الفصل الرابع

الرقيق وأثره في الثقافة

قبل أن نتكلم في الرقيق وأثره، يجب أن نبين في كلمة موجزة موقفه القانوني في المملكة الإسلامية، وبعبارة أخرى ما كان يطبق من الأحكام الإسلامية عليه.

تقضي تعاليم الإسلام — أو على الأقل المبادئ التي استنبطها الأئمة من أصول الأحكام، وجرى عليها العمل حتى عصرنا الذي نؤرخه — بأن «سبب الرق: وقوع الكافر أسيرًا في يد المسلمين عند الحرب»، فإذا حارب المسلمون الكافرين فمن أُسر من المحاربين منهم جاز للإمام أن يسترقَّه، كما يجوز له أن يسترقَّ أهل البلد الذي فتح في الحرب، رجالًا كانوا أو نساء.١ وهذا الكفر والوقوع في الأسر هما سببا الرق، ولا يشترط لأجل بقاء الرق بقاء سببه؛ فلو وقع كافر في الأسر فاسترق ثم أسلم لا يزول عنه الرق.٢ وهذا الرقيق يعد مالًا، شأنه في ذلك شأن المتاع، فمن استرق في الحرب عُدّ جزءًا من الغنيمة كالآلات الحربية، وكالنقود وكالخيل. وعلى الجملة مثله كمثل كل شيء مقوم وقع في يد الفاتحين، وشأن هذه الأشياء أن الإمام ينقلها إلى دار الإسلام، ثم يأخذ خمسها يصرفه في الصالح العام؛ من إعطاء للفقراء والمساكين، وصرف في وجوه البر المختلفة، وأما أربعة الأخماس فتوزع على من اشترك في القتال، والرقيق يُفعل به ذلك، فخمسه للصالح العام، والباقي يقسم على المقاتلين. وقد ميزوا عند القسمة على المحاربين بين الفارس والراجل، وبعبارة أخرى بين الخيالة والرجالة؛ فجُعل للفارس سهمان في قول بعض الفقهاء، وثلاثة في قول بعضهم، وللراجل سهم واحد، على هذا النمط الذي أبّنا كان يوزع الرقيق.

وإذا كانت الحروب في صدر الإسلام تكاد تكون دائمة، وكان النصر للمسلمين يكاد يكون متلاحقًا مطردًا، والبلاد المفتوحة والأمم المغلوبة لا تكاد تعد؛ أمكننا أن نتصور كيف كان الرقيق لا يحصى كثرة، وكيف كان مختلفًا متنوعًا تنوع الأمم التي اشتبك معها المسلمون في قتال. وإذا كنا أبنا كيف يوزع الرقيق؛ فهمنا كيف انتشر بين المحاربين، ودخل في بيت كل منهم، وإذا كان الرقيق يعد مالًا، وتجري عليه كل العقود المالية من بيع وشراء وإجارة ورهن؛ أمكننا أن نفهم أنه لم يقتصر على المحاربين، بل كان في متناول أيدي الناس جميعًا، وكان له سوق يشتري منه من شاء، ويستخدمه كما شاء!

•••

هذا من الناحية المالية، وأما علاقة الرجال بالإماء من الناحية الجنسية فنجملها فيما يأتي:

هناك سببان يحلان المرأة للرجل؛ عقد الزواج، ومِلك اليمين؛ فأما عقد الزواج فلا يحل للرجل الحر أن يتزوج أكثر من أربع، أعني أنه لا يحل له أن يكون على ذمته في وقت واحد أكثر من أربع زوجات، ولكن يحل له أن يطلق منهن، ويتزوج غيرهن بعد انقضاء عدتهن، هذا هو قول أكثر الفقهاء، وإن كان لغيرهم أقوال أخرى لا محل لها هنا، وهذا الحكم عام، سواء كانت الزوجات الأربع حرائر أو إماء، وكل الذي ذكره الفقهاء في هذا الموضوع أنه لا يحل أن يعقد الرجل عقد زواج على أمةٍ إذا كان متزوجًا حرة، ولكن العكس يصح، فيجوز له أن يتزوج حرة على أمة، وقد لوحظ في ذلك أن زواج الأمة بعد زواج الحرة امتهان للحرة، وجرح لشرفها وعزتها.

والأمر الثاني مما يحل المرأة للرجل «مِلك اْليمين»؛ أعني ملكية الرجل للأمة، قال تعالى: فإِنْ خِفْتُمْ أَلا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَو مَا مَلَكتْ أَيمَانُكُموَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلَّا عَلَىٰ أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ فمن ملك جارية جاز أن يَتسراها، وهي حِلٌّ له سواء كان متزوجًا أو غير متزوج، وسواء كان متزوجًا واحدة أو أربعًا. ولا يتقيد الرجل في ذلك بعدد؛ فيحل له أن يتزوج إلى أربع، وأن يملك من الجواري ويتسرى منهن ما شاء من العدد، وإن كثر.٣

من أجل ذلك كان البيت الإسلامي فيه — غالبًا — زوجة أو زوجات، وكان بجانبهن عدد من الجواري قد تسراهن رب البيت.

وكثيرًا ما كان يقع الخلاف بين الحرائر والجواري السراري، وذلك طبيعي، حتى ذهب بعض اللغوييين إلى أن تسميتهن بالسراري كان سببه الغيرة؛ نقل اللسان عن بعضهم أن السرية الأمة التي يتسراها صاحبها منسوبة على غير قياس إلى السر وهو الإخفاء؛ لأن الإنسان كثيرًا ما يسرها ويسترها عن حرته، وكثيرًا ما يَنسل الرجل الواحد الحرائر والجواري فيفخر أولاد الحرائر على أولاد الجواري، ويعتزون بأنه لم يجر في عروقهم دم رقيقٍ، كالذي كان بين الأمين والمأمون، فكلاهما ولد الرشيد، ولكن أم الأمين زوجة حرة، وأم المأمون جارية سررية، وقد ضربنا قبلُ أمثالًا من هذا القبيل ببيوت الخلفاء ونسلهم المتنوع، وكانت بيوت غيرهم من الرعية مثل بيوتهم في هذا الباب.

•••

وهذا الرقيق الذي أبنّا من رجال ونساء لا يسَترِد حريته إلا بأن يعتَِقه مالكه. وقد عقد الفقهاء بابًا طويلًا للعتق، أبانوا فيه الألفاظ التي يكون بها العتق، وما يعرض له من أشكال، والذي يهمنا منه الآن: كلمة في «أم الولد»؛ ذلك أن الأمة إذا ولدت من سيدها سميت «أم ولَد»، وقد رفعوها فوق منزلة الجارية التي لم تلد منه، ومنحوها حقوقًا لم تنلها غيرها، أهمها: أنه لا يصح لمالكها (وهو مستولدها) أن يبيعها، ولا أن يهبها. وعلى ذلك جرى جمهور الفقهاء، ولكنها تبقى حِلًّا لمالكها حتى يموت، فإذا مات صارت حرة، تجري عليها كل أحكام الحرائر، أما الأولاد الذين جاءوا منها فأحرار.

هذا هو الوضع القانوني لمسألة الرقيق، والنظام الذي كان يسود في عصرنا الذي نؤرخه، وهو قدر لا بد منه لفهم النتائج الأدبية والعلمية والاجتماعية.

وقد كان المسلمون والنصارى واليهود على السواء في تملك الرقيق، ولكن التسري لم يكن نظامًا مشروعًا عند اليهود والنصارى، وإن ارتكبه بعضهم خروجًا على القانون؛ فقد رووا أن أبا جعفر المنصور أهدى طبيبه جورجيس بن بختيشوع النصراني ثلاث جوارٍ حسانٍ روميات، مع ثلاثة آلاف دينار، فرد الجواري فسأله المنصور: لم رددتهن؟ قال: لأنا معشر النصارى لا نتزوج أكثر من امرأة واحدة ما دامت المرأة، ولا نأخذ غيرها.٤
ولكن من ناحية أخرى يروي الجاحظ أن «طيمانو» رئيس الجاثليق قد هم بتحريم كلام عونٍ العِبادي (وكان نصرانيًّا) عندما بلغه أنه اتخذ السراري، فتوعد عون الجاثليق وحلف: لئن فعلَ ليسلمن.٥
وروى القفطي: أن النصارى عاتبوا يوحنَّا بن ماسويه على اتخاذ الجواري، وقالوا: خالفت ديننا، وأنت شَماس! فإما كنت على سنتنا، واقتصرت على امرأة واحدة، وكنت شماسًا لنا، وإما أخرجت نفسك عن الشماسين، واتخذت ما بدا لك من الجواري. فقال لهم: إنما أُمرنا في موضع واحد ألا نتخذ امرأتين ولا ثوبين، فمن جعل الجاثليق أولى أن يتخذ عشرين ثوبًا من يوحنا الشقي في اتخاذ أربع جوارٍ؟ فقولوا لجاثليقكم أن يلزم قوانين دينه حتى نلزم معه، فإن خالف خالفناه.٦

وقد كانت المملكة البيزنطية تحرم على من ليس نصرانيًّا أن يتملك رقيقًا نصرانيًّا، ولكن المسلمين أباحوا لليهود والنصارى أن يتملكوا الأرقاء، ولو كانوا مسلمين.

انتشرت تجارة الرقيق في المملكة الإسلامية في ذلك العهد، كما انتشرت في غيرها من الممالك، وكان في بغداد شارع يسمى «شارع دار الرقيق»٧ انْتُهِبَ في الفتنة بين الأمين والمأمون، وبكاه شاعر في قصيدة طويلة آخرها:
ومهما أنْسَ من شيء تَولى
فإنِّي ذاكرٌ دار الرَّقيقِ

وقد سمي تاجر الرقيق «نَخَّاسًا»، وكان في الأصل يطلق على بائع الدواب، واشتهر في ذلك العصر كثير من النخاسين في بغداد، وسبب شهرتهم ما لهم من جوارٍ حسان يأوي إليهن الشعراء والأدباء، منهم بالكرخ نخاس يكنى «أبا عميرٍ»، كان له جوارٍ قيان لهن ظَرف، وكان من جواريه جارية تسمى «عبادة»، هواها عبد الله بن محمد البواب فيقول:

لوتشكَّى «أبو عُمَيْرٍ» قليلًا
لأتيناه من طريق العِيادة
فقضينا من العيادة حقًّا
ونظرنا في مقلتَيْ «عَبَّادة»٨
ومنهم أبو الخطاب النخاس، كان له جارية مغنّية تعرف بذات الخال، كان يهواها إبراهيم الموصلي.٩ ومنهم حرب بن عمرو الثقفي، كان نخاسًا، وكان له جارية مغنية، وكان الشعراء والكتاب وأهل الأدب ببغداد يختلفون إليها يسمعونها، وينفقون في منزله النفقات الواسعة، ويبرونه ويهدون إليه، وفيها وفيه يقول أشجع:
أشكو الذي لاقَيت من حُبِّها
وبغْضِ مولاها إلى الرَّب
مِن بغْضِ مولاها ومن حُبِّها
سقِمت بين البغْضِ والحُبِّ
فاختلجا في الصدرِ حتى اسْتوَى
أمرهما فاقتَسما قلبي
تعجل الله شِفائي بها
وعجلَ السًّقْم إلى حَرْب١٠

ومر «أبو دلامة» بنخَّاس يبيع الرقيق، فرأى عنده منهن من كل شيء حسن، فانصرف مهمومًا، فدخل إلى المهدي، فأنشده قصيدة يفضل فيها النخاسة على الشعر مطلعها:

إن كنْت تَبغي العيش حُلْوا صافِيًا
فالشعر أَعْذِبْه وكن نخَّاسا١١
ولئن كان المستهترون من الأدباء يغبطون النخاسين على نخاستهم؛ فكثير من العقلاء كان يكره هذه الحرفة ويمقتها. دخل ناس على معاوية، فسألهم عن صنائعهم فقالوا: بيع الرقيق. قال: بئس التجارة، ضمان نفس، ومؤونة ضرس!١٢

وكان على تجار الرقيق عامل من عمال الحكومة يشرف على أعمالهم، ويراقب تجارتهم يسمى «قيم الرقيق».

كان هؤلاء الأرقاء أنواعا مختلفة؛ فمنهم السود وكانت أهم أسواق ذلك الصنف مصر وجنوب جزيرة العرب وشمال أفريقيا، وكانت القوافل تأتي بهم وبالذهب من الجنوب، وكان الثمن العادي للعبد في منتصف القرن الثاني حول مائتي درهم. وقد رووا أن كافورا الإخشيدي الحبشي الذي ملك مصر قد بيع في أول أمره سنة ٣١٢هـ بثمانية عشر دينارًا؛ لأنه كان خصيًّا.١٣ وفيه يقول المتنبي لما غضب عليه:
من علّم الأسود المخصي مكرُمةً؟
أقَومه البيض أم آباؤه الصِّيدُ؟
أم أُذْنه في يدِ النخَّاس دامِيةٌ
أم قدره وهو بالفلسَين مردود؟
وذاك أن الفحولَ البِيضَ عاجزةٌ
عن الجِميلِ فكيف الخِصية السُّود؟
ومنهم البيض، ومن أشهرهم الأتراك والصقالبة، وقد كان الناس يفضلون الصقالبة على الأتراك، كما يدل على ذلك جملة للخوارزمي وردت في كتاب يتيمة الدهر: «ويستخدم التركي عند غيبة الصقلبي.»١٤ وقد كان أهم مركز لتجارة الرقيق الأبيض مدينة سمرقند؛ فقد اشتهرت بإصدار أحسن الرقيق من هذا النوع، وعظمت تجارته في المملكة الإسلامية، وفي أوروبا، وكان تجاره في أنحاء أوروبا من اليهود.١٥

وقد كان لكل نوع من أنواع الرقيق ميزات خاصة يعرف بها؛ «فالهنديات عرفن بالوداعة، ولين الجانب، والهدوء، وحسن رعاية الطفل، ولكن سرعان ما يعرض لهن الذبول. وامتاز الرقيق من رجال الهنود بتدبير المنزل، والمهارة في الصناعات اليدوية، ولكنه عرضة للموت الفجائي في ريعان شبابه، وأغلب ما يجلب الرقيق الهندي من «قندهار»، واشتهرت السنديات بالخصر النحيل، والشعر الطويل. واشتهرت مولدات المدينة (يعني الإماء اللاتي نشأن بالمدينة وربين فيها) بالدلال، والميل إلى السرور والفكَاهة والمجون، وبحسن الاستعداد للنبوغ في الغناء. وعرفت مولدات مكة بدقة المعصم والمفصل، والعيون الناعسة، والأمة البربرية (المغربية) لا تبارى في حسن الإنتاج، وهي لدماثة خلقها ولين عريكتها صالحة لأن تعود نفسها القيام بأي نوع من العمل، والمثل الأعلى للجارية كما قال أبو عثمان الدلال: أن تكون من أصل بربري، فارقت بلادها، وهي في التاسعة من عمرها، ومكثت ثلاث سنين في المدينة، ومثلها في مكة، ثم رحلت إلى العراق في السادسة عشرة من عمرها لتتثقف بثقافته، فإذا بيعت في الخامسة والعشرين كانت قد جمعت بين جودة الأصل، ودلالِ المدنيات، ورقة المكيات، وثقافة العراقيات.»

«والسودانيون كانوا يغمرون الأسواق، وقد عرفوا بقلة الثبات والإهمال، كما عرفوا بالميل إلى الضرب على الدف والرقص، وهم أحسن خلق الله بياض أسنان لكثرة لعابهم، ويعابون عادة بنَتن الإبط، وخشونة الملمس.»

«والحبشيات عُرفن بالضعف والترهل، والاستعداد لأمراض الصدر، وهن على العكس من السودانيات لا يحسن الغناء ولا الرقص، ولكنهن قويات الخلق، موضع للثقة، أهل للاعتماد عليهن.»

«والتركية بيضاء البشرة، على حظ عظيم من جمال وحياة، ولها عينان صغيرتان جذابتان، وهي في الغالب بدينة أميل إلى القصر، ولود، كريمة نظيفة تجيد الطهي، ولكن لا يوثق بها ولا يعتمد عليها.»

«والأمة الرومية بيضاء البشرة في حمرة، ناعمة الشعر زرقاء العينين، طيعة مستعدة للتشكيل بما يحيط بها من ظروف، مخلصة ثقة. والعبد الرومي يجيد تدبير المنزل، ويحب النظام، ويميل إلى القصد في الإنفاق، ويجيد الفنون الجميلة.»

«والأرمن شر الجنس الأبيض، بنيتهم جيدة ولكن أقدامهم قبيحة، لا يُعرفون بالعفة، وتفشو فيهم السرقة، خشونة في طباعهم، وخشونة في كلامهم. إذا أنت تركت الأرمني ساعة بلا عمل عمد إلى الأذى يرتكبه، وهو إنما يعمل للخوف، فيجب أن تحمل له العصا دائمًا، وتعنفه ليعمل ما تريد.١٦
إذن كان الرقيق وعلى الأخص الجواري مختلفات الأنواع؛ هنديات، وسنديات، ومكيات، ومدنيات، وسودانيات وحبشيات، وتركيات، وروميات، وأرمنيات. وقد شبه الجاحظ أصناف الرقيق عند النخاسين بألوان الحمام؛ فشبه الصقالبة بالحمام الأبيض، وشبه الزنج بالحمام الأسود … إلخ.١٧
وهذا ما جعل قصور الخلفاء والأمراء والأغنياء مأوى لرقيق من أمم متعددة، تختلف في الطباع والعادات واللغات؛ فالطبري يحدثنا: أن المأمون لما غضب على الفضل قتله أربعة من غلمانه: غالب المسعودي الأسود، وقسطنطين الرومي، وفرج الديلمي، وموفق الصقلبي.١٨ وقدمنا أن المتوكل كان له أربعة آلاف سرية١٩ من مختلف الأجناس طبعًا، ودخل أحمد بن صدقة على المأمون في يوم السعانين،٢٠ وبين يديه عشرون وصيفة جَلْبًا، روميات مزنرات، قد تزين بالديباج الرومي، وعلّقن في أعناقهن صلبان الذهب، وفي أيديهن الخوص والزيتون، فقال له المأمون: ويلك يا أحمد قد قلت في هؤلاء أبياتًا فغنني فيها، ثم أنشدني:
ظِباء كالدَّنانِير
مِلاح في المَقاصِيرِ
جلاهن السعانِين
عَليَنا في الزَنانِيرِ
وَقد زرفْن أصداغًا
كأذْنَابِ الزرازيرِ
وأقبلْن بأوساطٍ
كأوساطِ الزَنابِيرِ
فغناه بها فلم يزل يشرب، وترقص الوصائف بين يديه أنواع الرقص.٢١
والرشيد يمدحه مروان بن أبي حفصة بقصيدة، فيعطيه مالًا ويعطيه عشرة من رقيق الروم٢٢ وكان لمحمد بن شفوف الهاشمي ثلاثة غلمان مغنيين، اثنان صقلبيان؛ خاقان وحسين، وكان خاقان أحسن الناس غناء، وكان حسين يغني غناء متوسطًا، وهو مع ذلك أضرب الناس، وكان الغلام الثالث يقال له حجاج، حسن الوجه، رومي الغناء.٢٣

وكان لبشار جارية سوداء يقول فيها:

وغادةٍ سوداء براقة
كالماءِ في طيب وفي لينِ
كأنَّها صِيغت لمن نالها
مِن عنبرٍ بالمسك معجونِ٢٤

وكان لأبي الشيص الشاعر جارية سوداء، وكان يتعشقها، وفيها يقول:

يا ابنة عم المسك الذكي ومن
لولاكِ لم يُتّخذ ولم يطب
ناسبك المسك في السواد وفي الـ
ريح فأكرم بذاك من نسب٢٥
وكان لإبراهيم بن المهدي جارية رومية تكنس البيت، ولا تحسن العربية.٢٦
وكان للِمهدي جارية نصرانية، تعلق في صدرها صليبًا من ذهب.٢٧ إلى كثير من أمثال ذلك، فأنت ترى أن البيوت ما كانت تخلو غالبًا من رقيق، جارية أو غلام، وأنهم من أجناس مختلفة، وديانات مختلفة، وثقافات مختلفة، وقد رأيت فيما قصصنا أن الخلفاء والأغنياء تركوا لمماليكهم حرية الديانة؛ فقد تكون الجارية نصرانية تلبس الصليب والزنار، وتلبس لبسها القومي وتتكلم بلغتها، ولا تحسن العربية، ولهذا من النتائج ما سننبه عليه.

•••

اتجه العباسيون إلى تعليم الجواري — على اختلاف أنواعهن — اتجاهًا قويًّا، وأكثر عنايتهم كانت بتعليمهن الغناء؛ فقد انتشر الغناء في هذا العصر انتشارًا عظيمًا، وعد حاجة من حاجات الإنسان الضرورية، فترى المغنين والمغنيات في المحال العامة، وفي الشوارع، وفي قصور الخلفاء، وفي بيوت الأغنياء والفقراء، ونما ذوق الناس في الغناء نموًّا غريبًا، وملئت الكتب بالحكايات عنه، وشغف الناس به حتى ليغني مغن على الجسر فيجتمع السامعون حوله، ويخاف من سقوط الجسر بهم،٢٨ وحتى كان بعضهم يكاد ينطح العمود برأسه من حسن الغناء.٢٩ ولم يتحرج الخلفاء ولا أولادهم من اختراع الأصوات، والتغني بها، فصاحب الأغاني يحدثنا أن الواثق والمنتصر كان لهما أصوات يغنى بها، وكانا يجيدان ذلك،٣٠ وعقد فصلًا طويلًا ممتعًا لأولاد الخلفاء وصنعتهم في الغناء،٣١ وكان لعُلّيَّة بنت الخليفة المهدي ثلاثة وسبعون صوتًا (دورًا)، ويحدث أحمد بن أبي داود القاضي فيقول: كنت أعيب الغناء وأطعن على أهله، فخرج المعتصم يومًا إلى الشَّمّاسية في حراقة يشرب، ووجه في طلبي فصرت إليه، فلما قربت منه سمعت غناء حيرني، وشغلني عن كل شيء، فسقط سوطي من يدي، فالتفتُّ إلى غلامي أطلب منه سوطه، فقال لي: قد والله سقط سوطي، فقلت له: فأي شيء كان سبب سقوطه؟ قال: صوت سمعته شغلني عن كل شيء فسقط سوطي من يدي، فإذا قصته قصتي! قال: وكنت أنكر أمر الطرب على الغناء، وما يستفز الناس منه، ويغلب على عقولهم، وأناظر المعتصم فيه، فلما دخلت عليه يومئذ أخبرته بالخبر فضحك وقال: هذا عمي كان يغنيني:
إن هذا الطويلَ من آل حفصٍ
نشر المجد بعدما كان ماتا
فإن تبت عما كنت تناظرنا عليه في ذم الغناء سألته أن يعيده. ففعلت وفعل، وبلغ بي الطرب أكثر مما بلغني عن غيري فأنْكره، ورجعت عن رأيي منذ ذلك اليوم.٣٢

دعاهم الشغف بالغناء إلى تعليمه الجواري للتمتع بغنائهن ومنظرهن معًا، وتعلُّم الغناء استتبع تعلم الأدب؛ لأن الناس في ذلك العصر كانوا يتغنون بالشعر العربي الفصيح، مثل شعرِ عمر بن أبي ربيعة، وبشار، ومسلم بن الوليد، وأبي العتاهية، والمغنية لا تحسن أن تغني هذه الأشعار إلا إذا حفظت كثيرًا من الشعر، وأجادت مخارج الحروف، واطلعت على كثير من الأدب.

بل رأينا أحاديث كثيرة عن مغنيات كن يغنين بما يخترعن من شعر وصوت، يقول أبو دلامة من شعر له:

هذي رسالة شَيخ من بني أسدٍ
يهدِي السلام إلى العباس في الصحف
تخطها مِن جواري المصر كاتبة
قد طالما ضربت في اللام والألف
وطالما اختلفت صيفًا وشاتية
إلى معلمها باللوح والكتف٣٣
حتى إذا نهد الثديان وامتلآ
منها وخيفت على الإسراف والقرَف٣٤
صِينت ثلاث سنينٍ ما تَرى أحدًا
كما يصون تجارٌ درة الصَّدَف٣٥
وكانت عُرَيْب المغنية تروي الجاريات الأشعار ليتغنين بها٣٦ ويقول المبرد: «حدثني الجاحظ عن إبراهيم بن السندي قال: كانت تصير إلي «هاشمية» جارية «حمدونة»، في حاجات صاحبتها، فأجمع نفسي لها، وأطرد الخواطر من فكري، وأحضر ذهني جهدي، خوفًا من أن تورد علي ما لا أفهمه، لبعد غَوْرها واقتدارها، على أن تُجْري على لسانها ما في قلبها.» وكذلك ما يؤثرعن خالصة وعتبة جاريتي رَيْطة بنت أبي العباس.٣٧»

ويقول المسعودي: «لما أفضت الخلافة إلى المتوكل أهدى إليه ابن طاهر هدية فيها مائة وصيف ووصيفة، وفي الهدية جارية يقال لها «محبوبة»، كانت لرجل من أهل الطائف قد أدبها وثقفها، وعلّمها من صنوف العلم، وكانت تحسن كل ما يحسنه علماء الناس، فحسن موقعها من المتوكل.»

إذن كانت الجارية كثيرًا ما تُعَلَّم أدبًا، وتعلم فنًّا، وخاصة الغناء، وكان هذا التعلم يغلي قيمتها أضعاف ثمنها؛ فقد عرضت جارية بثلاثمائة دينار، فلما علّمها إبراهيم بن المهدي الغناء عرض في ثمنها ثلاثة آلاف دينار،٣٨ وقد بيعت عُرَيْب المغنية الشهيرة بخمسة آلاف دينار.٣٩
ودحمان يشتري جارية بمائتي دينار، فيعلمها ويبيعها بعشرة آلاف دينار،٤٠ واشترى الرشيد جارية من الموصلي بستة وثلاثين ألف دينار يحسبها من بابته،٤١ إلى كثير من أمثال ذلك.

وقد كان إبراهيم الموصلي مغني الرشيد على ما يظهر، من أكثر الناس نشاطًا في تعليم الجواري وتثقيفهن، ومن أسبقهم في التوجيه إلى ذلك، يحدث ابنه فيقول: «لم يكن الناس يعلّمون الجارية الحسناء الغناء، وإنما كانوا يعلمونه الصفر والسود، وأول من علم الجواري المَثمنات أبي، فإنه بلغ بالقيان كل مبلغ، ورفع من أقدارهن.» وفي ذلك يقول أبو عيينة الشاعر، وكان يهوى جارية يقال لها «أمان»، طلب مولاها فيها ثمنًا كبيرًا:

قلت لما رأيت مولَى أمانٍ
قد طغى سومه بِها طغيانا
لا جزى الله الموصلي أبا
إسحاق عنا خيرًا ولا إحسانا
جاءنا مرسلًا بوحي من الشيـ
ـطانِ أغْلى به عليَنا القيانا
من غِنَاءٍ كأنه سكرات الحب
يصبي القلوب والآذَانَا٤٢
وأّلف هو (إبراهيم الموصلي) ويزيد حوراء شركة لشراء الجواري، وتعليمهن الغناء، والمشاركة في ربحهن.٤٣

•••

نشر هؤلاء الجواري نوعًا من الثقافة كان لا بد منه في مثل مدنية العباسيين، وهو لا بد منه في كل مدنية، وأعني بذلك الفنون الجميلة، وما يتبعها من رقي في الذوق الفني؛ فقد كان بجانب الحركة العلمية في ذلك العصر حركة أخرى لا تقل عنها شأنًا، وهي الحركة الفنية من غناء وتصوير ورقص، والحق أن الناس شعروا إذ ذاك شعورًا قويًّا بالجمال، وتفنّن شعرائهم (وخاصة مسلم بن الوليد، وأبا نواس) في وصف الجمال والولوع به، وقراءته من غير ملل، كما قال أبو نواس:

للحسن في وجناته بدَعُ
ما إن يَمَلُّ الدرسَ قاريها
ويحكي الجاحظ: أن من رأى الديك والدجاجة يشربان الماء، وكان عطشانًا ذهب عطشه من قبح حسو الديك والدجاجة، ومن رأى الحمام يشرب الماء، وكان ريان يشتهي أن يكون فيه في الماء لجمال شربه.٤٤ وهذا من غير شك يدل على شعور بالجمال قوي، وكان العتَّابي يعد جمال كل مجلس أن يكون سقفه أحمر، وبساطه أحمر، ويقول بشار:
هِجان عليها حمرة في بياضها
تروق بها العينين والحسن أحمر٤٥

وشعروا بجمال المعنى، كما شعروا بجمال الصورة؛ فأكثروا من القول في جمال الروح وجمال الحديث. فيقول بشار:

وكأن رجع حديثها
قِطَع الرياض كسِين زهرا
وكأن تحت لسانها
هاروت ينْفث فيه سحرا

ويقول:

وبِكْرٍ كنوار الرياض حديثها
تروق بوجه واضح وقَوام

والحق إن الجواري كن أكبر عامل في نشر الشعور بالجمال، وما يتبعه من فنون جميلة، وأن الناس في العصر الذي نؤرخه لم يكتفوا بالجواري من ناحية جمالهن الخِْلقي، بل شغفوا بهن من ناحية الجمال الفني أيضًا، ليجمعوا بين الجمالين. كانوا يميلون إلى الغناء وإلى الرقص، وإلى التفنن في الملبس، وإلى غير ذلك من ضروب الفن، فأخذوا يعلّمون الجواري هذه الفنون، وسرعان ما تحول النبوغ فيها من الرجال إلى الجواري، وأخذ نوابغ المغنيين يلقِّنون جواريهم ألحانهم وأصواتَهم وطريقة غنائهم؛ فإبراهيم الموصلي يعلِّم جواريه فنه حتى يُحْسِنّه، وعبد الله بن طاهر كان يعلم الغناء علمًا تامًّا؛ فيصنع الأصوات يلقنها لجواريه، والمغنون ينقسمون إلى حزبين: حزب القديم، وحزب الجديد، فينقسم الجواري إلى قسمين تبعًا لمن أخذن الفن عنهم، وامتلأ كتاب الأغاني بتراجم الجواري المغنيات؛ أمثال عُريب ومتيم وبذل وذات الخال وفريدة وأمثالهن، وعقد الفصول الطوال في نوادرهن، وميزة كل منهن، ونوع تفوقهن.

والآن نذكر طرفًا من أنواع الفنون التي نشرنها:

فأول ذلك الغناء، وقد غمرن العراق بالغناء الجيد، وما يتبعه من لهو ومجون، وقد كان هؤلاء الجواري في هذا على نوعين؛ جوارٍ مغنيات للخاصة، فالخليفة له جوارٍ يغنينه، والأمراء والأغنياء كذلك، ثم هم يتهادون هذه الجواري حبًّا في التجدد، وفرارًا من الاقتصار على صوت واحد.

وهناك نوع آخر، وهو قيان عامة، وأكثر ما يكون أن نخاسًا يملكهن، فيعرضهن للغناء في محال يأوي إليها الفتيان لسماعهن، والإنفاق عليهن، ومن نماذج ذلك ما حكاه لنا صاحب الأغاني عن ابن رامِين؛ فقد كان له منزل بالكوفة، وله جوارٍ مغنيات أشهرهن اسمها «سلامة الزرقاء»، وكان أجلَّ مقين بالكوفة، يجتمع في بيته الفتيان للسماع والشراب، ويقولون فيه وفي قيناته الشعر. وممن كان يختلف إليه روح بن حاتم المهلبي، ومحمد بن الأشعث، ومعن بن زائدة، وابن المقفع، وأمثالهم يسمعون وينفقون عن سعة، وينشدون أشعار الغزل. ولما خرج ابن رامين حاجًّا بجواريه بكى الشعراء لخروجه، ووصفوا لوعتهم من فرقة مجلسه، كما وصفوا كثرة الناس الذين كانوا يغشون بيته؛ من ذلك قول أحدهم:

أية حالٍ يا ابن رامِينِ
حالُ المحبين المساكينِ
تركتهم موتى ولم يْتَلفوا
قد جرعوا مِنك الأمرّينِ
وسِرت في ركْبٍ على طِيّة
ركبِ تِهامٍ ويمانينِ
يا راعِي الذَّودِ لقد رعْتهم
ويلك من روع المحبين
فرقت جمعًا لا يرى مثُلهم
بين دروب الروم والصينِ٤٦
وفي الحق إن هذا النوع من الجواري أثر أثرًا سيئًا في نشر الخلاعة والمجون، ومن قرأ رسالة القيان المنسوبة للجاحظ، أو قرأ وصف «الوشاء» في باب ذم القيان، في كتابه «الموشَّى»؛ أدرك ما كان لهن من أثر ترى ظله في شعر الشعراء الخليعين في ذلك العصر، وما كان أكثرهم!٤٧ ويعلل الجاحظ فساد هؤلاء الفتيات بقوله: «وكيف تسلم القينة من الفتنة، أو يمكنها أن تكون عفيفة؟ وإنما تكتسب الأهواء، وتتعلم الألسن والأخلاق بالمنشأ، وهي إنما تنشأ من لدن مولاها إلى أوان وفاتها فيما يصد عن ذكر الله من لهو الحديث، وبين الخلعاء والمجان، ومن لا يسمع منه كلمة جِد، ولا يرجع منه إلى ثقة ولا دين، ولا صيانة مروءة، وتروي الحاذقة منهن أربعة آلاف صوت فصاعدًا، يكون الصوت فيما بين البيتين إلى أربعة أبيات، عدا ما يدخل في ذلك من الشعر، إذا ضرب بعضه ببعض كان من ذلك عشرة آلاف بيت، ليس فيها ذكر الله إلا عن غفلة، ولا ترهيب من عقاب، ولا ترغيب في ثواب، وإنما بنيت كلها على ذكر العشق والصبوة والشوق، ثم لا تنفك من الدراسة لصناعتها، منكبة عليها تأخذ من المطارحين الذين طَرحهم كله تجميش! وهي مضطرة إلى ذلك لأنها إن أهملتها نقصت، وإن لم تستفد منها وقفت، وكل واقف فإلى نقصان أقرب.»٤٨
وغير هذا نشر الجواري أنواعًا من الظرافة، قلدهن فيها الناس، وجروا على أثرهن، كحب الأزهار وتعشقها، فيحدثنا «الأغاني» أن «متمًا» جارية علي بن هشام «كان يعجبها البنفسج جدًّا، وكان عندها أثر من كل ريحان وطيب، حتى إنها من شدة إعجابها لا يكاد يخلو من كمها الريحان، ولا تراه إلا كما قطف من البستان.»٤٩ وفطن الناس إذ ذاك إلى دلالة الأزهار على المعاني فيقول شاعرهم:
أهدت إليه بَنفسجًا يُسليه
تُنْبِيه أن بِنَفسها تَفْديه
فارتاح بعد صبابة وكآبة
ورجا لحسن الظن أن تُدْنيه

ويقول آخر:

سُرَّ بالآس الذي أهدت له
ثم لما أهدت الورد جَزِع
ذاك أن الآس باقٍ دائم
ولأن الورد حينًا ينقطع

ونوع آخر ظريف انتشر بينهم، وهو كتابة الأشعار الرقيقة والجمل الظريفة تطريزا على الأقمصة والأردية والأكمام ونحوها. قال الماوردي: رأيت جارية ونحن عند محمد بن عمرو بن مسعدة عليها قميص مكتوب في وشاحه:

أغيب عنك بِود لا يُغَيّره
نَأي المحل، ولا صَرْفُ من الزمن

وعلى طراز الرداء:

أقلُّ الناس في الدنيا سرورًا
محبُّ قد نأى عنه الحبيب

وقال: ورأيت جارية لبعض الهاشميين، يقال لها عريب، عليها قميص موشح بالذهب، مكتوب في وشاحه:

وإني لأهواه مسيئًا ومحسًنا
وأقضي على قلبي له بالذي يقضي
فحتى متى روح الرضا لا ينالني
وحتى متى أيام سخطك لا تمضي
وكتبن على العصائب، ومشاد الطرز والذوائب، والزنانير والمناديل والوسائد والبسط، والأسرة والكِلل والنعال والخفاف، وبالحناء على الأقدام والراح.٥٠

ونجح هؤلاء الجواري في إشْعارِ الناس بالظُّرف، والتزام حدوده، حتى أصبح للظرفاء عرف خاص في الزي والنظر، والطعام والشراب، وما إلى ذلك. وحتى أخذ «الوشَّاء» هذا العرف، ودونه قانونًا للظرفاء في كتابه «الموشى».

ولسنا نرجع الفضل في ذلك كله للجواري؛ فإن لمواليهم أيضًا أثرًا لا ينكر، فإبراهيم الموصلي وأمثاله من المغنين هم الذين علموا الجواري غناءهم، ولقنوهن أصواتهم، والطبقة الراقية هي التي أوحت إلى الجواري ضروب الظرافة، ولكن مما لا شك فيه أنه قد كان للجواري الفضل في نشر هذه الفنون الجميلة بين طبقات الشعب المختلفة؛ لأنهم كانوا أكثر ولوعًا بهن، وأشد تقليدًا لهن، وأميل للتخلق بما يستحسن.

وكان للجواري فضل آخر، وهو أنهن من أمم مختلفة كما رأيت؛ فهنديات، وتركيات، وروميات، وغير ذلك، وقد كان كل صنف يجلَب وقد تكونت عاداته أو كادت؛ فالروميات تحملن عادات قومهن في الغناء وضروب الظرافة، وهكذا بقية الأمم، ثم أتين المملكة الإسلامية فنشرن عاداتهن، ووقعت أبصارهن على عادات غيرهن، فخضع ذلك كله لقانون الانتخاب. ومن أجل ذلك كان الغناء غناء منتخبًا، وهذا ما يفسر النزاع الشديد الذي حكاه الأغاني من طائفة تتعصب للقديم، وأخرى تتعصب للجديد، وما الجديد إلا ما أدخل عليه من نغمات فارسية ورومية، وكذلك سائر الفنون.

وفن آخر كان للجواري أثر كبير فيه، كأثرهن في سائر الفنون الجميلة، ذلك هو «الأدب». ونرى أن للمرأة في كل أمة وفي كل عصر فضلًا على الأدب من ناحيتين؛ الأولى: ما تثيره في نفوس الرجال من عاطفة قوية تجيش في صدورهم، فتخرج على ألسنتهم شعرًا رقيقًا وأدبًا ممتعًا، والثانية: مشاركة المرأة الرجلَ في إخراج القِطع الفنية والأدبية في المواضيع التي تمس شعورهن، وهن عليها أقدر!

كان هذا هو الشأن في العصر العباسي، ويظهر لنا أن «الجواري» كن أنشط من «الحرائر» في النوعين معا؛ أعني في ناحية الإنشاء الأدبي، وفي ناحية الإيحاء إلى الشعراء. ويرجع السبب في ذلك إلى النظام الاجتماعي إذ ذاك، فقد كان الناس — كما نقلنا قبل عن الجاحظ — يغارون على الحرائر أكثر مما يغارون على الجواري، ويحجبون الحرة، ويشددون في تحجيبها. وإذا أراد أحد أن يتزوجها بعث «بخاطبة» تنظر إليها، وتصف للرجل محاسنها وعيوبها، أما هو فلا يراها إلا بعد الزواج. ولكن الجارية شأنها غير ذلك؛ فهو لا يُعَيّر بها كما يعير بقريبته الحرة، ثم هي سافرة إلى حد بعيد، بحكم أنها في كل وقت عرضة لأن تباع وتشرى، وهي تقضي للرجل حوائجه، وإذا أراد أحد من عامة الناس أن يستمع لغناء، أو يلهو بالقينات في بيوت المقينين فهن اللائي يغذّين ميله إلى السماع، ورغبته في اللهو، وهن بحكم سفورهن اللائي يقع عليهن نظر الناس. أما الحرائر فلا يقع عليهن إلا نظر أقاربهن؛ لذلك كان طبيعيًّا أن الأدباء والشعراء يغذون أدبهم وشعرهم بالجواري، أكثر مما يغذونه بالحرائر. ومن ناحية أخرى فقد عُني الرجال بتعليم الجواري كما يظهر أكثر من عنايتهم بتعليم الحرائر، ودعاهم إلى ذلك الناحية التجارية؛ فقد رأيت أن عِلم الجارية وأدبها كان يُقَوّم في سوق الرقيق بأكثر ما يُقَوّم بدنها، وأن الجارية إذا قُوِّمت بمائتي دينار جاهلة، قومت بأضعاف ذلك مغنية أو أديبة، والمال في كل عصر هو قِوام الحركات الاجتماعية، أما الحرائر فلم يكن يُعنى بتعليمهن وتربيتهن إلا طبقة قليلة، وهي طبقة الأشراف ومن في حكمهم وقليل ما هم. وسبب آخر: وهو أن الناس كانوا يرون أن الجواري هن ملهى الرجال، فحاول القائمون بأمورهن أن يرقوا هذه الملاهي بكل ما يتطلبه اللاهون، ورأوا أن الجارية إذا كانت مغنية أديبة موسيقية شاعرة كان ذلك أفعل في قلوب الرجال، فلم يألوا جهدًا في تحقيق مطالبهم.

نعم نجد كثيرًا من الحرائر اشتغلن ببعض العلوم، ولكن أكثر ما اشتغلن به كان الباعث عليه دينيًّا ككثير من المحدثات والمتصوفات. ولكن هذا ليس موضوعنا هنا، إنما موضوعنا الاشتغال بالفنون، والجواري من غير شك في هذا الباب كن أكثر وأظهر.

مصداق ذلك أنا نجد من الناحية الإنشائية كثيرًا من الجواري أدبيات متفننات، لا يدانيهن في ذلك الحرائر، فيقول الأغاني في عُرَيب: «كانت مغنية محسنة، وشاعرة صالحة الشعر، وكانت مليحة الخط والمذهب في الكلام، ونهاية في الحسن والجمال والظرف وحسن الصورة، وجودة الضرب، وإتقان الصنعة والمعرفة بالنغم والأوتار، والرواية للشعر والأدب.»٥١ ويقول في «مُتيم»: «كانت صفراء مولدة من مولدات البصرة، وبها نشأت وتأدبت وغنت، وأخذت عن «إسحاق الموصلي» وعن أبيه من قبله، وكانت من أحسن الناس وجهًا وغناء وأدبًا، وكانت تقول الشعر ليس مما يستجاد، ولكنه يستحسن من مثلها.»٥٢ ويقول في «دنانير» جارية يحيى بن خالد البرمكي: «كانت من أحسن الناس وجهًا، وأظرفهم وأكملهم، وأحسنهم أدبًا، وأكثرهم رواية للغناء والشعر.»

ومن الناحية الأخرى كان الجواري أكثر إيحاء للشعراء بمعاني الشعر للسبب الذي بيّنا، فبشار يعشق جارية يقال لها «فاطمة»، سمعها تغني فهويها، وقال فيها الشعر، كما قال الشعر في جارية له سوداء. وحياة دِعبِل الخزاعي، ومسلم بن الوليد (صريع الغواني) مملوءة بما حدث لهم مع الجواري والشعر فيهن، وأبو نواس كان يهوى جارية اسمها «جنان»؛ وهي جارية لآل عبد الوهاب بن عبد المجيد الثقفي، وكانت جميلة أديبة تعرف الأخبار وتروي الأشعار، يقال: إن أبا نواس لم يصدق في حبه امرأة غيرها، وقد أكثر فيها من بدائع شعره، وشغف العباس بن الأحنف بفَوز، وكانت جارية لمحمد بن منصور، فأتى في شعره فيها بالممتع.

هذا قليل من كثير مما ملئت به كتب الأدب من شعر وَقصص، ومما كان بين الفتيان والشعراء والأدباء، وبين الجواري في ذلك العصر.

ولئن اغتبط الأدباء بما أنتجته هذه الحالة الاجتماعية من شعر رقيق، وفن بديع، فإن رجال الدين والخُلق ساءهم ما نتج عن ذلك من لهو خليع، واستهتار شنيع. وأخذ الأولون يحثون الناس على الاستمتاع بهذه الحياة وجني ثمارها، وأخذ الآخرون ينعون على الناس لهوهم وفجورهم، ثم يفرون من هذا كله إلى الزهد في الحياة، والهرب من لذائذها، كما سنعرض ذلك في الفصل التالي.

١  انظر ما كتبناه في الجزء الأول من فجر الإسلام، ص ١٠٢.
٢  التحرير ٢: ١٨٠.
٣  انظر البدائع ٢: ٢٦٦.
٤  أخبار الحكماء.
٥  الحيوان للجاحظ: ٤: ٩.
٦  أخبار الحكماء ٣٨٧.
٧  المسعودي ٢: ٢٤١.
٨  الأغاني ٢٠: ٤٤.
٩  الأغاني ١٧: ٥٠.
١٠  الأغاني ٩: ١٢٨.
١١  عيون الأخبار ١: ٢٥٠.
١٢  أغاني ٢٠: ٢٧.
١٣  Mez في كتابه .Die Renaissance Des Islams
١٤  اليتيمة ٤: ١١٦، ويطلق الصقالبة على الأجناس التي تسكن من بلغاريا إلى حدود القسطنطينية.
١٥  Mez.
١٦  ترجمنا هذه القطعة ولخصناها من كتاب Mez السابق، وهو نقلها عن رسالة ألفها ابن بطلان «في شراء الرقيق»، وهي محفوظة في مكتبة برلين، ولم نعثر لها على أصل عربي في مصر.
١٧  الحيوان ٣: ٧٥.
١٨  ابن جرير ١٠/٢٥٠.
١٩  المسعودي ٣٠٨/٢.
٢٠  يوم السعانين عيد النصارى.
٢١  الأغاني ١٩: ١٣٨.
٢٢  الطبري ١٠: ١١٤.
٢٣  الأغاني ١٥: ٥٣.
٢٤  الأغاني ٣: ٤٦.
٢٥  الأغاني: ١٥: ١٣١.
٢٦  الأغاني ١٥: ٧١.
٢٧  الطبري ١٠: ٢٠.
٢٨  الأغاني ١٨: ١٢٨.
٢٩  الأغاني ١٥: ١٥٦.
٣٠  الأغاني ٨: ١٦٣.
٣١  ٧–٣٥، وكذلك في الجزء التاسع.
٣٢  الأغاني ٩: ٥٥.
٣٣  الكتف عظم عريض كانوا يكتبون فيه لقلة القراطيس عندهم.
٣٤  القرف من قرف الذنب ارتكبه.
٣٥  الأغاني ٩: ١٣٦.
٣٦  نشوار المحاصرة ١: ١٣٢.
٣٧  الكامل ٢: ٢٧٩.
٣٨  مروج الذهب ٢: ٣٠٩.
٣٩  الأغاني ١٤: ١٠٩.
٤٠  الأغاني ٥: ١٤٣.
٤١  الأغاني ٥: ٧ ويقال هذا من بابته أي يصلح له ويلائم طبعه.
٤٢  الأغاني ٥: ٩.
٤٣  الأغاني ٣، ٧٣.
٤٤  الحيوان ٥: ٣٣.
٤٥  الأغاني ١٧: ١١.
٤٦  الأغاني ١٣: ١٢٧ وما بعدها.
٤٧  الموشى، ص ٩٥ وما بعدها.
٤٨  رسالة القيان، ص ٧٢.
٤٩  الأغاني ٧: ٣٦.
٥٠  تجد كثيرًا من ذلك في كتاب الموشى.
٥١  الأغاني ١٨، ١٧٥.
٥٢  الأغاني ٧، ٣١.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤