مقدمة
يصور بعض المؤرخين الحالة (وقد سقطت الدولة الأموية، وقامت الدولة العباسية) تصويرًا يخيل إليك معه؛ أن هناك حدودًا فاصلة بين الدولتين، وأن صفحة للتاريخ قد خُتمت بانتهاء الدولة الأموية، وأن صفحة أخرى بدئت بقيام الدولة العباسية، وأنه ليس هناك كبير علاقة بين الأمة الإسلامية في عهدها الأول، والأمة في عهدها الثاني. وهذا التصوير أبعد ما يكون عن الصحة! وعلى الأخص من الناحيتين؛ الاجتماعية، والعقلية.
فقد حدثت حوادث في صدر الإسلام، وفي عهد الدولة الأموية، أخذت تعمل عملها منذ وجودها، واستمر تأثيرها مع سقوط الأمويين، وقيام العباسيين. خذ لذلك مثلًا: تعاليم الإسلام؛ فقد ظلت تعمل وتنتشر، مؤثرة في البلاد المفتوحة ومتأثرة بها، وكذلك الشأن في انتشار لغة العرب؛ فلم يكن قيام الدولة العباسية صفحة جديدة لهذين العاملين، وإنما كانت مهدًا لامتدادهما. ومن أوضح المثل على ذلك: عملية الامتزاج بين الأمم الفاتحة والمفتوحة؛ فقد بدأت من عهد عمر بن الخطاب، ووقفت وقفة صغيرة لِما أصاب الأمم المغلوبة من الدهشِ. ثم بدأت تخضع للنظم الاجتماعية؛ من تزاوج، ودخول في الإسلام، وتعلم للعربية، ثم ظهورِ جيل جديد يحمل الدم العربي والأجنبي معًا، بل يحمل مع ذلك خصائص الأمم المختلفة التي يتكون منها دمه، سواء كانت خصائص جسمية، أو عقلية، أو خلقية، أو روحية. وأخذ هذا الجيل في الظهور في عهد الدولة الأموية، وظل ينمو ويتعاقب في الدولة العباسية، وكان من نتائج هذا الامتزاج: أن كل جنس بدأ يتعلم من الأجناس الأخرى ما يشعر بأنها آخذة منه بحظ أوفر، فالعربي يأخذ من الفرس والرومان حضارتهم، والفرس تأخذ من العرب الدين، واللغة، وهكذا.. وهذه العمليات ظلت سائرة في العهد العباسي، كما كانت سائرة في العهد الأموي.
- (١)
أن الدولة الأموية نفسها، وهي هي. كانت الحركة العلمية، والمذاهب الدينية، والنظم الاجتماعية؛ في آخرها أرقى منها في أولها، فانتظمت تعاليم الخوارج، ونشأ الاعتزال، واعتنقه بعض الخلفاء الأمويين، ونظمت حلقات الدروس في المساجد، وأخذ العلماء يبحثون مسائل في القدر، وغير القدر، وتناقشوا مع اليهود والنصارى، وبدأت نواة التأليف، والترجمة، وظهرت الكتابة الفنية، إلى كثير من أمثال ذلك. ولو كان اتساع الحركة العلمية من عمل العباسيين وحدهم؛ لكان آخر الدولة الأموية يشبه أولها.
- (٢)
أن الأمويين أنفسهم لما انتقلوا إلى الأندلس، وكونوا فيها مملكة عاصرت العصر العباسي الأولَ؛ لم يكن تشجيعهم للعلم ولحركة الترجمة والتأليف أقلَّ كثيرًا من عمل العباسيين، وكذلك مدنيتُهم وحضارُتهم، وأكبر فرق بينهما: نشأ مما أحاط بالعباسيين من مدنيات العراق القديمة، والفرس، واليونان، وما أحاط بالأمويين بالأندلس من مدنية لاتينية. فأما الميل إلى التوسع في الحضارة، ومنه العلم، والأخذ بأوفر حظ من النظم الاجتماعية التي تليق بهم؛ فكان حظَّ الدولتين معًا.
ذلك بأن المملكة الإسلامية، كانت من أول عهدها تسير متنقلة في أطوارها الطبيعية. ويسلمها طَور إلى طور، فتنتقل من طور تغلب فيه البداوة، إلى طور من الحضارة، ثم إلى طور آخر، وهكذا.. وجاءت الدولة العباسية، والأمة سائرة إلى الحضارة بطبيعة ما يحيط بها من ظروف، فسارت في هذا الاتجاه، والخطأ كل الخطأ أن يُفهم أنها أوجدته من عدم!
نعم! إن هناك عوامل ظهرت مع العباسيين، وبعضها من عملهم؛ كغلبة النفوذ الفارسي، ونقل العاصمة من الشام إلى العراق. وكان لهذه العوامل أثر غير قليل في نمو الحركة العلمية والاجتماعية، ولكن هذه الحركات كانت حركات مساعدة فقط، ولو لم توجد لاستمرت الأمة في سيرها إلى الحضارة، وإن كان يكون سيرها أبطأ. فسلطة العنصر الفارسي كانت تنمو في الحكم الأموي، وعلى الأخص في آخره، ولو لم يتح لها فرصة الدولة العباسية، لأتيحت لها فرص أخرى مختلفة الأشكال. والعراقيون كان يصح أن يستخدموا في الحركة العلمية (والعاصمة في الشام)؛ بل نحن نرى بالفعل حركة الحسن البصري وتلاميذه الدينية بالبصرة تنمو وتقوى، والحركة اللغوية تنمو وتقوى؛ بمثل أبي عمرو بن العلاء، وقرينِه عيسى بن عمر الثقفي بالبصرة أيضا في عهد الدولة الأموية. ولم يكن اتساع هاتين الحركتين في العهد العباسي إلا أثرًا لهؤلاء وأمثالهم، وتقدمًا طبيعيًّا نتج من نشاط تلاميذهم.
ولكن مما لا شك فيه أن الحياة الاجتماعية التي كانت تحياها الدولة العباسية لونت العلوم والآداب بلون خاص، وجعلت لها صفات خاصة، ما كانت تكون لو استمرت الدولة الأموية في حكمها.
وهذا ما سنحاول وصفه في الباب الآتي. وسنقتصر من وصف الحياة الاجتماعية، على ما له أثر كبير في العلم والفن.