الفصل الثاني عشر

امتزاج الثقافات

هذه الثقافات التي ذكرنا؛ من فارسية، وهندية، ويونانية وعربية، ومن يهودية ونصرانية وإسلام التقت كلها في العراق في عصرنا الذي نؤرخه. ولكن كل ثقافة في أول أمرها كانت تشق لنفسها جدولًا خاصًّا بها، يمتاز بلونه وطعمه، ثم لم تلبث إلا قليلًا حتى تلاقت، وكونت نهرًا عظيمًا تصب فيه جداولُ مختلفة الألوان والطعوم، مختلفة العناصر.

والعلماء على اختلاف أنواعهم لم يكونوا كلهم يستسيغون ماء النهر الأعظم، ولا يتذوقون طعمه؛ فكان منهم من يخرج إلى بادية العراق يرِد الجدول العربي صافيًا، قبل أن تكدره الحضارة، يستقي منه ما شاء أن يستقي، ويعود إلى الحضر وقد تزود مما استساغه من ماء يعيش عليه، ولا يشرب إلا منه، وإذا اسْتُسْقِيَ فلا يسقي إلا منه. أولئك أمثالُ الأصمعي الذي حفظ كما يقولون اثني عشر ألف أرجوزة من أراجيز العرب، وحفظ الكثير من قصائدهم ونوادرهم ولغتهم، وتخصص لذلك، يؤلف فيه ويعلم في المسجد ويحاضر، وكحماد الراوِية، وخَلف الأحمر، والمفضل الضبي، وأبي عمرو الشّيباني، ومحمد بن سلام الجمحِي، فهؤلاء كانوا لا يعجبهم إلا الجدول العربي، يرحلون إليه، ويأخذون منه، ويتنقلون في قبائله، ويروون شعره ولغته وأدبه، ويقصون نوادره مهما تفهت، ويحبون كل شيء له، ثم يذهبون إلى العراق يعلنون عن مائه، ويبشرون بعذوبته وصفائه، فإن عرض لهم ماء من جدول آخر عافوه واستكرهوه ومجته نفوسهم.

ومنهم من كان لا يحب إلا الجدول اليوناني، يتعلم كتبه ولغته، ويستلهم مؤلفاته، ولا يرى العقل إلا فيه، ولا الحكمة إلا صادرة عنه ومقتبسة منه؛ كأطباء السريان في ذلك العصر، وهكذا.

ومن الناس من يستقي من جدولين، يرِد هذا مرة وذاك مرة، حتى إذا علَّ ونهِلَ ملأ منهما كلّ آنيته، وعاد فمزج العنصرين، وكون منهما شرابًا جديدًا يستسيغه الناس فيعجبون به ويستطعمونه؛ كالذي فعل أبو عبيدة معمر بن المثنى، فهو مولى فارسي، اطَّلع على آداب الفرس وأخبارها وملوكها وحكمائها ومحاسنها ومساوئها، وعرف أخبار العرب وقبائلها ولغتها وأقاصيصها، وحقائقها وخرافاتها، وروى أيام العرب التي يتناقلها المؤرخون إلى اليوم. فكان واسع الاطلاع في الأدبين العربي والفارسي، وكان يجلس إلى الناس فيحدث بأخبار هؤلاء وهؤلاء، ويقارن بين مفاخر العرب ومفاخر الفرس، ويؤلف الكتب في هذا وفي ذاك، يؤلف في «فضائل الفرس»، و«مآثر العرب» ومثالبهم، فطَلع على الناس بثقافتين في وعاء واحد، فكرهه من تعصب للعرب، ورأوا ماءه ليس صافيًا، ولا طعمه بالذي ألفوه واعتادوا الري به. وأحبه من ينزع إلى الفرس كالموصِلي وأبي نواس، ومن يفسح صدره لكل علم وخبر، ويرى الحكمة ضالة المؤمن ينشدها حيث وجدها كالجاحظ.

ومنهم من تثقف بأكثر من ثقافتين، وتأدب بأكثر من أدبين كما سيأتي بيانه.

وفي الحق، إن الجدول العربي كاد يكون مستقى الناس جميعًا، إذا نحن استثنينا طائفة من السريانيين الذين يثقفون بالثقافة اليونانية، أو المجوس الذين يتأدبون بالآداب الفارسية، ويدينون بالديانة الزرادشتية وأمثالهم. أما غير هؤلاء فكانوا يأخذون بحظٍّ من الجدول العربي قل أو كثر؛ ذلك لأن الدولة السياسية عربية بخلفائها ولغتها ودينها، ودولة الأدب عربية، فلا يحيا فيها إلا ما كان عربيًّا، فاضطر كل ذي أدب وكل ذي علم، وكل ذي لغة أن يتعلم اللغة العربية، يصوغ فيها أفكاره وأدبه وعلمه، فمن تبحر في العلوم اليونانية وجب أن يخرِج ما علم إلى اللغة العربية، ومن تأدب بالأدب الفارسي فلا قيمة له إلا أن يخرج أدبه باللغة العربية. وإذا كان رياضيًّا هنديًّا، أو طبيبًا هنديًّا فليس له حظوة إلا أن يعرب ما علم، وهكذا. لذلك كان هذا الجدول موردًا للأدباء والعلماء، وكان من ذلك أن قومًا وفروا جهدهم له، يتبحرون فيه ولا يستقون إلا منه. وقومًا تبحروا في غيره، ولكن اضطروا إلى وروده فوردوه، يستعينون بمائه على إساغة ما عندهم للناس.

•••

وهنا يعترضنا سؤال لا بد منه، وهو: أي أنواع الثقافات كان أكبر أثرًا وأشد نفوذًا وأقوى سلطانًا؛ الثقافة العربية بما لها من لغة وأدب ودين؟ أم الثقافة الفارسية بما لها من نظام وأدب؟ أم الثقافة اليونانية بما لها من علم وفلسفة؟ وإن شئت وضعت السؤال بهذه الصيغة: أي الثقافات كان أكثر تأثيرًا في الثقافة العربية؛ الثقافة الفارسية، أم الثقافة اليونانية؟ نعم، كلتا الثقافتين لونت الثقافة العربية بلون ما كان يكون لولاها، ولكن أي اللونين كان زاهيًا ناضرًا، وأيهما كان ضعيفًا شاحبًا.

ذلك سؤال عويص، ولكن يظهر لي أن أسد طريق ألا نجيب إجابة مطلقة، أن نقول: إن كل ثقافة من هذه الثقافات كانت لها «منطقة نفوذ» لا تكاد تزاحمها فيهما الثقافة الأخرى، فالعلوم الرياضية من حساب وجبر وهندسة وفلك وطب وما إليه، وفلسفة وما إليها؛ كانت منطقة النفوذ اليوناني، تزاحمها فيها الثقافة الهندية، ولكن مزاحمة غير عنيفة. فأساس هذه الأشياء كلها عند المسلمين هو الأساس اليوناني، وإن كان بعض أركانه هنديًّا، والمنهج الذي اتُّبع في هذه العلوم منهج يوناني في منطقه وطريقة تأليفه، وما علق عليه من شروح. وكتب هذه العلوم عليها مسحة خاصة؛ هي غير المسحة الأدبية، وهي غير المسحة الجغرافية والتاريخية؛ هي مسحة يونانية بحتة؛ لأنها تأثرت كل التأثر بما ترجم من اليونان، وظلت حافظة لشكلها، حتى أَلّف المسلمون فيها. وقد بدأت الرياضة الهندية والفلك الهندي تدخل في ثنايا ما ألف المسلمون في هذه العلوم، ولكنها ما لبثت أن ذابت.

أما الأدب، فلم يتأثر كثيرًا بالأدب اليوناني، وهذا ظاهر فيما أُلِّف من الكتب في هذا العصر، فمنهجها غريب لا يتصل بسبب إلى المنهج اليوناني، فلا أثر للترتيب المنطقي فيه، ولا ترى وحدة للكتاب ولا للباب، كما رأينا في كتاب الكامل للمبرد، وكما نرى في البيان والتبيين للجاحظ؛ إنما هي جزئيات جمعت حيثما اتفق، هي أشبه بسمر العلماء في المجالس. فأما موضوع واحد يرتب فيه كل ما يراد أن يقال وتسلسل أفكاره، وتسلمك ألفه إلى يائه بالتدريج كما يفعل العقل اليوناني؛ فذلك ما لا نجده في كتب الأدب العربي.

هذا من ناحية الشكل، وأما من ناحية الموضوع؛ فإن ما فيها من أدب شرقي فارسي أو هندي أكثر مما فيها من أثر يوناني، ففيها الحكم عن أردشير وبزرجمهر أكثر مما عن أفلاطون وأرسطو، وفيها نظام الحكم الفارسي لا نظام الحكم اليوناني، وفيها تصور للعدل وطبقات الناس، كما يتصوره الفرس، وفيها توقيعات الملوك وقصصهم مع رعيتهم على النحو الفارسي لا النحو اليوناني، وعلى الجملة فنفوذ الفرس في الأدب نفوذ اليونان. وقد حاولنا فيما سبق بيان السبب في ذلك.

ومما يجب التنبه له أن كثيرًا من حاملي لواء الأدب في ذلك العصر، من شعراء وكتاب، كانوا من أصل فارسي من ناحية الأبوين معًا، أو أحدهما، ثم تعلموا اللغة العربية وحذقوها، فكان تجديدهم للأدب مدينًا للفرس والعرب معًا، فأدخلوا على الأدب العربي عناصر جديدة لم تكن، فبشار الفارسي يخترع تشبيهات جديدة لم يستعملها العرب، وأبو العتاهية زعيم الشعر الديني، والسابق إليه من الموالي، وأبو نواس المتخصص في الخمر وما إليه، والفاتح للناس بابًا من الهجاء لم يلجوه من قبل هو نصف فارسي، وكذلك الشأن في الكتاب، وما أدخلوا من أسلوب، كابن المقفع، وسهل بن هارون. كل هؤلاء كانوا من أصل فارسي أو ما يقرب منه، فما أنتجوه من غير شك نتاج للأصل الفارسي والثقافة العربية، وملون بالحياة الاجتماعية التي كان يعيشها العراق. وقل أن نجد من هؤلاء الأدباء من كان من أصل رومي، يتلون بلون الروم، ويتثقف بثقافتهم، وإذا كان الأدب العباسي أساسًا كبيرًا من أسس الأدب جرى الناس بعد على منواله، وحذوا حذوه. وإذا كان من ساهم في هذا الأساس هم الفرس لا اليونان أمكننا أن نستنتج أن نفوذ اليونان في الأدب العربي ضعيف.

ثم من الحق أن نقول: إن نفوذ العرب في أدبهم، وخاصة في شعرهم؛ كان أقوى من أي نفوذ آخر، فقد ظل الشعر حافظًا لأوزانه الجاهلية وتقاليده إلى عصرنا هذا، ولم تستطع أمة بنفوذها مهما عظم أن تحوله. وكل ما قلنا من أثر فارسي فإنما كان في بعض العناصر التي تصب في القالب، لا في القالب نفسه، وأبو نواس يحاول أن يخرج على الجاهليين، ويقول:

صِفَةُ الطُّلولِ بَلاغةُ القُدْمِ
فَاجْعَلْ صِفَاتِكَ لابْنَةِ الكَرْم
ولكنه مع هذا لا يستطيع أن يتحرر من قيوده، ولو فعل لما قرئ ولا سمع. ويصف الجاحظ شعور الناس في عصره نحو الشعر الجاهلي والتراث الجاهلي، فيقول: «إنهم يفضلونه على الشعر الإسلامي، وهم به أكثر ولوعًا، وأشد تقديرًا.» ويقول: «إنهم يعدون حاتمًا أجود العرب، ولو كان الأمر مفوضًا إلى تقدير الرأي لكان ينبغي لغالب بن صعصعة أن يكون من المشهورين بالجود، دون هرم وحاتم. فإن زعمت أن غالبًا كان إسلاميًّا، وكان حاتم في الجاهلية، والناس بمآثر العرب في الجاهلية أشد كلًفا فقد صدقت!» ويقول: «إن أيام الإسلام ورجالها لم تكن أكبر في النفوس، وأجل في الصدور من رجال الجاهلية مع قرب العهد … ومع الإسلام الذي شمِلهم، وجعله الله تعالى أولى بهم من أرحامهم.»١ كل هذا جعل تأثير الأدب الجاهلي في الأدب الإسلامي شديدًا قويًّا، وجعل الإسلاميين يحتذون حذوه ولا يخرجون كثيرًا عن قيوده، فلئن كانت الثقافات الأجنبية في العلوم واضحة الأثر فأثرها في الأدب خفيف، ولو كان شديدًا قويًّا لأدخلوا على بحور الشعر الجاهلية بحورًا فارسية أو يونانية، ولتحرروا أحيانًا من القافية، ولأدخلوا ضرب الشعر القصصي والتمثيلي، ولرسموا طريقة جديدة لنهج القصيدة؛ فلم يتقيدوا ببكاء أطلال، ولا وقوف على ديار، ولهجروا الغزل الطويل يدخلون به على مدح الممدوح، ولفعلوا كثيرًا من أمثال ذلك، ولحدثت ثورة في الشعر والأدب، فنقلته نقلة جديدة كما حدث في العلوم. نعم حدث تغير من دخول بعض الفنون الشعرية، واصطباغها بصبغة الحياة الاجتماعية ونحو ذلك، ولكنه تغيير خفيف، لا يكاد يرى إلا بالمجهر. كم بين طب العرب في الجاهلية، وطب حنين بن إسحاق وبختيشوع من فرق! وكم بين نظر العربي إلى الأنواء والنجوم، ونظر نوبخت! بل كم بين ما روي من فقه عن ابن مسعود، وما روي عن محمد بن الحسن، ونحو أبي الأسود الدؤلي كما يروون، ونحو سيبويه! ولكنك لا تجد هذه المسافات الواسعة بين الشعر الجاهلي والشعر الإسلامي والعباسي.
وعلى الجملة، فقد كانت نواحي التأثير ومصادره ومقداره مختلفة اختلافًا كبيرًا، وعلى أشد ما يكون من دقة، إن أنت حاولت أن تعبر عن ذلك بأرقام خانتك قوتك، ولم تجد سبيلًا لذلك. كل ما نستطيع أن نقوله: إن طبيعة الثقافة اليونانية عقلية منطقية؛ تحاول أن تجعل لكل شيء مقدمات ونتائج. وهذا الضرب تجلى عند المسلمين في الرياضيات والفلسفة وما إليهما، وأتت هذه الأشياء في العهد العباسي ومواضعها خالية تقريبًا، فكان من السهل أن تصبغ بالصبغة اليونانية من غير كبير مزاحمة، وطبيعة الثقافة الفارسية على ما وصلت إلينا فلسفة عملية؛ من حكم تصاغ حول العدل والظلم ونظام الحكم، ونحو ذلك مما تراه في الأدب الكبير والصغير لابن المقفع، ليس فيها مجال كبير للنظريات، كما هو الشأن عند اليونان، ولكن تجارب عملية تُجَرّب فتصاغ في قالب حكمة أو مثل، وهذا النوع استساغه العرب في أدبهم؛ لأنه أشبه بأمثالهم، وطبيعة الثقافة الهندية مزيج من حكمة (كالتي قلنا في الفرس تتجلى في مثل كليلة ودمنة)، ومن نظريات فلسفية ورياضية كالتي عند اليونان، ولكن يلاحظ البيروني أنهم لا يجيدون تعليلها، ولا البرهان عليها كما يفعل اليونان. وطبيعة الثقافة العربية الأدبية لسانية، أبين شيء فيها جمالها الفني، وأنها بنت البادية، ونتيجة السليقة، ووليدة الفطرة. وهذا هو السبب فيما حكى الجاحظ؛ إذ يقول: «وقد نقلت كتب الهند وترجمت حكم اليونان، وحولت آداب الفرس، فبعضها ازداد حسنًا، وبعضها ما انتقص شيئًا. ولو حولت حكمة العرب لبطل ذلك المعجز الذي هو الوزن، مع أنهم لو حولوها لم يجدوا في معانيها شيئًا لم تذكره العجم في كتبهم التي وضعت لمعاشهم وفطنهم وحكمهم.»٢ وسبب ذلك: أن أسهل شيء في الترجمة المعاني المحددة، وأصعب شيء جمال الأسلوب، وإذا كانت طبيعة الأدب العربي ما بينَّا كان نقله أصعب نقل، وكان أداؤه بلغة غير اللغة العربية ذاهبًا ببهجته، مضيعًا لجماله.
عمل على نشر نتاج هذه الطبائع المختلفة قوم مختلفون، فوزراء العباسيين ومن نحا نحوهم يؤيدون الثقافة الفارسية، ومدرسة جنديسابور وما تفرع منها تؤيد الثقافة اليونانية، والعرب والأدباء وعلماء اللغة والنحو يؤيدون الثقافة الهندية. وقد نشر هؤلاء جميعًا في الجو هذه الثقافات المختلفة، يتنفس كل منها حسب ميوله واستعداده ونوع تعلمه، وكان الوزراء والكتاب أكثر الناس ثقافة فارسية عربية، وكان أطباء القصور النساطرة أكثرهم ثقافة يونانية عربية، وكان المتكلمون على ما يظهر أكثر ثقافة من كل نوع. يقول الجاحظ: «المتكلمون يريدون أن يعلموا كل شيء، ويأبى الله ذلك.»٣

وفي الحق، إن المتكلمين كانوا أكبر عامل من عوامل المزج بين الثقافات المختلفة، من نواحٍ متعددة، فقد كانوا بطبيعة موقفهم الذي شرحناه قبل من دعوة إلى الإسلام مضطرين أن يطلعوا على الأديان الأخرى؛ من مجوسية ويهودية ونصرانية، وكانت اليهودية والنصرانية قد تسلحت بالفلسفة اليونانية والمنطق اليوناني، فاضطر المتكلمون أن يتسلحوا بنفس سلاحهم، فكانوا أولَ من أدخل الفلسفة اليونانية في الإسلام، وكان المتكلمون حلقة الاتصال بين من أتى بعدهم من فلاسفة المسلمين كالفارابي وابن سينا وابن رشد، وكان موقفهم جديدًا لأنهم سلكوا غير طريق السلف، وتعرضوا لمسائل كثيرة لم يتعرض لها من قبلهم، فقام في وجوههم طبقة المحافظين، وعلى رأسهم رجال الحديث، وكانت حربًا عوانًا نشرحها عند الكلام في المتكلمين إن شاء الله.

كذلك كانوا صلة بين الفلسفة اليونانية والأدب؛ فقد تثقفوا ثقافة يونانية كما رأينا، وتثقفوا ثقافة عربية من لغة وأدب، ومزجوا الاثنتين مزجًا تامًّا. رأوا معاني يونانية وأسماء يونانية، فوضعوا لها كلمات عربية، كما أنهم لدعوتهم إلى الإسلام مضطرون أن يتخيروا خير الألفاظ، وخير التعبيرات، فمرنوا على الخطابة والبلاغة، ووضعوا أسسها، كما وضعوا أساس آداب البحث والمناظرة. قال الجاحظ: «كان كبار المتكلمين ورؤساء النظارين فوق أكثر الخطباء، وأبلغ من كثير من البلغاء، وهم تخيروا تلك الألفاظ لتلك المعاني، وهم اشتقُّوا لها من كلام العرب تلك الأسماء، وهم اصطلحوا على تسمية ما لم يكن له في لغة العرب اسم، فصاروا في ذلك سلفًا لكل خلف، وقدوة لكل تابع، ولذلك قالوا العرض والجوهر وأيس وليس، وفرقوا بين البطلان. والتلاشي، وذكروا الهدية والهُوِيّة والماهية، وأشباه ذلك.»٤

وقدموا معاني للأدباء والشعراء لم تكن معروفة من قبل، كما قدموا لهم تعبيرات لم تكن، يقول أبو نواس:

تَكلُّ عن إدْراكِ تحصيله
عُيونُ أوهامِ الضّمَائرِ
تَنْتسبُ الألْسُنُ من وصْفِهِ
إلى مَدَى عجزٍ وتقصير

ويقول:

تَنازَعَ الأحمدانِ الشِّبْه فاشتبها
خَلْقًا وخُلُقًا كما قد الشّراكان
اثنان لا فَصْلَ للمعقول بينهما
معناهما واحد والعِدَّة اثنان

ويقول:

كَمَن الشنآن فيه لنا
ككُمُون النار في حَجَر

ويقول أبو تمام:

جَهْمِيَّة الأوصاف إلا أنهم
قد لقّبوها جَوْهَرَ الأشياء

وقال سعيد بن حميد:

قد قلْتُ بالعدْل ولكنني
عدَلت في الحبّ عن العدلِ
فقلت بالإجبار مستغفرًا
لله من قولي ومِنْ فعلي

ويقول ابن الرومي:

مَا عذر مُعْتَزَلِيٍّ مُوسِرٍ مَنَعَتْ
كفَّاه مُعْتَزِلِيًّا مِثْلَهُ صَفَدَا
أيَزْعُم القَدَرُ المَحْتُوم يَبْسُطُهُ
إنْ قَالَ ذَاكَ فَقَدْ حَلَّ الذِي عَقَدَا

ويقول الناشئ يفتخر بالكلام والمتكلمين:

ونَحْنُ أنَاسٌ يَعْرِفُ النَّاس فَضْلَنَا
بِأْلسُنِنا زِينَتْ صدُورُ المَحَافِلِ
نُنِيرُ وجُوه الحَقّ عِنْدَ جَوابِنا
إذَا أظْلَمَتْ يَوْمًا وجُوهُ المَسَائِلِ
صَمَتْنَا فَلمْ نَتْرُكْ مَقَالًا لِصَامِتٍ
وَقْلنَا فَلَمْ نَتْرُكْ مَقَالًا لِقَائِلِ

ويقول أبو نواس:

وَذَات خَدٍّ مورَّدْ
قَوهِيَّة المتَجرَّدْ
تَأمَّلُ العَيْنُ مِنْهَا
مَحَاسِنًا لَيْسَ تَنْفَذْ
فَبَعْضُهَا قَدْ تَنَاهَى
وبَعْضُها يَتَوَلَّدْ
والحُسنُ في كُلّ عُضوٍ
مِنْها معَادٌ مرَدَّد٥

ويقول:

تَرَكَتْ قَلْبي قَلِيلًا
مِنَ القَلِيلِ أقَلَّا
يَكَادُ لا يَتَجَزَّا
أقَلُّ فِي اللفْظِ مِنْ لا٦

إلى كثير من أمثال ذلك.

وعلى الجملة، كان المتكلمون صلة لأشياء مختلفة، كانوا صلة بين الأديان بعضها وبعض، وصلة بين الفلسفة والدين، وصلة بين الفلسفة والأدب، فلو قلنا إن المتكلمين كانوا من أظهر القائمين بعملية المزج لم نبعد عن الصواب.

•••

لئن كان المتكلمون هم الصلة بين اليونان والمسلمين، فقد كان الفرس المتعربون صلة بين الفرس والعرب؛ مزجوا ما نشِّئوا عليه من أدب فارسي بما تعلموا من أدب عربي، مزجوا القصة الفارسية بالقصة العربية كما في ألف ليلة وليلة، وغيره، ومزجوا الحكم الفارسية والتشبيهات الفارسية بالحكم والتشبيهات العربية. «كان كسرى أنوشروان مشتهرًا بالنرجس، وكان يقول: هو ياقوت أصفر بين در أبيض، على زمرد أخضر»، فيقول الشعر العربي:

ويَاقُوَتةٍ صَفْرَاءَ فِي رَأسِ دُرَّةٍ
مُرَكَّبَةٍ فِي قَائِم مِنْ زَبَرْجَدِ
كأنَّ بَقَايَا الظلِّ فِي جَنَبَاتِهَا
بقِيّة دَمْعٍ فَوْقَ خَدٍّ مُوَرَّدِ

وكان أردشير بن بابك يصف الورد، ويقول: «هو در أبيض، وياقوت أحمر، على كرسي زبرجد أخضر، توسطه شذور من ذهب أصفر، له رقة الخمر، ونفحات العطر»، فيقول محمد بن عبد الله بن طاهر:

كَأنَّهُنَّ يَوَاقِيتٌ يُطِيفُ بِها
زُمُرّدٌ وَسطهُ شُذْرٌ مِنَ الذَّهَب
فَاشْرَبْ عَلَى مَنْظَرٍ مسْتَظْرَفٍ حَسَنٍ
مِنْ خَمْرَةٍ مُزَّةٍ كَالْجَمْرِ فِي اللَّهَبِ
ويضع الفرس الأساطير فينحو العرب نحوهم؛ فقول العرب في العنقاء يشبه قول الفرس في «سيمرغ»، ومن أساطير الفرس أن مسكن السيمرغ على الشجرة التي تقي كل البذور، وهي في المحيط الواسع على مقربة من شجرة الخلد، تجتمع عليها البذور التي أنتجتها النباتات كلها طول السنة.٧
وما تزال تنتقل الأسطورة بين العرب، حتى يدخلها الفيروزابادي في القاموس المحيط، فيقول: «والجزائر الخالدات»، ويقال لها جزائر السعادة ست جزائر في البحر المحيط من جهة المغرب، منها يبتدئ المنجمون بأخذ أطوال البلاد، تنبت فيها كل فاكهة شرقية وغربية وريحان وورد، وكل حب من غير أن يغرس أو يزرع.٨ ويقرأ القارئ الشاهنامة، وما فيها من أساطير فتوحي إليه بمقارنات ومشابهات بينها وبين الأساطير العربية لا تكاد تحصى، كأسطورة «ازدهاك»، وهو روح شريرة في الأساطير الآرية، وفي الأبستاق؛ هو شيطان يمنع ماء السحاب أن ينزل إلى الأرض، وعند الفرس ملك ظالم جبار يتمثل فيه الشر كله.

وتتحول الكلمة في العربية إلى الضحاك، ويزعمون أنه عربي من اليمن، ويفتخر به أبو نواس في قصيدته التي يفخر فيها بقحطان على نزار فيقول:

وكان مِنّا الضحاك يعبده الخابل
والطير في مساربها٩

ويقول صاحب القاموس: «والضحاك رجل ملك الأرض، وكانت أمه جنية فلحق بالجن …» إلخ.

ويتنقل مذهب تناسخ الأرواح من الهند، فينتشر في العراق، ويدعو إليه غلاة الشيعة وبابك الخرمي وأصحابه.

وهكذا تمتزج في العراق كل الثقافات، وتتبادل كل الآراء، وتعرض كل الآداب، فيروي الأغاني أنه: «كان في مسجد البصرة حلقة قوم من أهل الجدل، يتصايحون في المقالات والحجج فيها.»١٠ وبجانبهم حلقة للشعر والأدب، وهكذا، وكان الذين يحضرون هذه الحلقات من أجناس مختلفة وديانات مختلفة وآراء مختلفة، وكانوا يتلاقون في المسجد وفي المنازل، وفي قصور الولاة والخلفاء، ويتحاجون ويتجادلون، يخرج الجاحظ صباحًا إلى المسجد لطلب الحديث، ويلتقي بعد بحنين بن إسحاق وسلمويه، ويلقى النصراني واليهودي فيجادلهما، ويلقى البدوي العربي فيأخذ عنه. يتقابل أصحاب الديانات فيحكي كلٌّ ما ورد في كتبه عن خلق العالم، ويتجادلون في رؤية الله هل تكون أو لا تكون؟ وفي صفات الله هل هي زائدة على الذات أو لا؟ على حين يتجادل الآخرون في أي الأمم خير، ويتعصب هذا للعرب، وهذا للعجم، وغير هؤلاء في لغة وفي أدب، ويقارن العلماء بين اللغات المختلفة والآداب المختلفة، فكان من هذا كله حركة عنيفة، لم تدع نوعًا من المذاهب والأديان واللغات والآداب يعيش وحده، بل لم تدع جزءًا من الأجزاء إلا مزجته بأجزاء أخرى، حتى صعب على الباحث أن يرد الأشياء إلى أصولها، ولم تكن هذه العملية كعملية مزج الزيت بالماء، يعود كل عنصر ملتئمًا مع نوعه مفارقًا لغيره، ولكنه كامتزاج السكر بالماء، أو نفحات الأزهار بالهواء. تمتزج فتبقى أبدًا، وتتلاقى فلا تفترق أبدًا، وكذلك كانت الثقافات، التقت في هذا العصر فكان أول تلاقٍ، وصارت على توالي العصور أشد تلاقيًا، وأكثر امتزاجًا.

وكان للإسلام أثر كبير في هذا الامتزاج؛ فإن من أسلم من الأمم الأخرى — وأعني الخاصة — يرى أن لا يكمل دينه، ولا يقوى إيمانه إلا إذا قرأ القرآن ودرسه، فكان ذلك يدعوه إلى تعلم العربية والتثقف بآدابها، وبذلك يجمع بين ثقافته القومية وثقافته العربية. وفي هذا مزج على الأقل لثقافتين، وجمع بين عقليتين، فكثير من الفرس تعربوا، وكثير من الروم والهنود تعربوا، وكثير من الأنباط تعربوا. ومعنى تعربهم أنهم أفسحوا رءوسهم وألسنتهم لثقافة عربية، تتزاوج مع ما نشئوا فيه وشبوا عليه، وأفسحوا صدورهم للإسلام ليحل محل دين ولدوا عليه، وعاشوا حينًا في شعائره وتقاليده. كل هذا وذاك كان سببًا في التزاوج والإنتاج، ومن أجل هذا لا تكاد ترى في هذا العصر ثقافة مدنية أو دينية عاشت وحدها في عزلة عما حولها، بل كان الكلٌّ مؤثرًا متأثرًا، وفاعلًا قابلًا، وإن اختلفت فيما بينها في مقدار فاعليتها وانفعالها، ونواحي تأثيرها وتأثرها.

وبعد، فإن نحن أردنا أن نختار من يمثل هذه الثقافات ممتزجة لا نجد خيرًا من الجاحظ وابن قتيبة وأبي حنيفة الدينوري. كلٌّ واسع الاطلاع، غزير العلم، كثير التأليف، نال حظًّا وافرًا من نواحي العلوم المختلفة، أولهم زعيم المتكلمين من المعتزلة، وثانيهم زعيم أهل السنة، وثالثهم زعيم علماء النبات، كلٌّ أديبٌ وعالم ولغوي ومؤرخ، وعلى الجملة فقد كانوا هم ثلاثتهم «دائرة معارف» زمنهم، نستطيع إذا ألممنا بكتبهم أن نعرف أي شيء من العلم كان في عصرهم، وأي شيء لم يكن. وهم من هذا كله مختلفون تمام الاختلاف، طعمًا وذوقًا وروحًا وعقلية، ونظرًا إلى الحياة، كما سيتضح عند الكلام فيهم. ولسنا نريد أن نتوسع في تاريخ حياتهم، ولا تحليل كل كتبهم، ولا الإحاطة بكل نواحيهم؛ فذلك ما لا يسعه كتاب كهذا، وإنما نتكلم من الناحية التي قصدنا إليها فحسب، وهي أنهم يمثلون الثقافات ممتزجة، وجداول العلم مجتمعة، ونختار من كتبهم أدلها على ذلك الغرض، وأوفاها لهذا المقصد.

الجاحظ

هو أبو عثمان عمرو بن بحر بن محبوب الكناني، والأرجح أنه كناني بالولاء، لا كناني صليبة، فقريب الجاحظ (وهو يموت بن المزرع) يقول: «الجاحظ خال أمي، وكان جد الجاحظ أسود يقال له فزارة، وكان جمالًا لعمرو بن قلع الكناني.»١١ وقد اختلف في تاريخ مولده، ولكنهم يكادون يتفقون على تاريخ وفاته، وهو ٢٥٥هـ، وأنه عمر نحو ٩٦ عامًا، فيكون ميلاده حول سنة ١٥٩هـ، ولد بالبصرة، وأخذ اللغة والأدب عن أبي عبيدة والأصمعي وأبي زيد الأنصاري، وأخذ النحو عن الأخفش، وأخذ الكلام عن النظَّام، وكان يذهب إلى مِربد البصرة يأخذ عن العرب شفاهًا. وأولع بالقراءة فقالوا: «إنه لم يقع بيده كتاب إلا استوفى قراءته كائنًا ما كان، وكان يكتري دكاكين الوراقين، ويبيت فيها للنظر.» تثقف الثقافة العربية من المِربدِ، ومن علمائها أمثال الأصمعي وأبي زيد، وأتت له الثقافة اليونانية من طريق علماء الكلام، ومشافهته لحنين بن إسحاق وسلمويه وأمثالهما، وحذق الثقافة الفارسية من كتب ابن المقفع، وأخذِه عن أبي عبيدة، وتوسع في الثقافات كلها بما كان يقرأ من الكتب كلها. ولد في خلافة المهدي، وكان صبيًّا في خلافة الهادي، وأتته خلافة الرشيد وهو شاب، وشاهد الصراع بين الأمين والمأمون، وكان ناضجًا وقت سلطة المعتزلة في عصر المأمون، واتصل بما كان في أيامه من حركة علمية وفلسفية. في كل ذلك شاهد سلطان الفرس وغلبتهم، وشاهد في أيام المعتصم سطوة الترك، وحلولهم محل الفرس، كما شاهد دولة الواثق وسيره سيرة المعتصم والمأمون في مناصرة الاعتزال، وحضر دولة المتوكل وقد هزم المعتزلة وأبطل دولتهم، ومرت عليه دولة المنتصر والمستعين والمعتز، وهو يعاني الفالج والنقرس، إلى أن مات في خلافة المهتدي بالله، فتاريخ الجاحظ تاريخ قرن كامل، هو زهرة الدولة العباسية، قل أن تَعَلّم أحد من أحداثها ما تعلم الجاحظ. أحس ببؤس الفقراء، فقد نشأ فقيرًا، حتى يحكي من رآه يبيع الخبز والسمك بسيحان، ويخالط العلماء على اختلاف مذاهبهم ومناحيهم، ثم يكون كاتبًا وقتًا قصيرًا، ويتعرف ثقافة الكتاب ودخائلهم، ويتغنى بما ألف، فتكون له ضيعة تنسب إليه، ويقتني مالًا وبيتًا يجرب فيه زرع شجر الأراك، ويعنى بأبوابه حتى يختار لتركيبها أمهر النجارين، ويقتني من العبيد من سبق أن خدم الملوك،١٢ ويتصل بالوزراء أمثال محمد بن عبد الملك الزيات، ويتنقل في البلاد فيعيش في بغداد زمنًا، ويرحل إلى دمشق وأنطاكية. كل هذا أورثه نوعًا من الثقافة قيمًا، ليس من نوع ما يؤخذ من الكتب والدفاتر، أورثه معرفة بطبائع الناس وأخلاقهم، وطرق معايشهم وفضائلهم ورذائلهم. وكان الجاحظ على استعداد تام لهذا النوع من الثقافة، فنال منه حظًّا وافرًا، وكما كان حسن الاستعداد في الأخذ منه، كان كذلك في العطاء؛ فمن أكبر ما تمتاز به كتبه أنه يأخذ بيدك ليطلعك على الحياة الاجتماعية، ويجعلك تلمسها وتذوقها، على قلة الكتاب الذين يعنون بهذه الناحية، فإذا أنت قرأت «الكامل»، أو «أمالي القالي»، أو «عيون الأخبار» لم تحس فيه شيئًا من ذلك. ومن أجل هذا كانت كتب الجاحظ أغزر مصدر لدارس الحياة الاجتماعية في عصره.
كَتب الجاحظ في كل موضوع تقريبًا، من المعلمين إلى بني هاشم، ومن اللصوص إلى الذئاب، ومن الكلام في صفات الله تعالى إلى القيان، ومن القضاة والولاة إلى أمهات الأولاد، ومن الإمامة إلى الحول والعور، فإن نحن قلنا إن كتبه «دائرة معارف» لزمانه، غير مرتبة على أحرف الهجاء، ولا على أي أساس، كان ذلك صوابا. وللجاحظ أسلوب يمتاز به، ولا ينسب إلا إليه؛ هو أسلوب الجاحظ، تظهر فيه شخصيته ظهورًا تامًّا، حتى لتستطيع من غير كثير عناء أن تعرف أي الكتب له، وأيها ليست له. هو في تأليفه أنيس محاضر، تحرر من قيود كثيرة تقيد بها علماء عصره، تحرر من التزام الجِد وثقل الغموض الذي كرهه من أستاذه الأخفش؛ فهو دائمًا يخلط جدًّا بهزل، ويسيغك اللقمة الجافة بكثير من الحلوى، ويجد حتى إذا أعدك للبكاء رماك بنادرة تمعن منها في الضحك، ويأخذ بيدك حتى إذا كنت في أصعب موضوع وأعمق قرار قفز بك فجأة إلى السماء، وحدثك حديثًا خفيفًا أنساك جهدك وعناءك، قال المسعودي: «ولا يعلم أحد من الرواة وأهل العلم أكثر كتبًا منه … وكتب الجاحظ مع انحرافه المشهور تجلو صدأ الأذهان، وتكشف واضح البرهان؛ لأنه نظمها أحسن نظم، ورصفها أحسن رصف، وكساها من كلامه أجزل لفظ، وكان إذا تخوف ملل القارئ وسآمة السامع خرج من جد إلى هزل، ومن حكمة بليغة إلى نادرة ظريفة.»١٣ كما تحرر من طريقة العلماء في قصر نفسه على الموضوع الذي يتكلم فيه، فالجاحظ لا يؤمن بذلك، وأنت عرضة لأن تجد في كتبه أدق الموضوعات وأجلها في أتفه العناوين وأسخفها، غلبت عليه النزعة الأدبية في كل ما كتب، حتى في الحيوان، فهو يتخير خير الألفاظ وأحسن التعبيرات، ويفر سريعًا من التحقيق العلمي إلى مناحي الأدب من شعر أو حكمة أو نادرة.

ألف في مواضيع المتكلمين؛ مثل: كتاب خلق القرآن، وكتاب في الرد على المشبهة، وكتاب في الرد على النصارى، وكتاب الاعتزال، وكتاب الإمامة … إلخ. كتب في موضوعات سياسية تاريخية؛ ككتاب العرب والموالي، وكتاب العرب والعجم، ورسالة في فضائل الأتراك (بمناسبة دخول الأتراك في جند المعتصم) وكتاب السودان والبيضان، وكتاب الصرحاء والهجناء … إلخ. وألف في الأخلاق التي كان يشعر بها في عصره، وطبقات الناس؛ فألف كتاب البخلاء، والسلطان وأخلاق أهله، وكتاب الجواري، والحاسد والمحسود، والنساء، والإخوان، والحزم والعزم، والأمل والمأمول، والاستبداد والمشاورة في الحروب، والقضاء والولاة، وغش الصناعات … إلخ.

وألف في النبات كتاب الزرع والنخل، وألف في الحيوان كتاب الأسد والذئب، وكتاب البغل، وكتاب الحيوان.

وفي كل هذه الكتب كما يدل على ذلك ما بين أيدينا منها مزج العلم بالأدب، ولم يقتصر على ذكر البراهين النظرية، بل استعان بالتاريخ وبالشعر، وبما يعرف من أحداث، وما جرب هو نفسه من تجارب، ومزج ما تعلم بما قرأ، بما سمع، بما شاهد، بما جرب، كما مزج الشعر الجاهلي بالشعر الإسلامي، بعلم أرسطو، بطب جالينوس، كما مزج آي القرآن الكريم بأحاديث النبي ، برأي الطبيعيين والدهريين، باليهودية والنصرانية، برأي الزرادشتيين والمانويين. وفي الحق إن هذا كله مزيج عسر الهضم، لولا ما حظي به من أسلوب سمح فضفاض، ونفس مرحة تقدر كل التقدير النادرة الحلوة، والفكاهة العذبة.

وبعد، فخير كتبه التي يظهر فيها هذا الامتزاج واضحًا قويًّا كتاب البيان والتبيين، وكتاب الحيوان.

كتاب البيان والتبيين

هو كتاب في الأدب، من آخر ما أَلَّف الجاحظ١٤ مختارات من الأدب؛ من آية قرآنية، أو حديث، أو شعر، أو حكمة، أو خطبة، ممزوج بما له من آراء في مسائل عدة. ويذكر ياقوت أن الكتاب نسختان؛ «أولة وثانية، والثانية أصح وأجود.»١٥ ولست أدري أي النسختين هي التي في أيدينا.

بدأه بالتعوذ من العي، وساق الأشعار في ذمه، وحكاية موسى عليه السلام في طلبه من الله تعالى أن يحل عقدة من لسانه ليفقهوا قوله، وانتقل إلى فصاحة اللسان ونعمتها، والعي ورداءته، وعاب التشدق والتقعير والتقعيب، وفضله على العي المتزيد والحصر المتكلف، واستطرد من ذلك إلى فصاحة واصل بن عطاء شيخ المعتزلة، ولثغته في الراء، وأنه كان يقول القمح بدل البر، وجره ذلك إلى الكلام في أن البر أفصح أو القمح، وانتقل منه إلى اختلاف لغات العرب في استعمال الألفاظ؛ فقبيلة تستعمل غرفة وأخرى عِلِّية وهكذا، ثم رجع إلى واصل وما كان بينه وبين بشار، وذكر قصائد في مدح المعتزلة، وإذ كان واصل ألثغ فقد عقب ذلك بالكلام على اللثغة، والحروف التي تدخلها اللثغة والتي لا تدخلها، واستطرد من اللثغة إلى عيوب اللسان على العموم من فأفأة وتمتمة، ثم ما يعرض للخطيب من نحنحة وسعلة، وربط ذلك بالخطابة والخطباء من القبائل المختلفة، وعدد كثيرًا منهم، ومن الخطباء الشعراء، وكان أحد الخطباء الذين ذكرهم في كلامه صفير يخرج من موضع ثناياه، فجره ذلك إلى الكلام في الأسنان وعلاقتها بالخطابة، والجدال في أن سقوط الأسنان كلها أقل عيبًا للخطيب، أو سقوط بعضها، ثم انتقل من ذلك إلى الكلام في الألفاظ المتنافرة، والحروف المتنافرة، وأسلمه ذلك إلى الكلام في اللكنة، وعدِّ قوم من اللكناء، وبذلك تم الباب الأول. ويطول بنا القول لو سرنا معه في الكتاب كله نتتبع خطاه ونرصد انتقالاته، وحسبنا أن نذكر هذا مثلًا يبين الفوضى في تأليفه، ولا تظن أن موضوعًا من هذه الموضوعات التي ذكرنا قد فرغ من الكلام فيه، فسترى في ثنايا الكتاب الرجوع إليه مرة بعد مرة.

بعد ذلك عقد بابًا للبيان، وبابًا في ذكر ناس من البلغاء والخطباء والأنبياء والفقهاء والأمراء، ممن لا يكاد يسكت مع قلة الخطأ والزلل، ثم فصلًا عرض فيه للبلاغة ما هي، وبابًا في اللسان، وبابًا في الصمت، وأبوابًا أخرى في الشعر والخطب، ثم بابًا في الأسجاع من الكلام، ثم عاد إلى الخطباء والبلغاء، وبيان قبائلهم وأنسابهم، وبابًا في أسماء الكهان والحكام والخطباء والعلماء من قحطان. وقال في أول الجزء الثاني: إنه أراد أن يرد على الشعوبية في طعنهم على خطباء العرب، ولكنه أحب أن يصدر هذا الجزء بكلام من كلام رسول رب العالمين والسلف المتقدمين، والجلة من التابعين، واسترسل في مختار من الحديث والخطب والحكم والألغاز، وتكلم فيه عن اللحن والحمقى والمجانين، وكتب وصايا ونوادر لبعض الأعراب، حتى أتم الجزء الثاني. فإذا جاء الجزء الثالث فأوله كتاب العصا في الرد على الشعوبية، ثم كتاب في الزهد تكلم فيه على النساك وكلامهم وأخلاقهم ومواعظهم، ثم باب في دعاء الصالحين والسلف المتقدمين، ودعاء الأعراب، ثم مقطعات من نوادر الأعراب وأشعارهم.

وفي كل فصل من فصول الكتاب فوضى لا تضبط، واستطراد لا يحد. والحق إن الجاحظ مسئول عن الفوضى التي تسود كتب الأدب العربي؛ فقد جرت على منواله، وحذت حذوه، فالمبرد تلميذه تأثر به في تأليفه، والكتب التي أُلفت بعد (كعيون الأخبار، والعقد الفريد) فيها شيء من روح الجاحظ، وإن دخلها شيء من الترتيب والتبويب؛ ذلك أننا نرى أن الكتب التي ألفت في العصر العباسي الأول كانت أساس التأليف، وهي التي حددت نوع القالب الذي يصب فيه العلم؛ فكتاب سيبويه في النحو حدد الطريقة التي يتبعها النحاة في التأليف، وكل ما عملوا بعده أن أوضحوا أو بسطوا أو اختصروا. وكتب محمد بن الحسن الشيباني حددت طريقة التأليف في الفقه، وكتب المنطق الأولى هي التي سارت عليها كتب المنطق الأخيرة. ولما كان كتاب البيان والتبيين أول كتاب أُلف في الأدب على هذا النحو؛ كان أثره في الأدب كأثر هؤلاء الذين ذكرنا في علومهم، وكان الجاحظ مسئولًا عما فيها من نقص وعيب. وأوضح شيء من آثار الجاحظ في كتب الأدب إذا قورنت بالعلوم الأخرى؛ الفوضى وكثرة المزاح، ومجون يصل إلى الفحش أحيانًا. ولسنا نريد أن نحمل الجاحظ كل مسئولية في هذا، فقد تكون طبيعة الأدب نفسها داعية على ذلك، ولكن مما لا شك فيه أن الجاحظ كبير الأثر، ولو كان قد وضع الأساس غيره لكان قد تشكل الأدب شكلًا آخر.

والذي يهمنا هنا مظهر امتزاج الثقافات في هذا الكتاب، والحق إن للثقافة العربية فيه المظهر الأكبر، والسبب في ذلك أن الكتاب كتاب أدب، وقد أبنا قبلُ أن أثر تلك الثقافات في الأدب أقل منها في العلوم، ومع هذا فحظ الثقافات الأخرى في هذا الكتاب غير قليل، انظر إليه وهو يقارن بين آراء الأمم في تعريف البلاغة؛ فيقول: «قيل للفارسي: ما البلاغة؟ قال: معرفة الفصل والوصل. وقيل لليوناني: ما البلاغة؟ قال: تصحيح الأقسام واختيار الكلام. وقيل للرومي (الروماني): ما البلاغة؟ قال: حسن الاقتضاب عند البداهة والغزارة يوم الإطالة. وقيل للهندي: ما البلاغة؟ قال: وضوح الدلالة وانتهاز الفرصة وحسن الإشارة.»١٦ وينقل صحيفة عن الهنود في البلاغة وشرطها١٧ وينقل عن فتى من النصارى الشروط التي يجب أن تتوافر فيمن يختار جاثليًقا،١٨ وينقل أن كسرى أنوشروان قال لبزرجمهر: أي الأشياء خير للمرء العيي؟ قال: عقل يعيش به، قال: فإن لم يكن له عقل؟ قال: فإخوان يسترون عليه، قال: فإن لم يكن له إخوان، قال: فمال يتحبب به إلى الناس، قال: فإن لم يكن له مال، قال: فعي صامت، قال: فإن لم يكن ذلك؟ قال: فموت مريح.١٩ وينقل عن المسيح ابن مريم أنه سئل: من نجالس؟ قال: من يزيد في علمكم منطقه، وتذكركم الله رؤيته، ويرغبكم في الآخرة عمله. ويحكي أن المسيح مر بقوم يبكون فقال: ما لهؤلاء يبكون؟ قالوا: يخافون ذنوبهم، قال: اتركوها يغفر لكم.٢٠ ويحكي أسطورة الخطباء الذين تكلموا عند الإسكندر لما مات،٢١ ويقارن بين مقدرة العرب على الخطابة، ومقدرة الفرس والزنج، ويحكي أن للفرس كتابًا في صناعة البلاغة، وأن لليونان «منطقًا» يعرف به السقم من الصحة، والخطأ من الصواب، وأن للهنود كتبًا في الحكم والأسرار، من قرأها عرف غور تلك العقول، وغرائب تلك الحكم.٢٢ ويرى أن كلام الفرس يصدر عن فكرة، وطول روية، واجتهاد، وخلوة، ومشاورة، ومعاونة، وكلام العرب صادر عن بديهة وارتجال، حتى كأنه إلهام،٢٣ ويذكر عادة الرهبان في اتخاذ العصا، وعادة الجاثليق في اتخاذه القناع والمظلة والعكازة والعصا،٢٤ ويحكي مذهب التناسخ الذي أبنَّا قبل أنه للهند،٢٥ وينقل في باب الزهد كلامًا طويلًا، لعيسى عليه السلام،٢٦ ويحكي مواعظ لداود عليه السلام،٢٧ ويحكي عن أردشير أنه قال: «احذروا صولة الكريم إذا جاع، واللئيم إذا شبع.»٢٨ … إلخ.

هذا مثل من أمثلة المزج بين الثقافات؛ فقد رأيت أنه عرض أدب العرب وأدب الفرس، وحكم الهند ونصائح اليهودية والمسيحية، هذا لأنه ينقل عن فرس تعربوا، ويذكر حكمهم، كسهل بن هارون وابن المقفع والأسواري، وهي ولا شك وليدة فرس وعرب. ولكن بالمقارنة نرى كما أشرنا أن للأدب العربي في هذا الكتاب الحظ الأكبر والنصيب الأوفر، لأنه موضوعه. وهناك نواحٍ أخرى لدراسة كتاب البيان والتبيين كبحث أي مثال احْتُذِيَ في تأليفه، والفكرة التي عَرَضَتْ له في ترتيبه، ومقدار الثقة به والاعتماد عليه، وشيوخه الذين أخذ عنهم، ومصادر الكتاب، إلى غير ذلك، ولكن موضع هذا كله البحث الأدبي.

كتاب الحيوان

كذلك هو كتاب ألفه الجاحظ أخيرًا، بدليل ثبت كتبه التي عددها في صدره، وإن كان ألفه قبل البيان والتبيين. وقد ذكر في مواضع عدة من الكتاب أنه ألفه لبيان ما في الحيوان من الحجج على حكمة الله العجيبة وقدرته الباهرة، وهذه الناحية من النظر أبانها القرآن الكريم في غير موضع:

وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ وَالأنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَّمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللهِ َلن يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وإِن يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَاْلمَطْلُوبُ ما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللهَ لَقَوِيُّ عَزِيزٌ أَفَلا يَنظُرُونَ إِلَى الإِبْلِ كَيْفَ خُلِقَتْ إِن اللهَ لا يَسْتَحْي أَن يَضْرِبَ مَثَلًا مَّا بَعُوضَةً فما فَوْقَهَا إلى أمثال ذلك، وسميت سورة من القرآن بأسماء بعض الحيوانات؛ كسورة البقرة، والأنعام، والنحل، والنمل، والفيل. ونسب إلى الإمام علي وصفه البديع للطاووس، ودلالته على قدرة الله، وإن كنا في شك من صحة نسبتها إليه. واتجه المعتزلة في العصر العباسي هذا الاتجاه، وأجاد فيه قبل الجاحظ بِشْر بن المعتمِر، أحد زعماء المعتزلة، ومما قال في ذلك قصيدتان طويلتان، تقع إحداهما في ستين بيتا، والأخرى في سبعين، وقد أوردهما الجاحظ في كتابه الحيوان٢٩ وشرحهما شرحًا مطولًا من إحدى القصيدتين قوله:
تبارَكَ اللهُ وسُبْحَانَهُ
مَنْ بِيَدَيْهِ النفعُ والضّرُّ
مَنْ خَلْقُهُ فِي رِزْقِهِ كُلُّهُمْ
الذِّيخُ والتَّيْتَلُ والغُفْرُ٣٠
وساكنُ الجو إذا ما علَا
فيه ومَنْ مَسْكَنُهُ القَفْرُ
والصَّدعُ الأعْصَمُ في شَاهِقٍ
وَجَأبَةٌ مَسْكَنُهَا الوَعْرُ٣١
والحَيّةُ الصَّمَّاء في جُحْرِهَا
والتُتْفلُ الرَّائِغُ والذَّرُّ٣٢
وهِقْلةٌ تَرْتَاعُ مِنْ ظِلِّهَا
لها عِرَارٌ ولها زَمْرُ٣٣
تلتَهِمُ المرْوَ على شَهْوةٍ
وحب شيء عِنْدَها الجَمْر٣٤
وظبيةٌ تَخْضِمُ في حَنْظَلٍ
وعقربٌ يُعجبُها التَّمْرُ

والقصيدتان على هذا النمط يذكر خصائص الحيوان، ويستخرج منه الحكمة، يعجب من جرادة تخرق متن الصفا، ومن خنفس تحيا بالروث ويقتلها الورد:

وحكمةٌ يُبْصِرهَا عَاقِلٌ
لَيْسَ لَه مِنْ دُونِهَا سِتْرُ

ثم يعرج في آخر القصيدة إلى مهاجمة خصومه من أباضية ورافضية وغيرهم، ويعيبهم بأن لا تنجع الحكمة فيهم، والقصيدة الأخرى رائية مكسورة على نمطها. وقد أخذ الجاحظ هاتين القصيدتين عن بشر بن المعتمر، وقد عاصره زمنًا، ويظهر أنهما أوحتا إليه أن يؤلف كتابًا في الحيوان من هذه الناحية. ولكن الجاحظ لا يصبر على موضوع واحد، فإذا تكلم في شيء خرج منه إلى أشياء، كما لا يصبر على الجد، فسرعان ما يخرج منه إلى الهزل، ولذلك صبغ الموضوع بصبغته الخاصة، فاستطرد لا إلى حد، وأخرج الموضوع من عظة واعتبار، إلى معلومات واسعة في الحيوان وغير الحيوان، علمية أحيانًا وأدبية أحيانًا، وكان هزله فيه من أغرب الهزل، فالموضوع جد كل الجد، تخشع له النفس، ويذعن له القلب، وتثور له العاطفة الدينية، كما تشعر إذا قرأت الآيات السابقة أو وصف الطاووس أو قصيدتي بشر، ولكن هذا الجلال يضيع تمامًا في كتاب الحيوان، ويتلون بلون الجاحظ العجيب، فيخرج شيئًا آخر غير العظة وغير العبرة؛ فيه ألوان الحرباء، وفيه روايات مختلفة مأساة ومهزلة، وفيه الكلام على الخصيان، بجانب فوائد الكتاب، وفي الكلام على الخصيان معلومات قيمة نادرة، ربما لا تعثر عليها في كتاب آخر من الناحية التاريخية والاجتماعية، وبجانبها لذع وإحماض وفكاهة ومجون مكشوف، وكل هذا مُزِجَ مزجًا غريبًا، وهكذا شأنه في كل موضوع.

وقد ذكر الجاحظ نفسه في كتاب الحيوان طريقة تأليفه في عدة مواضع؛ فهو يقول: «متى خرج (القارئ) من آي القرآن صار إلى الأثر، ومتى خرج من أثر صار إلى خبر، ثم يخرج من الخبر إلى الشعر، ومن الشعر إلى نوادر، ومن النوادر إلى حكم عقلية ومقاييس شداد، ثم لا يترك هذا الباب، ولعله أن يكون أثقل، والملال إليه أسرع، حتى يفضي به إلى مزح وفكاهة، وإلى سخف وخرافة، ولست أراه سخًفا.»٣٥ ويقول: «إني أوشح هذا الكتاب بنوادر من ضروب الشعر، وضروب الأحاديث ليخرج قارئه من باب إلى باب، ومن شكل إلى شكل، فإني رأيت الأسماع تمل الأصوات المطربة والأغاني الحسنة، والأوتار الفصيحة إذا طال ذلك عليها، وإذا كانت الأوائل قد صارت في صغار الكتب هذه السيرة كان هذا التدبير لما طال وكثر أصلح، وما غايتنا من ذلك كله إلا أن تستفيدوا خيرًا.»٣٦ ويأسف لسلوكه هذا السبيل، ويعترف بعيبها، ولكنه يقول إنه اضطر إلى ذلك اضطرارًا فيقول: «وسنذكر قبل ذكرنا لهذا الباب أبوابًا من الشعر طريفة، تصلح للمذاكرة وتبعث على النشاط … ولولا سوء ظني بمن يظهر التماس العلم في هذا الزمان، ويظهر اصطناع الكتب في هذا الدهر، لما احتجت إلى مداراتهم واستمالتهم، وترقيق نفوسهم وتشجيع قلوبهم، مع فوائد هذا الكتاب إلى هذه الرياضة الطويلة، وإلى كثرة هذا الاعتذار، حتى كأن الذي أفيده إياهم أستفيده منهم، وحتى كأن رغبتي في صلاحهم رغبة من رغب في دنياهم.»٣٧ ويعترف بأنه عانى في هذه الطريقة أكثر مما يعاني لو كتب كتابًا في موضوع واحد، من غير استطراد: «ولو كنت تكلفت كتابًا في طوله وعدد ألفاظه ومعانيه، ثم كان من كتب العرض والجوهر والطَّفرة والتوليد والمداخلة والغرائز والنحاز، لكان أسهل وأقصر أيامًا وأسرع فراغًا؛ لأني كنت لا أفرغ فيه إلى تلقُّط الأشعار، وتتبع الأمثال، واستخراج الآي من القرآن والحجج من الرواية، مع تفرق هذه الأمور في الكتب، وتباعد ما بين الأشكال، فإن وجدت فيه خللًا من اضطراب لفظ ومن سوء تأليف، ومن تقطيع نظام فلا تنكر بعد أن صورت لك حالي التي ابتدأت عليها كتابي. ولولا ما أرجو من عون الله على إتمامه؛ إذ كنت لم ألتمس به إلا إفهامك مواقع الحجج لله وتصاريف تدبيره، والذي أودع أصناف خلقه من أصناف حكمته؛ لما تعرضت لهذا المكروه.»٣٨

ومصادر الكتاب كثيرة فآي من القرآن أو التوراة أو الإنجيل، وحديث وخبر تلقَّاه من الرواة، وشعر عربي كثير، وأمثال مضروبة، وكتب عديدة قرأها في فنون شتى، ومحادثة لمن يثق بهم من أطباء وتجار وذوي حرف، وتجارب يجربها بنفسه في الحيوان والنبات، وسفر وسماع لمن قد مارس الأسفار وركب البحار، وسكن الصحاري وسلك الوديان، وهذا — من غير شك — يدل على سعة اطلاع قل أن يكون له نظير.

والحق أن عقله كان قويًّا قلَّ أن يقبل خرافة، بل هو يهزأ بمن يقبلها، ثم هو في كثير من الأحيان يقف على الاعتقاد حتى يجرب ويشك، ويدعو إلى الشك حتى تثبت صحة النظرية، ويستغرب القارئ من صحة منطقه، وسبقه إلى نظرات في منهج البحث لم تعرف إلا في العصر الحديث، كقوله: «اعرف مواضع الشك وحالاتها الموجبة لها؛ لتعرف بها مواضع اليقين، والحالات الموجبة لها. وتعلم الشك في المشكوك فيها تعلمًا، فلو لم يكن ذلك إلا تعرف التوقف ثم التثبت لقد كان ذلك مما يحتاج إليه.»٣٩ كما أنه سبق إلى اتجاهات قيمة فيما يسمى الآن سيكولوجية الحيوان؛ فهو يراقب نداء الديك بالليل، ويبحث: هل إذا كان في قرية وحده يصيح أو لا؟ ليعلم هل تصيح الديكة بالتجاوب أو بطبعها، ويراقب الدجاج هل تكثر أفراخها إذا كثر عديدها أو تقل؟ ويلاحظ الكلب ملاحظة دقيقة ليعلم مقدار ذكائه ووجوه تنبهه، والفروق الدقيقة بين أصنافه، إلى كثير من أمثال ذلك.

وبعد، فمظهر امتزاج الثقافات المختلفة في الحيوان أبين منها في البيان والتبيين، وذلك يرجع إلى موضوعه، وإلى مسلكه في تأليفه، وإلى علاقاته المتشعبة بأولي العلم والصناعات والطبقات من كل نوع.

من أهم العناصر التي اعتمد عليها في كتابه هذا كتب أرسطو، وقد عرف عن أرسطو أنه ألف في موضوعات عديدة في حياة الحيوان، وكان مشغوفًا بهذا العلم ودراسته، حتى أحصى المتأخرون ما كان يعرفه أرسطو من أنواع الحيوان، فوجدوه نحوًا من خمسمائة نوع. ومع أنه لم يرتبها الترتيب العصري فقد كان له فضل السبق في وضع هذا العلم الذي لم يكن مؤسسًا من قبله. وقد وصلت هذه الكتب إلى العرب، ونقلت إلى العربية فيما نقل، فيقول ابن النديم: «إن كتاب الحيوان لأرسطو تسع عشر مقالة، نقله ابن البطريق، ولنيقولاوس اختصار لهذا الكتاب، وقد ابتدأ أبو علي بن زرعة بنقله إلى العربية وتصحيحه.»٤٠
ولكن يظهر أن العرب في هذا الكتاب — كما هو الشأن في غيره — لم يميزوا بدقة بين ما هو لأرسطو حقًّا، وما ليس له، على كل حال وقع الكتاب في يد الجاحظ وقرأه، وكان مصدرًا كبيرًا من مصادره. وإذا نقل منه فكثيرًا ما يسمي أرسطو «صاحب المنطق»، وقد يصرح باسمه، وقد نقل عنه في هذا الكتاب عشرات المرات، وكان موقف الجاحظ تجاه أرسطو موقفًا بديعًا، فلم يصب أمامه بشَلَل الفكر كما أصيب في أكثر الأحيان ابن سينا، وغيره من فلاسفة الشرق والغرب، وإنما وضعه في المخبر يمتحنه ويجربه؛ فقد نقل عن أرسطو أن إناث العصافير أطول أعمارًا، وأن ذكورها لا تعيش إلا سنة،٤١ وانتقده بأنه لم يأت بدليل على ذلك، وكيف يستطيع أن يأتي بدليل جازم، والعصافير قد تكون في المزارع والميازب مملوءة بها، وببيضها وفراخها، والناس القريبون منها لم يروا عصفورًا قط ميتًا، ولو قال أرسطو وأمثاله بذلك على جهة التقريب والظن لم يلمهم أحد من العلماء: «والأمور المقربة غير الأمور الموجبة، فينبغي أن يعرفوا فصل ما بين الواجب والمقرب، وفرق ما بين الدليل وشبه الدليل.»٤٢ ويقول: «وقال صاحب المنطق: ويكون بالبلدة التي تسمى باليونانية «طبقون» حية صغيرة شديدة اللدغ، إلا أن تعالج بحجر يخرج من بعض قبور قدماء الملوك.» قال الجاحظ: «ولم أفهم هذا ولم كان ذلك؟!»٤٣
وأحيانًا يقارن بين قول أرسطو في الموضوع، وما ورد فيه من شعر جاهلي أو إسلامي، ويفاضل بينهما، ويحكم عقله، وتارة ينصر أرسطو، وتارة ينصر العرب، وتارة يكذبهما معًا، فيقول: «زعم صاحب المنطق أن قد ظهرت حية لها رأسان، فسألت أعرابيًّا عن ذلك فزعم أن ذلك حق، فقلت له فمن أي جهة الرأسين تسعى؟ ومن أيهما تأكل وتعض؟ فقال فأما السعي فلا تسعى، ولكنها تسعى إلى حاجتها بالتقلب كما يتقلب الصبيان على الرمل، وأما الأكل فإنها تتعشى بفم وتتغذى بفم، وأما العض فإنها تعض برأسيها معًا، فإذا به أكذب البرية!»٤٤ ومثل ذلك في الكتاب كثير؛ فهو يعرض لما عرف عن اليونان، وما ورد في الموضوع من شعر العرب وقصصهم وأساطيرهم، وما عرف عن الأمم الأخرى، ويمزج كل ذلك مزجًا تامًّا، ويعرضه بأسلوبه الجذاب ومبالغته المألوفة.

ولا يظنن ظان أن الكتاب — وقد سُمِّيَ الحيوان — قد اقتصر على الكلام في الحيوان، بل لا نبعد إذا نحن قلنا إن ما فيه عن الحيوان أقل مما فيه عن غيره؛ فقد استغرق الجزء الأول والثاني من الكتاب الكلام في الكلب والديك، والمفاضلة بينهما، واحتجاج صاحب الكلب للكلب والديك للديك، ويستوفي كل ما قيل في ذلك من آية أو حديث أو شعر، أو قول لصاحب المنطق، أو قصة، أو أسطورة؛ كاتخاذ الجن الكلاب مأوى لها والكَلَب، واعتقاد العرب أن دم الأشراف يشفى منه … إلخ، ولكنه في كل ذلك يخرج عن الكلب والديك إلى موضوعات لا تخطر على البال، فتراه في أثناء ذلك يتكلم في الإمامة والشيعة، والشعر وأثره في القبيلة؛ يرفعها ويضعها … إلخ.

اتصل الجاحظ باليونان من كتبهم، ومن طريق المتكلمين؛ فعرف أرسطو كما بينا، ونقل عن أقليمون صاحب الفراسة في الكلام في الحمام،٤٥ ونقل عن جالينوس فيما يصلح له لحم الضب،٤٦ وفي معارف البهائم والطير٤٧ ويذكر أن كتب المنطق وكتب إقليدس لا يفهمها العربي البليغ،٤٨ ويظهر أن ثقافته اليونانية اتسعت بمجالسته لكثير من المثقفين بها؛ فقد كان يتحدث إلى سلمويه وابن ماسويه،٤٩ وإلى حنين بن إسحاق،٥٠ وإلى شمئون الطبيب،٥١ واتصل بالفرس، وعرف الكثير عنهم، فينقل عن ابن المقفع، ويتكلم في أساطيرهم، ويعقد كلامًا طويلًا يذكر فيه نيرانهم، ويحكي عن المانوية والزنادقة وكتبهم وعباداتهم، ويحكي عن اليهود النصارى، ويذكر شبهًا أثارها بعضهم حول آيات من القرآن الكريم؛ مثل آيات الشهب، ويرد عليهم.
وعلى الجملة، فكتاب الحيوان معرض لكل الثقافات؛ عربية، ويونانية، وفارسية، وهندية، ومعرض للثقافات الدينية؛ من مانوية، وزرادشتية، ودهرية، ويهودية، ونصرانية، وإسلام. ولو ذكرنا ما قاله في كل ثقافة ورددناه إلى أصله لاستغرق منا كتابًا كاملًا، فلنكتف بهذا القدر للدلالة على ما نقول. ونختم قولنا بالشروط التي يشترطها الجاحظ لمن تكون له الرياسة في العلم، وقد حققها هو في نفسه؛ فقد رأى أن العالم من يحسن من كلام الدين بقدر ما يحسن من كلام الفلسفة، والمصيب هو الذي يجمع بين تحقيق التوحيد وإعطاء الطبائع حقائقها من الأعمال.٥٢

•••

وبجانب الجاحظ عالمان آخران يمثلان معه كل معارف العصر، كما يمثلان أنواعًا مختلفة الطعوم والألوان من الامتزاجات بين الثقافات؛ أحدهما ابن قتيبة الدينوري، والآخر أبو حنيفة الدينوري.

ابن قتيبة

فأما ابن قتيبة؛ فهو أبو محمد عبد الله بن مسلم، أصله فارسي من مرو، وتربى في بغداد، وتولى القضاء بدينور، فنُسب إليها، ثم كان معلمًا ببغداد. عاش من سنة ٢١٣هـ إلى سنة ٢٧٦هـ؛ فهو قد عاصر الجاحظ جزءًا طويلًا من عمره، وكان يكرهه، كما يدل على ذلك نقده للجاحظ الذي أورده في كتابه «تأويل مختلف الحديث»، فقد اتهمه بأنه يذكر حجج النصارى على المسلمين بأقوى مما يذكر الرد عليهم، وبأن كتبه ملئت بالمضاحيك والعبث، يريد بذلك استمالة الأحداث، وشُرّاب النبيذ، وأنه يستهزئ بالحديث؛ كذكره كبد الحوت، وقرن الشيطان، وذكر الحجر الأسود، وأنه كان أبيض فسوده المشركون، وقد كان يجب أن يبيضه المسلمون حين أسلموا! وأنه كذاب يضع الحديث وينصر الباطل.٥٣ والظاهر أن سبب النزاع اختلاف الطبيعتين، واختلاف المذهبين؛ فالجاحظ مزاح خفيف الروح، مهذار واسع العقل متصرف، وابن قتيبة جد، قاضٍ، عليه وقار القضاء بمرح أحيانًا، ولكن ليس له خفة روح الجاحظ، ثم الجاحظ معتزلي من المتكلمين، وابن قتيبة من أهل السنة (كما يحكي ابن تيمية)، والنزاع بين الطائفتين شديد طويل. وشخصية الجاحظ في كتبه أقوى؛ فهو لا يخرج ما علم إلا مهضومًا، قد أسبغ عليه من نفسه ومن لسانه، وابن قتيبة واسع الاطلاع في غير شخصية قوية كما يظهر لي، يعرف كثيرًا ويجمع كثيرًا، وقد يكون في ذلك قريبًا من الجاحظ، وكل ما وصلنا من تأليفه يدلنا على أنه عالم أديب، اتصل بنواحٍ كثيرة من العلم؛ من لغة، ونحو، وأدب، وشعر، وحديث، وفقه، وتاريخ، ومذاهب دينية، ولكنه يفهم من التأليف أن يجمع، ويجمع عن سعة اطلاع، ويختار ما يجمع، من غير أن يظهر نفسه فيما يجمع؛ فإذا حاول أن يبدي شخصيته اضطرب كالذي كان في كلامه في الشعوبية، ينقض في موضع ما أبرمه في آخر، كما لاحظ ذلك صاحب العقد الفريد. وميزة أخرى يمتاز بها الجاحظ، وهي أنه في جميع ما يكتب يمس الحياة الاجتماعية في عصره، ويتغلغل في ثناياها، ولا يستحي أن يضرب مثلًا ما عبدًا فما فوقه، يحدث عن النجار والحواء وراعي الغنم، ويستخرج منهم علمًا أو تجربة ويحكيها ويعلق عليها، أما ابن قتيبة فليس له شيء من هذه الناحية؛ لأن هذا الضرب لا ينجح إلا في يد قوية كيد الجاحظ، ولو تعرض لها ابن قتيبة لفشل.
على كل حال علم ابن قتيبة كثير، وتآليفه غزيرة ومتعددة النواحي،٥٤ ولكن ما يهمنا هنا هو مظهر الثقافات المختلفة في كتبه، ولعل أدلها على ذلك كتاب عيون الأخبار.

عيون الأخبار

كتاب في المختار من الأدب، قسمه إلى عشرة كتب، كل كتاب كَبابٍ: كتاب السلطان، والحرب والسؤدد والطبائع، والأخلاق المذمومة، والعلم والبيان والزهد، والإخوان، والحوائج، والطعام، والنساء.

وقد تبع الجاحظ في الإتيان بما يضحك خوف الملل؛ فقال: «ولم أخله مع ذلك من نادرة طريفة، وفطنة لطيفة، وكلمة معجبة، وأخرى مضحكة، لأروح بذلك عن القارئ من كد الجد، وإتعاب الحق؛ فإن الأذن مجاجة، وللنفس حَمْضَة.»٥٥ ولكنه يحس أنه سينتقد على ذلك من وسطه المتزمت، فيعتذر بأنه مما يترخص فيه، كذلك يعتذر عن أن الكتاب لم يكن في القرآن ولا في السنة، ولا شرائع الدين وعلم الحلال والحرام؛ بأنه دال على معالي الأمور، ومرشد لكريم الأخلاق، زاجر عن الدناءة، ناءٍ عن القبيح، فالشعور الديني والخلقي متملك له، مسير له في تأليفه؛ فهو إن تكلم في الدنيا وشئونها فقد أودع فيه طرفًا من محاسن كلام الزهاد في الدنيا، وذكر فجائعها، وزوالها، وانتقالها، حتى يستوجب بذلك الأجر، بل رضي من الغنيمة بالسلامة، وسأل الله أن يمحو ببعض بعضًا، ويغفر بخير شرًّا، وبجد هزلًا. والحق إنه نقل التأليف في الأدب نقلة جديدة؛ من حيث الترتيب، وقلة الاستطراد، وتعمد ذلك في كتابه وفخر به فقال: «وقرنت الباب بشكله، والخبر بمثله، والكلمة بأختها؛ ليسهل على المتعلم علمها، وعلى الدارس حفظها.»٥٦ ويذكر أنه وضع كتاب الطبائع والأخلاق بعد كتاب السؤدد؛ لأنه مقارب له، وقد التزم ذلك، فقلّ أن يخرج عن موضوعه في غير مشاكلة وتقارب، فهو بذلك من حيث منهج التأليف أرقى من البيان والتبيين والكامل.

وقد تعرض في أول الكتاب لمصادره، فقال: إنه تلقط ما فيه عمن فوقه في السن والمعرفة، وعن جلسائه وإخوانه، ومن كتب الأعاجم وسيرهم، وبلاغات الكتّاب في فصول من كتبهم، ولم يستنكف أن يأخذ عن الحديث سنًّا لحداثته، ولا عن الصغير قدرًا لخساسته، ولا عن الأمةِ الوكعاء لجهلها فضلًا عن غيرها، ولم يتحرج أن يأخذ العلم عن غير مسلم، فلن يزري بالحق أن تسمعه من المشركين، ولا بالنصيحة أن تستنبط من الكاشحين.

وإذا كان الكتاب أكثر ترتيبا كان مزج الثقافات فيه أكثر وضوحًا، فكما كان يضم الشيء إلى مثيله، كان يضم ثقافة أمة في شيء خاص إلى ثقافة الأمة الأخرى فيه؛ فهو إذا ذكر السؤدد عن العرب ذكر السؤدد عن العجم، فهو يذكر السؤدد في نظر الأحنف بن قيس، وغيره من سادات العرب، وينقل عن كتاب للهند في السؤدد، ويذكر رأي بعض العرب في أسباب السرور، فيقول: قال قتيبة بن مسلم لحصين بن المنذر: ما السرور؟ قال: امرأة حسناء، ودار قَوراء، وفرس مرتبط بالفِناء.

وقيل لعبد الملك بن الأهتم: ما السرور؟ فقال: رفع الأولياء، وحط الأعداء، وطول البقاء مع القدرة والنماء. ثم ينقل رأي الفضل بن سهل الفارسي في السرور إذ يقول: توقيع جائز، وأمر نافذ. ورأي أبي نواس نصف الفارسي إذ يقول:

إنّمَا العَيْشٌ سَمَاعٌ
ومُدَامٌ ونِدَام
فإذَا فاتَكَ هَذَا
فَعَلَى العَيْشِ السَّلامُ
وينقل عن المسيح عليه السلام قوله لأصحابه: «إذ اتخذكم الناس رءوسًا فكونوا أذنابًا.» ثم ينقل عن كتب العجم: «علامة الأحرار أن يلقوا بما يحبون ويحرموا، أحب إليهم أن يلقوا بما يكرهون ويعطوا.» ثم ينقل عن أردشير وعن ابن المقفع في كليلة ودمنة، وعن أنوشروان، وعن استشهاد جعفر البرمكي بفعل أبرويز، ويقول: «أعلمت أن ناووس أبرويز أمدح لأبرويز من شعرزهير لآل سنان؟»،٥٧ وهكذا فهو يتعرض للعرب والعجم والهند، ويعرِض آراءهم وأقوالهم بأنظم مما يفعل الجاحظ.

كذلك يمثل كتابه ما ذهبنا إليه قبل «من مناطق النفوذ»، فنحن إذا استعرضنا في عيون الأخبار كتاب السلطان، وسيرته والمشاورة رأيناه يكثر النقل عن الفرس والهند، مما يدل على أن الأدب العربي في هذا الباب أكثر تأثره بهاتين الأمتين، ونراه في باب القضاء والأحكام والشهادات والظلم قلّ أن ينقل عنهما، إنما ينقل عن العرب وأحكام الإسلام، وإذا تكلم في الزهد، فيكاد يكون الفصل الأول كله نقلًا عن اليهودية والنصرانية، وفي باب الطعام عقد فصلا للمياه والأشربة نقل فيه عن الأطباء، وعن «الفلاحة النَّبطية»، وعن ابن ماسويه، وعقد فصلًا لِلُّحمان وما شاكلها، ومضار الأطعمة، ومنافعها، والنباتات وخصائصها. وساير الجاحظ؛ فكتب فصولا عن الحيوان، ونقل عن أرسطو وغيره، والثقافة اليونانية في كل هذه الفصول غالبة شائعة.

ثم هو رجل ديني من رؤساء أهل السنة؛ فكان لذلك مثقفًا ثقافة دينية واسعة، ولم تقتصر ثقافته على الإسلام، بل قرأ التوراة والإنجيل، وأكثر النقل منهما؛ فهو ينقل كثيرًا عن وهب بن منبه، وعن التوراة والإنجيل، ويقول قرأت في التوراة وقرأت في الإنجيل، وينقل دعاء للمسيح، ودعاء لداود، ودعاء ليوسف عليهم السلام، وينقل أخبارًا عن الرهبان، كما ينقل أحاديث عن رسول الله والصحابة والتابعين والزاهدين من المسلمين.

وعلى الجملة، فثقافة ابن قتيبة واسعة كل السعة، ومظهر امتزاج الثقافات فيه — مدنية كانت أو دينية — مظهر جلي واضح.

أبو حنيفة الدينوري

ثالث ثلاثة ثقفوا ثقافة علمية وأدبية واسعة، وليس بأقلهم، وإن كان حظه من الشهرة في عصورنا الأخيرة دونهم، هو أحمد بن داود بن ونند، ولد بدينور، ولم يعلم تاريخ ولادته، وإن كان يرجح أنها في العشرين الأولى من القرن الثالث الهجري،٥٨ وأخذ النحو عن ابن السكيت وأبيه في الكوفة، وفي سنة ٢٣٥ كان في أصفهان يرصد الكواكب، ويضع نتائج رصده، ومات على الراجح نحو سنة ٢٨٢هـ. كانت معارفه واسعة في نواحٍ مختلفة في التاريخ، وقد وصل إلينا منه كتاب «الأخبار الطِّوال»، وفيه معلومات عن علاقة العرب بالفرس قد لا نجدها في غيره، وكان كما يقول ياقوت نحويًّا، لغويًّا، مهندسًا، منجمًا، حاسبًا، راوية، ثقة فيما يرويه ويحكيه.
كان يقرن بالجاحظ في بلاغته، ويختلف الناس أيهما أبلغ، ويتحاكمون إلى أبي سعيد السيرافي فيقول: «أبو حنيفة أكثر ندارة وأبو عثمان (الجاحظ) أكثر حلاوة، ومعاني أبي عثمان لائطة بالنفس، سهلة في السمع، ولفظ أبي حنيفة أعذب وأعرب وأدخل في أساليب العرب.»٥٩ ويعده أبو حيان التوحيدي أحد ثلاثة، لو اجتمع الثقلان على تقريظهم ومدحهم ونشر فضائلهم في أخلاقهم وعلمهم ومصنفاتهم، ما بلغوا آخر ما يستحقه كل منهم؛ الجاحظ وأبو حنيفة، وأبو زيد البلخي، ويصفه بأنه من نوادر الرجال، جمع بين حكمة الفلاسفة وبيان العرب، له في كل فن ساق وقدم، ورواء وحكم.

ويظهر أن ثقافته اليونانية والهندية كانت أوسع منها في صاحبيه الجاحظ وابن قتيبة، وعلمه الرياضي يكمل نقصهما. يدل على ذلك تأليفه في الفلك والحساب والجبر والمقابلة، ونوادر الجبر والقبلة، والزوال والكسوف، والبحث في حساب الهند.

اشتهر بالكتابة في النبات، وربما كان كتابه فيه أظهر شيء في المزج، ومع الأسف لم يصلنا كتابه هذا، ولكن نقل منه الكثير في المخصص لابن سيده، وفي مفردات ابن البيطار، ولم يقتصر فيه على نباتات العرب، بل ذكر نباتات تنبت في الأقطار الأخرى، وجمع بين ما روى لغويو العرب في النبات، وما كتب عنه في الأمم الأخرى، واستعان ببلاغته على حسن وصفه؛ فهو يقول مثلا: «الخزامي عشبة طويلة العِيدان، صغيرة الورق، حمراء الزهرة طيبة الريح، لها نَور كنور البَنْفسج.» وهو كما ترى وصف دقيق، ويقول: «ويقال للموضع الذي يجعل فيه الزرع إذا حصد الأندر والبيدر والمِربد والجوخان والمِسطح، وهو سوادي عرب والجرِين وجمعه الجرن والأجرِنة.» فتراه يدخل كلمات عربت. ويقول: «وإذا تناوب أهل الجوخان، فاجتمعوا مرة عند هذا، ومرة عند هذا، وتعاونوا على الدياس؛ فإن أهل اليمن يسمون ذلك الَقاه، ونوبة كل واحد قاهه، وذلك كالطاعة له عليهم؛ لأنه تناوب قد ألزموه أنفسهم، فهو واجب لبعضهم على بعض.» فتراه يعرف العادات المختلفة في البقاع، ويصف الشعير في أماكنه المختلفة، فالشعير العربي، والشعير العراقي، والشعير الحبشي. ويصف نباتات لها أسماء غير عربية؛ كالكسبرة، والكرويا، ويقول الكمون ليس من نبات بلاد العرب، وهكذا كان ذا نظر واسع وخبرة دقيقة في النباتات؛ عربية وغير عربية، وكان أساسًا من أسس اللغة أمدها في النبات وما إليه، بألفاظ جديدة، وحدد ألفاظها القديمة.

كذلك له كتاب في الأنواء، إلا أنه قصره على ما كان للعرب من العلم بها، كما يدل على ذلك الجزء الذي نقله عنه ابن سيده في المخصص.٦٠ ولعلك ترى معي بعد أن هذا العصر كان بوتقة صهرت فيها عناصر الثقافات المختلفة، أو مصبًّا لجداول متعددة المجرى، مختلفة المنابع، وأن العلماء كانوا مظاهر تختلف باختلاف مصادرها «فما أشبه حجل الجبال بألوان صخورها»، «وعلى أعراقها تجري الجياد»، وأنهم كلهم كانوا يجرون في عنان٦١ فأورثونا ثروة علمية وأدبية متعددة النواحي، نصفها في الباب التالي إن شاء الله.
١  الحيوان ١: ٢٧.
٢  الحيوان ١: ٣٨.
٣  الحيوان ٤: ١٠٦.
٤  البيان والتبيين ١: ١٠٦.
٥  زهر الآداب، على هامش العقد.
٦  ١٣٣:١٣١.
٧  انظر الشاهنامة، والتعليق عليهما، ص ٥٦.
٨  القاموس مادة ج زر.
٩  انظر تعليقات الشاهنامة، ص ٢٥ وما بعدها، والخابل الجن.
١٠  ١٣٨:١٢.
١١  طبقات الأدباء ٦: ٥٦.
١٢  هذه الحقائق مأخوذة من كتابه الحيوان في مواضع شتى.
١٣  مروج الذهب ٢: ٣٤٤.
١٤  من الأدلة على ذلك أنه لم يشر إليه في ثبت كتبه في أول الحيوان، مع أن كتاب الحيوان من آخر كتبه تأليفًا، كما يستفاد من كلامه، وأنه ألفه وهو مريض مسن. وقد أشار في البيان والتبيين إلى كتابه الحيوان؛ مما يدل على أنه ألفه بعده ٣: ١٧٣، و١: ١٣٨.
١٥  معجم الأدباء ٦: ٧٦.
١٦  البيان والتبيين ١: ٧٥.
١٧  ٧٩:١.
١٨  ٩٦:١.
١٩  ١٥٨:١.
٢٠  ٢٥١:١.
٢١  ٢٥٥:١.
٢٢  البيان والتبيين ٣: ٧،٦.
٢٣  ١٥:٣.
٢٤  ٥١:٣.
٢٥  ٥٩:٣.
٢٦  ٣:٨١ و٩٢ و٩٩.
٢٧  ٩٠:٣.
٢٨  ١٠١:٣.
٢٩  الحيوان: ٩٢ وما بعدها.
٣٠  الذيخ: ذكر الضبع، والتيتل: شبيه بالوعل. والغفر: ولد الأروية، وهي الأنثى من الأوعال.
٣١  الصدع: الشاب من الأوعال، والجأبة: الأتان الغليظة.
٣٢  التتفل هو الثعلب.
٣٣  الهقل: الفتي من النعام أو الظليم والهقلة الأنثى منهما.
٣٤  المرو: حجارة بيض براقة، تكون فيها النار وتقدح منها.
٣٥  الحيوان ١: ٤٦.
٣٦  ٢:٣.
٣٧  ٥١:٥.
٣٨  الحيوان ٤: ٦٩.
٣٩  ١٠:٦.
٤٠  فهرست ابن النديم ٣٥١.
٤١  ٦٧:٥.
٤٢  ٧١:٥.
٤٣  ٧٦:٤.
٤٤  ٥٢:٤.
٤٥  ٣: ٨٣ و٨٧.
٤٦  ١٧:٦.
٤٧  ١٠:٧.
٤٨  ٤٥:١.
٤٩  ١١٧:١.
٥٠  ١٠٨:٥.
٥١  ٢:٣.
٥٢  ٤٨:٢.
٥٣  ص ٧٢.
٥٤  انظر ترجمته وكتبه في مقدمة كتاب الميسر والقداح، ومقدمة الجزء الرابع من عيون الأخبار.
٥٥  عيون ١: ل.
٥٦  ١: ي.
٥٧  قال ذلك لما رأى الأصمعي يعطي الكثير، ويعيش عيش سوء.
٥٨  انظر ترجمته في دائرة المعارف الإسلامية ومعجم الأدباء وبغية الوعاة وخزانة الأدب.
٥٩  معجم الأدباء ١: ١٢٤.
٦٠  جزء ٩، ص ١٠ وما بعدها.
٦١  العنان الشوط.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤