الفصل الخامس
حياة اللهو وحياة الجد
هل كان الناس يعيشون في ذلك العصر عيشة ترف ونعيم، ولهو ومجون، أو عيشة جد وعفة؟
وهل كان الخلفاء العباسيون الأولون يتحرون أوامر الدين ويتقيدون بها، ولا ينعمون
إلا بما أحلّ الله، كما يصورهم بعض المؤرخين، أو هم تحللوا من كثير من القيود،
وأسرفوا في اللهو كما يصوره آخرون؟ وهل كانت حالة الشعب رخية سعيدة، أو بائسة شقية؟
وما أثر ذلك كله في العلم والفن والأدب؟
ذلك ما نحاول الإجابة عنه في هذا الفصل.
•••
إذا نحن نظرنا نظرة عامة لنقارن بين الحياة الأموية، والحياة العباسية وجدنا
الأولى أقل تكلفًا، وأكثر سذاجة، وأدلَّ على الذوق العربي البدوي البسيط. وأكبر
ظاهرة تراها أن سيطرة العنصر العربي في العهد الأموي صبغته بهذه الصبغة، وجعلته إذا
أراد الترف والنعيم، تخير من ترف الأمم الأخرى ونعيمها، ولم يأخذه كما هو بحذافيره،
ثم هو يعدل فيه حسب ذوقه وميوله، ويجعله شيئًا آخر عربيًّا لا فارسيًّا صرفًا، ولا
روميًّا صرفًا. رأوا الموائد الفارسية، وأدخل الخلفاء والأمراء على موائدهم نوعًا
من التحسين، ولكن لم يكن العربي البدوي إذا دخل على معاوية أو عبد الملك يشعر بأنه
في جوٍّ آخر بعيد كل البعد عما يعرفه.
روى ابن خلدون: «أن الحجاج أولم في اختتان بعض ولده، فاستحضر بعض الدهاقين يسأله
عن ولائم الفرس، وقال: أخبرني بأعظم صنيع شهدتَه. فقال له: نعم أيها الأمير، شهدت
بعض مرازبةِ كسرى، وقد صنع لأهل فارس صنيعًا، أحضر فيه صِحاف الذهب على أخْوِنة
الفضة (أربعًا على كل واحد)، وتحمله أربع وصائف، ويجلس عليه أربعة من الناس؛ فإذا
طعِموا أتبعوا أربعتهم المائدة بصحائفها، ووصائفها. فقال الحجاج: يا غلام انحر
الجزر وأطعم الناس.»
١ كأنه كره ذلك واستعظمه، ونبا عن ذوقه العربي، وعده فخفخة كاذبة، وأبهة
لا يستسِيغها، فنفر من ذلك إلى عادات قومه. وكذلك شأنهم في الدواوين، وضروب الحضارة
الأخرى. وعلى الجملة فالذوق العربي واضح كل الوضوح في العهد الأموي، والعلاقة بين
دمشق ومكة والمدينة، وأعني من الناحية الاجتماعية لا السياسية علاقة متينة،
يتفاهمون كل الفهم، ويتذاوقون كل الذوق، والإسلام مفهوم لديهم في بساطته وتقاليده
على نحوٍ أحسن مما فُهم به في العصر العباسي.
أما العباسيون فلم يكن شأنهم كذلك، لئن كان الأمويون ينقلون إليهم بعض العادات مع
صبغها بصبغتهم، فالعباسيون كانوا هم الذي ينتقلون بحذافيرهم إلى العادات الجديدة،
والتقاليد الجديدة. خذ لذلك مثلًا «النيروز»؛ كان عيدًا للفرس قديمًا، ولم نسمع في
العهد الأموي أن كان له شأن ذو بالٍ، ولكن العباسيين اتخذوه عيدًا قوميًّا يحفلون
به حفلهم بعيد الفطر، ويتبارون فيه بالهدايا والقصائد، ويجلس فيه الخلفاء للتهنئة.
وقل مثل ذلك في الأزياء؛ فانتشرت القلنسوة الطويلة، وضروب الأزياء الفارسية، اتخذ
القضاة القلانس العظام، واتخذ الخلفاء العمائم على القلانس، وتفننوا في العمامة
ونوعوها تبعًا للطبقات كما كان يفعل الفرس؛ فللخلفاء عمة، وللفقهاء عمة، وللبغالين
عمة، وللأعراب عمة. ولكل قوم زِي؛ فللقضاء زي، ولأصحاب القضاء زي، وللشرط زي.
وأصحاب السلطان على مراتب، ولكل مرتبة زي؛ فمنهم من يلبس المبطَّنة، ومنهم من يلبس
الدراعة، ومنهم من يلبس «البازيكند». وكانت الشعراء تلبس الوشي والمقطَّعات،
والأردية السود. وقد كان شاعر في هذا العصر يتزيا بزي الماضين فهجاه بعض
الشعراء.
٢
والخلفاء الأمويون إذا وهبوا فإنما كانت أكثر جوائزهم الإبل، أخذًا بمذاهب العرب
وبداوتهم. أما في دولة بني العباس فجوائزهم كانت أحمال المال، وتخوت الثياب، والخيل
بمراكبها.
٣ وعلى الجملة فقد انتقل الناس في العهد العباسي إلى عادات الأمم الأخرى
وتقاليدهم، وأفرطوا في ذلك كل الإفراط، على العكس من العهد الأموي، ومن ثَم انقطعت
الصلات الاجتماعية والمشاكلات بين المسلمين في العراق والمسلمين في جزيرة العرب، أو
كادت. ويحدثنا الأغاني حديثًا طريفًا عن ناهض بن ثومة؛ وهو شاعر بدوي جافٍ من
الشعراء في العهد العباسي، شهد حفلة عرس في حلب فدار عقله واختبل فكره مما رأى، مما
لا عهد له به في البادية، عجب وأفرط في العجب من الاحتفاء بالعروس، ومن ألوان
الملابس، ومن ألوان الأطعمة والشراب، ومن آلات الغناء الفارسية، حتى أمعن الناس في
الضحك من إمعانه في الغفلة!
٤ ولقد كان يجن حقًّا لو شهد حفلة العرس هذه في بغداد.
•••
أفرط قوم من الناس في هذا العصر في اللذائذ يتحرونها، ويتفننون في الاستمتاع بها،
وكلما ملوا نوعًا ابتكروا نوعًا، وإذا أخذوا يهدءون نشط الدعاة يستحثونهم على
الإغراق فيها، والأخذ بأكبر حظ منها. ونحن إذا تتبعنا تاريخ الدولة العباسية في هذا
الباب وجدنا أن الدولة كانت تسير خطوات متدرجة إلى هذه الغاية، وأن كل خليفة كان
يعلو غالبًا درجة في سلم الترف والنعيم عمن قبله. وأننا لو خططنا رسمًا بيانيًّا
لاتجه صاعدًا باستمرار في عصر كل خليفة تقريبًا، والناس في كل عصر وخاصة في هذه
العصور تبع لإمامهم.
بدأت الدولة العباسية، وحولها أعداء كثيرون؛ من أمويين وصنائعهم، ولما اختير
للخلافة السفاح ثم المنصور غضب كثيرون من البيت العباسي نفسه، وغضب شيعة علي، فكان
لابد لقيام الدولة من خلفاء جادين غير لاهين، يصرفون كل وقتهم في تأسيس الدولة،
واصطناع الموالين، وكبح جماح الثائرين، وسفك دم الخارجين، حتى إذا انتهى هذا الدور،
ومهدت الأمور، وقُتل الخارجون، واستكان أمثالهم؛ هدأت الدولة، فكان أمام الخليفة
الذي يأتي بعد وقت من الفراغ والهدوء يجد فيه متسعًا لشيء من اللهو والترف والنعيم،
ولكن ليس يجد كل وقته، فعليه تنظيم داخل المملكة، بعد أن كان أكثرهم من قبله موجهًا
إلى تنظيم الأمور الخارجية، حتى إذا استتب الخارج والداخل جاء خلفاء، وقد جرت
الأمور في نصابها، وسارت على الأسس التي شيد الأولون بنيانها، ورأى هؤلاء الخلفاء
المال الكثير يُجْبى إليهم في سعة، من جراء ما وضع الأولون من حماية للخارج، وتنظيم
للداخل، فنعِموا وأسرفوا في النعيم، وكان من وقتهم متسع لذلك كله!
كان يمثل هذه الأدوار تمامًا الخلفاء العباسيون، وتاريخهم شاهد على ما نقول؛ فأبو
العباس السفاح (أولهم) كان يؤثر الجد والعلم على ضرب اللهو، يقول: «إنما العجب ممن
يترك أن يزداد علمًا، ويختار أن يزداد جهلًا! فقال له أبو بكر الهذَلي: ما تأويل
هذا الكلام يا أمير المؤمنين؟ قال يترك مجالسة مثلك وأمثال أصحابك، ويدخل إلى امرأة
أو جارية، فلا يزال يسمع سخفًا، ويروي نقصا!». ولما تزوج أم سلمة حلف لها ألا يتزوج
عليها ولا يتسرى، وحاول بعض المقربين إليه في خلافته أن يوسوس إليه، ويثير مَلاذّه
وشهواته بذكر الجواري وأنواعهن فلم يفلح.
٥ وكانت حياته حياة سفك للدماء،
٦ وقضاء على المعارضين.
ووليه المنصور، وهو رجل الدولة العباسية ومؤسس بنيانها، الذي قضى على أعدائه
وأعدائها من أهل بيته، ومن غيرهم؛ فلم يكن له في اللهو مجال. روى الطبري عن يحيى بن
سليم قال: «لم ير في دار المنصور لهو قط، ولا شيء يشبه اللهو واللعب والعبث إلا
يومًا واحدًا، فإنا رأينا ابنًا له يُقال له عبد العزيز (توفي وهو حدث) قد خرج على
الناس متنكبًا قوسًا متعممًا بعمامة، مترديًا برداء في هيئة غلام أعرابي، راكبًا
على قعود، بين جوالَقين فيهما مقل ونعال، ومساويك، وما يهديه الأعراب، فعجب الناس
من ذلك وأنكروه، فعبر الغلام الجسر، وأتى المهدي بالرصافة فأهدى إليه ذلك، فقبل
المهدي ما في الجوالقين وملأهما دراهم،. وانصرف الغلام، فعلِم أنه ضرب من عبث
الملوك.»
٧ وترى من هذا أن الناس أنكروا العمل على بساطته ولطافته؛ لأنهم لم
يألفوا شيئًا من اللهو. وسمع المنصور جَلبة في داره فقال: ما هذا؟ قالوا: خادم جلس
بين الجواري، وهو يضرب لهن بالطنبور، وهن يضحكن، فقام حتى أشرف عليهم فرآهم فلما
بصروا به تفرقوا، فأمر فضرب رأس الخادم بالطنبور حتى تكسر الطنبور، ثم أمر بالخادم
فبيع.
٨ وكان حازمًا لا لهو له، يشعر بالتبعة، ويضطلع بها، ولما سمع شعر َ طريف
بن تميم العنبري:
إنّ قناتي لَنَبْعٌ لا يُؤَيسها
غَمْزُ الثِّقَاف ولا دُهْنٌ ولا نَارُ
متى أُجِرْ خائفًا تأمَنْ مسَارِحُهُ
وإن أُخِفْ آمِنًا تَقْلَقْ به الدَّارُ
إن الأمورَ إذا أورَدْتَهَا صَدَرَتْ
إن الأمورَ لَهَا وِرْدٌ وَإِصْدَارُ
قال: أنا أحق ببيتيه منه، وأنا الذي وصف لا هو. وكانت ما تزال به بقية من بداوة،
وميل إلى البساطة؛ بلغه أن عبد الله بن مصعب بن الزبير قد اصطبح مع جارية تغنيه
بشعر له فيه غزل، وفيه استهتار، فقال المنصور: لكن الذي يعجبني أن يحدو بي الحادي
الليلة بشعر طريف العنبري؛ فهو آلف وأحرى أن يختاره أهل العقل. فدعا حاديًا يحدو
له، وألقى عليه شعرًا في الفخر بمكارم الأخلاق، فحداه به فقال المنصور: هذا والله
أحث على المروءة، وأشبه بأهل الأدب. ثم عاد الربيع، وقال: أعطه درهمًا. فقال: يا
أمير المؤمنين حدوت بِهشام بن عبد الملك فأمر لي بعشرين ألف درهم، وتأمر لي أنت
بدرهم! فقال: إنا لله، ذكرت ما لم نحب أن تذكره؛ وصفتَ رجلًا ظالمًا أخذ مال الله
من غير حله، وأنفقه في غير حقه، يا ربيع اشدد يديك به حتى يرد المال. فما زال
الحادي يبكي ويتشفع حتى كف عنه.
٩
وهو كذلك لا يحب الشراب، ولا يشْرب على مائِدته شراب، ولما قدم بختيشوع الطبيب
عليه أمر المنصور بطعام يتغذى به، فلما وضعت المائدة بين يديه طلب شرابًا؛ فقيل له:
لا يُشرب على مائدة أمير المؤمنين. فقال: لا آكل طعاما ليس معه شراب. فأخبر المنصور
بذلك فقال: دعوه.
١٠
ثم هو لا يسرف في عطاء لِحادٍ ولا لشاعر ولا لمادح، ويؤنِّب أولاده إذا أسرفوا في
العطاء، ولا يتعالى في ثوب يلبسه، ولا مائدة تمد إليه، إنما هو مقتصد في كل ضروب
الحياة، مقتصد حتى فيما أحل الله، وربما غلا في الا قتصاد غُلُوَّ من بعده في
الإسراف. لقد زعموا: أن أمه المغربية لما حملت به رأت أنها وضعت أسدًا سجدت له
الأُسد، والحق أنه لولا أن له همة أسد يعاف الصغائر، ولا يشغله لهو عن تدبير، ما
استطاع أن يؤسس هذه المملكة، ويخلفها لمن أتى بعده مضبوطة محكمة، لا تحتاج منه إلا
أن يحفظ ما ورث.
أسلم المنصور البلاد، وهي وحدة لم يشذ عنها إلا الأندلس، وهي هادئة مطمئنة لا
تؤذن بفتن ذات بال، والخزائن مملوءة بالمال، والعرب من سكان المملكة آخذون في
الانكماش، قد ضعف سلطانهم ونفوذهم، والموالي يطاردونهم ليحصروهم في جزيرة العرب،
بدوا كما كانوا في الجاهلية، ويحلون محل العادات العربية عادات فارسية، ومحل
البساطة في العيش العربي التعقد في العيش الحضري. وعلى الجملة فقد طرأ دور آخر يجد
فيه الخليفة والناس على أثره وقتًا للفراغ والجدة، ومصدرًا خِصبًا للترف والنعيم.
أخذ الناس يشعرون بعد موت المنصور بشيء من الراحة، وقد أجهدوا أنفسهم في عهده بما
يتطلبه تأسيس دولة من مشقة، وتذليل صعوبات جمة، وملّوا الإفراط في الجد والاقتصاد
اللذين اتصف بهما المنصور، وتطلعوا لحياة فيها سعة في المال، وطرف من النعيم؛
فوجدوا ذلك في الخليفة «المهدي». وفي الحق إن السنوات العشر التي حكمها كانت جسرًا
بين حياة الجد والجفاف، والعمل في عصر المنصور، وحياة الترف والنعيم في عصر الرشيد
ومن بعده.
كان المهدي سخيًّا كريمًا؛ فتنفس الناس من شُح المنصور. لقد خلف المنصور أربعة
عشر مليون دينار، وستمائة مليون درهم،
١١ ففرقها المهدي في الناس، سِوى ما جُبِيَ في أيامه. وكثرة المال في كل
جيل وفي كل عصر داعية الترف والنعيم، واللهو واللعب، ومن ثم أخذ الناس يقدرون فضيلة
الكرم تقديرًا أعلى مما كانوا يقدرونه في عصر المنصور، وأخذوا يذمون البخل ذمًّا
شنيعًا، ويقصون عن البخلاء قصصًا فكهة لاذعة، ربما كان من آثارها وضع الجاحظ لكتاب
«البخلاء».
اجتمع في المهدي حب للفنون الجميلة، وميل شديد إلى الكرم؛ فجرى الناس على أثره،
وأنفقوا الأموال على الفنانين فرقي الفن، وبدأ ينتشر بين طبقات الشعب. أخذ المهدي
يجلس للمغنين، ويسمع غناءهم بعد أن كان أبوه المنصور يستلذ الحِداء، فيحدثنا
«الأغاني» «أن المهدي كان يسمع المغنين جميعًا، ويحضرون مجلسه فيغنونه من وراء
الستارة لا يرون له وجهًا»، إلا فليح بن أبي العوراء «فقد سأله في بيتين أن ينادمه
فأحضره مجلسه بين أهله ومواليه، فكان فليح أولَ من عاين وجهه في مجلسهم.»
١٢ ويقول صاحب كتاب أخلاق الملوك: «كان المهدي في أول أمره يحتجب عن
الندماء متشبهًا بالمنصور نحوًا من سنة، ثم ظهر لهم فأشار عليهم «أبو عون» بأن
يحتجب عنهم، فقال «المهدي»: إليك عني يا جاهل إنما اللذة في مشاهدة السرور، وفي
الدنو ممن سرني، فأما من وراء وراء فما خيرها ولذتها؟»
١٣ وأثاب على ذلك الأمور الكثيرة، على عكس أبيه؛ «فقد كان المنصور لا يثيب
أحدًا من ندمائه وغيرهم درهمًا، فيكون له رسمًا في ديوان، ولم يُقطِع أحدًا ممن كان
يضاف إلى ملهية أو ضحك أو هزل موضع قدم من الأرض. أما المهدي فكان كثير العطايا
يواترها، قلّ من حضره إلا أغناه.»
١٤ وحسبك بالمهدي أنه تخرج في قصره ولداه زينة الدنيا، وبهجة عصرهما في
الظرف والغناء: إبراهيم بن المهدي وعلية بنت المهدي.
وكان كذلك يحب القيان، ويحب الحديث عن النساء في غير دعارة، ذكر الجاحظ: «أن
المهدي كان يحب القيان وسماع الغناء، وكان معجبًا بجارية يقال لها «جوهر»، كان
اشتراها من مروان الشامي، وله فيها شعر.»
١٥
وقد اتفق صاحب الأغاني والطبري على أنه لم يكن يشرب النبيذ، ولكنه في هذا أيضًا
خطا خطوة أخرى وراء أبي جعفر؛ فقد رأينا المنصور لا يشربه، ولا يسمح لأحد أن يشربه
على مائدته. أما المهدي فيذكر الطبري أنه ما كان يشربه، ولكن لا تحرجًا، بل كان لا
يشتهيه، وكان أصحابه يشربون عنده بحيث يراهم، وكان وزيره يعقوب بن داود يعظه في
ذلك، ويلح عليه في حسمه عن السماع، وإسقائه النبيذ، ويهدده بالتخلي عن منصبه،
والمهدي يحتج بأن عبد الله بن جعفر كان يسمع.
١٦
كذلك كان المهدي مْترًفا في ملبسه ومأكله، يحمل إليه الثلج إلى مكة وهو يحج! وكان
أول خليفة فعل ذلك.
والحق إن المهدي على ما يظهر كان معتدلًا في لهوه وترفه، ولكن ما كاد يرخِي للناس
العنان في هذا السبيل حتى استطابوه، وأفرط فيه المستهترون، ولم يقفوا عند حد. لم
يجرءوا في عهد المنصور أن يستهتروا لأنه ضرب لهم مثلًا من نفسه بالجد والحزم، فلما
رأوا المهدي يخطو خطوة جرواهم وقفزوا، وبلي الناس في عهده ببشار يبث فيهم غزله
المكشوف، ويفتنهم بشعره الداعر، ويملأ البلاد بالحث على المغازلة، حتى ضج الأشراف
إلى المهدي من شعره؛ مثل يزيد بن منصور خال المهدي، وطلبوا إليه أن يقف هذا التيار
لما خافوا على نسائهم وبناتهم، فتدخل المهدي حينئذ، ونهى بشارًا عن الغزل فيقول:
قد عشتُ بين الريحان والراح والـ
مِزهَر في ظِلّ مجلس حسن
وقد ملأتُ البلاد ما بين فُـ
غْفور إلى القيروان فاليمن
١٧
شعرًا تصلِّي له العَوَاتِقُ والثِّـ
يبُ صلاة الغُواةِ لِلوَثن
ثم نهاني المهديُّ فانصَرفتْ
نفسي صنيعَ الموفَّق اللَّقِنِ
فالحمد لله لا شريك له
ليس بباق شيء على الزمن
ومع هذا ظَلَّ في خبث يتغزل من طريق خفيٍّ، ويحتمي بنهي المهدي، فيقول:
يا مَنْظَرًا حسنًا رأيتُه
من وجه جارية فديْتُه
بعَثتْ إلي تسومُني
ثوبَ الشباب وقد طوَيْتُهْ
واللهِ ربِّ محمدٍ
ما إن غدَرْتُ ولا نَويْتُهْ
أمسكتُ عنه وربّما
عَرَضَ البلاءُ وما ابْتَغَيْتُهْ
إنَّ الخليفة قد أبى
وإذا أبى شيئًا أبَيْتُهْ
ونهاني الملِكُ الهُما
مُ عن النساء فما عصيْتُهْ
بل قد وَفَيتُ، ولم أُضع
عهدًا، ولا وَأيًا وأَيْتُهْ
١٨
وأنا المطِلّ على العِدى
وإذا غلا الحمدُ اشتريتُهْ
وأميلُ في أْنْس النديم
من الحياء وما اشتَهَيْتُه
ويشوقُني بيتُ الحبيب
إذا غدوْتُ وأيْنَ بَيْتُه
حالَ الخليفةُ دونه
فصبَرْت عنه وما قَلَيْتُه
ويقول:
دَفَنْتُ الهوى حَيًّا فلستُ بزائر
سُلَيْمى ولا صفراءَ ما قَرْقَرَ القُمْرِي
وتركت لمِهديّ الأنامِ وصالها
وراعيتُ عهدًا بيننا ليس بالخَتْر
١٩
ولولا أميرُ المؤمنين محمدٌ
لقبلت فاهًا أو لكان بها فِطْري
لَعَمْري لقد أوْقَرْتُ نفسي خطيئَة
فما أنا بالمُزْداد وقرًا على وَقْرِ
ثم يبلغ المهدي حسن صوت إبراهيم الموصلي فيقرّبه إليه، ويكون هو أول من يعلي
شأنه، ثم يعلم أن الموصلي يشرب ويستهتر فيريده على ملازمته، وترك الاستهتار، فلا
يستطيع الموصلي ذلك فيضربه ويحبسه. يقول إبراهيم الموصلي: إن المهدي دعاني يومًا
فعاتبني على شربي في منازل الناس، والتبذّل معهم فقلت: يا أمير المؤمنين إنما تعلمت
هذه الصناعة للذتي وعشرتي لإخواني، ولو أمكنني تركها لتركتها، وجميع ما أنا فيه لله
عز وجل. فغضب المهدي غضبًا شديدًا، وقال: لا تدخل على موسى وهارون ألبتَّة، فوالله
لئن دخلت عليهما لأفعلن ولأصنعن! فقلت: نعم. ثم بلغه أني دخلت عليهما، وشربت معهما،
وكانا مستهترين بالنبيذ فضربني ثلثمائة سوط ثم قيدني وحبسني.
٢٠
في الحقيقة إن المهدي فتح للناس باب اللهو، ورسم لهم حدا يقفون عنده فتخطوه،
وحاول أن يقفهم عند الحد الذي رسمه بإيقاع العقوبة على من تجاوزه فلم ينجح.
•••
انتقل الناس نقلة أخرى من حيث السرف في الترف في عهد الرشيد، ويرجع ذلك إلى
أسباب؛ منها ما كان من النشوء الطبيعي للأمة، فكان من انضباط أمورها ما زاد ثروتها،
ومكنها من أن تعيش عيشة ناعمة، فقد حكى ابن خلدون: أن دخل المملكة في عهد الرشيد
كان في كل سنة ٧٠١٥ قنطارًا.
٢١ والقنطار في حسابه عشرة آلاف دينار، فيكون مجموع ذلك سبعين مليون ومائة
وخمسين ألف دينار. وهي ميزانية ضخمة، تدلنا مهما بولغ فيها على غنى الدولة، وتمكنها
من حياة النعيم.
والسبب الثاني: عظم سلطان الفرس في عصره وعلى رأسهم البرامكة، والفرس من قديم
يعرفون بالميل إلى اللهو والسرور، والإفراط في حب النبيذ، وقد كانت الديانة
الزرادشتية تبيح شرب النبيذ بل تجعله من شعائرها، وما يزال النبيذ كما يقول الأستاذ
«براون» إلى اليوم ظاهرة قوية في الحياة اليومية للفرس الزرادشتية. كان الفرس
قديمًا يفرطون في شرب النبيذ، وكانوا يفرطون في سماع الغناء، وكانوا يفرطون في فنون
كثيرة من اللهو الطيب، واللهو الخبيث. فلما عاد سلطانهم في الدولة العباسية، وخاصة
في عهد الرشيد والمأمون نشروا مع نفوذهم حياة الأكاسرة، وما كان فيها من حضارة ولهو
وعبث؛ نقلوا جدهم من نظم سياسية ونحوها، ونقلوا لهوهم من نبيذ ومجالس غناء وغزل،
وما إلى ذلك.
وسبب ثالث: يرجع إلى طبيعة «الرشيد» نفسه وتربيته، فيظهر لي أنه كان شابًّا حاد
العاطفة، ولكن ليس من هذا النوع الذي يستسلم كل الاستسلام لشهواته، بل هو مع ذلك
قوي النفس، جندي بالغريزة وبالتربية، طالما قاد الجيوش وشرق وغرب، هذه الحدة في
العاطفة، وقوة النفس ونضارة الشباب أظهرته بمظاهر مختلفة، يوعظ فيتأثر بالموعظة إلى
أن يجهش بالبكاء، ويسمع الغناء فيطرب له كلّ الطرب، يسمع إبراهيم الموصلي يغني،
وبرصومًا يزمر، وزلْزلا يضرب الدف، فيدعوه الطرب أن يتكلم بكلمة فيها شيء من التورع
الديني، يقول: يا آدم لو رأيت من يحضرني من ولدك اليوم لسرك. ثم يندم على قولته
فيستغفر الله.
٢٢ نمت عنده العاطفة الدينية، ونمت بجانبها أيضًا عاطفة الفنون؛ فهو يصلي،
ويكثر من الصلاة، وهو يسمع الغناء فيستجيده، والشعر فيطرب له، تتجه عواطفه إلى جهات
مختلفة فيصل فيها إلى نهايتها، يسمع قول أبي العتاهية:
خانكَ الطرفُ الطموحُ
أيها القلب الجَمُوحُ
لِدَوَاعِي الخير والشّرِّ
دُنُوٌّ ونزوحُ
هل لمطلوبٍ بذنْبٍ
تَوْبَةٌ منهُ نَصُوحُ؟
كيف إصلاحُ قلوبٍ
إنما هنّ قُروح!
أحسَنَ الله بنا أنَّ
الخطايا لا تفُوحُ
سيصير المرء يومًا
جَسَدًا ما فيه رُوحُ
بين عَيْنَيْ كلِّ حَيٍّ
عَلَمُ الموتِ يلوحُ
كلُّنا في غفلَةٍ والـ
موْتٍ يغدو ويروح
لِبَنِي الدنيا من الدْنـ
يا غَبُوقٌ وصَبُوحُ
رُحْنَ في الوَشي وأصْـ
بَحْنَ عليهنَّ المُسُوحُ
كلُّ نَطّاح — من الدهـ
ر — له يومٌ نَطُوحُ
ُنُحْ عى نَفْسك يا مِسْـ
كينُ إن كنتَ تنوحُ
لتموتَنَّ وإن عُمّـ
رْتَ ما عُمّر نوحُ!
فيبكي وينتحب
٢٣ ويرضى عن البرامكة فيعجب بهم كل الإعجاب، ويقربهم كل القرب، ثم يغضب
عليهم ويستفز الحساد عواطَفه عليهم، فيَنكِل بهم كل التنكيل، ويعجبه الغناء فيقرب
إبراهيم الموصلي تقريبه للعلماء والقضاة، ولا يسأل عن مال ينفقه متى استطاع
المغنِّي أو الشاعر أن يصل إلى موضع يثير منه إعجابه. تعجبني جملة لصاحب الأغاني
يصف بها الرشيد، تمثِّل خير تمثيل قوة عاطفته؛ إذ يقول: «كان الرشيد من أغزر الناس
دموعًا في وقت الموعظة، وأشدهم عسفًا في وقت الغضب والغلظة.»
٢٤ من أجل ذلك لا عجب أن تراه متدينًا شديد التدين، يصلي في اليوم مائة
ركعة، وأن تراه حينًا غضوبا يسفك الدم لشيء لا يستحق سفك دم، وطروبًا يملك الطرب
عليه نفسه ومشاعره، وهذه صفات من السهل أن تتصور اجتماعها في شخص واحد.
تقرأ كتاب الأغاني فتخرج منه في كثير من الأحيان على صورة للرشيد يخيل إليك معها
أنه عاكف على اللهو والطرب، لا عمل له إلا أن يسمع الغناء، ويخالط الندماء، ويثيب
الشعراء، وله العذر في ذلك؛ لأنه لم يؤلف كتابه تاريخًا يصف فيه أعمال الخلفاء
المختلفة، ويقومهم بما أَتوا من حسنات وسيئات، إنما ألف كتابه في الغناء، فمن
الطبيعي أن يقصِر قوله على هذا الضرب وما إليه، كما تقصِر كتب طبقات النحاة
واللغويين كلامها على العلماء من الناحية النحوية واللغوية، وإذا كان هناك خطأ فمن
ناحية من يفهم أن الغناء وحده يمثل حياة الرجل المختلفة النزعات.
وتقرأ ابن خلدون فيقصر تصويره على الناحية الجدية والدينية، ويذهب إلى أن الرشيد
لم يكن يعاقر الخمر لأنه كان يصحب العلماء والأولياء، ويحافظ على الصلوات
والعبادات، ويصلي الصبح في وقته، ويغزو عامًا ويحج عامًا، ويستدل أيضًا بأنه كان من
العلم والسذاجة بمكان، لقرب عهده من سلفه، ولم يكن بينه وبين جده أبي جعفر بعِيد
زمن «إنما كان الرشيد يشرب نبيذ التمر على مذهب أهل العراق، وفتاويهم فيها معروفة،
وأما الخمر الصرف فلا سبيل إلى اتهامه بها، ولا تقليد الأخبار الواهية فيها، فلم
يكن الرجل بحيث يواقع محرمًا من أكبر الكبائر عند أهل الملة، ولقد كان أولئك القوم
كلهم بمنجاة من ارتكاب السرف والترف في ملابسهم وزينتهم، وسائر متناولاتهم؛ لما
كانوا عليه من خشونة البداوة، وسذاجة الدين التي لم يفارقوها.»
٢٥
ونحن مع اتفاقنا في الرأي مع ابن خلدون في أن الرشيد لم يشرب الخمر، إنما المعروف
عنه أنه شرب النبيذ، فلسنا نتفق معه على ما يستخلص من قوله من أنه كان بمنجاة من
السرف والترف، وأنه كان يعيش عيشة ساذجة، وأنه لم يواقع محرمًا، فهذا أيضًا إفراط
في التقديس لا تدل عليه سيرة الرشيد، خصوصًا وأن أدلته في هذا النوع أدلة خطابية؛
فقرب عهده من المنصور لا يستوجب أن يعيش عيشته، وقد صرح هو مرارًا بأن الترف
والنعيم في عصر الرشيد كان أكثر منه في عصر المنصور، ولو كان قرب العهد يكفي في
الاستدلال لما رأينا الأمين (وهو قريب العهد من الرشيد) يسير سيرته.
والعجب أنه عقد فصولًا طويلة يتعرض فيها لوصف الحضارة والنعيم والترف في أيام
الرشيد والمأمون، وتفننهم في المطعم والمشرب والملبس، وهو هو الذي وافق «المسعودي»
و«الطبري»، على ما حكياه في إعراس المأمون ببوران بنت الحسن، وأن المأمون أعطاها في
مهرها ليلة زفافها ألف حصاة من الياقوت، وأوقد شموع العنبر في كل واحدة مائة
مَنٍّ
٢٦ وبسط لها فرشًا كان الحصير منها منسوجًا بالذهب، مكللًا بالدر والياقوت
… إلخ.
٢٧
هل هذا ليس سرفًا في الترف؟ وهل قرب عهد المأمون من الرشيد كقرب عهد الرشيد من
المنصور جعلت الناس يعيشون عيشة السذاجة كما يقول؟
الحق إن ابن خلدون مخطئ في وصفه عصر الرشيد بالسذاجة، وأنه وقومه كانوا بمنجاة من
السرف والترف، والحق أيضًا أن ابن خلدون صور جانبًا صحيحًا من جوانب الرشيد في
صلاته وتقواه، ولكن لم يكن هذا كلَّ جوانبه، فله جانب هو الذي وصفه الأغاني، وإن
عذرنا الأغاني لما بينَّا فلسنا نعذر ابن خلدون، وهو مؤرخ عليه أن يذكر نواحي الرجل
المختلفة!
وكأن ابن خلدون فهم أن الذي يصلي مائة ركعة، ويجالس الفضيل بن عياض لا يتأتى منه
أن يجلس مجالس لهو يسمع فيها الغناء، يظهر فيها مظاهر الترف على أتم وجوهها. إن كان
فهم ذلك كان خطأ، والطبيعة الإنسانية لا تأباه.
وفي رأينا أن الرشيد كان يجد فيمعن في الجد، ثم يلهو فيمعن في اللهو خضوعًا لحدة
العاطفة مع الميول المختلفة.
قال أبو البخترِي وهب بن وهب القاضي: كنت عند الرشيد يومًا واستدعى ماء مبردًا
بالثلج، فلم يوجد في الخزانة ثلج، فاعتذر إليه بذلك، وأحضر إليه ماء غير مثلوج،
فضرب وجه الغلام بالكوز، واستشاط غضبًا. فقلت له: أقول يا أمير المؤمنين وأنا آمن؟
فقال: قل، قلت: يا أمير المؤمنين قد رأيت ما كان من الغِير بالأمس (يعني زوال دولة
بني أمية)، والدنيا غِيَر دائمة ولا موثوق بها، والحزم ألا تعود نفسك الترفه
والنعمة، بل تأكل اللين والجَشَب، وتلبس الناعم والخشن، وتشرب الحار والقار. فنفحني
بيده، وقال: لا والله لا أذهب إلى ما تذهب إليه؛ بل ألبس النعمة ما لبستني فإذا
نابتني نوبة الدهر عدت إلى نصابي غير خوار.
٢٨
•••
جاء الأمين فزاد في اللهو نغمة بل نغمات. ومها قال محققو المؤرخين من أن كثيرًا
من الأخبار وضعت في عهد المأمون لتشويه سمعة الأمين، والحط من شأنه، وتبرير ما فعل
به، فإن ميله إلى الإفراط في اللهو والشراب والغلمان مما لا يسهل إنكاره.
روى الطبري قال: لما ملك محمد (الأمين) طلب الخصيان، وابتاعهم وغالى بهم، وصيرهم
لخلوته في ليله ونهاره، وقِوام طعامه وشرابه، وأمرِه ونهيه ورفض النساء الحرائر
والإماء، حتى رمي بهم،
٢٩ ففي ذلك يقول بعضهم:
لهم من عُمره شَطْرٌ، وشَطْرٌ
يُعاقرُ فيه شربَ الخَنْدريسِ
وما للغانيات لديه حظٌّ
سوى التَّقطِيب بالوجه العَبُوس!
إذا كان الرئيسُ كذا سقيمًا
فكيف صلاحُنَا بعد الرئيس؟
فلو عَلِمَ المُقِيمُ بدار طُوسٍ
لعزَّ على المقيم بدار طوس
٣٠
وروى أيضًا: أنه لما ملك وجه إلى جميع البلدان في طلب المْلهِين، وضمهم إليه،
وأجرى لهم الأرزاق، ونافس في ابتياع فرهِ الدواب، وأَحَدّ الوحوش والسباع والطير،
وغير ذلك. واحتجب عن إخوته وأهل بيته وقواده، واستخفَّ بهم، وقسم ما في بيوت
الأموال، وما بحضرته من الجواهر في خصيانه وجلسائه ومحدثيه، وأمر ببناء مجالس
لمتَنزهاته، ومواضع خلوته ولهوه ولعبه، وأمر بعمل خمس حرّاقات في دجلة على خلقة
الأسد والفيل والعقاب والحية والفَرَس، وأنفق في عملها مالًا عظيمًا وفيها قال أبو
نواس مدائحه.
٣١ ويصفه وزيره الفضل بن الربيع فيقول: «ينام نوم الظَّرِبانِ،
٣٢ ولا يفكر في زوال نعمة، ولا يروي في إمضاء رأي ولا مكيدة، قد ألهاه
كأسه، وشغله قدحه، فهو يجري في لهوه، والأيام تضرع في هلاكه، قد شمر عبد الله
(المأمون) له عن ساقه، وفوق له أَصيب أسهمه، يرميه على بعد الدار بالحنْفِ النافذ،
والموت القاصد، قد عبى له المنايا على متون الخيل، وناط له البلاء في أسنة الرماح،
وشِفَارِ السيوف».
٣٣
جاء المأمون بعد الأمين، ولكن لم تكن شهوات المأمون وملاهيه كشهوات الأمين
وملاهيه. لهو الأمين لهو شاب غِر رأى سلطانًا ومالًا، وليس له عقل ناضج، فأنفق كل
وقته في إرواء شهوته. وأما المأمون فرجل حنكته التجارب، وعلمه (ما قاسى من الأهوال
في الحروب وما تحتاج المملكة من خلق جديد) الحزم والبصر بالأمور، ثم كان له ملاذ
عقلية تشغلُ وقَته، فهو يحب الكتب ويحب الفلسفة، ويحب الجدلَ في المسائل الدينية
والفقهية، وحوله العلماء من كل نوع يباحثهم ويجادلهم، وهو مع ذلك يلهو لهوًا خفيفًا
فيشرب النبيذ،
٣٤ ويقيم بعد قدومه بغداد عشرين شهرًا لا يسمع ثم يسمع،
٣٥ وكان يزين مجلسه ويغنيه إسحاق الموصلي، كما كان أبوه إبراهيم الموصلي
يزين مجلس أبيه الرشيد، قربه المأمون وأعلى شأنه، وكذلك قرب إليه عمه إبراهيم بن
المهدي وكان مبدعًا في غنائه.
وكان الناس قد تجرعوا غصص البؤس أيام الفتن بين الأمين والمأمون، وخربت بغداد،
وعم البؤس والشقاء فما عادت السكينة حتى شعروا أنهم في حاجة أن يعوضوا ما فقدوا،
فلهوا وأفرطوا.
هذه ناحية من نواحي القصور شرحناها لِما كان لها من أثر كبير في الفن والأدب.
ولها نواحٍ أخرى مختلفة؛ فناحية سياسية ليست تهمنا في موضوعنا، وناحية علمية من
تشجيع للعلم، وإنفاق للمال في سبيله، وعقد مجالس للجدل والمناظرات، وبذل الجهد في
تحصيل الكتب، وإنشاء دورها والعمل على ترجمتها، وكان من أعظم الخلفاء أثرًا في ذلك
المنصور والرشيد والمأمون، وهذه الناحية سنوضحها عند الكلام في الحركة العلمية.
•••
وإذ كثر القول في الشراب، وروينا ما قال ابن خلدون من أن بعض الخلفاء كانوا
يشربون النبيذ لا الخمر، وشاع أن فقهاء العراق يرون حِلَّ النبيذ، وكان لهذا القول
أثر في الأدب؛ كان لا بد لنا من كلمة في الشراب.
كثر الشراب عند العرب، وتعددت أنواعه، وقد كانوا يأخذون عمن جاورهم من الأمم
الأخرى أنواعًا من الشراب، وألوانًا من عاداته؛ فقد أخذ أهل الشام عن الروم نوعًا
من الخمر ممزوجًا بالعسل، ونقلوا اسمه الرومي (وهو «الرساطون
Rosatun»)، ولم يكن يعرفه عرب الحجاز،
٣٦ كما أخذ بعض الأمويين عن الفرس شرابًا اسمه «الهفنجة»، كانوا يشربونه
سبعة أسابيع في بعض منازل القمر، فشربه الوليد بن يزيد كذلك.
٣٧
وهكذا كان للأمم أشربة وعادات في الشراب أخذت تتسرب إلى المسلمين، فلما جاء
العباسيون تفننوا في أنواعه، وفي مجالسه والمنادمة عليه.
وقف الإسلام يحارب الخمر، ويحرم السكر، ونزلت الآية: يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنصَابُ
وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ
تُفْلِحُونَ * إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ
بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ
وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ الله وَعَنِ الصَّلَاةِ ۖ فَهَلْ أَنتُم
مُّنتَهُونَ.
ومع هذا فنرى أن أسئلة أثيرت حول هذه الآية الكريمة: ما المراد بالخمر؛ أهي عصير
العنب وحده، أم كل مسكر خمر؟ وما هو القدر المحرم؟ أكلّ نوع مما يسكر كثيره فقليله
حرام، أم بعض الأنواع يحل قليله؟ وظهرت في عالم الفقه مسألة النبيذ هل يحل أو لا
يحل، وما القدر الذي يحل؟ وظهر هذا الخلاف من عهد الصحابة فمن بعدهم، ورأينا عمر بن
عبد العزيز في العهد الأموي يشعر بخطر هذا الخلاف في النبيذ وضرره، فيصدر كتابًا
إلى الأمصار يحرم فيه النبيذ،
٣٨ إلى أن كان عصر الأئمة فكان بينهم الخلاف السابق، فذهب الأئمة الثلاثة
مالك والشافعي وأحمد بن حنبل إلى سد الباب بتاتًا، ففسروا الخمر في الآية السابقة
بما يشمل جميع الأنبذة المسكرة من نبيذ التمر والزبيب والشعير والذرة والعسل
وغيرها، وقالوا: كلها تسمى خمرًا، وكلها محرمة. أما الإمام أبو حنيفة ففسر الخمر في
الآية بعصير العنب مستندًا إلى المعنى اللغوي لكلمة الخمر، وأحاديث أخرى، وأداه
اجتهاده إلى تحليل بعض أنواع من الأنبذة كنبيذ التمر والزبيب إن طبخ أدنى طبخ،
وشُرب منه قدر لا يسكِر، وكنوع يسمى «الخليطين»، وهو أن يأخذ قَدرًا من تمر ومثله
من زبيب فيضعهما في إناء ثم يصب عليهما الماء ويتركهما زمنًا، وكذلك نبيذ العسل
والتين، والبر والعسل.
٣٩ ويظهر أن الإمام أبا حنيفة في هذا كان يتبع الصحابي الجليل عبد الله بن
مسعود؛ فقد علمت من قبل
٤٠ أن ابن مسعود كان إمام مدرسة العراق، وعلمت مقدار الارتباط بين فقه أبي
حنيفة وابن مسعود، ودليلنا على ذلك: ما رواه صاحب العقد عن ابن مسعود من أنه: كان
يرى حل النبيذ، حتى كثرت الروايات عنه، وشهرت وأذيعت واتبعه عامة التابعين من
الكوفيين، وجعلوه أعظم حججهم، وقال في ذلك شاعرهم:
مَنْ ذَا يُحَرّمُ ماء المُزْن خالَطَهُ
في جَوْفِ خابية ماءُ العناقيد؟
إني لأكرَهُ تشديدَ الرواة لنا
فيه، ويُعجبُني قول ابن مسعود
٤١
على كل حال كان هناك جدال شديد بين الفقهاء في النبيذ كالذي كان بينهم في الغناء؛
فابن أبي ليلى يحرم النبيذ ويجادل فيه أبا حنيفة، وأبو حنيفة يرد عليه، وعبد الله
بن إدريس كان الوحيد بين فقهاء الكوفة يحرم النبيذ فيرد عليهم ويردون عليه …
إلخ
٤٢ ولما كان كثير من فقهاء العراق يرون حل النبيذ اشتهر العراقيون بحل
النبيذ؛ فقال شاعرهم:
رأيهُ في السَّماع رأيٌ حجازيٌ
وفي الشّراب رأيُ أهلِ العراق
٤٣
وانتقل هذا الجدل إلى الأدباء والشعراء، وأخذوا يتلاعبون بهذه الآراء، فقال
بعضهم: «أباح أهل الحرمين الغناء وحرموا النبيذ، وأباح أهل العراق النبيذ وحرموا
الغناء فأوجدونا في الرخصة فيهما عند اختلافهما إلى أن يقع الاتفاق».
٤٤ وقال ابن الرومي:
أبَاحَ العِراقِيُّ النبيذَ وشُربَه
وقال: حرامان المُدَامَةُ والسُّكْرُ
وقال الحِجَازِيُّ: الشّرابان واحدٌ
فحَلَّ لنا من بين قولَيهما الخمر
سآخُذ من قَوْلَيْهما طرفَيهما
وأشرَبُها لا فارقَ الوازِرَ الوزرُ
٤٥
وعلى الجملة فإن كثيرًا اتخذوا هذه الآراء تكئة يصلون بها إلى أغراضهم، ولم تكن
هي الباعث على شربهم؛ فإنهم لم يقفوا عند النوع الذي حللوه، ولا القدرِ الذي
أباحوه، فليس من فقيه أباح أي نوع من النبيذ إلى حد الإسكار، ولكنها خلاعة الأدباء،
وتظرف الشعراء.
أما أبو نواس وشيعته فلم يركنوا إلى هذا الضرب من الحيل بل جاهروا بها مع الإقرار
بتحريمها، وقال زعيمهم (أبو نواس):
فإن قالوا حرامُ قل حرامٌ
ولكنّ اللّذائذَ في الحرام
وقال:
ألا فاسْقِني خَمْرًا، وقل لي هي الخمرُ
ولا تسقني سرًّا إذا أمكن الجهر
•••
قلد الأغنياء والخاصة قصور الخلفاء، وعاشوا عيشة بذخ وَترف، بل زادوا في لهوهم،
لما تقتضيه طبيعة مجالس الخلفاء من حشمة ووقار لا يلتزمها غيرهم من الأغنياء.
فقد كثر أولاد الخلفاء وأقاربهم، وأُحصِي ولَد العباس من رجال ونساء وصغار وكبار،
فكان عددهم أيام المأمون ثلاثة وثلاثين ألًفًا،
٤٦ وكانوا ممتازين في رقتهم وجمالهم: «كان يقال: انتهى جمال ولد الخلافة
إلى أولاد الرشيد، ومن أولاد الرشيد إلى محمد وأبي عيسى، وكان أبو عيسى إذا عزم على
الركوب جلس الناس له حتى يروه أكثر مما يجلسون للخلفاء.»
٤٧ وقد أولع كثير من أفراد هذا البيت بالغناء والفنون الجميلة؛ فعَلية بنت
المهدي كانت «من أحسن الناس وأظرفهم، تقول الشعر الجيد، وتصوغ فيه الألحان
والإيقاعات، وأطبعِهم في الغناء، وأحسنهم صوتًا.»
٤٨ ثم أبو عيسى بن هارون الرشيد المشهور (كما أسلفنا) بجماله: «كان أحسن
الناس وجهًا ومجالسة وعشرة، وأمجنهم وأحدهم نادرة وأشدهم عبثًا»
٤٩ وسبب موته: أنه كان يحب صيد الخنازير، فوقع عن دابَته فلم يسلم
دماغه.»
٥٠
وتبعهم في ذلك أولاد الخاصة؛ فقد كان حفيد الفضل بن الربيع (وزيرِ الرشيد)، وهو
عبد الله بن العباس بن الفضل بن الربيع مغنيًّا ماهرًا، وماجنًا مستهترًا
٥١ يصطبح في حدائق النرجس، ويعيش عيشة لهو وخلاعة. وأمثالهم كثيرون يطول
ذكرهم. وسرت العدوى من أولاد الأغنياء إلى الطبقة الوسطى؛ فكانوا يحتذون حذوهم،
ويسيرون على منهاجهم.
تفننوا في فن العمارة، وأجادوا تشييد القصور، ووصفها ابن الجهم فقال:
صُحُونٌ تسافرُ فيها العيونُ
وتَحْسِر عن بُعْدِ أقطارها
وقبةُ مُلكٍ كأنَّ النُّجُو
مَ تُصْغِي إليها بأسرارها
وفَوَّارَهٌ ثأرُها في السماء
فليست تُقَصِّر عن ثأرِها
إذا أُوقِدَتْ نارُها بالعراق
أضاء الحِجازَ سَنَا نَارِها
تَرُدُّ على المزن ما أْنْزَلتْ
على الأرضِ من صَوْب أقطارها
لها شُرُفاتٌ كأنّ الربيع
كساها الرياضَ بأنوارها
ويصف أحدهم شيئًا من قصر الواثق فيقول: «لم يزل الخدم يسلمونني من خدم إلى خدم،
حتى أفضيت إلى دار مفروشة الصحن، ملبسة الحيطان بالوشي المنسوج بالذهب، ثم أفضيت
إلى رواق أرضه وحيطانه ملبسة بمثل ذلك، وإذا الواثق في صدره، على سرير مرصع
بالجوهر، وعليه ثياب منسوجة بالذهب، وإلى جانبه «فريدة» جاريته، عليها مثلُ ثيابه،
وفي حجرها عود.» إلخ.
٥٢
وبالغوا في الموائد وتنسيقها، وألوان طعومها، فوصف العماني الشاعر ما أكل على
مائدة محمد بن سليمان بن علي، فقال:
جاءوا بِفُرْنيٍّ لهُمْ مَلْبُونِ
باتَ يُسَقّى خَالِصَ السُّمُون
٥٣
مُصَوْمَعٍ أكْوَمَ ذِي غُضون
قدْ حُشِيَتْ بالسُّكَّرِ المَطْحُون
ولوَّنوا مَا شِئْتَ مِنْ تَلْوينِ
مِنْ بارِدِ الطَّعامِ والسَّخِينِ
ومن شَراسِيفَ ومن طُرْدِين
ومن هُلامٍ ومَصيصٍ جونِ
٥٤
ومن أوزٍّ فائقٍ سَمِينِ
ومن دَجاج فتَّ بالعَجينِ
فالشحمُ في الظُّهور والبُطونِ
وأْتْبعَوا ذَلِكَ بالجَوْزِينِ
وبِالخَبِيصِ الرَّطْبِ والّلوزين
وَفكَّهُوا بِعَِنَبٍ وَتِينِ
والرُّطَب الأزاذِ والهَيْرُونِ
٥٥
ويقول أبو العتاهية: دعيتُ إلى بيت مخارق (أحد المغنين) فجئته، فأدخلني بيتًا
نظيفًا فيه فرش نظيف، ثم دعا بمائدة عليها خبز سمِيذ، وخل وبقل وملح، وجدي مشوي
فأكلنا منه، ثم دعا بسمك مشوي فأصبنا منه حتى اكتفينا، ثم دعا بحلواء فأصبنا منها
وغسلنا أيدينا وجاءونا بفاكهة وريحان، وألوان
٥٦ من الأنبذة فقال: اختر ما يصلح لك منها، فاخترت وشربت.»
٥٧ وكان ذلك قبل أن يتزهد.
وقل ما شئت في مجالس اللهو والشراب، وما كان يجري فيها من خلاعة ومجون امتلأ
بوصفها كتاب الأغاني، ودواوين الشعراء مثل بشار، وأبى نواس، ومسلم بن
الوليد.
٥٨
أولعوا بالغناء وتفنّنوا فيه، وأبدعوا في مجالسه من ملَحٍ وتنادر وشراب، وغير
ذلك، وذهبوا فيه مذهبين جديد وقديم، وتعصب كلُّ فريق لمذهب.
٥٩
ولعبوا بالنرد والشِّطرنج وغلوا فيهما
٦٠ وعنُوا بتربية الحمام، وتغالوا في أثمانه،
٦١ وتهارشوا بالديوك والكلاب،
٦٢ ولِعب أبو نواس بالكلاب زمانًا حتى عرف منها ما لا تعرفه
الأعراب،
٦٣ وانتشر القمار حتى في حانات الفقراء
٦٤ وأولعوا بالنقش والتصوير فكثر رسم الصور على الكأس كما في شعر بشار
وأبى نواس، ورثى أبو الشبل مسرجة له مصورة تصويرًا بديعًا كسرها كبش له،
٦٥ وأغربوا في الهدايا يوم النيروز يبدعون فيها نقشًا وتصويرًا. ورقصوا
فكان إسحاق بن إبراهيم الموصلي يجيد الرقص، واشتهر في عصره بالرقص جماعة.
٦٦ وأحبوا البساتين وأكثروا الخروج إليها، والأزهار يزينون بها موائدهم،
ويتغزلون في لونها وعبيقها،
٦٧ إلى كثير من أمثال ذلك.
كثر النعيم، وكثر العنصر الفارسي العريق في المدينة، الممعِن في الترف، وكثر
الجواري يجَلبن من الأصقاع المختلفة، وكثر الجمال وسَفر؛ إذ لم تكن عامة الإماء
يُطالَبن بحجاب، فقويت النزعة إلى اللهو والخلاعة والمجون التي وصفنا، وشعر قوم من
الشعراء بهذه النزعة من الناس أمثال بشار وصريع الغواني وأبي نواس، فقادوا زمامها
وألهبوها، وسهلوا السبيل لها.
إن سكر القوم شعروا بالحاجة إلى أبيات من الشعر تُروِي عاطفتهم، وتزين لهم عملهم،
وتحملهم على المضي في شربهم؛ رأوا في شعر هؤلاء إرواء لغلتهم، وإن تشببوا في فتاة
أو غير فتاة فشِعر الشعراء كفيل أن يجدوا فيه بغيتهم في صريحِ من القول غير كناية،
وبشار يخصص يومين في الأسبوع للمتطرفات من النساء يأخذن عنه شعره الماجن، وينشرنه
في الناس.
فلا عجب إن رأينا الحياة لاهية لاعبة، ورأينا شعر الشعراء في ذلك العصر إلا
القليل منهم داعرًا فاجرًا.
وهنا ظاهرة واضحة، وهو أن هذا العراق الذي كان في العصر الأموي جادًّا إذا قيس
بغيره من الشام والحجاز
٦٨ أصبح الآن في العصر العباسي لاهيًا، بل هو محط أنظار اللاهين، وسائر
الأمصار إنما تقتبس من لهوه.
والسبب في ذلك أمور أهمها — على ما يظهر — شيئان؛ الأول: المال؛ فالعراق كان مصب
أموال المملكة الإسلامية الغنية — بحكم أنه مركز الخلافة — والمال كل شيء في اللهو
يتبعه حيث يكون الترف، وإنما يكون الترف حيث يكون المال، والعراق أكثر البلدان
مالًا، وأعزه جاهًا، وكل نابغ في فن — ومنه الأدب — إنما ينفق سوقه في العراق، ومن
نبغ في غيره ولم يرحل إليه خمل ذكره، وضاع فنه، فأي مغنٍ مشهور لم يكن في العراق؟
وأي نابغة في الشعر لم يكن في العراق؟ وأي جارية امتازت بجمال أو غناء لم تكن في
العراق؟
والسبب الثاني: أن العراق كان أكثر بلاد الله خليطًا، فقديمًا تعاقبت عليه أمم
مختلفة، ومدنيات متتابعة، وفي العصر العباسي كان حاضرَة الخلافة، وكان مقصِد الأمم.
وكان مسكن العنصر الأرستقراطي من الفرس، وكان محطَّ الراحلين من الهند والروم
وغيرهم. وكان يجلب إليه أحاسن الرقيق من كل جنس، ولهؤلاء جميعًا تاريخ في اللهو،
وإمعان في الحضارة، وتفنن في التر ف، فلما حلوا بالعراق ووجدوا السبل ممهدة عرضتْ
كلُّ أمة فنها، وأنواع حضارتها، فكان من ذلك معرض عام أخذ العراق من كل شيء منه بحظ
وافر، وأخذت البلدان الأخرى من العراق بَقبس.
•••
ولكن من الحق أن نقول: إن هذا الوصف الذي وصفنا ليس حالَ الناس جميعهم، فما كانوا
كلُّهم أغنياء ولا كلُّهم هازلين، وما كان ذلك لأمة من الأمم في أي عصر من العصور،
وما كان العالم الإسلامي كله هو العراق وملاهيه، ولا كان العراق كله يحيا هذه
الحياة؛ فإن أنت قرأت كتاب الأغاني، وتنقلت في صحفه من ضرب من اللهو إلى ضرب، أو
قرأت ديوان أبي نواس فرأيت أكثره خمرًا ومجونًا، فلا تظن أن ذلك يمثل حياة العصر
بأجمعها، إنما هو يمثل ناحية واحدة من نواحيها المتعددة، ووجوهها المختلفة، وعذر
الأغاني أنه ألف في طبقات المغنين، والمغنون في كل عصر موطن اللهو وبيئة المجون.
على أننا نريد أن ننبه على أمر فطِن له ابن خلدون وهو: وضع الأخبار الكاذبة في
الملاذّ تقربًا إلى الكبراء، فكانوا يبالغون في أخبار الملاهي لِيغروهم عليها،
وليكسبوا هم من وراء ذلك مالًا أو جاهًا أو نحوهما.
حُورٌ ووِلْدَانٌ ومِنْ كُلِّ ما
تَطْلُبُه فِيهَا سِوى النَّاسِ!
ويقول آخر:
أُذُمُّ بغدادَ والمُقَامَ بِهَا
من بَعْدِ ما خبْرَةٍ وتَجْرِيبِ
ما عند سُكَّانها لمُخْتَبِط
خَيْرٌ ولا فرجةٌ لِمَكْرُوبِ
٦٩
يحتاجُ باغِي المُقَام بينهمُو
إلى ثلاثٍ من بعد تتريبٍ
كنوزُ قارونَ أن تكونَ لهُ
وعُمْرُ نُوحٍ وصَبْرُ أيوبِ
كما كرهها جماعة من أهل الورع والصلاح والزهاد، وعلّتهم في الكراهية ما عاينوا
بها من الفجور والظلم والعسف، وكان بعض الصالحين إذا ذكرت عنده بغداد يَتمثل:
قل لمن أظهر التَّنسُّكَ في النا
س وأمسى يُعَدُّ في الزهّادِ
الْزم الثغرَ والتواضعَ فيهِ
ليس بغدادُ منزلَ العُبَّاد
إن بغدادَ للملوكِ محلٌّ
ومُنَاخٌ للقارِئِ الصَّيَّادِ
٧٠
ويقول بشر بن الحارث: «بغداد ضيقة على المتقين؛ لا ينبغي لمؤمن أن يقيم
بها.»
٧١
•••
كانت كثرة الأموال بالعراق ووفرة ما يحمل إليها من خراج الأقطار سببًا في ارتفاع
الأسعار، وذلك إن احتمله الأغنياء فإنه يبئس الفقراء، وقد شكا أبو العتاهية ذلك،
وصوره تصويرًا دقيقًا فقال:
مَنْ مبلغ عني الإما
مَ نصائحًا متواليَهْ
إني أرَى الأسْعَـ
ارَ أسعار الرَّعيّةِ عالية
لم تكن أموال الدولة موزعة توزيعًا متفاوتًا، ولا كانت الفروق بين الطبقات فروقًا
طفيفة، إنما كانت هناك هوّات سحيقة بين الطبقات، فكثير من مال الدولة يُنفق على
قصور الخلافة والأمراء ورؤساء الأجناد وعمال الدولة، وهم ينفقون جزافًا على
المقربين من أدباء وعلماء ومغنيين وجوارٍ، وأتباع وطبقة تجار ومن إليهم، وهؤلاء في
درجة من الثروة دون الأولى، وعامة الشعب يفشو فيهم الفقر والبؤس. كانت بغداد تعجب
أرباب الأموال لما يجدون فيها من عيش رغد وهناءة ونعيم:
كانت بغداد تعجِ بأرباب الأموال لما يجدون فيها من عيش رغدٍ وهناءة ونعيم.
أعاينت في طولٍ من الأرض والعرض
كبغداد دارًا أنها جنة الأرض؟
صفا العيش في بغداد واخضرّ عوده
وعيش سواها غير صافٍ ولا غض
تطول بها الأعمار إن غذاءها
مَريء وبعض الأرض أمرأ من بعض
٧٢
فأما الفقراء وذوو الحاجة فضاقت عليهم بغداد بما رحبت، ولم يستطيعوا العيش فيها
ولا المقام بها:
بغدادٌ دارٌ طِيبُها آخذٌ
َنَسِيمُهَا مِنًى بأْنْفَاسي
تَصْلُح للموسِرِ لا لاِمرِئٍ
يبيت في فَقْرٍ وإفْلاسِ
لو حلَّهَا قارونُ ربُّ الغِنى
أصبحَ ذا هَمٍّ ووَسْوَاسٍ
هي التي نُوعدُ لَكِّنّهَا
عاجِلَةٌ للطّاعِمِ الكاسي
وأرى المكاسبَ نَزْرةً
وأرى الضَّرُورَة فاشيهْ
وأرى غُمُومَ الدَّهْر را
ئحةً تمُرُّ وغادية
وأرى اليتامى والأرا
ملَ في البيوتِ الخالية
مِن بَيْن راجٍ لم يزل
يسمو إليك وراجيه
يشكون مَجْهَدةً
بأصواتٍ ضِعافٍ عاليه
يرجُون رِفدك كي يرَوْا
مما لُقوه العافيه
من يُرْتَجَى للناس
غيرُك للعيون الباكية
من مُصبيَات جُوَّعٍ
تمسي وتصبح طاوية
مَنْ يُرتجى لدفاع كر
ب مُلمة هي ماهية
من للبطون الجائعا
تِ للجسوم العارية
يا ابنَ الخلائف لا فقِدْ
َتَ ولا عدِمتَ العافية
إن الأصولَ الطَّيبا
تِ لها فروعٌ زاكية
•••
كان المال عرضة أن يأتي في طرفة عين، ويذهب في طرفة عين؛ ذلك لأن عطاء الخلفاء
والأمراء والولاة إذ ذاك كان لا يقف عند حد، ومصادرتهم للأموال لا تقف كذلك عند حد،
قد يعجب أحدهم من غمة المغني، أو بيت الشعر أو الكلمة الطيبة، أو الجواب الحسن
فَيهب الألوف، وقد يكره ذلك فيهدِر الدم، ويصادر المال!
وصف العتَّابي هذه الحالة في عصره فقد سئل: لم لا تتقرب بأدبك إلى السلطان؟ فقال:
«لأني رأيته يعطي عشرة آلاف في غير شيء، ويرمي من السور في غير شيء، ولا أدري أي
الرجلين أكون!»
٧٤ والمّفضل الضبي يدعوه رسول المهدي، فيخاف ويتوهم السعاية به، ثم يتطهر
ويلبس ثوبين استعدادًا للموت فإذا مَثل بين يديه سلم فرد عليه، فلما سكن جأشه سأله
عن أي بيت قالته العرب أفخر، ثم سأله مسائل أخرى، فلما أحسن الجواب سأله عن حاله
فشكا إليه دينه فأمر لهم بثلاثين ألف درهم.
٧٥ وحكى الجاحظ في كتابه الحيوان: أن أبا أيوب المورِياني وزير المنصور
بينا هو جالس في أمره ونهيه إذ أتاه رسول أبي جعفر فامتقع لونه، وطارت عصافير رأسه،
وذُعِر ذعرًا نقض حبوته، واستطار فؤاده، ثم عاد طلْق الوجه، فتعجبنا من حاله وقلنا
له: إنك لطيف الخاصة، قريب المنزلة، فلم ذهب بك الذعر واستفزعك الوجل؟ فقال: سأضرب
لكم مثلًا من أمثال الناس: زعموا أن البازي قال للديك: ما في الأرض شيء أقل وفاء
منك! قال: كيف؟ قال: أخذك أهلك بيضة فحضنوك، ثم خرجت على أيديهم فأطعموك على أكفهم،
حتى إذا كبرت صرت لا يدنو منك أحد إلا طرت هاهنا وهاهنا وضججت وصحت، وأُخِذْتُ أنا
من الجبال فعلموني، وأّلفوني، ثم يُخَلّى عني فآخذ صيدي في الهواء فأجيء به إلى
صاحبي! فقال له الديك: إنك لو رأيت من البزاة في سفافيدهم مثلَ ما رأيت من الديوك،
لكنت أنفر مني. ولكنكم أنتم لو علمتم ما أعلم لم تتعجبوا من خوفي مع ما ترون من
تمكن حالي.»
٧٦
ولما قتل المأمون الفضلَ بن سهل عرضت الوزارة على أحمد بن أبي خالد فأبى، وقال:
لم أر أحدًا تعرض للوزارة وسلمت حاله.
٧٧
«وكانوا يرفعون الأخبار إلى المأمون ولو لم تصح بالعدول، ويقول صاحب الخبر: لو لم
نرفع إلا ما يثبت بالعدول لم يتهيأ ذلك في السنة إلا مرة أو مرتين.»
٧٨
ودعِي محمد بن الحارث بن بُسْخُنَّر إلى الواثق في يوم لم يكن يدعى فيه فقال:
داخلني فزع شديد وخفت أن يكون ساعٍ قد سعى بي، أو بلية قد حدثت في رأي الخليفة علي،
فتقدمت بما أردت.» إلخ، وكانت النتيجة أن غناه فأمر له بعشرة آلاف درهم
وتخوت.
٧٩
ووشِيَ برجل يقال له «الفضيل بن عمران» إلى أبي جعفر المنصور، وكان المنصور جعله
كاتب ابنه جعفر وولى أمره، وشي به أنه يعبث بجعفر، فبعث المنصور برجلين، وأمرهما أن
يقتلا الفضيل حيث وجداه، وكتب إلى جعفر يعلمه أمرهما به وقال: لا تدفعا الكتاب إلى
جعفر حتى تفرغا من قتله، فضربا عنقه! وكان الفضيل رجلًا عفيفًا دينًا! فقيل
للمنصور: إن الفضيل كان أبرأ الناس مما رمي به، وقد عجلت عليه. فوجه رسولا وجعل له
عشرة آلاف درهم إن أدركه قبل أن يقتل. فقدم الرسول قبل أن يجف دمه، وقد استنكر ذلك
جعفر وقال لمولاه سويد: «ما يقول أمير المؤمنين في قتل رجل عفيف دين مسلم بلا جرم
ولا جناية؟ فقال سويد: هو أمير المؤمنين يفعل ما يشاء وهو أعلم بما يصنع.»
إلخ.
٨٠
أنتجت هذه الحياة التي وصفنا من رفاهية قوم وبؤس آخرين، ولهو قوم وجِد آخرين؛
حركتين ظاهرتين في تاريخ هذا العصر:
أولاهما: ظهور فرقة المتطوعة للنكير على الفساق ببغداد. يقول الطبري في سبب
ظهورهم: «إن فساق الحربية
٨١ والشطار الذين كانوا ببغداد والكرخ آذوا الناس أذى شديدًا وأظهروا
الفسق، وقطع الطريق، وأخذ الغلمان والنساء من الطرق، لا سلطان يمنعهم، ولا يقدر على
ذلك منهم، لأن السلطان كان يعتز بهم، وكانوا بِطانته فلا يقدر أن يمنعهم من فسق
يركبونه. فلما رأى الناس ذلك، وما قد أظهروا من الفساد في الأرض والظلم والبغي وقطع
الطريق، وأن السلطان لا يغير عليهم قام صلحاء كل ربض، وكل درب فمشى بعضهم إلى بعض …
إلخ.»
وكان لهذه الحركة زعيمان، لكل زعيم برنامج، فأما أحدهما: وهو خالد الدريوش
فبرنامجه أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ولكنه لا يثور على السلطان، فهو يطلب
الإصلاح، ويتولاه في حدود الطاعة للحكومة، والزعيم الآخر: سهل بن سلامة الأنصاري،
برنامجه الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر كذلك، والعمل بكتاب الله وسنته، ومقاتلة
من خالفه، كائًنا من كان، سلطًانا أو غيره. ويقول الطبري: إنه تبعهما خلق كثير وكان
كل من أجاب سهلًا هذا عمل على باب داره برجًا بجص وآجر ونصب عليه السلاح والمصاحف،
وكان ذلك سنة ٢٠١ وسنة ٢٠٢٠هـ وقد انتهى أمرهما بالقبض عليهما وحبسهما.
٨٢
وظاهر أن الذي دعا إلى هذه الحركة كما يقول ابن خلدون: «توافر أهل الدين والصلاح
على منع الفساق وكف عادِيتِهم.» وقد استمرت هذه الحركة تبدو حينًا وتخمد حينًا، فقد
جاء بعدهم فرقة الحنابلة تدعو كذلك للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مما يطول ذكره.
ثانيتهما: حركة الزهد؛ ذلك أن قومًا يئسوا من الغنى، ورأوا أن نفوسهم لا تطاوعهم
للقرب من ذوي الجاه، أو حاولوا ذلك ففشلوا فلجئوا إلى القناعة يرضون أنفسهم عليها،
وقالوا: إذا لم يكن ما تريد فأرِد ما يكون!
وقومًا عافت نفوسهم ما رأت من شهوات لا حد لها، ورأوا أن النفس إذا نالت ما طمحت
تفتحت أمامها شهوات وشهوات، وللوصول إلى كل شهوة متاعب وعقبات، ففضلوا أن يقمعوها،
وقالوا مع القائل:
وما النفسُ إلا حيثُ يَجْعَلُها الفتى
فإن أُهمِلَت تاقَتْ وإلا استقَرَّتِ
أو مع الآخر:
والنفسُ راغبَةُ إذا رَغَّبْتَها
وإذا تُرَدُّ إلى قليل تَقْنَعُ
وقومًا يئسوا من حب، أو صدموا صدمة عنيفة في منصب أو جاه أو مال؛ فلم يجدوا إلا
الزهد يركنون إليه ويأنسون به، ويتسلون به عما فقدوا.
وكثيرًا زهدوا تدينًا لما في الزهد من خفة المؤونة، وسهولة الحساب، يقولون كما
قال محمد بن واسع: «يعجبني أن يصبح الرجل وليس عنده غداء، ويمسي وليس له عشاء، وهو
مع ذلك راضٍ عن الله!» صرفوا نفوسهم عن الشهوات، وأكثروا من ذكر الموت والقبور،
وعدوا أنفسهم في الموتى، وآثروا ما يبقى على ما يفنى، ورفضوا أن يمدوا أيديهم لأخذ
عطاء من خليفة أو وال، وقدموا بالقليل، كالذي فعل إبراهيم بن إسحاق الحربي؛ عاش
أكثر عمره على كِسر يابسة وملح، وربما عدم الملح، ورفض أن يأخذ ألف دينار بعث بها
إليه المعتضد، وأنفق مرة في شهر رمضان كله درهمًا وأربعة دوانيق ونصفًا.
٨٣
كل هذه الأصناف كان منها في العصر الذي نؤرخه، وكما كان بشار وأبو نواس وأضرابهما
يمثّلون نزعة اللهو، ويضرمون نارها كان أبو العتاهية يعبر عن نزعة الزهد، ويروي
نخلة الزاهدين؛ فإن قال أبو نواس في الدعوة إلى اللهو:
جَرَيْت مع الهوى طَلْقَ الجَمُوحِ
وَهَانَ عَلَيَّ مأُثُورُ القَبيحِ
وَجَدتُ أّلّدَّ عارية الّليالي
قِرَانَ النّغْم بالوتَر الفصيح
ومُسمِعة متى ما شِئتُ غَنّت
متى كان الخيامُ بذِي طُلوحِ
تَمَتَّعْ من شبابٍ ليس يبقى
وصِلْ بعُرَى الغَبُوق عُرَى الصَّبوح
قال أبو العتاهية:
رغيفُ خبزٍ يابس
تأكُله في زاويهْ
وكوزُ ماء باردٍ
تَشْرَبهُ من صافيهْ
وغرفةٌ ضيقةٌ
نفسُكَ فيها خاليهْ
أو مسجدٌ بمَعْزِل
عن الورى في ناحيهً
تَدْرُسُ فيه دفترًا
مستندًا بسارِيَهْ
مُعْتَبرًا بمن مضى
مِن الُقرُون الخاليهً
خيرٌ من السَّاعات في
فَيْء الُقصُور العاليهْ
ُتُعْقِبُها عقوبةٌ
تُصْلِي بِنارٍ حامَيهْ
فهذهِ وصيّتِي
مُخْبِرةٌ بحالِيهْ
طوبى لمن يَسْمَعُها
تلك لَعَمْري كافيهْ
فاسمع لِنُصْحِ مشفِق
يُدعى أبا العتاهية
والناس يتنازعون أيهما أشعر، أبو نواس أم أبو العتاهية، وليسوا يفضلون أحدهما في
الحقيقة استنادًا إلى الناحية الفنية، وإنما كلاهما يمثل نزعة خاصة، وكل فريق يفضل
من عَبَّرَ عن نفسه، وجلّى نزعته.
•••
كان للحالة الاجتماعية التي ألممنا بها نتائج علمية وأدبية وفنية.
من ذلك: أن غزارة الأموال في يد الخلفاء والولاة ومن إليهم، ووفرة عطاياهم وقلة
الأموال في يد سواهم؛ جعلت الفنون الجميلة ومنها الشعر لا تزهر إلا في أحضان
الخلفاء ومن إليهم، وتذبل في غير جوهِم. قد كان من المعقول أن يفيض شعور الرجل
وتهيج عواطفه وتغلي نفسه فينطق بالشعر يهدئ من شعوره، ويخفف من غليانه، لا يرجو من
ذلك إلا إرواء لعاطفته الفنية، وهذا هو كل مطمحه في الثواب. وكان من المعقول أن
يجيد الفنّان إشباعًا لنهمه الفني، في فقر أو غنى، ورخاء أو شقاء، ولكن يظهر أن
قليلًا كان عندهم هذا السمو الفني، وأكثرهم رأى أن قليلًا من الفن وأبياتًا من
الشعر إذا لوحظ فيها ذوق الممدوح لا ذوق الفن تدر عليه من الأموال ما لا يحلم به،
وهو إذا أرضى عاطفَته عاش عيشة كَفاف، فاندفع يطلب هوى الخليفة أو الأمير، وسال
السيل وجرى التيار كله، إلا القليل النادر، نحو القصور، يقفون بأبوابها الأيام
والشهور، حتى يُؤذن لهم، وأصبح الشعراء والفنانون أداة من أدوات الزينة، وطرفة
جميلة تُحَلّى بها الدور والقصور، ولهم في ذلك بعض العذر، فمن من هؤلاء يرى من هو
أقل منه — شعرًا وفًنًّا — يعمل بيتين أو ثلاثة في مدح أمير فينال عشرة آلاف درهم،
ثم تقوى نفسه وتسمو همته، ويترفع عن أن يسلك مسلكه ويجري مجراه؟ كذلك الشأن في
الغناء، يقول الأصفهاني: إن مجموع ما أخذ إبراهيم الموصلي من الرشيد كان أكثر من
مائتي ألف دينار.
٨٤ ولا تكاد تقرأ صفحة من الأغاني حتى تجد فيها شاعرًا يمدح، وألوًفا
تمنح! ومهما كان في هذه القصص من المبالغة فالأساس صحيح.
كان من نتائج هذا أن أصبح أكبر مجرى يصب فيه الشعر هو المديح، وهو باب أبعد ما
يكون في نظرنا عن الشعر الصحيح، وتعاقب الشعراء يصوغون معانيه السائغة وغير
السائغة، حتى ارتشفوا آخر نقطة منها، بينما الأبواب الأخرى من وصف عاطفة سامية،
وتحليل لشعورٍ بجمال الطبيعة وجمال الزهور، ونحو ذلك لم تمس إلا مسًّا رقيقًا.
وكان من نتائج هذا أيضًا أن مؤرخ الأدب والفن في هذا العصر يكاد لا يؤرخ إلا
العراقَ، فأما مصر والشام والحجاز فأدبها أدب خفيف، وفنها لا يكاد يؤبه له، وكل
نابغ في شعر أو فن لا يجد مشتريًا لسلعته إلا العراق.
ونرى أن الأدب أصبح يمثل هاتين النزعتين البارزتين خير تمثيل؛ نزعة اللهو، ونزعة
الزهد، فأما نزعة اللهو فما قيل في الخمر والنسيب وما إليهما، وتجد ذلك في دواوين
الشعراء أمثال أبي نواس ومسلم بن الوليد، وفي كتاب الأغاني. وأما نزعة الزهد؛ فما
قيل في الموت والبعث والحساب، وما قيل في حياة الزهاد ومأثور قولهم وفعلهم. وعقدت
الفصول الطِّوال تشرح نفسيتهم وتروي حِكمهم؛ فنرى الجاحظ في الجزء الثالث من كتاب
البيان والتبيين يضع كتابا يعْنونه «كتاب الزهد» يقول في أوله: «نبدأ باسم الله
وعونِهِ بشيء من كلام النساك في الزهد، وبشيء من ذكر أخلاقهم ومواعظهم.» وصارت هذه
الأقوال والقصص تغذّي هذا الفريق من الناس الذين زهدوا في الحياة، وأصبحنا نرى
المؤلفين في الأدب بعده ينسجون على منواله، ويجعلون باب الزهد ركنًا من أركان
الأدب؛ فابن قتيبة يخصص كذلك بابًا للزهد في كتابه عيون الأخبار، وابن عبد ربه في
العقد الفريد وهكذا، وتقرأ هذه الفصول فتراها تمّثل حياة هي على النقيض من اللهو.
أما العلم فقد كان هناك علمان: علم ديني، وعلم دنيوي إن صح هذا التعبير؛ فأما
العلم الدنيوي من فلسفة وطب ورياضة وفلك، فقد نما كذلك في كَنف الخلفاء والأمراء
والأغنياء، وقلَّ أن تجد عالمًا في ذلك العصر في علم من هذه العلوم إلا كان له أمير
أو غَنِي يمِده بمعونته، ولذلك كانوا نسبيًّا في سعة من العيش.
أما العلم الديني فقد كان الباعث عليه أخرويًّا غالبًا، فنما وأزهر خارج القصور
أيضًا، كعلم التفسير والحديث، ومن أجل هذا أيضًا لم يكن نمو هذا النوع من العلم
وإزهاره قاصرًا على العراق، بل تجده حيث الباعث الديني، في كل قطر وكل إقليم، فإذا
أنت أرخت لعلوم القرآن وعلوم الحديث، أو علوم اللغة، أرخت لمصر والشام والحجاز كما
أرخت للعراق، وتقرأ تراجم هؤلاء العلماء فترى في أكثرهم فقرًا مدقعًا، وبؤسًا
واضحًا، ورضى بالقليل، وأمثلة ذلك لا تحصى.
وسيأتي عند الكلام في الحركة العلمية وصف ما كان لهؤلاء العلماء من جِد في طلب،
واحتمال نصب، وسفر بعيد، في فقر شديد؛ مما يدعو إلى الإعجاب، ويُعد المثل الأعلى
للحياة العلمية.