الفصل الثامن

الغاية من الحياة

ذكر الأديب المعروف «كابيك» أنه عرف أحد أثرياء أميركا يقضي وقته في السفر على القطار أو الباخرة وهو يملي على كاتبه خطابات خاصة بأعماله، وإذا قعد في الأتومبيل عقد مجلسًا للمفاوضة في شأن خاص بعمله أيضًا، وإذا أكل أو تنزه أو تناول الشاي لم ينس الكلام عن أعماله.

ويخشى كابيك أن تتأمرك أوروبا فتكبر من شأن النجاح المالي وتجعل الغاية من الحياة إحراز الثروة فقط.

وكلنا يجب أن يخشى ما خشيه كابيك؛ لأننا معرضون على الدوام لفتنة المال تسارقنا شهوته فتعمى أعيننا عن القصد من الحياة، وتستغرق جهودنا كلها فترانا قد بلغنا الشيخوخة ونحن نتساءل: هل عشنا حياتنا وتمتعنا بها على هذه الأرض أم قضينا عليها عمرنا فقط وقطعنا السنين الطويلة في جمع المال؟

ولسنا بذلك نقلل من شأن المال، فإن العالم لم يعرف وقتًا بلغ فيه المال من القوة والقيمة مثلما بلغ في وقتنا هذا: فليس من الممكن أن نعيش معيشة صحية أو أن نربي أولادنا أو أن نثقف أنفسنا أو أن نضمن الهناء لوقت الشيخوخة ما لم نستند في ذلك كله إلى جدار قوي من الذهب، فالمال قوة لا يحتقرها إلا رجل أبله.

وإنما عبرة كلامنا أن المال ليس كل شيء فيجب ألا يستغرق كل نشاطنا، وفي المال خاصة وهي أننا إذا بلغنا حدًّا معينًا لم نستطع أن نزيد مقدار تمتعنا به، فمن المعقول أن الغني الذي يبلغ دخله ألف جنيه يمكنه أن يتمتع بالحياة أكثر كثيرًا من ذلك الذي لا يحصل إلا على دخل مقداره مائة أو مائتا جنيه ولكن صاحب الألفين لا يتمتع أكثر من صاحب الألف، وذلك لأن متع الإنسان نفسها محدودة فلسنا نستطيع أن نأكل كثيرًا أو نحب كثيرًا لأن أموالنا كثيرة، وليس يسرنا أن ننام على سرير من الذهب أو أن نرى عشرين خادمًا في البيت.

إنما نحن زائرون لهذه الدنيا نقضي في فندقها نحو سبعين سنة، فيجب أن نتمتع بما فيها مدة إقامتنا، ولسنا ننكر أن نظام الفندق يحتم علينا تحصيل المال، فيجب لذلك أن نحصله ونقضي به ثمن متعتنا، ولكن يجب ألا نجعله غاية حياتنا.

فالمال وسيلة وليس غاية، فيجب أن يكون لكل منا غاية في حياته غير جمع المال، وأشرف الغايات أن يرقي الإنسان نفسه ويعمل لرقي من حوله، وهو إذا جعل هذا العمل غايته من الدنيا وجد حياته حافلة بالمتع العظيمة التي تشغل ذهنه وتملأ وقته وتشيعه إلى القبر مسرورًا بما أدى في هذا العالم، وإذا فكر الإنسان في الرقي فإنه يفكر بالطبع في عدة أشياء أخرى: في التعليم والصحة والدين والأدب والحضارة والبر والاكتشاف.

والاشتغال بهذه الأشياء أمتع للنفس من الاشتغال بجمع المال، وبرهان ذلك ظاهر، وهو أننا نرى أناسًا يضحون براحتهم وأنفسهم ويموتون في سبيل الدين أو الاكتشاف العلمي أو اختراع آلة، يفعلون ذلك كله ويقاسون وقد أخذتهم لذة الرقي فلا يبالون بما يقاسون، ولم نسمع قط أن رجلًا ضحى بنفسه في سبيل جمع المال.

إنما اللذة العليا والتمتع الحقيقي أن نرى أنفسنا كل يوم نرتقي ونجاري التطور في غاياته السامية فنتطور نحن أيضًا، ففي نفس كل منا شهوة عنيفة للتطور هي أصل الثورات الاجتماعية والاكتشافات والاختراعات وكل ما يرفع الإنسان.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤