الفصل الرابع والثلاثون

مصر مركز الثقافة العربية

تفكر وزارة المعارف الآن في تأليف موسوعة كبيرة للمعارف العامة كما تفكر في إنشاء مجمع علمي يساير الحركة العلمية والأدبية أو يرود الطريق لها ويمهدها بإنشاء الألفاظ التي يحتاج إليها الأديب أو العالم ويضع لها معجمًا.

ولمصر تقاليد في إنشاء الموسوعات ليس قطر من الأقطار العربية ينافس فيها، ففيها وضع ابن منظور معجمه بل موسوعته الكبرى «لسان العرب» وفيها وضع النويري موسوعته الكبرى الأخرى «نهاية الأرب».

وبديهي أن الموسوعة التي تنوي وزارة المعارف وضعها ستقوم في الأكثر على الترجمة، وستختلف عن طريقة ابن منظور والقلقشندي وغيرهما كما يختلف زماننا عن زمانهم، فقد عنوا هم باللغة والألفاظ عناية كبيرة ولم تكن غايتهم من هذه العناية الدقة بل الزخرفة.

ولكننا نحن في حاجة اليوم إلى الدقة في التعبير أكثر مما نحن في حاجة إلى الزخرفة لأننا نعيش في ثقافة علمية، أو يجب أن نعيش كذلك، فحاجتنا إلى العبارة الواضحة الدقيقة أكبر من حاجتنا إلى الزخارف والبهارج.

وقد كانت ثقافة العرب أدبية ولذلك عنوا بهذه الزخارف، أما الثقافة الحاضرة في أوروبا فتتجه نحو العلم، والحضارة الراهنة تنحو نحو الصناعة؛ ولذلك فنحن في أشد الحاجة إلى أن تكون عبارتنا واضحة دقيقة مختصرة تؤدي المعنى العلمي أداء مقتصدًا مختصرًا، فإذا كانت المعاجم العربية تذكر مائة اسم للأسد فنحن في معجمنا الحديث يجب أن نقنع بواحد، ولكن يجب في الوقت نفسه أن نزيد على ألفاظ هذا المعجم ٥٠٠٠ اسم خاص بالأجهزة والأدوات الكهربائية مثلًا.

وكذلك الحال في الموسوعة يجب أن نعنى فيها بالثقافة الحديثة عناية كبيرة، ويجب أن نجعل غايتنا توجيه القراء إلى ناحية العلم والتفكير في المستقبل دون ناحية الأدب أو التفكير في الماضي.

ونحن الآن في مركز الزعامة للثقافة العربية من مراكش غربًا إلى العراق شرقًا، ولنا من الأوروبيين مزاحمون في الثقافة، فإذا لم نجعل ثقافتنا وفق العصر الحاضر بحيث يجد فيها القارئ العربي ما يعلمه ويهذبه ويسمو به إلى آراء القرن العشرين فإنه لا بد تاركنا إلى اللغات الأوروبية التي تغذوه بالآراء الحديثة.

ونحن نرى في مصر وسوريا الآن طائفة من الشبان المتعلمين تركونا وتعلقوا باللغات الأوروبية لأنهم لم يجدوا في ثقافتنا ما يغذو نفوسهم ولأنهم وجدوا أن أدباءنا مازالوا يبهرجون لهم في اللفظ ويذكرون لهم أبطال الأدب في بغداد والبصرة قبل ألف عام دون عناية بما يجري حولهم.

ولنا شبان آخرون تعلقوا بالثقافة العربية القديمة التي أصبحت لا تتفق والعصر الحاضر فصاروا ينظرون إلى كل نزعة جديدة بعين المرتاب الذي يخشى منها كفرًا جديدًا أو تفرنجًا سخيفًا.

فلهؤلاء ولهؤلاء نحتاج إلى موسوعة جديدة للمعارف ومعجم يكونان دستورًا للأديب يجذبان إلينا أولئك الذين هجرونا إلى الآداب الأوروبية، ويفتحان أعين أولئك الذين يتعلقون بالقديم للثقافة الحديثة.

وكلنا يرغب في أن يتوحد العالم العربي في اللغة العربية، ولكننا لا نحب أن نضحي في ذلك بشخصيتنا، ولا نحب أن تكون الرابطة بيننا وبين سائر الأقطار العربية رابطة لغوية فقط، وإنما نرتبط بهذه الأقطار بثقافة حديثة قائمة على العلم والصناعة تربطنا جميعًا برباط الحضارة لا برباط البداوة، فسبيل التعارف والتآلف بيننا يجب أن يكون قائمًا على الآراء الحديثة في الحكومة والزواج والإصلاح الاجتماعي والمخترعات والمكتشفات العلمية، وبعبارة أخرى يجب أن نرتبط برباط المدنية الحديثة والثقافة الحديثة حتى تتحد عواطفنا الاجتماعية وغاياتنا الإصلاحية.

وهذه الغاية نبلغها إذا كانت مصر مركزًا للثقافة الحديثة تخرج منها المؤلفات وتجمع للعالم العربي معجمًا للألفاظ المفيدة في العلوم والآداب يكون دستورًا للأدباء، كما أن الموسوعة تكون أساسًا جديدًا لنهضة جديدة تقوم على الابتكار والاختراع.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤