت علامات التزييف، وتحويل الإلهات إلى آلهة، لم يكن لها أن تحكي لزوجها عن رئيسها في العمل، لم يكن الزوج يطيق سماع الحديث، ورئيسها لم يكن يطيق سماع زوجها، ولم تكن هي تطيق سماع الرجلين، كل ما كانت تريده هو الورقة، تكتب عليها الطلب، فلم يكن هناك إجازة دون ورقة مكتوبة، يحدد تاريخ المغادرة، وتاريخ العودة، والمكان المقصود، ولا يمكن ترك العودة بلا تاريخ محدد، ويمكن للرجل أن يغيب سبع سنوات، ثم يعود فيجد زوجته بحكم القانون، أما المرأة فلم تكن إجازتها إلا يوم جنازتها، والفرق مجرد حرف واحد فوق الآلة الكاتبة، وينقلب الفرح إلى مأتم.

اختفى الضوء فوق متن كثبان النفط، فضاعت معالم الطريق في الظلمة، توقفت عن السير، كانت الريح تصفر دون أن تسمع شيئًا، قناة الأذن انسدت تمامًا وكانت في حاجة إلى حاسة السمع، أيمكن أن تهرب دون أن تتسمع الأصوات؟ نظرت إلى الساعة في يدها، عقرب الساعات يشير إلى السابعة، وعقرب الدقائق متوقف، وعقرب الثواني تآكل حتى النهاية، لو كان بمقدورها عبور الحدود قبل طلوع النهار؟ لن تسعى إلى التشبث بالنفط مثلما تشبثت بالحب، فالطريق أمامها يبدو منزلقًا، الانحدار شديد، والكثبان عالية، ليس هناك فارق بين الصعود أو الهبوط، وهي تترك جسدها يتحرك كما كانت تتركه وهي طفلة، رأسها يرتطم بالظلمة، وقدماها تغوصان لما فوق الركبتين.

حلَّ الليل، وامتد النفط بلا نهاية، أمواج فوق أمواج، ولا أثر لأضواء القرية، ولا البيوت، ولا الجسر، أغمضت عينيها، وتصورت زوجها يصحو من النوم فلا يجدها، سيلوي عنقه ناحية باب المرحاض، إذا كان مغلقًا يدرك أنها هناك، وإن كان مفتوحًا يظن أنها في الحمام، أو ربما في المطبخ، كان قادرًا على تحديد مكانها دون أن يفتح عينيه، وإذا فتح عينيه فلا يمكن رؤيتها إلا من وراء الباب.

لم تخطر له قط فكرة فقدانها ولا في الحلم، فالمرأة لم يكن مباحًا لها أن تكون مفقودة، ليس لها مكان آخر تفقد نفسها فيه، وإن وجد المكان فليس هناك الرجل الآخر، وإن وجد الرجل فليس هناك الورقة، ولم يكن للمرأة وجود دون ورقة.

– ولم يشك هو في وجودها أبدًا، أليس كذلك؟

كان في استطاعة زوجها حين يمد ذراعه وهو نائم أن يمسكها، كان في استطاعته حين يصحو ويمد ساقه أن يركلها، فالمكان ضيق تمامًا، يزداد ضيقًا بمرور الوقت ومع ازدياد حجم الجسم، وتراكم الشحم، وقلة الحركة، وفي ليلة العيد يحملها فوق ظهره، كما لو كانت خروفًا، يضعها فوق الميزان، وبالثمن الذي يقبضه يشتري تلك الآلة الجديدة.

– أي آلة تلك؟

– تلك التي يدق عليها بأصابعه فتكتب له دون أن يتعلم الكتابة.

أجل، كان الحلم مشروعًا تمامًا، والآلة لم يكن لها فم مثل المرأة لتأكل ولا لسان يتكلم، فوق كل ذلك تكتب بخط واضح، وإذا لم تكتب فهي تظل في مكانها لا تبرحه، وإن تآكلت مع الوقت يمكن استبدالها، ويصبح بمقدوره الاستغناء عن المرأة تمامًا.

– إنها نوع جديد من الماكينات، ولها زر للكتابة، وزر للقراءة، وزر للشطب، وآخر للمسح …

– ومن يطبخ لك؟

– وهناك زر أبيض تضغط عليه وتطلب ما تشاء من الأطعمة، وتأتيك الوجبة ساخنة تمامًا، ومعها السلطات والمخللات وكل شيء.

– والجنس؟ أعني الحب.

– هذا له زر آخر لونه أحمر.

كانت المرأة ترهف أذنيها، والأصوات تأتي عبر مسافات تستغرق زمنًا طويلًا، كانت من المهارة بحيث استطاعت الخروج في إجازة، أجل، فإن البقرة الأليفة قد تخرج يومًا في إجازة، والماكينة أيضًا قد تكفُّ يومًا عن العمل، لا يمكن لأحد أن يتهم إحداهما بسوء الخلق. لكنها كانت لسوء الحظ امرأة، ولا يمكن لها أن تكون بريئة.

– إذا هجرت المرأة فراش زوجها ليلة واحدة تُعلَّق من شعرها يوم القيامة وتُحرق في النار.

كان هو صوت زوجها في أيام الحب، لم يكن يطيق أن تغيب عنه ليلة واحدة، لكن ذلك كان قبل أن تكتشف تلك الماكينات، وقبل أن يصبح للنفط قوة تشبه الكهرباء، وكانت هي شابة هادئة الطبع، مطيعة تمامًا لأوامر زوجها ورئيسها في العمل، باحثة محترمة من الدرجة الأولى، لها اسم في السجل مع صورة مومياء، وقد أُعجِب بها الجميع، لم يكن لها أعداء، ولم يكن لها أيضًا أصدقاء، فلا شيء يلوث سمعة المرأة إلا الأصدقاء، وفوق كل ذلك لم يكن لها شأن إلا بالتنقيب عن الحفريات.

– والآلهة؟ وصاحب الجلالة؟ ألم يكن لها بهم أي شأن؟!

– ماذا تعني؟

– أعني، ألم يكن لها اهتمام بالسياسة؟

– أتقول السياسة؟! ألا تعرف أنه محظور على النسوة تعاطي السياسة؟!

– ألم تكن تقرأ الصحف على الأقل؟

– لم تكن تقرأ ولا تكتب.

– كانت جميلة إذن.

بدا لها الحوار غريبًا، وإن كان طبيعيًّا تمامًا، لكن الأمر لم يكن سهلًا، فالمرأة لا تستطيع أن تكون جميلة إلا من خلال مرآة جيدة النوع، وكانت المرايا تفسد مع الوقت، تزحف إليها الذرات السوداء مع هبوب العاصفة، يبدو وجهها مليئًا بالبقع، تتزايد البقع بمرور الأيام، تنتشر فوق الأنف، والخدين وتصعد إلى الجبين تغطيه، وتطمس الملامح كلها والعينين، ولا يبقى منها إلا عين واحدة، أو نصف عين.

تجمدت في مكانها واقفة، لمحت صورتها منعكسة على السطح، أهو وجهها؟ لم تكن ترى إلا نصف عين، وفوق رأسها البرميل، وعنقها يلتوي إلى ناحية، وفوق رأسها البرميل، أتكون واحدة من الجارات وليست هي؟ ضربت بيدها المرآة فكسرتها، أجل، ما جدوى المرآة لامرأة لم تعد ترى وجهها؟

– لا بد أن هناك سببًا يدعو المرأة إلى إخفاء وجهها عن العالم.

– أجل، بالتأكيد.

– هذا دليل على فجور النسوة.

– أجل.

– طيب، إذن هل عندك خبر جديد؟

– أبدًا، لم يعثروا لها على أثر بعد.

– ما هذه الماكينة؟ يبدو أنك اشتريت آلة كاتبة جديدة.

– أجل، وهي تكتب وتشطب وتمسح وتغسل وتطبخ، وكل شيء.

– يمكنك إذن السفر والاستمتاع بإجازة، وعندي استراحة بعيدة في الخلاء.

– أتعني جارسونيرة؟

– لقد أصبح لها اسم جديد، ألا تعرف ذلك؟

– نعم، استراحة، هذا اسم أفضل، ويمكن أن أدفع لك بعض الأجر، رمزي على الأقل.

– لا مانع، إن كنت تصر، وقد ارتفعت الأسعار بارتفاع سعر البرميل.

– أجل، وهذا أيضًا بسبب فجور النسوة، ألم تسمع عن هذه البدعة الأخيرة؟

– نعم، بدأت النسوة تطالب بأجورهن.

– سيؤدي ذلك إلى ارتفاع الأسعار بشكل جنوني.

– لا تقلق، فهناك ماكينات جديدة ستحمل البراميل فوق أربع أرجل من الكاوتش بدل النسوة، وتمشي بقوة النفط.

– هذا من فضل الله علينا، ألا ترى أن الله معنا دائمًا؟

•••

واصلت التسمُّع عبر المسافات الطويلة، توقفت تمسح بكفها العرق، أمن الأفضل ألا تعود؟ تلفتت حولها تقدم رجلًا وتؤخر الأخرى، كانت تقف فوق حافة البركة، تطلعت عيناها إلى السماء تراقب ظهور الأضواء، ربما كانت طفولتها هي السبب، لم تكن قادرة على نسيان طفولتها، كانت تصعد عند الغروب فوق الجسر، وتجلس تنتظر، حقول الزرع ممدودة بامتداد النهر، أسفل المنحدر ترقد البيوت متلاصقة متساندة بعضها إلى بعض، فوق الأسطح أقراص الجِلَّة والحطب وأبراج الحمام، والأرض ترابية يتصاعد منها الغبار ورائحة الخبيز، والروث يتطاير منه الذباب والبعوض والصراصير الطائرة السوداء، البركة الكبيرة وراء الجامع يلعب فيها الأطفال يتصاعد منها نقيق الضفادع مع أصوات الضحك والبكاء، من الطريق الزراعي تنبعث أصوات العائدين من الحقول، تثير أرجلهم الغبار، وأرجل الجاموس والبقر، تختلط أنفاسها مع أنفاس البشر، وهي جالسة فوق الجسر تنتظر، تتابع بعينيها ارتعاشة النجوم فوق رأسها، وأسفل المنحدر ترتعش ذؤابات الضوء في البيوت، وصوت الناي يسترسل في ظلمة الليل، وغناء النسوة الحزين يجلسن في العتمة وظهورهن إلى الجدار، وخالتها تربط رأسها بالمنديل، وهي فوق الجسر جالسة لا تريد العودة، مرتدية جلبابًا ملطخًا ذيله بالطين، تمشي به كل يوم من الدار إلى الحقل، وفوق رأسها تحمل زكائب المحاصيل، وفي المساء لا تلعب مع الأطفال، فاللعب لم يكن إلا للصبيان، ولا شيء يساوي عندها الجلوس فوق الجسر، عيناها مثبتتان في اتجاه الأفق، قلبها ينبض بقوة، والأضواء تنتشر فوق رأسها في السماء، والمصابيح في النوافذ ترتعش، فوق العمود يرتفع الكلوب، تحوم حوله الفراشات الخضراء، ذات الأرجل المشرشرة، وتمتلئ المصطبة بالرجال، يخرجون من البيوت، ويأتون من القرى المجاورة، يشربون الشاي والدخان، ويتناقلون أخبار الصحف، تغمض عينيها وترى نفسها وقد دخلت المدرسة وتعلمت القراءة والكتابة وأصبحت باحثة في علم من العلوم، أو كاتبة من هؤلاء اللائي ترى صورهن في الصحف، كان الشريان في عنقها يدق بقوة، كأنما تتدفق إلى رأسها الأفكار العبقرية، كانت خالتها وجميع الجارات يرفعن كفوفهن المشققة إلى أعلى، يبتهلن إلى الست الطاهرة أن تمنع عنها الحسد والأرواح الشريرة، تسمع أصواتهن تهمس بصوت كحفيف الهواء: «هذه البنت لها عقل يوزن بلد.»

في طفولتها امتلأ رأسها بهذه الفكرة، وأفكار أخرى بلا عدد، تفيض من حولها وهي ترقب النجوم، ترى الحياة تحت الأضواء واضحة كل الوضوح، مثل كتاب مفتوح، بسيطة كل البساطة، وأن الموت أبسط من الحياة ويبدأ لحظة الولادة، وأن الحبَل يُعجِّل بالموت، والزواج مضاد للعقل، وأن الملوك والآلهة كانوا مذنبين ومرتكبي آثام كثيرة، وأنها شهدت موت أبيها وهي جنين في بطن أمها، وابتهجت بذلك الحادث السعيد إلى حد الانزلاق من الرحم.

في تلك اللحظة كانت تحس جسمها ينزلق وحده أسفل الجسر، وحين تعود إلى الدار تتلقى علقة ساخنة، أو تبيت بغير عشاء، لكنها كل يوم عند الغروب تمشي إلى الجسر، وتجلس في مكانها هناك، تنتظر ظهور النجوم، كأنما تكتشف شيئًا جديدًا، في كل مرة تظهر فيها الأضواء.

– ما الذي يمكن أن تخسره الواحدة منا بحق الست الطاهرة؟!

ومع ذلك لم تفكر واحدة من النسوة في الهروب، لم تكن تفهم السر، لماذا تضطر المرأة للعودة وهي لا تخسر شيئًا إن لم تعد؟ اللهم إلا العلقة الساخنة، لكن النسوة بدأن في الابتعاد داخل الظلمة، لم تسمع منهن إلا أصواتًا هامسة من بعيد كحفيف الهواء: هذه المرأة تفكر في الهروب.

– امرأة بلا عقل.

– ركب رأسها الشيطان.

– بل إنه البرميل يسخن الرأس.

– لعنة الله عليه، أصابنا جميعًا بوجع الدماغ.

– الرحمة يا ستنا الطاهرة.

•••

كان الرجل قد عاد فجأة، بدأ يرفع البرميل من فوق الأرض، وهي تبرك كالجمل فوق ركبتيها، بحركة واحدة أصبح البرميل فوق رأسها، لا يفصله عن فروة الشعر إلا تلك الحواية، ملفوفة حول نفسها والعقدة فوق الجبين، بدأت السخونة تتسرب وعنقها يلتوي، كانت تفكر ماذا يمكن أن تخسر؟ لم يكن هناك شيء تخسره، اللهم إلا ذلك الاحتكاك أثناء النوم، حين تمتد ذراعه في الظلمة، ويمسك يدها، فتتركها له لمجرد استغراقها في النوم، فإن لم تكن مستغرقة تتركها له أيضًا، مع تأنيب الضمير، وقد تسحبها منه وهي تتثاءب ثم تتقلب على الجنب الآخر لتواجه الحائط.

– ألم يكن بيننا في البداية حب؟

قد يكون هذا هو صوته، أو ربما هو صوتها، كلٌّ منهما اكتشف بعد فوات الأوان هذا الشك، الذي كان موجودًا منذ البداية، وواضحًا كل الوضوح، لكن كل شيء كان غامضًا، وعسيرًا على الفهم، ربما هو النفط، أو السخونة في الرأس، وربما هو الخجل أيضًا حين يكون الحب غائبًا، وحين تكون الصداقة بين الرجل والمرأة غير واردة، فما الذي يمكن أن يجمعهما معًا؟

– ماذا تقول؟

– الحبَل.

كان الرجل في مكانه واقفًا، مدلِّيًا كتفيه، صدره عار في مواجهة الليل، رأته يشد عضلات وجهه ويفتح فمه، حركة أشبه بابتسامة الحب، كانت أشد قسوة من الكشف عن أنياب الذئب، قد يتورط في عمل الحب، لكن ذلك لن يكون إلا بسبب اليأس، واشتداد الحرارة أو التهاب الجلد.

– الرجل يفوق المرأة في كل شيء حتى الحب.

– أتعني حب الذات؟

– اسمعي! ما هذه الأصوات؟

لم يكن في إمكانها سماع أي شيء، ربما كانت الأصوات تنبعث من الماضي أو الخيال المصاب بضربة شمس، واستطاعت رغم ذلك أن تدرك العلاقة بين حب الذات وشهوة الجنس.

رفعت ذراعها إلى أعلى، وأمسكت قعر البرميل، خشية السقوط، أوغلت بقدميها في البئر، أدركت وهي تغوص أن هناك شيئًا آخر في الطفولة، لا يمكن أن تنساه، وهي النظرة في عينَي خالتها، قبل أن تختفي العربة في الليل ومعها الكلاب، كان تدفق المطر يزداد مع قوة الريح، والذرات السوداء تتطاير بسرعة أكبر، تشبه الصراصير الطيارة في الليل، رغم المطر وانزلاق الأرض، كان عليها أن تحمل من البراميل الضعف أو الضعفين، بأمل الحصول على تذكرة العودة، أو نصف تذكرة، كان يمكن تخفيض الثمن إلى النصف في حالة الأطفال تحت سن الرشد أو النسوة من ذوات السمعة الطيبة، أو الرجال من ذوي الأمراض، والمصابين بالعته.

أوغلت حتى القاع غير هيَّابة لشيء، تركت أمواج النفط المتدفقة تلطم صدرها وتمزق الجلباب، يتعرى جسمها، يتلوى مع حركة الموج، تلهث كالطفلة، تسبح، تدخل المياه صدرها فتشهق، ترتفع ذراعها وتهتز بعنف كالفرخة المذبوحة، ترقص.

هدأت العاصفة قليلًا، وهدأ معها جسمها، بدأ عقلها يعمل، أجل، لم يكن لعقلها عمل سوى التفكير في الهرب، كان يمكن أن تهرب تلك اللحظة، لولا جسمها المدفون في الأرض، والرجل أيضًا واقف فوق رأسها كالصقر، ورئيسها في الشركة لا يكف عن المساءلة: كم برميلًا حملت؟ لماذا تأخرت عن الحضور في الموعد المحدد؟ كان هناك دفتر للحضور والانصراف، وعليها أن توقع كل يوم، حضورها وانصرافها وعدد البراميل التي تحملها.

– أجل، إذا كان جسمها مدفونًا في هذا المكان فلماذا لا تبدأ على الفور بالحفر؟!

عقدت عزمها في الحال على الإمساك بالإزميل، والعودة إلى البحث، لم يعد لديها هدف إلا العثور على جسدها، إن لم تعثر على الجسد بأكمله، ربما تجد عضوًا أو شيئًا من الرفات، وقد يحالفها الحظ فتعثر أيضًا على واحدة من الإلهات، تدفق الحماس إلى جسدها على شكل انتفاضة العضلات، يدها تشد على الحزام كالموشكة على ضرب عصفورين بحجر واحد.

كانت الحرارة شديدة، نزعت الحقيبة من فوق كتفها ومعها الحزام، فكت أزرار الثوب وتخلصت تمامًا من ملابسها، بدا جسمها شابًّا أكثر شبابًا مما تصورت، خطرت لها فكرة أن جسمها قد اندسَّ بالقوة في المساحة التي تشغلها، عبثًا حاولت أن تضع يدها عليه، كان هناك من يمسك يدها في يده، ربما هو الرجل، مَن غيره؟ كان يؤنبها لأنها لم تجهز العشاء، في الأمسيات التي لم يكن يؤنبها فيها كان يستغرق في النوم، دون أن ينطق حرفًا، أو حتى ينظر إليها.

لم تكن الحرارة مزعجة، ربما بسبب العري، نسمة هواء تداعب النهدين، تتسع عيناها وهي ترقب ذلك الجسد العاري، تشتد الدهشة حين يتحرك الجسد إلى الناحية الأخرى ويختفي.

كان عليها أن تحرك رأسها قليلًا لتراه مرة أخرى، جسد طويل مشدود العضلات خاصة عضلات البطن، بسبب عدم الحبَل لا شك، وعضلات العنق، إنه البرميل لا شك، وعضلات الذراع اليمنى، بسبب الحفر بالإزميل لا شك، وأصابعها طويلة مسحوبة الأطراف مشبعة بالحركة دون أن تحركها، ولون الأظافر أسود.

لم يسبق لها قط أن تأملت جسمها من هذا القرب، قمة أنفها حمراء ملتهبة بسبب الشمس، وجفونها متورمة، كتفاها يهبطان بحدة إلى اليمين وإلى الشمال، لونهما برونزي قاتم مثل كتفَي المومياء، لكن عند الصدر كانت تبتدئ منطقة اللحم الحقيقي، نهدان بارزان في كبرياء، حارَّان، كأنما تسخنهما من الداخل روح خفية، والحلمتان نافرتان مستنفرتان تنبضان مع نبض آخر ينبعث من عمق مجهول.

هبطت عيناها مع انسياب الجسم، تجمَّدتا فوق غابة الشعر أسفل البطن، عبثًا حاولت أن تنظر، لم يكن لها أبدًا أن ترى بوضوح، وإن دققت النظر تحس الالتهاب في عينيها، لم تكن تستطيع النفاذ إلى هذه الغابة، التي بدت لها رغم الكثافة فارغة من الداخل، أكان ذلك بسبب فراغ العالم؟!

أشد ما كان يفزعها، هو عجزها عن التحديق طويلًا في عينيها، تراهما غائرتين تحت عظام جبهة يابسة كالأرض، تنظر إليهما، كما لو كانتا نقطتين في الأفق بعيدتين جدًّا، أبعد من النجوم، كأنما لو كانتا عينَي امرأة أخرى تطلان عليها من وراء السحب.

– عينَا واحدةٍ من الإلهات لا شك.

كانت قد حددت المكان حسب الخريطة، واصلت الحفر على مدار اليوم من الشروق إلى الغروب، لم تكن تتشكك في المكان، ورائحة جسدها تتصاعد من بطن الأرض، لا شيء يدل على الجسد إلا الرائحة، لكنها في نهاية اليوم لم تعثر على شيء، خرجت مع الإزميل خاوية اليدين.

ربما أخطأت المكان، لا شيء كالخطأ يعيد إليها الأمل، حملت حقيبتها وانتقلت إلى مكان آخر تصورت أنه الصحيح، كانت الرائحة تتصاعد منه على نحو أشد، كلما اشتدت الرائحة ازداد يقينها أنها بالقرب من جسدها، حفرت حتى وصلت القاع، لم تعثر على شيء، فانتقلت إلى مكان آخر، لم تكن مستعدة لقبول اليأس، انقضى اليوم وهي تحفر دون طائل، احتضنت الأمل على امتداد اليوم وراء اليوم، وفي كل يوم تنتقل من مكان إلى مكان، في نهاية المطاف حين انصرم النهار الأخير وغابت الشمس، تهاوى جسدها وراحت تُجهش بالبكاء.

– أيكون من الأفضل أن تعود إلى حمل البراميل؟

لكن الدموع كانت تنحدر كالبخار المحبوس، تخفف رأسها من ثقل الضغط ثم فتحت عينيها، أدركت أن جفونها ملتهبة والدموع امتزجت بذرات النفط، لكن عقلها كان يصفو على نحو غريب، ولاحت لها فكرة من بعيد كالنجم يلمع في ظلمة الليل، إن عدم وجود الإلهات في هذا المكان لا يعني عدم وجودهم على الإطلاق، ثم إن الأرض تدور، وربما قد تبدل المكان بمكان آخر مع دورة الأرض.

– فكرة منطقية تمامًا.

وكان هناك الدليل على هذه الفكرة، إن موضع جسمها قد تبدَّل فعلًا، لم تعد في مكانها الأول، كان تدفق الشلال يجرفها إلى مكان آخر، وفي بطن الأرض كان التيار أيضًا يدفع الرُّفات بحركة مستديمة، كان يمكن لرفاتها على هذا النحو أن تجتاز الحدود، لولا نقطة التفتيش، وإذا كان الحارس غارقًا في النوم.

ربما هو حظها العاثر، كان الحارس يقظًا بسبب يقظة البعوض ليس إلا، والمبيدات أيضًا كانت مغشوشة تلتهمها البعوضات في غمضة عين، وتغدو الواحدة منهن في حجم الضفدعة، أجل، كان يمكن أن تفلت بعض الأجسام من جواز المرور، ربما أفلح جسمها في الهرب بلا تذكرة، ولا تصريح مكتوب بخط زوجها، ولا ورقة صفراء مختومة بالصقر وتوقيع رئيسها في العمل، لم تكن لديها النية في خرق القوانين، كانت مثال الطاعة والولاء، وكان يمكن على الأقل لرفاتها أن تموت دون فحوص، لولا إنشاء ذلك المبنى الذي سُمي فيما بعد بالمشرحة، في أحلامها بالليل لم تكن تستطيع النظر إلى جسدها الممدود، فوق المنضدة الباردة من الرخام، وأنفها مملوء بالفورمالين.

وأحست يدًا حانية تهدهدها، كانت بطبيعة الحال يد الرجل، مَن غيره؟ صوته في أذنيها رقيق كالهواء.

– لن تكون رائحة الفورمالين أسوأ من النفط في نهاية المطاف.

كان صادقًا كل الصدق، بدت رائحة الفورمالين أكثر رقة، أو ربما هو الحلم، حين يصبح الشيء جميلًا لمجرد أنه غير موجود، وخطرت لها فكرة.

– لا بد أنها جميلة الآن في عينَي زوجها لمجرد أنها غير موجودة.

إثر هزة عنيفة ارتمت أرضًا فاقدة الوعي، لم تستطع تثبيت قدميها في المكان، جرفها التيار في اتجاه لا يمكن أن تحدده، وقبل أن تستعيد الحواس انبعث صوت أشبه بصفارة المركب، انطلقت تجري نحو الشاطئ، وصوت الأمواج كالطبول ترتفع.

– النجدة!

انطلق صوتها كالصفارة وسط دقات الطبول، لم تعرف أهي طبول العيد، أم صفارة الصمت تدوي في الآذان قبل النفس الأخير، إلا أنها كانت ترى الشراع من بعيد، نقطة بيضاء في الأفق، الظهور الأول لأي موكب في البحر، عيناها تكتشفان الضوء، نقطة واضحة كل الوضوح، محددة مثل قطرة ماء، واضحة وصافية وعذبة، كصوت أمها يسري في أذنها قبل الولادة.

– امسكي إيدي.

رأت ذراعًا طويلة في نهايتها خمسة أصابع، مفرودة ممدودة إليها، وهي تمد ذراعها كما كانت تمده وهي طفلة، عيناها شاخصتان ثابتتان فوق نقطة الضوء، قفزت إلى الأمام تهزها النشوة، الصوت في أذنيها واضح محدد كالنجم.

– هاتي إيدك في إيدي.

حركت جذعها لتمد ذراعها أكثر، اختفى الصوت كأنما بددته الحركة، أو اختنق في قرقعة الطبول، ونباح الكلاب من بعيد، أطبق الظلام يشبه التجويف داخل الرحم، أدركت أن أمها لا بد عاشت هذه اللحظة، حين كانت تغيب الشمس ويغرق الكون في الظلمة، كانت تجلس مثلها فوق الجسر، عيناها تنظران، وحين تظهر الأضواء ينتفض جسدها كما كانت هي تنتفض، وقلبها يدق بقوة، توشك على اكتشاف ذلك الشيء، الذي كان يبدو في كل مرة ليس شيئًا.

كانت البركة تمتد أمام عينيها لا نهائية، الرجل كان يستدير عائدًا إلى البيت، ظهره أصبح مقوسًا بعد أن تهاوى في الفراش، كان نومه ثقيلًا، وهي راقدة مغلقة الجفون، في أحلامها لم تكن تكف عن الهروب، ساقاها تطلقهما للريح، ومن خلفها كان هناك شيء يجري فوق قدمين، وأحيانًا أربعة أو ستة لم تكن قادرة على أن تعد الأرجل أو القوائم، وصوت اللهاث من خلفها عالٍ مسموع، له إيقاع منتظم كالشخير، حين تستدير لا ترى شيئًا يجري وراءها إلا ظلها الأسود فوق الأرض.

– إنت صاحي؟

– لأ، نايم.

لم تكن تعرف كيف يرد عليها وهو نائم، لكنه كان يتكلم في النوم أكثر من أي وقت آخر، فإذا انقلب على الجنب الآخر لم تسمع الصوت، كان الليل حارًّا كأنما قرص الشمس لم يغِب، الظلمة كثيفة القوام تكاد تلمسها باليد، وضوء اللمبة يتهالك رغم الثبات، لا شيء يتحرك إلا تلك الكائنات، ذات الأجنحة، كان من الطبيعي أن تنجذب الفراشات البيضاء إلى الضوء، لكن هذه الكائنات لم تكن بيضاء، ولم تكن صغيرة كالفراشات، كانت كبيرة بحجم الضفادع، سوداء بلون الليل.

– هل يغيِّر النفط أيضًا من طبيعة الفراشات؟!

راحت الضفدعات تدور بحركة سريعة حول المصباح، حدقت في إحداهن طويلًا، كان لها رأس أسود كأنما مربوط بمنديل، فمها مزموم بلا ابتسامة، ترتطم بزجاج المصباح المرة وراء المرة، ظلها فوق الجدار أكبر من حجمها الحقيقي، يتراقص مع حركتها، يترنح مثل فرخة مذبوحة، تتخبط ولا تكف عن الانجذاب إلى اللهب، تتشبث به تحاول الثبات عليه خشية السقوط.

كانت تبدو لها ضفدعة عاقلة تمامًا رغم سعيها المجنون، ألم يكن لديها ما تمسكه إلا ما يدمرها؟! كانت تسعى إلى النجاة، مع أنه ليس إلا الموت، وقد أصابها اللهب بسخونة في الرأس، وسقطت محترقة إلى الأرض مثل سمكة مشوية، عيناها جاحظتان مملوءتان بالندم، مدت ذراعها لتربت على رأسها، وفجأة تصاعدت منها رائحة اللحم المشوي، بحركة سريعة من يدها أدخلتها في فمها، والتهمتها في لحظة، لم يكن لديها وقت لتأنيب الضمير.

لمحها الرجل وهي تتلمظ بعد الوجبة الشهية، مسحت فمها بكفها كأنما تخفي الإثم، شدت عضلات ظهرها، سارت تدب بقدميها كما كانت تفعل وهي طفلة، إنها تُسرع الخطى، كأنما لتلحق موعدًا محددًا في المكان المحدد، أنفاسها تلهث كالأطفال، تكاد تصرخ من الفرح حين تصل قبل الموعد بلحظة، تلك الليلة كانت الريح تعصف، والغبار الأسود يحجب السماء والأرض، ظلت جالسة في مكانها تنتظر، ربما انتصف الليل وهي تنتظر، كانت على يقين أن النسوة هناك وراء السحب، وأنهن سوف يظهرن مثل كل ليلة، السحب كانت تراها متحركة، وسوف تنتقل من هذا المكان إلى مكان آخر، سوف تظهر النسوة حتمًا، عن يقين سوف يظهرن، وبدأت تغني لتسلي نفسها، كانت تسمع خالتها والنسوة من الجارات يغنين للست الطاهرة، أو يغنين للشمس حين تطلع، أو للقمح عند الحصاد، أو لمياه النيل حين تفيض، أو للقمر حين يصبح بدرًا، تتوه عيناها في خضم الظلمة السوداء، تلمع الدموع في عينيها، النسوة لم يظهرن ككل ليلة.

– هل وشين بها عند صاحب الجلالة؟

كانت الريح تلطم وجهها بالذرات السوداء، كل شيء من حولها تغطى بالظلمة، لا هي بالسائلة ولا هي باليابسة، تتسرب من تحت الجلد وتدخل مسام جسمها، تزحف من تحت العظام إلى مراكز الحس والعصب.

– بللي لسانك بقطرة أو قطرتين.

كان الرجل واقفًا، ذراعه ممدودة إليها بالزجاجة، وهي تحاول أن تمد ذراعها، عيناها مفتوحتان عن آخرهما، شفتاه تتحركان دون أن تسمع الصوت، وأذناها مسدودتان، تراكمت الذرات وذابت مع السخونة كالشمع الأسود، وهو واقف أمامها على بعد امتداد الذراع، يده تمسك الزجاجة، ذراعها ملتصقة بجسمها، تحاول أن تحركه فلا يتحرك، جسمها في مكانه ثابت، بينما الضفدعات تتطاير بخفة حول اللمبة.

اتسعت عيناها تحملقان في الضوء، جفونها ملتهبة لا تقوى على إغلاقها، اللهب يلسع البياض العاري، شدت جفونها وأغمضت عينيها، بدت الظلمة أفضل من الضوء، عقلها أيضًا بدا لها أكبر من عقل الضفدعة، من تحت الجفون كانت ترى نقاط الضوء تسبح في المساحات السوداء، مثل قطرات الماء تنزلق من بين عينيها.

– أتبكين كالنسوة؟

لم تكن تعرف أنها هي التي تبكي، كان النشيج يسري في أذنيها كصوت واحدة من الجارات، أو صوت خالتها، أو أمها وهي بعدُ جنين، أو ربما هي الست الطاهرة نفسها، لم تكن سمعت صوت السيدة الطاهرة أبدًا، لكن خالتها كانت تسمعه، وحين تنام تترك النافذة مفتوحة، تُرهف أذنيها في الليل، قبل طلوع الفجر، يسري الصوت هادئًا كشعاع من الضوء، لا تكاد تسمعه وهي راقدة فتنهض، تشرئب بعنقها نحو الأفق، يأتيها الصوت من بعيد قبل ظهور الشفق.

– أمرت بشفائك من وجع الرأس، انهضي!

تنهض خالتها على الفور من رقادها، تفك المنديل من حول رأسها، تجلس في الطشت، تصب الماء بالكوز فوق جسمها، مع كل كوز تهمس باسم الست الطاهرة ثلاث مرات.

– من هي الست الطاهرة يا خالتي؟

تفتح خالتها ذراعيها كأنما هي كل العالم، الست الطاهرة هي أم الكون، هي أم السماء والأرض، هي الوحيدة القادرة على شفائها، هي أم الآلهة جميعًا والأنبياء، هي واهبة الحياة والصحة، وهي إلهة المرض والموت.

– نعم يا ابنتي، مَن تُعطي الحياة هي القادرة على أخذها ومَن تجلب المرض هي التي تجلب الشفاء.

•••

من وراء الكثبان العالية، عبر المسافة البعيدة في الليل، رأت مندوب البوليس جالسًا، كان هو الكرسي المتحرك ذاته، يدور به فيصبح وجهه ناحية زوجها، بدا كأنما أيقظوه فجأة من النوم.

– أراك متورم الجفون، وشفتاك مشققتان، هل أنت مريض؟

– منذ العيد لم يرسلوا إلينا المنحة.

– ألا تكف عن التذمر وأنت في نهاية العمر؟ ألا تعرف أن صاحب الجلالة هو الخادم الأمين والساهر على الدوام من أجل راحتنا؟

– أجل، هذا واضح تمامًا لكن …

– ليس عندك حجة الآن لعدم الكتابة، وعندك هذه الآلة الجديدة.

– أتنوي الشركة توصيل التيار؟

– أجل، وإذا جاء التيار يمكن لك أن تكتب حين تنقطع الكهرباء، وهذه الآلة الجديدة كما تعرف تفكر، وتكتب وتشطب وتمسح و…

– وتغسل وتطبخ وكل شيء، إنها تقوم بعمل أربع زوجات على الأقل.

– ألم تعد زوجتك من الإجازة بعدُ؟

– أتعني الأولى أم الأخيرة؟

– على أي حال نحن جادين في البحث، لا بد من تقديم تقرير لصاحب الجلالة قبل نهاية العيد، وهو كما تعرف في انتظار مقالك الجديد بمناسبة عيد ميلاده، أتعرف أنه سألني عنك، ولماذا لم تعد تكتب؟

منذ كف عن الكتابة لم يكن هناك إلا فراغ العالم، امتداد الليل في النهار ولا أحد يسأل عنه، مساحات من الظلمة لا يملؤها إلا النوم، أو قراءة الصحيفة أو تحريك الذراعين والساقين في الهواء، مع طرقعة أصابع القدم، كان مثل صاحب الجلالة لا يعرف القراءة ولا الكتابة، لم يكن له أن يكون أفضل من الملك، ثم ما جدوى القراءة والكتابة؟ الأنبياء جميعًا كانوا أميين واستطاعوا رغم ذلك قيادة العالم، أليس كذلك؟

كان يدق طول الليل بأصبعه، الدقات تطرقع في رأسها وهي نائمة، صوت الريح أيضًا كان يفرقع، والشلال يهدر كالمطر يدق النوافذ والأبواب، تلف رأسها بالمنديل الأسود، تعقده فوق جبينها كرأس الثعبان، ترى نفسها في المرآة مثل الإلهة سخمت، يرمقها بعينين حمراوين ملتهبتَي الزوايا.

– صاحية؟

– لأ.

تقولها بلا صوت، تغمض عينيها متظاهرة بالنوم، تُحكم إغلاق جفونها، لكنه يمد ذراعه، يحاول فتح عينيها بأصابعه، كأنما سيسكب فيها القطرة، لا شيء ينسكب في عينيها إلا ضوء اللمبة، يلامس بياض العين كاللهب، وهو جالس في مكانه يُخفي نصفه الأعلى وراء الصحيفة.

– من الطبيعي أن تشعر بالخزي حين تقرأ مقالك، أليس كذلك؟

– لا تكلميني بهذه الطريقة الخالية من الاحترام! ألا تعرفين أنني زوجك؟

– لا، لم أكن أعرف.

– ألا تعرفين أن الله أمر المرأة أن تسجد لزوجها؟ هيا اسجدي يا مره!

– ألا تعرف أنك تسجد لصاحب الجلالة؟

– ما العيب في هذا؟ الجميع يسجدون له.

– ألم يعلن أنك تسلمت رشوة من الشيطان لتكف عن الكتابة عنه.

– لم يكن إلا عتابًا رقيقًا من جلالته، وكتبت شكوى له.

– شكوت منه إليه؟

– ما العيب في هذا؟ الجميع يشكون منه إليه، هيا اخلعي ثوبك الوسخ وخذي حمامًا لنحتفل معًا بالعيد، وعندنا بدل الزجاجة زجاجتان، انظري!

•••

كان يمسك في كل يد زجاجة، ويدور حول نفسه، يدق الأرض بقدميه في إيقاع راقص، طبول العيد تدق الإيقاع ذاته، واهتزت الأرض تحت جسده، فانفكت دكة اللباس، تساقط سرواله حتى قدميه، رفسه بقدمه اليمنى، فطار في الهواء ثم اشتبك في خطاف في السقف، ظل معلقًا يتأرجح تحت الضوء، تعلوه البقع السوداء، تفوح منها رائحة النفط، وهو يواصل الرقص عاريًا، كما ولدته أمه، يدور حول نفسه دورة كاملة، ثم يعود إلى النقطة ذاتها حيث بدأ.

كانت تظنه في عمر الشباب، لكن جسده العاري كشف أنه كهل كتفاه تهبطان متهدلتين إلى أسفل، صدره مقوس تحت فروة ناحلة من الشعر، عضلاته مثل حبال مرتخية، وبشرته يابسة مثل طبقة من الجبس يمكن أن يخلعها عنه.

هبطت عيناها مع انسياب جسده أسفل البطن، كان ضوء منحرف يتساقط فوق كتلة الشعر، تهتز مع كل تنفس ملقية ظلالها على الجدار، شريان عنقه نافر ينتفض، يرسمه الضوء الشاحب بخط أسود، أجل، كان هناك نفط حقيقي في عنقه، في هذا الشريان المنتفخ، وفي هذا السائل الأسود الذي يجري مجرى الدم.

ظلت واقفة تحملق داخل ملابسها الكاملة، وهو ينظر إليها يتوقع منها أن تخلعها، لكنها أصبحت تشك في أمره، ولا تعرف إن كان عليها أن تتعرى مثله. لم يكن لها هدف من البقاء معه إلا الاحتماء وراء جدار، وإن سقط الجدار في مواجهة الشلال فلن يكون بينهما شيء.

– أجل، سينهار الجدار وينهار كل شيء معه.

ربما استغرقت وقتًا طويلًا حتى تعرَّت، حدث كل شيء كأنما لا شيء، ثم دوت الصفارة في أذنيها كالصرخة، صرخة ألم كاملة السواد مكتملة اليأس، صرخة بلا حدود شقت الظلمة مثل حد السيف، تحمل من عرض البركة ومن أعماق الأرض والسماء جميع الآلام، مثل ظهر حيوان مثقل بجميع الأوجاع، بذكرى الإهانات والصفعات، وحفلات الأعياد، والزجاجات والمقالات، والأنوار المتلألئة، والأوحال وجميع الأشواق الدفينة للموت أو العودة إلى رحم الأم.

أصبح كل شيء كأنما يتكشف تحت ضوء الصرخة، القمر الذي صعد في السماء، الهواء الذي يحرك سطح البركة، العري الذي بلغ قمة اليأس، العرق المحموم بالأمل، ذكريات طفولة غامضة، غرفة مجهولة في حياة سابقة، إزميل باحثة بلا بحث، إلهات لا وجود لهن في أي مكان، وأشلاء صغيرة، مبعثرة، لا يمكن أن تلمها إلا قوة خارقة، تلمها وتصنع منها ذلك الشعاع الممدود من عينيها حتى سطح القمر.

– أهي نهاية العالم؟

– بل هي روح الست الطاهرة تُحلِّق.

قالتها دون أن تفتح شفتيها، منذ إخفاقها في الهرب أوشكت أن تنسى كل شيء، حياتها كلها عديمة الجدوى، لكن الأمر ينقلب مع انقلاب حركة العين، ترى الروح تحوم فوق سطح القمر، تدرك على الفور أن اللحظة جاءت، وقد تم اختيارها لأداء الرسالة، تشد عضلاتها وتنهض، تُسرع الخُطى في الطريق، فوق كتفيها الحقيبة معلقة بالحزام، تشده بيدها كأنما تشد وجودها من العدم.

– أجل، لقد تم اختيارها وعليها أن تقود النسوة إلى طريق الخلاص.

ماذا تقولين يا أختي؟

– هناك طريق بلا شك.

– ألم تحبلي حتى الآن؟

– ليس من السهل وجود رجل قادر على الحب.

في أعماقها كانت تحنُّ للحب، كان للنسوة الأخريات أزواج وأطفال، تعد كل واحدة منهن أسماء أطفالها على أصابعها، عيونهن مملوءة بالزهد في كل شيء، لم يعد لهن أمل في الحياة، وهي ماذا حققت؟ لم تعثر على شيء، لكنها على الأقل لا تخجل من كشف وجهها، والنظر بكل عينيها إلى ضوء القمر.

– ألهذا السبب لم ترَ الرجل في حياتها قط؟

كان الرجل واقفًا على العتبة، لم تفتح فمها وتقُل شيئًا، إن قالت فلم يكن بمقدوره أن يفهم، وإن فهم فإن القدر يتدخل حتمًا ليفرق بينهما، كانا يعيشان داخل نظام يحكمه القدر، والقدر لا يدرك من الحب إلا نوعًا واحدًا، تلك العاطفة الجياشة للأرض وصاحب الجلالة، ربما كان ذلك بسبب الحدود التي يفرضها النفط، قوة المد والجذر المختبئ في المياه السوداء، قصف الريح وحركة الموج مع تدفق الشلال، كانت على يقين أن الرجل الواقف أمامها ليس هو رجل أحلامها، كلاهما كان قادمًا من نقطتين متعارضتين ليلتقيا صدفة، كأنما لم يكن يجمعهما شيء إلا القدر.

•••

– وكانت أيضًا لا تجيد الطهي، امرأة بلا قيمة تحاول أن تستقي قيمتها من قيمة الإلهات.

إنه صوت زوجها أو ربما رئيسها في العمل، يدلي بأوصافها لرجل البوليس، في طريقها إلى العمل قد تمر بالصدفة أمام مطبخ، تلمح رءوس البصل متدلية، يصيبها المنظر كأنما بطعنة خنجر، تشتهي أن تموت قبل أن تلمس شعرة من تلك الرءوس، كانت هذه الشعرات الصفراء تظهر لها في الحلم كأسنان كماشة، تقبض على عنقها من الخلف، وتُلقي بها إلى ما وراء الموت.

– ربما كانت في حاجة إلى إجازة.

لم يكن للمرأة أن تخرج في إجازة، كأنما الباب إذا انفتح وخرجت فلن تعود، جاءتها فكرة الحب، حب كبير تستحق أن تموت من أجله امرأة لم تعرف الحب، نزيلة السجن الدائم، الهواء المعدوم، الدخان والذرات السوداء، الصمت وقرقعة أوراق الصحيفة، النصف الأسفل لرجل نائم، والمطبخ، أجل، قد تنبعث من المطبخ رائحة اللحم المشوي فإذا بالرجل يصحو، تستيقظ الشهوة وربما الحب، غير أن المكان هو أبدًا لا يتغير، مدفوعة فيه بحكم غريزة البقاء، وجبات الأكل لا نهائية، لا تكفي لإرواء الغليل، أجل كانت هناك الورقة والآلة، دقت بأصابعها الطلب.

– هل طلبت إجازة؟

– نعم.

– هل حصلت على موافقة زوجها؟

– لا.

– هل حصلت على موافقة رئيسها في العمل؟

– لا.

– كيف خرجت في إجازة إذن؟!

يدب الصمت في غرفة التحقيق، يدور رجل البوليس حول نفسه داخل الكرسي، يشعل اللمبة الحمراء، يطرد الصحفيين، يدق بأصابعه فوق الآلة ثم يستدير، يحملق في وجه زوجها ورئيسها في العمل.

– أتريد الصراحة؟

– نعم.

– ألن يتسرب الخبر إلى الصحافة؟

– لا، بكل تأكيد!

– أجل، كانت الحاجة إلى الخروج ضرورية.

– كيف؟

– خرجت تبحث عن كبريائها الضائع، كان لها كبرياء حيوان انتصب فوق قدمين ولم يعد يزحف فوق أربعة قوائم، أجل، لم تكن هي امرأة مطبخ ولا سرير، لا تحفظ الألحان التي تغنيها النسوة في الحمام، ولا تعرف الحب الذي ينبعث في قلب زوجها حين يراها تحشو الكرنب، وأكثر من ذلك لم تكن رموشها تهتز حين ينظر إليها رئيسها في العمل أو صاحب الجلالة.

تتجمد أصابع رجل البوليس فوق الآلة، يمسح كلمة صاحب الجلالة، ويواصل الدق بيد واحدة، ويده الثانية تمسح العرق عن وجهه.

– امرأة عيناها حجريتان مقطوعتان من جبل جليدي بارد.

إلى هنا توقفت أصابعه تمامًا وكف عن الكتابة، دار بجذعه عدة دورات داخل الكرسي ثم ثبت في مكانه، وجهه ناحية الحائط، لم يعرف تمامًا مَن الذي يتكلم، رئيسها في العمل أو زوجها، لم يحاول الاستدارة بالكرسي، ظل يحملق في الجدار، معطيًا ظهره للرجلين.

– ماذا تعني بهذا الجليد البارد؟!

– أعني أنهما عينان.

– أجل.

تبادل زوجها مع رئيسها في العمل النظرات، بدا كأنما كلٌّ منهما يحاول أن يتخيل شكل عينيها، نفث رئيسها في العمل الدخان كثيفًا من الغليون، هز زوجها ركبتيه ثم أسدل جفونه.

– أعني أنهما عينان لا مباليتان، لا تنظران إليك، وإن نظرت فهي نظرة تتجاوزك إلى نقطة فوق رأسك بعيدة في الأفق.

– أكانت تتطلع إلى رجل آخر؟

استدار رجل البوليس ليواجه الرجلين بنظرة قاطعة كالسيف، تطلع أحدهما للآخر قبل الإجابة.

– لا، لم تكن تتطلع إلى رجل آخر، أجل، لم تكن تتطلع إلى رجل آخر، ربما كانت عيناها لهذا السبب تستفزان الواحد منا، تود أن تصفعهما لتنظران إليك، أجل يمكن القول إنهما عينان وقحتان، عينان بالرغم من اللامبالاة بك فهما يباليان بكل شيء آخر وإن كان لا شيء، مجرد نقطة متناهية الصغر في الأفق.

دبَّ الصمت طويلًا في غرفة التحقيق، لم تسمع إلا أنفاس الرجل الثلاثة تعلو وتهبط، وأزيز المروحة تدور حول نفسها، وذبابة تطن وترتطم بضوء اللمبة، والذرات السوداء كرذاذ المطر تدق النافذة.

تسرَّبت إليها الأصوات عبر المسافة البعيدة، ذابت كلها في صوت واحد بإيقاع منتظم، كان صمت رجل البوليس يدوِّي على نحو واضح، أدركت أنه يعرف كل شيء، وبدأت أصابعه تدق من جديد فوق الآلة.

– أجل، ماذا عن شكل عنقها؟!

– نعم عنقها، هذا أيضًا غريب الشكل، أطول من أي عنق، كأنما هو خط الأفق، يرتفع كأنما عنق العنقاء، عنق لا يمكن الإمساك به لخنقه مثلًا، عنق يثير شهوتك، ذلك أنه لا يمكنك السيطرة عليه، عنق يوشك أن …

دبَّ الصمت، كفَّت الأصابع عن الدق، ودار الكرسي حول نفسه ثم توقف، لم يسمع إلا صوت لهاث.

– أن ماذا؟

– أن يتبدل وينقلب إلى النقيض بحركة مفاجئة، فينثني ملتويًا مستسلمًا كأنما يحمل من فوقه ثقلًا كبيرًا.

– شيء مفزع.

– أجل، لا شك أنك ترتعش أمام هذا العنق.

– وماذا عن بقية جسمها؟

– أجل، هذا أيضًا مفزع.

– كيف؟

– جسمها تراه موجودًا أمامك لا شك، هذا الحضور اللامتناهي لوجودها، الذي يتلاشى فجأة فيصبح غيابًا كأنما إلى الأبد.

وانقطعت كل الأصوات تمامًا، لم تسمع حتى أنفاسهم الثلاثة، وربما توقفت المروحة أيضًا أو انقطع التيار فجأة، واللمبة انطفأت، والذبابة طارت أو احترقت، ولم يبقَ إلا رذاذ المطر يدق أذنيها مع إيقاع الدقات في شريان العنق، وصفير الريح من بعيد يشبه صمت الليل.

ثم جاءتها الضحكة عبر الظلمة، لم تعرف مَن من الرجال كان يضحك، ضحكة غريبة متقطعة كالنشيج، عالية النبرة تشبه صوت رجل يقهقه، يهتز جسمه مع اهتزاز رأسه بالضحك.

من وراء الكثبان وعرض البركة جاءتها القهقهة، تشبه قرقعة الهواء، ترتطم بالجدران مثل رذاذ مطر متجمد، تتسرب من تحت عقب الباب مع السرسوب الأسود، كان وجهها للحائط ورأسها ملفوف بالمنديل، بحركة من عنقها على شكل نصف دائرة أصبح وجهها ناحية الباب، كان الرجل واقفًا مشمرًا جلبابه، رأسه مبلل كأنما أغرقه المطر، نفض شعره وانتفض مثل ضفدعة تخرج من البركة، التقت عيناها بعينيه فإذا به يدير بياض عينيه بحركة الهواء ينقلب السطح ليكشف عن القاع.

– صاحية؟

نبرته رقيقة محكومة، تحمل حنو الرجل حين يفقد السيطرة على امرأته، خلع ملابسه بحركة مَنْ يحاول أن يخلع الإهانة، كان طويلًا وجلده مبللًا ومشدودًا كأنما مصنوع من جلد حقيقي، يلمع في الظلمة مثل حذاء ممسوح في المطر، تقدَّم نحوها بخطوة من يريد إثبات أنه يمتلك شيئًا لا يملكه.

•••

– الرجال آلات لإخفاء الحقيقة، يتصورون في أعماقهم أنهم يملكون الحقيقة.

– أيكونون هم الآلهة؟!

إنه صوت امرأة تتحدث إلى النسوة، يشبه صوتها حين كانت شابة، تهز كل واحدة منهن رأسها علامة الفهم.

– هذا مفهوم يا أختي، لكن رءوس البصل لا تزال هناك في المطبخ، لم تلمسها يد، ويوشك موعد الأكل أن يأتي، ويصيح الرجل، هذا واضح، هل فهمت؟

– نعم، فهمت يا أختي، لكن الضفدعات تطورت وخرجت من قاع البركة إلى الضوء، وأنتن النسوة عاجزات عن الحركة.

دب الصمت حين عاد الرجل، صاح كعادته طالبًا الأكل، ثم رقد في الفراش عاريًا، مد ذراعه في الظلمة تحت الغطاء، كأنما يمد يده تحت الماء، عبثًا حاولت أصابعه أن تصل إلى يدها، أخيرًا وصلت إليها عبر المسافة البعيدة، كان وجهها للحائط، أحست قبضة يده خشنة مبللة بعرق أسود، حملتها الدوامة إلى بطن الأرض، صدره متجمد مثل صدر مومياء، أجوف من الداخل، يملؤه فراغ العالم، ولا مفر، عليها أن تضع رأسها فوق هذا الصدر الحجري، كأنما هو صدر الإله إخناتون بعد أن أزالوا عنه النهدين.

– ماذا تقولين يا أختي؟

– أدركتُ بعد فوات الوقت أن كل شيء حقيقي، أعني الزواج، وربما أيضًا البحث عن الإلهات، وكل شيء آخر في الحياة، بما في ذلك الموت.

– والحب!

– لا، لم أحبه، وإن فعلت ذلك فسوف يغرق العالم في الوهم.

كان جسدها عاريًا على تماس مع العالم العاري، بكل حقيقته مثل اللحم، وكان يمكن أن تنزلق من الفراش وتهرب، لكن الخروج من ذلك البئر كان مستحيلًا، أو ربما بدا لها النفط أفضل من أي شيء آخر.

طوت ذراعها في المكان الضيق، اختنقت بالدخان والغبار الأسود، بدا لها الموت نوعًا من الخلود، والهروب من الموت ليس إلا الغباء. أجل، الموت هو عبقرية الكائن الحي حين يصبح خالدًا مثل الآلهة.

تظاهرت بالموت وهي راقدة، سقط جسدها في العمق دون أن تطوي ذراعها الثانية، كانت العتمة تشبه العين السوداء الضخمة، عين لا تكف عن النظر إليها، عين مقدسة لا تنام، لا بد أنها عين إلهة الموت سخمت، أو ربما هي عين الست الطاهرة، تنظر إليها وتذكرها بالرسالة.

•••

فتحت عينها فجأة، كان الرجل يحملق فيها من وراء الصحيفة، عيناه تخترقان الورق وتنفذان.

– نعم كانت تحت المراقبة الدائمة.

– بأمر من صاحب الجلالة؟

– ربما، أو ربما هو رئيسها في العمل، أو زوجها، استأجر رجلًا يراقبها نظير مبلغ من المال، أو ربما هم الثلاثة لا أحد يعرف بالتحديد، لكن المراقبة كانت مستمرة، أربعة وعشرين ساعة في اليوم، رجل البوليس كان معهم بطبيعة الحال، يدور بالكرسي حول نفسه، ويدق على الآلة الكاتبة: «اجتمعت مع النسوة في الساعة السادسة والنصف دون الحصول على تصريح بالاجتماع، عادت إلى بيتها في الثانية إلا عشر دقائق، ساقت المركبة وحدها دون الاعتماد على سائق رجل، كل ذلك يشكل خطورة على نظام العالم، يستوجب السجن المؤبد مع الأشغال الشاقة، وحمل الأثقال فوق رأسها، يستدعي الأمر بطبيعة الحالة فصلها من العمل وطلاقها من زوجها، وإن لم تكن متزوجة يمكن لصاحب الجلالة في هذه الحالة أن يفوض القاضي العام بإصدار الحكم بالإعدام.»

كان الفراش يهتز في العتمة كلما تقلب الرجل من جنب إلى جنب، يصدر عن ألواح الخشب أنين مثل قط يموء، يتشمم بأنفه رائحة الطعام، لم يكن ينبعث من المطبخ رائحة أكل، رءوس البصل راقدة في الحوض لا تزال، الموقد مطفأ، والوعاء الألومنيوم فارغ، يلمع قاعه تحت الضوء بوميض رمادي.

– ألم تصرخي طالبة النجدة؟

ربما هي واحدة من الجارات، جاءت على الصوت، لم تكن هي صرخت على الإطلاق، أو صرخت لكن صوتها لم يطلع، كانت تريد أن تُخفي الأمر في الصمت، وتركت جسمها ممدودًا على الأرض، إحدى ساقيها ملفوفة بحزام الحقيبة، عارية تمامًا إلا من بقايا سروالها الممزق، يلتف حول قدمها كالخلخال، مطرز من الحوافِّ باسمها واسم زوجها داخل دائرة مغلقة على شكل القلب.

تحت الضوء الشاحب رأت فخذيها كبيرتين ضخمتين كأنما كانت تنظر إليهما من خلال عدسة مكبرة، طويلتين ومسحوبتين بعيدًا عنها، لا تكاد تراهما عبر المسافة البعيدة، كأنما هما فخذا امرأة أخرى.

وصعدت عيناها فوق جسدها تتسعان مع حركة الصعود، تتوقفان، كأنما مصعوقتان أمام رأسها المتدلي فوق العنق، مربوط بمنديل أسود، والوجه الأسمر يزداد سمرة في الضوء المعتم، تعلوه نقط سوداء كالنمش، وخطوط كالتجاعيد مرسومة بالقلم، تهبط من زوايا الجفون الملتهبة كالدموع السوداء، والرموش ساقطة، كأنما هي انتقلت من الشباب إلى الكهولة بحركة جانبية من عينها، انتفضت واقفة تشد عضلات ذراعيها وساقيها، تشد أعماق عقلها الباطن من جوف الأرض، تذكرت أنها رأت هذا الوجه من قبلُ، وعاشت هذه اللحظة في حياة سابقة، مشهد العقاب هذا هو الذي كانت تراه في أحلام اليقظة والنوم.

– هذا مخجل لامرأة محترمة مثلها تبحث عن الإلهات.

وسمعت صوتها ينتحب، أريد أن أموت من الخزي على الأقل، ثم سكتت عن النحيب فجأة، وجاء صوت يُشبه صوت امرأة من النسوة.

– أجل، ما المشكلة إذن؟ إنَّه يضربني دائمًا وهو منتفخ بالكبرياء، لن يطلع الصبح حتى أكون قد فتحت الباب وخرجت، نعم أعرف، سأمضي غدًا، فامسحي هذه الدموع السوداء، لن ينقلب العالم لأن امرأة رقدت مع رجل غريب في لقاء عابر.

كان صوتها يتبدل مع كل حركة من جسمها، وجسمها ينتقل من البرودة إلى السخونة وهي تنقلب من جنب إلى جنب، رائحتها تتضوع من عمق فيها لا يمكن لها أن تفهمه، رائحة اللحم الراقد في بطن الأرض، ربما أرادت أن تموت في تلك اللحظة، أو ماتت فعلًا، ثم مس طرف أنفها طرف أنفه وهو ينسحب من فوقها، أدركت لحظتها فقط أن جسدها كالماء، وهي قطعة يابسة تغوص إلى القاع، وترسو بقدميها في بطن الأرض.

– امرأة ساقطة إلى هذا الحد؟

– ماذا تعني؟

– ألا تعرفين ماذا أعني؟

– أتراقبني؟

– أجل، لولا ذلك ما رأيتك مع الرجل الآخر.

– وأنا رأيتك، هل نسيت؟

– أجل، هذا طبيعي، ويعطيني الله بدل المرأة أربعة ألا تعرفين ذلك؟

كان واقفًا يمط عنقه، مملوءًا بالفخر، كلما زاد عدد النسوة في حياة الرجل يزداد عنقه طولًا، كان عنقه يمتد إلى ما لا نهاية، مثل خط الأفق، مشهد يرعبها أكثر من الموت، يضعها هي والرجل في عالم يتأرجح، بيت قائم فوق الماء، ميزان تهتز كفَّتاه دونما عدل.

كان واقفًا يتطلع إلى أعلى، عيناه تبربشان، يحاول إمساك السماء بعينيه، كأنما هي الشيء الوحيد القابل للإمساك في مساحات من الوهم.

كانت راقدة في مكانها لا تزال، لامست بيديها خديها الملتهبتين بالصفعات، نظرت إليه بطرف عينها وهو واقف، كان بالقرب من الباب، لا يبعد عنها بضع خطوات، وبدا بعيدًا جدًّا كأنما هو غائب.

– كيف يمكن لرجل قريب إلى هذا الحد أن ينسحب إلى مسافة لا نهائية لمجرد حركة واحدة من طرف عينها؟

– أجل، هذا طبيعي، إن امرأة مثلك تتجاوز بإثمها الحدود يمكن برمشة عين أن تقلب النظام.

– أهو نظام متهالك إلى هذا الحد؟

لم يكن في طاقته أن يرد، لكن قلبه في الباطن كان يهتز، كأنما كان يخشى هذه اللحظة طول العمر، ما الذي يمكن أن يمحو هذا الإثم إلا أن تركع المرأة بين يديه، أن تبلل بدموعها قدميه وتطلب الغفران، أجل كلما اشتد هوانها اشتد كبرياؤه، فلا شيء ينتقص من كبرياء الرجل قدر امرأة بلا إثم يملؤها بالندم.

كان واقفًا ينتظر منها الركوع أو الدموع، ولهاث التوبة أو الندم، لكنها ظلت صامتة صمت الموتى في القبور، لم يفلح معها التهديد بعقاب الأرض والسماء، لم يكن أمامه إلا أن ينتظر، مهما طال الوقت ينتظر، فلا شيء يمكن أن ينقذ كبرياءه إلا انفراجة شفتيها بكلمة مثل «اغفر لي.»

– أكان في عينيه استجداء؟

أجل، نعم، وبحركة من عينيها الملتهبتين انقلب الوضع، كأنما كانت تقلِّب بجفونها الصور في كتاب، بدا في الصورة منثنيًا إلى أسفل، راكعًا بين يديها، يبلل قدميها بدموعه، يستعطفها أن تنطق بالكلمة «اغفر لي»، أرادت أن تفتح فمها وتستغفره دون جدوى، شفتاها ملتصقتان بالنفط كالصمغ، جفونها أيضًا ملتصقة كالشفتين، ورموشها تلاصقت بعضها بالبعض.

أمام عينيها لم ترَ إلا الظلمة، متى تتحرك هذه السحب السوداء بعيدًا وتظهر الأضواء؟ إذا كانت الأضواء قد ظهرت هناك فلماذا لا تظهر هنا؟ وإذا كان الإثم قد وقع هنا فلماذا تعرضت للعقاب هناك؟

وانفتح الباب بقوة الريح المباغتة، تدفق شلال النفط بصوت زاعق، وانتصبت الكثبان السوداء بين الأرض والسماء، رفع الرجل ذراعه علامة اليأس، أدرك أن الفرصة ضاعت منه، وأن خواءه ربما انكشف لعين العالم، ولا أمل في إخفاء الحقيقة.

– أكان ذلك بسبب تدفق النفط في وقت غير مناسب؟!

إنه يتكلم مع نفسه وذراعه مرفوعة، كأنما يخاطب قمم الكثبان أو قوة ما غير محددة في السماء.

– أيها النفط إذا لم تغرقها تمامًا حتى الموت فلن يبقى في العالم شيء من كبرياء الرجل.

يبدو أن النفط استجاب لدعاء الرجل، وانهمر الشلال بقوة أكثر، والمرأة ترفس بساقيها وذراعيها تقاوم الغرق، أجل، لم يكن للنفط أن يتخلى عن طبيعته وينحاز إلى المرأة، هكذا أيقن الرجل.

– ألا تعتذرين عن خطيئتك يا مره؟!

– حاولت لكن …

– هل سبق أن حدث ذلك من قبل؟

– نعم، حدث من قبل …

قالتها وعيناها تتسعان بين السماء والأرض، تبادلت مع الرجل النظر دونما إرادة، رأت في الضوء الشاحب نظرات متبادلة تهدم بقية الأمل.

أكانت لها حياة من قبل؟ لكن السؤال بدا أكبر من قوة خيالها، وأدرك الرجل أنها كانت آثمة طول الوقت منذ الولادة حتى الموت.

– آه، نعم، كنت أعرف ذلك، ما الجديد إذن؟

قال ذلك وهو يتسلق سلَّمًا عاليًا إلى السقف، كان سرواله المخلوع لا يزال في الخطاف يتأرجح، ذراعه تمتد تحاول الوصول إليه، ظهره من الخلف مقوس مثل صنم الجمل، ساقاه أيضًا مقوستان يغطيهما شعر ناحل، مبلل بالعرق الأسود، يلتصق بعضه بالبعض.

– الآن عليها أن تتخذ القرار وإلا فلن تتخذه أبدًا.

هكذا بدا لها الأمر، البقاء إلى الأبد أو العودة الآن وفورًا، كان هو أول قرار حاسم في حياتها، أيكون النفط هو الذي أجبرها عليه؟ أو ربما ذكريات حياتها السابقة بدت أفضل مما كانت، وإن كانت للصفعات ذكرى كالعلامات السوداء، لكن ضرب النسوة كان أمرًا طبيعيًّا، والرجل لا يكف عن الاستعانة بالسماء، تهمس له السماء من أعلى: واضربوهن، لم يكن لها أن تتوقع مستقبلًا أفضل، إلا إذا تقبَّلت الضرب بكبرياء، وجعلت رأسها مثل رأس الإلهة سخمت مصنوعًا من البرونز، وتدخل المطبخ شامخة بعنقها مثل الإلهة نفرتيتي، تقف أمام النار تبتلع الدخان في بطنها كأنما هي بطن الأرض، تختزن الألم كأنه الحبل، ثم تتعطر من الخارج لتخفي الرائحة، وتقاوم الرغبة في رفع ذراعها لتصفع الرجل، وتبتسم في وجهه كالملاك.

– أيكون لك وجهان يا امرأة؟

– وأنت لك الضِّعف، أربعة وجوه، أليس كذلك؟

كانت قوة النفط لا تزال تتدفق، تدفعها من جديد إلى ما لا تريد، كانت عاجزة تمامًا عن إدراك ما هو الحب الرفيع وما هو الحب الوضيع، منذ الطفولة أدركت أشياء هامة لا يدركها أحد، عبثًا حاولت أن تبحث عما تريد البحث عنه، ولم يكن الرجل إلا عقبة في حياتها مثل كثبان النفط.

– إنه رجل مثالي لا يستجيب إلا لطلب السماء بضرب النسوة.

هكذا كانت تواسي نفسها، في أعماقها أرادت التوبة، أن تجعله يلعب دوره السماوي ويمنحها الغفران، في اجتماع النسوة سمعت صوت المرأة الشابة، يشبه صوتها حين كانت في عمرها إلا أنها لم تكن تخفي فمها بيدها كما كانت هي تفعل، تفتح شفتيها عن آخرهما وتبتلع الذرات السوداء كأنما هي لا شيء.

– في غياب الحبَل تلعب المرأة دور الأم، وتجعل من الرجل طفلًا، فتمنحه دورًا يلعب به.

لم تكن تعرف لماذا لم يرتفع بطنها، نساؤه الأربع أيضًا بلغن اليأس بلا أمل، رفعن أيديهن للسماء يطلبن الحبل، نادين على جميع الأنبياء والقديسين بالاسم، لم يستجب إليهن أحد، نادين على الست الطاهرة وغيرها من القديسات دون جدوى.

– أيكون الرجل هو السبب؟

– لا يمكن، ما دخل الرجل بحبَل النسوة؟!

تحت ضلوعها أحست العضلة تنتفض، وفي رأسها عضلة أخرى تطرد الفكرة، هذا الطفح الأسود فوق وجهها ربما كان الفيض في حنان الأمومة، أو ربما هو الحنين إلى رحم الأم.

– أتكون أمها قد دُفنت حيَّة في بطن الأرض، وهذا هو ما يدفعها إلى الحفر بالإزميل رغم استحالة الأمر؟

كان في مقدورها أن تدور حول الأرض وهي راقدة ثم تعود إلى النقطة ذاتها حيث كانت، والرجل أيضًا كان هناك، عاد لتوِّه من العمل، لون وجهه ممتقع والنمش الأسود يزداد سوادًا في وجهه.

– هل وَشَيْتِ بي؟

– ماذا تعني؟

– أعرف أنك تتحرَّقين شوقًا للانتقام مني، لكني أحذرك، نحن شريكان في كل شيء، بل أنت كنت تحرضينني دائمًا ضد صاحب الجلالة، وكنت أقاوم إغواءك لي، بكل قوتي، وإذا أنا استسلمت يومًا فلم يكن ذلك إلا بسبب اليأس من إصلاحك، أجل، إنك ضلع أعوج لا يمكن إصلاحه إلا بكسره.

كف صدرها عن الحركة وبدأت تختنق، إنه رجل بلا كبرياء، في حياتها السابقة كانت له رجولة أكثر، كانت تريد أن تصرخ بكلمات محبوسة تود الخلاص منها، كلمات ينبغي أن تلفظها قبل نهاية العالم، كلمات نابية، طعمها كالغثيان، تتمتم بها النسوة في الفراش مع الرجل، وكانت الحرارة قادرة على إذابة الحياء، وتنقلب الرذيلة إلى فضيلة بحركة من شفتي الرجل.

– لا أريد أن يعرف أي أحد ما حدث، ذات يوم يمكننا أن ننسى كل شيء ونحتفل معًا بعيد صاحب الجلالة، هاتي يدك في يدي.

ذراعه كانت ممدودة نحوها مثل العصا الطويلة، قبل أن تمد يدها كان قد قبض عليها بأصابعه، أصابع كبيرة تغطيها البقع ونتوءات فوق الجلد بلون النفط.

في الليل حاولت أن تحرر يدها من يده دون جدوى، وانقلبت على جنبها الآخر، أصبح وجهها للحائط.

– أجل، غدًا أهرب حين يخرج إلى العمل.

وهي تحملق في الحائط سقطت في النوم، رأت نفسها جالسة فوق الجسر تنتظر ظهور الأضواء، يدب الصمت حين تكتمل الظلمة، ثم تبدأ نقط الضوء تظهر من بعيد، تتكاثر كأنما تتوالد، بالآلاف أو الملايين، بلا عدد كالنجوم، تتجمع في شعاع أبيض يُحلِّق في الأفق، يهبط فوق السطح، وتهمس الست الطاهرة في أذنيها.

– هيه؟ ماذا فعلت حتى الآن؟! أترقدين هكذا مثل بقرة مريضة؟!

شدت جسمها من تحت الغطاء، كانت العاصفة تلقي بالغبار الأسود، سيل منهمر من السماء ومن بطن الأرض، الرجال يملئون البراميل، من بعيد تراهم فوق خط الأفق كالظلال السوداء الصغيرة، بحجم الأطفال يحركون أذرعتهم في الهواء كأنما يلعبون، يحاولون إفراغ مياه البحر في جرادل صغيرة، أو إفراغ السماء من الهواء في دورق من الصفيح.

التوى عنقها تحاول النظر إلى النسوة، ظل البرميل فوق رأسها ثابتًا، لم تعد تسقط منه قطرة واحدة وإن حركت رأسها، كان الوصول إلى النسوة يقتضي الانزلاق فوق المنحدر المغمور بطين النفط، في منتصف الطريق توقفت، نظرت من خلال الأفق إلى الكثبان السوداء، والبيوت الأكثر سوادًا عند السفح، والأسطح غارقة في الظلمة، مغطاة بالبراميل المقلوبة، وأبراج حمام أسود الريش يشبه الخفافيش، وأطراف المآذن ورءوس المقابر كالصلبان المرفوعة، لم تكن تعرف اسم هذه القرية التي وجدت نفسها فيها بالصدفة، كانوا يسمونها مسقط الرأس، أجل، أي مسقط هذا الذي تهاوى فيه رأسها؟

رفعت النسوة أذرعهن، نزعن البراميل بحركة قوية من العنق، وانثناءة من الجذع، جلسن على حافة صخرة يغطيها طحلب أسود، كانت الأرض مبللة رطبة، الصمت يدوي كصفير الريح، سطح البركة يتموج تحت الضوء الشاحب، أمواج تتعاقب وتتكوم في الأركان مع الطحالب، والكثبان تحوط المكان كالجدران تحجز كل ما وراءها في العالم.

كانت هي تجلس في الوسط، كما كانت خالتها تجلس وسط النسوة، أخرجت واحدة من جيب جلبابها ورقة مطوية، كانت الحروف بالحبر الأسود بخط زوجها، أو رئيسها في العمل، وختم صاحب الجلالة بطبيعة الحال.

مدت النسوة أعناقهن يحاولن القراءة، بدت الحروف غريبة كأرجل صراصير الليل الأسود.

– هذا مفزع.

– أهناك وسيلة لإنقاذها؟

– مساعدتها على الهرب؟

– آه، لكن …

عند هذه الكلمة أطبقت النسوة في صمت، سُمع صوت يشبه أنفاس مكتومة، هواء محموم يخرج من الصدر، أو ربما هو صوت انسحاب الروح من الجسم، وانفرجت شفتاها عما يشبه الصرخة، أجل، كلنا في حاجة إلى الهرب، ولكن إلى أين والعالم فارغ، ومن قبلُ، نعم، من قبلُ قلت لكن مرارًا هذه الكلمة «التضامن»، لكن هذه الكلمة ممنوع النطق بها، وكأنما هي الشيطان أو إلهة الموت سخمت.

– سخماط؟

– علينا أن نصحح النطق وهذا في يدنا لأنه لساننا الذي ننطق به.

– لن نكون جديرات بحق نأخذه من أيادٍ ليست أيادينا.

– وهكذا نسمح لأنفسنا بأوضاع لا ينبغي أن يقبلها الحيوان.

– ليس أمامنا إلا عدد محدد من الأشياء التي يمكن لنا أن نفعلها بأيدينا.

– الهرب مثلًا؟

– سنهرب فوق أرجلنا، هذا واضح، فوق أرجلنا وليس أرجل غيرنا.

– وتذكرة السفر؟

– آه تذكرة!

– علينا أن نطالب بأجورنا.

هتفن في نفس واحد، أصبحت الكلمة مثل كرة من الضوء تنط من فم إلى فم، ترتطم بالظلمة كالجدار، فتعود مرتدَّة يحملها الهواء إلى حيث الفم لا زال مفتوحًا، تدخل فيه حيث كانت قبل أن تخرج، ويدب الصمت.

– ألم نطالب بأجورنا من قبلُ؟

– أجل من قبلُ.

– علينا إذن أن نكف عن المطالبة ونأخذ أجورنا بأيدينا.

– أجل، لن نكون جديرات بحق نأخذه من أيادٍ ليست أيادينا.

وتبادلت النسوة النظرات من وراء الغطاء الأسود، هرشن رءوسهن حيث التهب الجلد تحت قاع البرميل، لم تتحرك عضلة واحدة في وجوههن، ولا الشفاه انفرجت عن صوت، عيونهن تتذبذب من تحت غمامة، كانت هي تنظر إلى البركة المغطاة بالغبار، الطحالب في الأركان يجرفها التيار، تبدو البركة عميقة كالبحر أو المحيط، وأجساد ميتة ترقد في القاع.

– أهناك من يراقبنا؟

من وراء الثقب في الباب كانت العين تطل، عرفته على الفور من ظهره، الصنم كان بارزًا تحت الضوء الشاحب، رفعت النسوة أذرعهن بحركة واحدة قوية، عادت البراميل واستقرت داخل الحفر فوق الرءوس، لم تعد ترى منهن إلا ظهورًا مقوسة، أجسادهن صغيرة كالأطفال يتناقص حجمها بالابتعاد، ولا صوت إلا هفهفة الجلاليب من بعيد كحفيف الهواء.

كانت وحدها جالسة، ظلمة الليل تضعُف، الظلام كالستار كان يحجبها، فإذا بالضوء يكشفها، ورأت الرجل واقفًا، أدركت أنه رآها، وهي كانت من قبل رأته، واقفان متساويان في الرؤية وطول الجسم، لم يكن لهذا الوضع المستقيم أن يحدث في عالم غير مستقيم.

– لم يعد أمامك فرصة.

قالها بنبرة كالغضب، يحاول بالغضب أن يخفي عدم الاستقامة. إنها فرصتها الأخيرة وإن ضاعت فلا شيء بعدها، ورفعت ذراعها تحمي وجهها من الصفعة، إن لم ترفعها الآن فلن ترفعها من بعد، وإن عاشت تعيش مرفوعة الرأس، وإن ماتت تموت وهي ترفس، لا تكف عن الرفس حتى آخر نفس.

– هذه المرأة تنزف.

أجل كانت النسوة في حاجة إلى النزيف، وإلا فسوف يبقى العالم كما هو وينتهي كل شيء إلى لا شيء، علينا أن نأخذ دم هذه المرأة الطازج وننقله إلى العالم المشرف على الموت.

– أخيرًا أغمضت عينيها وماتت واقفة كالشجرة.

ظلت واقفة في مكانها، عاجزة عن الحركة، جذورها في بطن الأرض، رأسها عالٍ تطوحه الريح، أوراقها ترتعش، تثني ذراعيها وتلتوي كالفروع، تحاول دون جدوى التخلص من أغصانها، الهواء يحتك بها بصوت مسموع وإيقاع منتظم كالأنفاس في النوم.

– أتعودين للنوم في هذا القيظ؟!

سألها بصوت مملوء بالغيرة، كأنما يغار من قدرتها على النوم، كان تدفق النفط يأكل الجدار، والغيرة تأكل قطعة من لحمه تحت الضلع الأعوج، ونهض واقفًا ينزع عنه ملابسه كأنما يخلع عنه جلده.

– لم أعد أحتمل، وعندي رغبة …

– في الكتابة؟

– أجل.

– لديك الآن هذه الآلة الجديدة ولست في حاجة إلى معرفة القراءة أو الكتابة.

– أجل، لكن صاحب الجلالة يريد مقالًا في عيد ميلاده غدًا.

– أجل، يمكن للآلة الجديدة في بضع دقائق أن تنسخ مقالك في العام الماضي أليس كذلك؟

– أجل، نعم، إني أعرف ذلك.

– ما الجديد إذن؟

بغريزتها كانت تدرك كل شيء، في أعماقها كان الخواء ينتشر، ما جدوى التظاهر إذن؟ ما من حاجة تدعو إلى التخفي، ربما كان لا يزال بينهما شيء من العاطفة، بقايا حب في حياتها السابقة، لكن الريح هبت وجرف تيار النفط كل شيء.

وسمعت صوت رجل البوليس يدق على الآلة ويدور بالكرسي حول نفسه.

– كما ترى لقد خرجت المرأة في إجازة.

– أجل هذه الحالات أصبحت عادية تمامًا، ومن كل ثلاث من النسوة تخرج واحدة.

– أهو مرض جديد؟

– أجل، نسميه عندنا في الطب النفسي انفصام في الشخصية، قال: «عندنا في الطب النفسي» والتوى عنقه نحو السماء بزاوية حادة، واهتز الغليون المثبت في زاوية فمه.

– أتعني ازدواجية الشخصية؟

– لا، في الازدواجية تكون المرأة والشخص الآخر اثنين متلازمين على نحو إجباري، أما في الانفصام فإن المرأة تصبح هي وذلك الرجل الآخر شخصًا واحدًا، مفهوم؟

– أجل، أعرف ذلك، والنتيجة واحدة على أي حال.

بالطبع، لكن الازدواجية حالة طبيعية تمامًا، وجميع النسوة يندرجن تحت هذا النوع.

– أجل، أعرف ذلك، إلا زوجاتنا طبعًا.

– بالطبع؛ لأن الرجل منا يختلف عن جميع الرجال، فنحن من سلالة مميزة عن البشر تمتد إلى الأنبياء، ألم تسمع حديث صاحب الجلالة بمناسبة عيد ميلاده؟!

– أجل، سمعته، كان خطابًا تاريخيًّا، وقد كتبت ذلك في مقالي في الصحيفة ولا بد أن جلالته رآه.

– لا بد أنه رأى الصور على الأقل، فإن جلالته لا يعرف القراءة كما تعرف.

– أجل، أعرف، وليس في ذلك عيب، وكان الأنبياء جميعًا لا يعرفون القراءة ومع ذلك قادوا العالم إلى عصر جديد.

– أجل، أعرف ذلك، لكن جلالته يحب الصور الملونة، خاصة صوره، ولا يمل النظر إلى صوره المنشورة في الصحف، وفوق الشاشة، أليس كذلك؟

– أجل، هذا طبيعي لرجل عظيم مثله يقودنا إلى عصر النفط الجديد.

– أجل، ما العيب في النفط؟

– لا شيء! إلا …

– إلا ماذا؟

– لا شيء.

– أحس أنك تريد أن تقول شيئًا، هيا تكلم ولا تخف.

– أبدًا مجرد شيء تافه، حين عدت من العمل اليوم وجدت ورقة صغيرة.

– ورقة صغيرة؟

– نعم، ورقة صغيرة فوق الكرسي بجوار السرير.

– أجل، فوق الكرسي بجوار السرير، أعرف ذلك.

– كيف عرفت؟

دب الصمت كالموت، لم يُسمع إلا صوت أزيز المروحة، وأنفاسهما تلهث، ثم جاء صوت أحدهما بعيدًا وخافتًا كأنما من بطن الأرض.

– وماذا كَتبتْ لك في الورقة؟

– أجل، لا شيء، مجرد أنها خرجت في إجازة، هذا كل ما في الأمر.

– أهذا كل ما في الأمر؟

– نعم، هذا كل ما في الأمر.

– أجل، أنا أيضًا وجدت ورقة.

دب الصمت مرة أخرى كالموت، كف الهواء عن الحركة، المروحة أيضًا كفت عن الأزيز، أنفاسها كأنما توقفت تمامًا.

حركت رأسها من فوق الوسادة، كان الرجل راقدًا مفتوح العينين، فجأة رنَّت الضحكة في ظلمة الليل، أجل، كان هو الرجل الذي يضحك، عن يقين كان يضحك، ربما كان بالضحك يخفي شيئًا آخر، وجهه كان ناحية الحائط ولم تعرف فيمَ يفكر، لكنها حين سمعته يضحك ضحكت هي الأخرى، وبدت الحياة أفضل مما كانت.

– أجل، طالما أن لديه القدرة على الضَّحك فلن يكون هناك داعٍ للهرب على الأقل الليلة، ويمكنها مواصلة النوم، وفي الغد تبدأ محاولة جديدة.

(تمت)

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤