تمهيد

كان من أثر اختلاف السكان في المملكة الإسلامية، وانتسابهم من حيث أصولهم إلى أمم مختلفة — كما بينَّا في الباب الأول — وامتزاجِ بعضهم مع بعض في السكنى والتزاوج وما إلى ذلك، ودخولِ كثير من أفراد الأمم المختلفة في الإسلام، ونمو الحضارة نموًّا يستدعي علمًا واسعًا بكثير من شئون الحياة، من هندسة وطب ونجوم، ونظام حكم وفقه، ولغة وأدب. كان من أثر ذلك كله أن انتشرت في المملكة الإسلامية ثقافات مختلفة لأمم مختلفة، وكان هناك رجال بارزون يحملون لكل ثقافة عَلمها، ويبذلون جهدهم في الدعوة لها، والترويج لمبادئها، وتحبيبها إلى الناس، وإفهامهم أنها خير أنواع الثقافات. وكان من مظاهر هذا: أن كل ثقافة أخذت تشق لنفسها جدولًا تسير فيه وحدها، وكلما غزرت وزاد مددها وسعت مجراها وتعهدته بالإصلاح، وحافظت إلى حد ما على استقلاله، ثم نرى — بعد ذلك — أن هذه الجداول المستقلة تقريبًا أخذت تلتقي، ويتكون منها نهر عظيم، تصب فيه مياه مختلفة. ورأينا أن ما حصل في الأجناس البشرية حصل نظيره في الثقافات العلمية. وقد كان في الأجناس امتزاج وتزاوج وتوليد؛ فكان في الثقافات العلمية امتزاج وتزاوج وتوليد، وقد كان في الأجناس ميزات مختلفة، كل جنس له مزاياه وله عيوبه، وكانت عملية التوليد تنشأ من تلقيح دم بدم، فينشأ جنس جديد له مزايا الجنسين، وعيوب الدمين، وله خصائص أخرى ليست في الجنسين، فكان كذلك الشأن في الثقافات. كان هناك لقاح بين الثقافات، ونشأ من هذا اللقاح ثقافات جديدة، تحمل صفاتٍ من هذه وتلك، وصفاتٍ جديدة لم تكن في هذه ولا في تلك، وأصبح لها طابع خاص يميزها عما سواها. وكما كان في المملكة الإسلامية أمم مختلفة، اشتهرت كل أمة بميزة، كذلك امتازت الأمم المختلفة بميزات في العقلية، تبعها ميزات في الثقافة.

فما هي أشهر الثقافات في ذلك العصر؟ وما ميزة كل ثقافة؟ وماذا كانت طبيعة جدولها قبل أن تصب في النهر الأعظم؟

ثم بعد أن صبت في ذلك النهر، ماذا كانت طبيعة مائه، وأي العناصر غلب عليه؟ وما مظاهر تلك العناصر في مياه النهر؟

ذلك ما نريد أن نبحث عنه في هذا الباب.

قد انتشرت في هذا العصر أربع ثقافات، كان لها الأثر الأكبر في عقول الناس وأعني بها: الثقافة الفارسية، والثقافة اليونانية، والثقافة الهندية، والثقافة العربية. كما كان هناك ثقافات دينية أهمها اليهودية والنصرانية والإسلام. فلنتكلم كلمة في كل منها، ولنختر لكل ثقافة من يمثلها ما أمكن، ثم لنختر مثلًا ممن كان يمثل الثقافات كلها بعد امتزاجها.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤