الخلاصة

إذا نحن نظرنا نظرة عامة إلى ما قدْمناه من نشأة العلوم على اختلاف أنواعها من علوم دينية، كالتفسير والحديث والفقه، ومن علوم لسانية كاللغة والنحو والأدب، ومن علوم أخرى كالتاريخ، وجدنا أنها تشترك في مظاهر واحدة، وأنها خضعت لقوانين واحدة، ويمكن أن نجملها فيما يأتي:
  • (١)

    بدأت هذه العلوم كلها شفوية يتناقلها الناس بعضهم عن بعض بالسماع ولا يُعْنَى بالتدوين فيها إلا أفراد قلائل، في شكل ساذج.

ثم بدأ التدوين يكثر شيئًا فشيئًا، ولكن على غير نظام، فالعلم كله في نظرهم شيء واحد، والعالمُ غير متميز؛ فمسألة في التفسير، ومسألة في التاريخ، ومسألة في الأدب، ومسألة في التشريع. وكلها علم ليس بينها من فرق، والعالِم يعرض لكل ذلك من غير أن يشعر بأنه انتقل من حدود علم إلى حدود آخر.

ثم أخذ العلم يتركز، ولمَّا اتسعت دائرته وكثرت جزئياته أصبح أكثر العلماء لا تتسع قدرتهم للإحاطة بها، فغلب على كل طائفة ميل خاص إلى بعض المسائل اشتهر به، فمنهم مَنْ غلبت عليه نزعة التشريع، ومنهم مَنْ غلبت عليه نزعة التاريخ وهكذا؛ وبوضوح هذه النزعات على توالي الزمان أخذت المسائل المتشابهة يتجمع بعضها حول بعض، فتميزت العلوم نوعًا ما.

وحتى لمَّا تميزت هذا التمييز لم تكن منظمة في نفسها، فمسائل الفقه مبعثرة ومسائل التاريخ مبعثرة وهكذا؛ فجاء العلماء بعدُ يدخلون عليها التنظيم شيئًا فشيئًا، يجمعون المسائل المتشابهة في موضع واحد، ويبوبون لها بابًا خاصًا، حتى وصل في آخر العصر العباسي الأول إلى ما رأينا.

وأن التأليف في العلوم كلها خضع لقانون النشوء والارتقاء؛ تفرز الحياة اجتماعية مشاكل تلفت الأنظار وتتطلب الحل، وهذه المشاكل متنوعة، منها في التشريع، ومنها في الخطأ اللساني، ومنها في مطالب السمو ونحو ذلك، فتتجه الأذهان الكبيرة إلى حلها — وكلَّما حلت مسألة دخل الحل في باب المأثور — وورِث كل جيل عن الذي قبله طائفة كبيرة من المأثورات أضاف إليها المشاكل التي عرضت له هو وحلولها، ولم تكن هذه المشاكل منظمة؛ لأنها في كثير من الأحيان وليدة المصادفات، فرجل يحلف يمينًا لم تخطر ببال، والفرزدق يقول بيتًا من الشعر لم يجرِ فيه على المألوف، وآية من القرآن تتلى فيقف فيها الواقف من ناحية معناها أو من ناحية مبناها، فتجادل العلماء في كل ذلك ويخلِّفون آراء لها قيمتها. فإذا تكدست هذه المسائل وظهرت النزعات التي أسلفنا ذكرها اتجهت الأفكار إلى فرزها وتنظيمها والتأليف فيها، وزاد من يأتي بعدهم في ذلك التنظيم حتى يكون من ذلك بعدُ مثلَ كتاب الموطأ في الحديث، وكتب أبي يوسف ومحمد الشافعي في الفقه، والعين في اللغة، وكتاب سيبويه في النحو، وابن إسحق والواقدي في السيرة.

ونرى أن التأليف في الفروع المختلفة سار على نمط واحد، تأليف في مسألة جزئية، كتأليف الهمزة واللام في النحو، وتأليفٌ في وقعة الجَمَلِ أو صِفِّين أو مقتل عثمان في التاريخ، أو تأليف في النخل والكَرْم، واللِّبأ واللبن في اللغة ثم التأليف في أبواب العلم كلها كالذي رأينا.

  • (٢)

    كان جمع الحديث أساسًا لكل العلوم الدينية، تفرَّع عنه التفسير والفقه وتاريخ السيرة وتاريخ الفتوح والطبقات؛ وكان الحديث في أول الأمر يشمل كل ذلك، ثم أخذت فروعه تنفصل عنه شيئًا فشيئًا، وتتميز بأسمائها وكتبها.

وأمَّا العلوم اللسانية فكان مبعثها أيضًا دينيًا، فأهم سبب لوضع النحو المحافظة على القرآن من أن يلحن الناس فيه، وأهم باعث لجمع اللغة معرفة لغة القرآن وتفسير غريبه وهكذا؛ ثم تحوّل بعدُ ما كان وسيلة إلى غاية تقصد لذاتها. وهذا ما جعل كل العلوم التي ذكرناها في هذا الجزء تصطبغ بالصبغة الدينية، وتتأثر بالدين وتعاليمه إلى حد بعيد، في الاتجاه الذي اتجهته، والنمط الذي سلكته.

  • (٣)

    نشط العلم في أحضان العباسيين نشاطًا كبيرًا، وإن كانت بذرة النشاط بدأت في آخر العصر الأموي، فالتأليف في العصر العباسي شمل كل فرع من فروع العلوم، وعُدَّ المؤلِّفون والمؤلَّفات فيه بالمئات، واستعراض لفهرست ابن النديم فيما أُلِّف في ذلك العصر يقفنا موقف الدهشة والاستغراب، وليست المسألة مسألة كمية لعدد المؤلَّفات فحسب، بل الفرق كبير أيضًا في كيفية معالجة العلماء العباسيين للموضوع والعلماء الأمويين له، وسبب ذلك الرقي الطبيعي في العلم، وأن كل خطوة فيه تُسلم للتي تليها، وأن العباسيين كانوا أكثر اتصالًا بالعلماء وتشجيعًا، إلى غير ذلك من أسباب عرضنا لها في ثنايا الكتاب.

•••

وبعد، فلم يبقَ لنا من أنواع العلوم إلا ما ترجم منها عن الأمم الأخرى، وقد عرضنا لذلك عند الكلام في الثقافات المختلفة في الجزء الأول من «ضحى الإسلام»، وسنعرض لنتائجها التي تهمنا عند الكلام في «المتكلمين»، وقد خصصنا الجزء الآتي بالكلام في العقائد من معتزلة وشيعة ومرجئة وخوارج ومتصوفة وغيرهم في ذلك العصر. أعاننا الله على إتمامه.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤