الفصل التاسع والأربعون

أجمل الأشياء

الجمال كالسعادة، إذا تحراه الإنسان ألفاه في كل مكان؛ لأنه حالة في النفس التي تنشده، وكما أن كل إنسان ليس قادرًا على السعادة إلا بمقدار ما عنده من الاستعداد الذاتي لها، كذلك ليس كل إنسان قادرًا على فهم الجمال وإدراك معانيه إلا بمقدار ما في نفسه هو من عناصر الجمال؛ وذلك لأننا لا نقر بأن هذا المخلوف الحي أو الجامد، النبات أو الحيوان، جميلًا ما لم تكن العناصر التي يتألف منها جماله مغروسة في أنفسنا قبل أن نراه.

وبعبارة فلسفية نقول إن الجمال ذاتي وليس شيئًا موضوعيًّا، ولكن هذا تقعر يبعدنا عن السهولة التي نتوخاها في هذه المقالة، فالجمال مع أنه أغلى الأشياء وأثمنها فإنه أيضًا أشيع الأشياء وأقلها كلفة للاستمتاع به، ففي أنفاس الصباح العطرة جمال يدركه أولئك الذين ما تزال فطرتهم سليمة فلا يفسدونها بالسجاير يدخنونها؛ لأن في نسيم الصباح عبقًا أعطر من عبق الدخان، ولقد كان الأديب الإنجليزي «رسكين» يعجب من المدخنين كيف يدخنون ويحرمون أنفسهم من نسيم الصبح.

وهذا يذكرنا بما يقوله غاندي ذلك الهندي العظيم الذي يدعو إلى الفطرة ويخفف عنا بذلك شيئًا من تكاليف الحضارة وإلحاحها علينا في أن نعيش عيشة صناعية حافلة بالمنبهات القوية والطعام الدسم والسهر المتوالي، فهو ينصح لنا أيضًا مثل رسكين بأن نتوخى الجمال في رؤية الطبيعة وهي تستيقظ من رقدة الليل، ونمشي حفاة الأقدام على التراب الندي في وسط الحقول، وبين العشب والزهر، حين ننفرد بالجسم ولكننا في انفرادنا لا نشعر فيه بالوحشة لأننا نستأنس بالطبيعة التي تقربنا من الكون وخلائقه فتزيد الوشائج، ويتأكد الاجتماع الروحي بيننا وبينها، فيفعم الحب قلوبنا ونحس في لحظات بذلك الطرب الذي يكشف لنا عن مصالح روحية أسمى وأبقى من هذه المصالح الصغيرة التي تستهلك وقتنا في الحضارة.

إن الإحساس بالجمال يسري في النفس بمقدار استعدادها للحب؛ ولذلك فإن رجل الفن العظيم، الذي ينشد الجمال في قصيدة أو تمثال أو مقال أو قصة، هو أيضًا رجل الحب العظيم، ولهذا السبب تجد للحب تلك المكانة العليا في الأدب، ومحال أن تجد رجلًا يثقل صدره الحقد والأنانية يمكن أن يكون أديبًا ساميًّا.

وأسمى الأدباء وأخلدهم ذكرًا هو «دستؤفسكي» رجل الحب والجمال، فقد كان يرى الجمال في كل شيء ويحب كل شيء وينصح لنا بأن نحب العالم كله ونقبل التراب الذي ندوس عليه؛ ولذلك فإن القارئ يقرأ قصصه وكأنه يقرأ صلاة سامية يخشع فيها له خشوع المحب لحبيبته الذي يجثو أمامها ويطرب للدموع تتساقط من عينيه والقبلات الحارة تنطبع على قدمي حبيبته.

والجمال يشغل العالم كله، ولكنه يتفاوت، ولعل أجمل الأشياء هم أطفال الإنسان والحيوان، ففي طفل الإنسان عالم من الجمال قد انطوى في جرم صغير كأنه العطر يجمع من حقل من الورد في قنينة صغيرة، ففي جسم الصغير حكمة الآباء وتاريخ الملايين من السنين، وفي نفسه تشوف الإنسان إلى المستقبل ورغبته في السمو والنزوع إلى التقدم. بل يكاد الطفل يكون أحد الأصول في بزوغ حاسة الجمال عندنا، فإن لفظة «لطيف» التي تعني الآن الجميل لم تكن تعني في أصل وضعها سوى الصغيرة؛ وذلك لأننا نستجمل كل شيء وكل مخلوق صغير.

بل طفل الحيوان نفسه لا يقل جمالًا عن أطفال الإنسان، فقلوبنا تظفر إليه حبًّا وحنانًا، فما نرى حملًا أو جروًا أو خنوصًا حتى نحنو عليه ونمسحه ونتأمل تلك السذاجة في وجهه وهذا الاستسلام البريء لنا في حركاته ونظراته فنعشقه ونحوطه بعنايتنا وخدمتنا، ونحميه من كل ما يؤذيه.

ولكن نعود فنقول إن الجمال «ذاتي» فنحن لا نستجمل العالم وكائناته إلا بمقدار ما في نفوسنا من جمال؛ ولذلك فأجملنا نفسًا هو أكثرنا استمتاعًا وأكثرنا حبًّا وأبعدنا عن الكراهة.

وإذا كان الإحساس بالجمال والإحساس بالحب طبيعتين فإن التربية تزيدهما، كالرقص يعلمنا الرشاقة في المشي أو كالخطابة تعلمنا إجادة الإلقاء، فيجب أن نربي أنفسنا على التفتيش عن الجمال ونقمعها عن الحقد والكراهية.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤