الفصل التاسع عشر

الطفيلية

منذ أيام كنت أقرأ كتابًا عن الإغريق القدماء وأثرهم في ثقافة العالم، والإغريق هم كما يعرف القارئ أصل الأدب الحديث وواضعوا مبادئه، ولكنهم مع تقدمهم في الأدب ليس لهم أي فضل في العلوم، وخاصة تلك العلوم العملية التجريبية التي تعزى إليها حضارتنا الحديثة، وليس ينكر أنه قد نبع فيهم «إقليدس» ولكنه كان صاحب نظريات، وكذلك ليس ينكر أن «أرسطوطاليس» شرع طريقة عملية للعلوم وأن «أرخميدس» اخترع الطنبور الذي يستعمل الآن للري في حقولنا، ولكن المهم الذي يلفت النظر أن الإغريق لم يستأنفوا السير على الطريق الذي اختطه لهم أرسطوطاليس وأن أرخميدس كان يخجل من تدوين مخترعاته لأنه كان يعتبرها من التفاهة والهوان بحيث لا تستحق العناية بتدوينها، فماتت تلك الحركة العلمية الصغيرة، بل وئدت في مهدها، ونام العالم في الظلام نحو ١٥٠٠ سنة إلى أن نهض نهضة علمية جديدة ثابتة الأساس مطردة التقدم، فماذا كانت علة ذلك؟

كانت علة ذلك أن الإغريق كانوا يعيشون عيشة حلمية، أي كالحلم الذي يمتص دم الحيوان الذي يعلق بجلده، فكانوا يستخدمون العبيد ويمتهنونهم في أعمالهم المنزلية والزراعية والصناعية، وكانوا لذلك يحتقرون جميع الأعمال التي يعملها العبيد، ولا يرضون ألبتة بأن يدرسوا الصناعة وأعمال البيت أو شئون الفلاحة، وبديهي أن العلوم لا تنشأ إلا إذا كانت تتناول هذه الأشياء بالاختراع، وهذا يتضح إذا ألقينا نظرة واحدة على المخترعات التي تخترع في زماننا، فإنها كلها تتناول الزراعة أو الصناعة.

فالإغريق حرموا أنفسهم من العلم لأنهم كانوا يعيشون في دعة عيالًا على عبيدهم، يجنون ثمرات جهدهم ويحتقرون مع ذلك أعمالهم ويتعيرون من التلبس بها أو الاهتمام لشئونها، وقوام العلم الاختراع، وما دام الإنسان لا يحترم عملًا ما فهو لا يفكر فيه ولا يتهمم لتخفيف مشاقه باختراع آلة أو اكتشاف طريقة يقل بها ساعات العمل أو يزيد مكافآته.

وعلى ذلك يمكنك أن تقول إن الرق لم يكن مؤذيًا للعبيد وحدهم، بل كان أيضًا أذى عظيمًا وبلاء كبيرًا للإغريق أنفسهم؛ لأنه حرمهم من تسليط عقولهم على حضارتهم والعمل لتقدمها بالاختراع والاكتشاف العلميين.

وما أحرانا نحن أن نعتبر بهذه العبرة البالغة، فالوارث الذي يتمتع بأموال أبويه وهو وادع هانئ لا يعمل ولا يكد إنما يعطل قواه ويعوق كفاياته عن النمو فيركد ذهنه ويعيش في العالم عيشة حلمية وهو قانع بما يقنع به الحلم من طعام وشراب؛ لأن العقل لا ينمو بالركود والدعة وإنما يكون بالجهد والعمل والتفكير والتهمم للرقي والنجاح.

ويخطر ببالي وأنا أسطر هذه الكلمات ذلك الخبر الذي ذكرته الصحف من أن جامعة ريدنج في إنجلترا قد أنشأت شهادة عليا للبانة، أي صناعة الجبن وما إليه من مستخرجات اللبن، فإن الإنجليز لا يحتقرون الصناعات؛ ولذلك يسلطون عليها عقولهم بالدرس والاختراع فترقى الصناعة بهم ويرقون هم بها، ولو أن أفنديًّا من شبابنا اقترح عليه أن يصنع الجبن لأنف واستكبر، وهو إنما يفعل ذلك لمثل السبب الذي كان يحدو الإغريق إلى احتقار الصناعة، فقد احتقرنا نحن الفلاح واضطررناه إلى عيشة زرية في أكواخ بالية، وأضعنا كرامته من أعيننا فصار في مركز العبد، وصرنا لذلك نحتقر أعماله وكل ما يلابسه فعاد إلينا احتقارنا كالسهم الأسترالي يطلقه صاحبه فيرتد إليه، وبتنا وإذا بشبابنا يترامى على وظائف الحكومة ولا يستطيع أن يقف على قدميه مستقلًا ويواجه عالم التجارة والصناعة والزراعة بكفايته ومهارته.

أجل إننا نعيش الآن كالحلم على الفلاح، وجميع أنواع الحلم سواء في أنها تفقد جزءًا كبيرًا من كفاياتها، فالديدان التي تعيش في بطوننا تفقد أحيانًا قناتها الهضمية لوفرة الغذاء حول جلدها، وبين النمل أفراد تعيش بخدمة غيرها لها فتعجز عن الحركة وتبقى مدى حياتها في مكانها لا تريم؛ لأنها تجد من النمل ما يعنى بها ويغذوها ويمسحها.

إننا لا نخترع ولا نكتشف لأننا لا نتلبس بالحياة العملية، حياة الصناعة، والعلم لا يتقدم إلا إذا كانت غايته عملية، وقد بدأ «بيكون» النهضة العلمية بحض الناس على درس «الأشياء العادية»، ولكن هذه الأشياء العادية البسيطة أصبحت في يد عمال لا نحترمهم وإن كنا نعيش بعرق جبينهم، فنحن لذلك نتعير من أن نكون دباغين أو حدادين أو خبازين، مع أنه لا مجال للاختراع والاكتشاف إلا في مثل هذه الصناعات، وأيضًا لا مجال للعمل الاستقلالي إلا في ميدانها.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤