الفصل الثالث والثلاثون

الهند العظيمة المسكينة

ارتاع الإنجليز كما ارتاع الأميركيون من كتاب ألفته سيدة أمريكية تدعى الآنسة مايو عن الهند، تناولت فيه أحوال العائلة الهندية وعرضتها بالتفصيل على قرائها كما رأتها بعينيها مدة إقامتها في تلك البلاد.

وكلنا إذا ذكر الهند خطر بباله الاستعمار الإنجليزي وسيئاته واستنكر أفاعيل الإنجليز بالهند وود لو تقوى عصبة الأمم حتى تصير حكومة عالمية حقًّا وتحكم بطرد الإنجليز من ذلك القطر الذي يكاد يكون قارة.

ولكن كل من يقرأ كتاب هذه الآنسة الأمريكية يعرف أن نكبة الهنود ليست في الإنجليز، بل هي إحدى النكبات الشاملة للأقطار الشرقية، وهي في عقائد الهنود وعاداتهم وعباداتهم للماضي، وفي التنطع بأن للشرق حضارة تفضل حضارة الغرب، وفي التوهم بأن للهندي كرامة يجب أن ترفعه عن محاكاة الغربي.

فهذه الهند العظيمة بحجمها الحقيرة بأبنائها ما زالت ترضى بأن تحكمها أديان وعقائد مضى عليها آلاف السنين، والعالم يتقدم ويتطور مدة هذه الآلاف من السنين والهند واقفة تشرح ما قاله علماؤها منذ ألف أو ألفي سنة تمارس عادات قديمة يهلك بها ملايين الأطفال كل عام، وليس بين الهنود واحد يجرؤ على تسفيه هؤلاء القدماء.

فهذه المؤلفة الأمريكية وجدت أنه يموت من الأمهات في كل جيل ٣٢٠٠٠٠٠ أم وقت الولادة، وذلك لأن هؤلاء الأمهات المسكينات يحملن وهن في الحادية عشرة من أعمارهن، إذ يتزوجن وهن في السادسة أو السابعة، وتأتي لهن مولدات يعالجنهن بالرقى والطلاسم عوض العلاج الطبي الحديث.

ويموت في الهند كل عام ٢٠٠٠٠٠٠ طفل لأن أمهاتهم لا يعرفن لصغر سنهن كيف يعنين بهم، وأيضًا لأنهن لا يدركن من معنى النظافة سوى تلك الطهارة التي تقول بها أديانهم، والتي تجعل روث البقر أطهر من ماء النهر، وتجعل الأم وقت النفس دنسة لا يقترب منها أحد طاهر.

وتتزوج الفتاة، بل الصبية الهندية. قبلما تبلغ العاشرة من عمرها تؤخذ من ميدان اللعب إلى بيت الحريم، حيث لا ترى سوى زوجها وضرائرها، وقد يكون زوجها فوق الخمسين، وقد ذكرت المؤلفة حوادث يقشعر لها البدن عاينتها بنفسها في مستشفيات المجانين حين وجدت صبايا هن دون العاشرة تزوجن رجالًا في أعمار جدودهن، فلما التقى العروسان لم تتحمل الصبية المسكينة فظاعة المنظر، ولا أطاقت ما يطلب منها من الواجبات المنزلية، فجنت، وحملت إلى المستشفى تنتظر الراحة الأبدية بالموت القريب، ولكن زوجها هندي مثقف يعرف السنة والفرض من عقائد آبائه؛ ولذلك رافعها إلى القضاء يطلب ردها إلى بيت الطاعة.

والهنود أبناء هؤلاء الأمهات ينشئون ضعاف العقول خريعي الأجسام، لا يقوون على عمل ولا يصمدون لكفاح، يفتخرون بأنه كان لهم قبل ألفي سنة حضارة عظيمة.

ولكن الحضارة الراهنة لا تبالي بالماضي بل تفكر في المستقبل، وهي تكتسح من أمامها كل من يعارضها ولا يجري على أصولها الصحية والاجتماعية، فمصير الهنود إلى الفناء إذا لم يصلحوا عائلتهم ويحرروا نساءهم ويرفعوهن من ذل هذه العادات القديمة.

والعالم الآن في تطوره السريع لا يتسع للأمة الراكدة المستسلمة، حياة كل أمة الآن تتوقف على مقدار ما عندها من قوة للابتكار وقدرة على التحول للأوساط الجديدة، وهذه الصين، وهذه تركيا، كلتاهما قد عرفت أن الماضي يجب أن يدفن وأن واجب الأمة أن تشق لها طريقًا إلى المستقبل.

وهذه الهند، الأمة العظيمة بماضيها المسكينة بحاضرها، لن تدخل في زمرة الأمم المتحضرة حتى تخلع عنها ماضيها وتسن لنفسها شرائع قائمة على العلم والتجربة والفائدة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤