الثقافه اليونانية الرومانية
إذا نحن وصلنا إلى اليونان، فقد وضعنا أيدينا على كنز لا يفنى، وثروة لا تقدر، وغنى عظيم في كل ما ينتجه العقل والعاطفة والذوق؛ في الفلسفة، والرياضة، والفلك، في علوم الطبيعة والحياة والطب، في الأدب، في التاريخ، في السياسة، في الفنون الجميلة. لقد نفخوا في كل ذلك من روحهم، وغذّوا العقول بآرائهم، وأمدوا العالم بأفكارهم وآدابهم، وعِلمِهم وأساطيرهم، وربوا الذوق بفنهم، ونحتهم وتصويرهم.
فأقليدس ظل إمامًا في الهندسة من القرن الثالث قبل الميلاد إلى القرن التاسع عشر الميلادي. والطب ظل قائمًا في العصور القديمة والقرون الوسطى على أساس ما دَوَّنَ بقراط وجالينوس. والفلاسفة إلى اليوم عيال على تعاليم سقراط وأفلاطون، وسياسة أرسطو، ومن إليهم من فلاسفة اليونان، وجمهورية أفلاطون وأرسطو منبع لما جد من نظريات في السياسة، وهكذا في كل فرع من فروع العلم والفلسفة والفن، فلسفة المسلمين أسست على فلسفتهم، والمدينة الحديثة بما فيها من علم وأدب نهضت على أكتافهم، وأول شرارة للنهضة الأوروبية الحديثة إنما انبعثت من كتبهم، تمتاز علومهم وفلسفتهم بميزة يكاد مؤرخو الفلسفة يجمعون عليها وهي أن اليونان كانوا يبحثون وراء الحق للحق، على حين أن كثيرًا من الأمم كانت تتفلسف لما يتبع الفلسفة من فوائد مادية، أو لتأييد قضايا دينية، ومن ثم لم يشاءوا أن يعدوا الآراء الهندية أو المصرية أو الصينية الآشورية والبابلية فلسفة؛ لأنهم شرطوا في الفلسفة البحث وراء الحقيقة المجردة في حرية تامة، وسمو عن المادة، ولا عدوا الرومانيين أمثال «ماركوس أورِيليوس» و«سنيكا» و«شيشيرون» فلاسفة؛ لأنهم لم يقدموا للعالم آراء فلسفية جديدة، تزيد في ثروة الفلسفة اليونانية.
وقد كانت تدرس في مدرسة جنديسابور الثقافة الهندية بجانب الثقافة اليونانية، وكان يشترك بعض الهنود في التدريس باللغة الفهلوية.
وقد اشتهر من مدرسة جنديسابور في العصر العباسي جورجيس بن بختيشوع طبيب المنصور، وابنه بختيشوع طبيب الرشيد، وجبريل بن بختيشوع طبيب المأمون … إلخ، وكانوا كلهم نصارى نساطرة.
•••
على كل حال كان هؤلاء الحرانيون منبعًا كبيرًا من منابع الثقافة اليونانية في العهد الإسلامي، وقد اتصلت مدرستهم بالخلفاء العباسيين بعد اتصال مدرسة جنديسابور، وبعد العصر الذي نؤرخه. فأول من اتصل منهم ثابت بن قرة ٢٣٢١–٢٨٨هـ) أوصله بالمعتضد بنو موسى بن شاكر) الذين رباهم المأمون. ومن ذلك الحين قرب الحرانيون من الخلفاء، ثم من بني بويه، واشتهر منهم ثابت بن قرة هذا الرياضي الفلكي، وابن سِنان الطبيب العالم بالظواهر الجوية وقد أسلم، وحفيده إبراهيم بن سنان، كما اشتهر منهم أسرة هلال، ومنهم هلال بن إبراهيم، وكان طبيبًا، وابنه الأديب المشهور إبراهيم أبو إسحاق الصابئ، صاحب الرسائل، وكان بليغًا وله اليد الطُّولى في الرياضة والهندسة والهيئة. كما كان من الحرانيين «البتَّاني» أحد المشهورين برصد الكواكب، والمتقدمين في علم الهندسة، وصاحب الزيج المنسوب إليه. ومنهم أبو جعفر الخازن الرياضي، وابن وحشية المنسوب إليه الفلاحة النَّبطية … إلخ. ولئن كانت مدرسة جندياسبور لها الأثر الكبير في نشر الثقافة اليونانية في الطب، وما إليه من فلسفة، فمدرسة حران كان أثرها الأكبر في الرياضيات، وخاصة الهيئة. ولعل ما في ديانتهم من تعظيم الكواكب، وإقامة الهياكل لها كان باعثًا على نبوغهم في العلوم الرياضية والفلكية.
•••
بجانب هذه الحركة الفلسفية كانت حركة واسعة في الأدب والعلم والفن، وأطلق على هذه الحركات كلها مدرسة الإسكندرية، وقد عاشت من سنة ٣٠٦ق.م إلى ٦٤٢ب.م. وكان يغذي هذه الحركة متحف الإسكندرية، ومكتبتها المشهورة.
ويقسم مؤرخو هذه المدرسة تاريخها إلى عصرين؛ العصر الأول: من قيام دولة البطالسة إلى غلبة الرومان (أعني من سنة ٣٠٦ق.م، إلى سنة ٣٠م) وقد عدت الإسكندرية في هذا العصر في مقدمة بلاد العالم في الأدب. والعصر الثاني: من سنة ٣٠م إلى سنة ٦٤٢م، وهي سنة فتح العرب للإسكندرية، وتمتاز في هذا العصر بالمذهب الفلسفي الذي أشرنا إليه، وكانت المدرسة في عصريها متصلة بالعالم حولها تمده بنورها.
•••
ولعل هذا الذي ذكرنا يلقي ضوءًا على كثير من المسائل الغامضة التي تعترض الباحث: كيف اتصل الفرس بالفلسفة اليونانية، وكيف عرفوا «إيساغوجي» وأمثاله من كتب اليونان؟ وكيف كانت الأديار المبثوثة في الشرق مصدرًا للفلسفة اليونانية؟ وكيف اتصل المسلمون بالفلسفة اليونانية؟ فظهرت في المجادلات الدينية وغيرها، وفي مناقشات المعتزلة وغيرهم، قبل أن تُنْقَل الفلسفة اليونانية إلى اللغة العربية نقْلًا منظمًا في عهد المأمون ومن بعده. ولم كان المترجمون الأولون (من السريانية أو اليونانية إلى العربية) أكثرهم نصارى أو وثنيون؟ لعل القارئ يجد طرفًا من الإجابة عن هذه الأسئلة فيما حكينا.
كانت الكنيسة الإسكندرانية والمصرية في الغالب على مذهب اليعاقبة، وكانت لغتها السريانية والقبطية، وكان إنتاج النساطرة في آسيا في الفلسفة باللغة السريانية أكثر من إنتاج اليعاقبة في مصر؛ لأن الجدل الديني في آسيا (وخاصة في العراق) بين النصارى بعضهم وبعض، وبين النصارى وغيرهم من أهل الديانات الأخرى؛ كان أكثر منه في مصر، وقد اشتهرت مدرسة الإسكندرية بالطب والكيمياء والعلوم الطبيعية، وكانت كذلك عند الفتح العربي، ولكن أبحاثها إذ ذاك كانت ممزوجة بالسحر والطلاسم والتنجيم. غلب على اليعاقبة في مصر مذهب الأفلاطونية الحديثة، والميل إلى التصوف، وحب معيشة الأديار والرهبنة، على حين غلب على النساطرة في آسيا الميل إلى التفكير الفلسفي، وحب المنطق من غير إغراق في الروحانية والرهبنة، وإن كانت لهم أديار.
على كل حال فسر النّساطرة واليعاقِبة كثيرًا من كتب اليونان، نقلوها من هذه اللغة إلى اللغة السريانية، فلما اتصلوا بالعرب كانوا هم أيضًا البادئين بنقل هذه الكتب من السريانية إلى العربية وشرحها، وتاريخ هذه الحركة التي قام بها هؤلاء النساطرة واليعاقبة يدلنا على عيبين كبيرين فيها:
- الأول: قلة الابتكار، فلم يزيدوا على ما نقلوا علمًا جديدًا، ولا نظريات جديدة، ولا كثيرًا من الآراء الجديدة.
- والثاني: أنهم حتى في كثير مما نقلوا لم ينقلوا في دقة ما كان عند اليونان، بل غيروا فيه، وحرفوا، وكثير من الأخطاء التي وقع فيها العرب علميًّا كان منشؤه هذا الخطأ السرياني. والحق إن العرب في هذا كانوا أكثر ابتكارًا وأدق نظرًا. ويكاد مؤرخو علم المسلمين من طب وجبر وهندسة وكيمياء وفلسفة يقسمون ما وصل إليه المسلمون قسمين؛ قسم أخذوه عن اليونان، وقسم ابتكروه بأنفسهم.
- الدور الأول: من خلافة المنصور إلى آخر عهد الرشيد؛ أي من سنة ١٣٦ إلى سنة ١٩٣هـ. وفي هذا الدور ترجم كليلة ودمنة من الفارسية، والسِّند هِند من الهندية، وترجمت بعض كتب أرسططاليس في المنطق وغيره، وتُرجم كتاب المجِسطي في الفلك. ومن أشهر المترجمين في هذا الدور ابن المقفع وقد تقدمت ترجمته، وجورجيس بن جبرائيل، ويوحنا بن ماسويه، وكلاهما كان طبيبًا نصرانيًّا، وفي هذا الدور اتصلت المعتزلة بالكتب التي ُترجمت؛ فنجد الأولين منهم (كالنظَّام) عرفوا أرسطو، وعرفوا بعض كتبه في الفلسفة، وتأثرت أبحاثهم بالمنطق، وتكلموا في الطفرة والجوهر والعرض، وما إلى ذلك كما سيأتي بيانه، وكان كلامهم في هذا قبل المأمون؛ مما يدل على اتصالهم بالفلسفة من أول عهد الترجمة.
- الدور الثاني: من عهد المأمون من سنة ١٩٨ إلى سنة ٣٠٠هـ. وأشهر المترجمين في هذا الدور يوحنَّا أو يحيى البطريق (مولى المأمون)، وكانت الفلسفة أغلب عليه من الطب، وَترجم كثيرا من كتب أرسطو. والحجاج بن يوسف بن مطر الوراق الكوفي عاش سنة ٢١٤، وَقسط ابن لوقا البعلبكي عاش سنة ٢٢٠هـ، وعبد المسيح بن َناعِمة الحِمصِي عاش سنة ٢٢٠، وحنين بن إسحاق توفي نحو سنة ٢٦٠، وابنه إسحاق بن حنين توفي سنة ٢٩٨، وعني بكتب الفلسفة عناية أبيه بالطب، وثابت بن قرة توفي سنة ٢٨٨، وحبيش الأعسم بن أخت حنين، وغيرهم. وقد ترجم في هذا الدور أهم الكتب اليونانية في كل فن؛ فأعيدت ترجمة المجسطي، والحكم الذهبية لفيثاغورس، وجملة مصنفات لبقراط وجالينوس، وكتاب طيماوس لأفلاطون وكتاب السياسة المدنية لأفلاطون، وكتاب النواميس له أيضًا، وكتاب المقولات لأرسطو. كل ذلك على يد حنين بن إسحاق ومدرسته، وترجمت أغلب كتب أرسطو على يد إسحاق بن حنين.
- الدور الثالث: من أتى بعد هؤلاء، ومن أشهر المترجمين فيه متَّى بن يونس، كان في بغداد سنة ٣٢٠، وسنان بن ثابت بن قرة مات سنة ٣٦٠، ويحيى بن عدي سنة ٣٦٤، وابن زرعة سنة ٣٩٨، وأهم ما ترجموا الكتب المنطقية والطبيعية لأرسطو، وتفسيرها.١٦
•••
- الأول: أن العهد الأموي كان عهدًا بدويًّا في الجملة، ظهرت فيه سيادة العرب على غيرهم من الأمم أوضح ظهور، والعرب في ذلك العصر لم يتأصل فيهم ميل إلى فلسفة؛ إنما كان يعجبهم الأدب العربي، والتحدث بأيام العرب، ولذة خلفائهم إنما هي في الإصغاء إلى قصيدة عربية، والاستفسار عن لفظ غامض، وما إلى ذلك. فلما جاء العصر العباسي، وأمعن المسلمون في الحضارة، وسادت العناصر غير العربية؛ رأوا أن حياة الحضارة لا بد أن تستَنِد إلى العِلم، فمالية الدولة تحتاج إلى حساب دقيق، وعيشة الحضارة المركبة تحتاج إلى أدوية مركبة، وعلاج مركب. ومتى لجأ الناس إلى نوعين من العلوم، وأخذوا يعالجونه عن الأمم الأخرى؛ دعاهم الشغف إلى تعرف ما عند الأمم المختلفة من العلوم جميعها، ولو لم يكن لهم بها حاجة ماسة مباشرة.
- الثاني: أن الحركة الدينية كانت قد بلغت في آخر الدولة الأموية شأوًا بعيدًا كما ذكرنا في فجر الإسلام، وجرهم البحث إلى أن يتكلموا في القضاء والقدر ونحوه، ورجحت عند قوم عقيدة الجبر، وعند آخرين عقيدة الاختيار، وتجادل المسلمون فيما بينهم، ثم تجادل المسلمون والنصارى واليهود: أي الأديان خير؟ وأي آراء الأديان في المسائل الجزئية أصح؟ وكان المعتزلة يحملون لواء الدفاع عن الإسلام، ومقارعة خصومه، وكان كل من اليهودية والنصرانية تسلح من قبل بالمنطق اليوناني، والفلسفة اليونانية يستخدمها في الجدل، فأحس المسلمون أنه لا بد من محاربتهم بآلاتهم، فعكفوا على المنطق والفلسفة يستخدمونهما في أغراضهم، وفيما هم كذلك شعروا بلذة عقلية من دراسة الفلسفة؛ فبعد أن كانت تطلب على أنها وسيلة للدفاع عن الدين أصبحت غاية في نفسها تُطْلَب لذاتها.
- وسبب ثالث: حكاه الأستاذ نيللنو، وهو أنه «في أواخر مدة الدولة الأموية ثبتت سلطة الإسلام على جميع الأمصار والأقطار التي دخلتها أَلوِيته عنوة أو صلحًا أثناء المغازي المتواصلة والفتوح، من أقصى بلاد ما راء النهر في تركستان، إلى منتهى المغرب والأندلس؛ فعمت اللغة العربية الشريفة أهلَ تلك الولايات والبلدان، وغلبت على ألسنتهم الأصلية، فأخذ المسلمون كلهم من أي جنس أو أمة لا يستخدمون في الإنشاء والتأليف إلا لغة العرب، فابتدأت وحدة الدين تستوجب أيضًا وحدة اللسان والحضارة والعمران، فصار الفرس وأهل العراق والشام ومصر يدخلون علومهم القديمة في التمدن الإسلامي الجديد.»١٧
- وسبب رابع: وهو ميل أفراد من الخلفاء في العصر العباسي إلى العلوم الفلسفية، والخلفاء عادة أقدر الناس على التغريب فيما أحبوا، والناس أسرع ما يكون إلى تحقيق أغراضهم، والولوع بما أولعوا به، وأكثر الخلفاء العباسيين ميلًا إلى ذلك في عصرنا كان المنصور والرشيد والمأمون. ويظهر أنه قد كان لكل منهم أسباب خاصة حملته على ذلك؛ فالمنصور كان ممعودًا، ويظهر أن ذلك حمله على العناية بالطب والأطباء، جاء في الطبري عن علي بن محمد بن سليمان النوفلي عن أبيه، أنه كان يقول: «كان المنصور لا يستمرِئ طعامه، ويشكو ذلك إلى المتطببين، ويسألهم أن يتخذوا له الجوارشنَات. فكانوا يكرهون ذلك، ويأمرونه أن يقلّ من الطعام، ويخبرونه أن الجوارشنات تهضم في الحال، وتحدث من العلة ما هو أشد منها عليه، حتى قدم عليه طبيب من أطباء الهند، فقال له كما قال له غيره، فكان يأخذ له سُفوفًا جوارشنًا يابسًا، فيه الأفاويه والأدوية الحارة، فكان يأخذه فيهضم طعامه، فأحمده.. إلخ.١٨ وكذلك كان يعتقد في التنجيم — كما سيأتي بيانه — فقرب إليه المنجمين. والرشيد رباه البرامكة على حب العلم، والمأمون رباه الرشيد والبرامكة، وقد حذا حذو الخلفاء كثير من أفراد الشعب كبني موسى بن شاكر.
وروى ابن أبي أصيبعة هذه القصة بشكل آخر، فقال إن المأمون رأى في منامه كأن شيخًا بهي الشكل جالس على منبر وهو يخطب، ويقول: «أنا أرسططاليس.» فانتبه من منامه، وسأل عن أرسططاليس، فقيل له رجل حكيم من اليونانيين، فأحضر حنين بن إسحاق؛ إذ لم يجد من يضاهيه في نقله، وسأله نقل كتب الحكماء اليونانيين إلى اللغة العربية، وبذل له من الأموال والعطايا شيئًا كثيرًا.
فهذه القصص وأمثالها لا يصح أن تكون سببًا، وإنما كانت الترجمة لأسباب طبيعية، هي التي ذكرنا. ورواية ابن أبي أصيبعة أبعد عن الحقيقة؛ فمن المستحيل ألا يسمع المأمون باسم أرسطو حتى يأتيه في المنام ويقول له أنا أرسطو! وحكاية ابن النديم إن صحت دلتنا عل أن الْحُلم كان انعكاس صورة طبيعية لما كان يفكر فيه المأمون في اليقظة.
•••
وقال في موضع آخر: «إن أول علم اعتُني به من علوم الفلسفة؛ علم المنطق والنجوم، فأما المنطق فأول من اشتهر به في هذه الدولة عبد الله بن المقفع الخطيب الفارسي، كاتب أبي جعفر المنصور، فإنه ترجم كتب أرسططاليس المنطقية الثلاثة التي في صورة المنطق، وهي كتاب «قاطغاورياس»، وكتاب «باري أرمنياس»، وكتاب «أنولوطيقا»، وذكر أنه لم يكن ترجم منه إلى وقته إلا الكتاب الأول فقط، وترجم مع ذلك المدخل المعروف «بايساغوجي لفورفوريوس الصوري»، وعبر عما ترجم من ذلك عبارة سهلة قريبة المأخذ، وترجم مع ذلك الكتاب الهندي المعروف بكليلة ودمنة، وهو أول من ترجم من اللغة الفارسية إلى اللغة العربية …
- (١) أن أول نقل حدث في الإسلام كان بفضل خالد بن يزيد بن معاوية، والذي نقل له هو «اصطفن»، وهو من الإسكندرية، وكان هذا النقل من اللغة اليونانية والقبطية إلى العربية. وإن خالدًا إنما كان أهم ما يعنى به الصنعة أو الكيمياء، والغرض بها تحويل المعادن إلى ذهب، ويظهر أن الذي دعاه إلى ذلك أنه كان شابًّا يطمع في الخلافة؛ إذ كان أبوه (يزيد بن معاوية) خليفة، وأخوه (معاوية بن يزيد) خليفة، ثم نحي عن الخلافة، وغلبه عليها مروان بن الحكم، فصدم من ذلك صدمة قوية، فتحول إلى ملهى شريف يلهو به ويناسب أرستقراطيته، فكان ذلك هو «الصنعة» رأى أنه إذا استطاع أن يحول المعادن إلى ذهب استطاع أن يحول الناس إليه، أو على أقل تقدير كان له من المنزلة ما يحسده عليها الخلفاء. قال ابن النديم: «كان خالد جوادًا، يقال إنه قيل له: لقد فعلت أكثر شغلك في طلب الصنعة! فقال خالد: ما أطلب بذاك إلا أن أغني أصحابي وإخواني، إني طمعت في الخلافة فاخْتُزلَتْ دوني، فلم أجد منها عوضًا إلا أن أبغي آخر هذه الصناعة، فلا أُحوج أحدًا عرفني يومًا أو عرفته إلى أن يقف بباب سلطان، رغبة أو رهبة.»٢٢ وقد اشتغل بالنجوم على أنها قد تكون وسيلة تساعد على الوصول إلى «الصنعة»؛ إذ كان علم النجوم ممزوجًا بعلم أحكامها، وتأثيرها في العالَم السفلي، فلعله أمل فيه عونًا إلى الوصول إلى بغيته.
- (٢)
أنه عُنِيَ في الدولة الأموية بالطب بعض عناية؛ لأن الناس في حاجة مادية إليه، ولأنه أبعد العلوم الأجنبية عن أن يؤثّر في الدين، ولهذا لم يتحرج من إجازة الترجمة فيه أتقى بني أمية عمر بن عبد العزيز.
- (٣)
أن محاولة الترجمة في العهد الأموي كانت محاولات فردية، تموت بموت الأفراد القائمين بها، أما في الدولة العباسية فكانت الترجمة عملَ أمة لا عمل أفراد، وإن شئت فقل: كان في الدولة العباسية مدرسة كبيرة للترجمة، لا يضيرها موت فرد أو أفراد منها.
- (٤)
كانت الترجمة في العهد الأموي مقصورة على العلوم العملية كالصنعة والطب والنجوم (بالمعنى الذي فسرناه)، ولم يتعد ذلك إلى العلوم العقلية كالمنطق والفلسفة والهندسة، وما إلى ذلك؛ فهذه لم تكن إلا في الدولة العباسية.
- (٥)
نرى أن المسلمين اتصلوا بالفلسفة اليونانية أول الأمر من طريق الفرس؛ فقد ترجم ابن المقفع كتبًا من منطق اليونان، والظاهر أنه نقلها من الفارسية؛ إذ لم يعرف عنه أنه يعرف اليونانية، ثم تولى الترجمة بعد النصارى من النساطرة واليعاقبة من السريانية إلى العربية.
- (٦) كانت أول عناية الخلفاء العباسيين موجهة إلى الطب والتنجيم، والسبب في ذلك الحاجة الماسة إلى ذلك، فالمنصور احتاج إلى الطب لمرضه كما بينا، واحتاج إلى التنجيم؛ لأنه كان يعتقد أن هناك ارتباطًا بين حركات النجوم وأوضاعها، وبين ما يحدث في عالَمِنا من نحس أو سعد. ومن ذلك الحين صار الطب والتنجيم عمَلين رسميين يتولاهما رجال رسميون؛ فجورجيس بن جبريل بن بختيشوع الجنديسابوري صار طبيبًا للمنصور، ثم لما تقدمت به السن عين المنصور مكانه تلميذه عيسى بن شهلانا. واتخذ نوبخت الفارسي منجمًا له، فلما ضعف عين المنصور مكانه ابنه أبا سهل بن نوبخت. ولما تولى اتخذ المهدي طبيبه عيسى الصيدلاني الملقب بأبي قريش، واتخذ توفيل بن توما النصراني الرهاوي رئيسًا لمنجميه. فلما تولى الرشيد اتخذ طبيبه بختيشوع بن جورجيس، ويوحنا بن ماسويه النصراني. ولما استخلف المأمون كثر في بلاطه الأطباء والمنجمون؛ فمن منجميه حبش الحاسب، وعبد الله بن سهل بن نوبخت، ومحمد بن موسى الخوارزمي، وما شاء الله اليهودي، ومن أطبائه سهل بن سابور، ويوحنا بن ماسويه، وجورجيس بن بختيسشوع، وعيسى بن الحكم، وزكريا الطيفوري، فلما آلت الخلافة للمعتصم كان طبيبه سلمويه، ثم يوحنا بن ماسويه.٢٣ … إلخ.
ولسنا ندعي أن الخلفاء لم يشجعوا من علم النجوم إلا هذا الضرب، فقد كان علم النجوم يشمل ما نطلق عليه علم الهيئة الآن، ويشمل كذلك البحث عن التغيرات التي تحدث في الأرض بسبب مواقع النجوم وتأثيرها. وكلا الأمرين كان عند اليونان، وكلا الأمرين عُنِيَ به العباسيون، فرصدت الكواكب في عهد المأمون، وأصلحت آلات الرصد، وإنما الذي نريد أن نذكره أن الشغف بمعرفة أحكام النجوم هو الذي جذب الخلفاء أولًا إلى تشجيع هذا العلم، ثم تدرجوا منه إلى تشجيع الفلك الرياضي البحت.
•••
كان لهذه الثقافة اليونانية أثر كبير في المسلمين، ومما زاد في أثرها أن اتصال المسلمين بها صاحب عصر تدوين العلوم العربية، فتسربت الثقافة اليونانية إليها، وصبغتها صِبغة خاصة، كان لها تأثير كبير في الشكل، وفي الموضوع.
على كل حال كان للمنطق سلطان كبير على العقول في العصر العباسي، وكان من جراء ذلك أن اصطبغت طريقة الجدل والبحث والتعبير والتدليل صبغة غير التي كانت تعرف من قبل، فإن أنت قارنت بين أسلوب القرآن الكريم، وأسلوب المتكلمين وجدت فرقًا كبيرا يمكنك أن تلخصه في أن أساليب المتكلمين جارية على أساليب منطق أرسطو، وليس كذلك أسلوب القرآن.
وكذلك الشأن إذا أنت قارنت بين تعبيرات الفقهاء في عصر الخلفاء الراشدين، والعصر الأموي، وبين تعبيرات الفقهاء في العصر العباسي بعد أن عرفوا المنطق؛ فإنك تجد التعبير الأول عربيًّا بَحْتًا، وتجد الثاني أرسططاليسيًّا بحتًا، فمثلًا تقرأ الباب في موطأ الإمام مالك فتجده يذكر الحكم، ثم يحكي ما يدل عليه من حديث أو أثر، ثم لا تجد فيه أثرًا لعلم المنطق، وتقرأ في كتاب الهداية مثلًا التدليل الفقهي، وخاصة في المسائل الخلافية بين أبي حنيفة والشافعي؛ فترى أن قواعد الجدل التي وضعها أرسطو، وقواعد البرهان مطبقة في دقة تامة، فمقدمة صغرى، ومقدمة كبرى، والنتيجة، وأشكال القياس مستوفاة شروطها.
هذا في الشكل، وأما في الموضوع؛ فقد كان للفلسفة اليونانية أثر كبير في تعاليم المتكلمين، نعرض له عند الكلام في المعتزلة. وكان للأفلاطونية الحديثة بعض الأثر في التصوف، نوضحه عند الكلام فيه. وكان لهما معًا أثر كبير في الفلسفة الإسلامية، وهذا بتاريخ الفلسفة الإسلامية أشبه وأليق، وكان للبلاغة اليونانية أثر في علم البلاغة العربي، ولكنه دُوِّنَ بعد عصرنا الذي نؤرخه فلا نتعرض له الآن.
ولكن مما لا شك فيه أن العرب أو المسلمين استخدموا ما أخذوا من الثقافة اليونانية استخدامًا صالحًا، وأخذوا منها ما أخذوا، ثم بنوا عليه، وزادوا فيه وابتكروا، ولم يكن موقفهم موقف الناقل فحسب. وكان كثير منهم ينظر بإحدى عينيه على الثقافة اليونانية، وبالعين الأخرى على التعاليم الإسلامية والثقافة العربية، فيختار من الأولى ما يتفق والثانيةَ، ويؤلّف منها مزيجًا لا هو يوناني بحت، ولا إسلامي بحت؛ إنما أظهر ما كان ذلك في العصر الذي يلي عصرنا هذا هو العصر العباسي الثاني؛ فقد كانت الترجمة قد تمت وركزت، فأعقبها الأخذ بها والبناء عليها، وظهر أمثال إخوان الصفاء، والفارابي، وابن سينا، وابن رشد، وأمثالهم.
•••
وهناك نوع آخر خفيف من الثقافة اليونانية الرومانية، وأعني به الثقافة التي تنشأ من امتزاج الجنسين؛ أعني الجنس العربي، والجنس اليوناني الروماني في الحياة الاجتماعية، فقد كان هؤلاء الرومان يعيشون بين سمع العرب وبصرهم، ولهم عادات وتقاليد، وأفكار وآراء في نظم الحكم، ولهم فنون من غناء وتصوير وما إلى ذلك، فكان العرب يقتبسون من ذلك ما تيسر لهم، لا عن طريق الدراسة المنظمة، ولا عن طريق البحث العلمي، وإنما عن طريق المشاهدة والنظر، وعن طريق الحديث والمشافهة. ولئن كان العراق أهم منبع للثقافة اليونانية العلمية فقد كان الشام على ما يظهر أهم منبع لهذا النوع من الثقافة الاجتماعية، وسبب ذلك: أن الشام كان محكومًا بالرومان وقت الفتح الإسلامي، وكانت سلطة الرومان عليه أكبر من سلطتهم على العراق لقرب العراق من الدولة الأخرى القوية (وهي الفرس)، ووقوعه تحت سيطرتها في أغلب الأحيان، وكان في الشام عرب كثيرون، ورومان كثيرون، اختلطوا اختلاطًا تامًّا. وترك الرومان عند خروجهم عادات وتقاليد وفنونًا ونظمًا اقتبس منها العرب.
•••
وسبب ثالث يصح أن يكون، وهو: أن الأدب اليوناني أدب وثني، فيه آلهة متعددة، وفيه عبادة أبطال، والذوق العربي حين ترجمت العلوم ذوق مسلم، لم يستسغ هذا النوع من الأدب الوثني.
- (١) ألفاظ يونانية عُرِّبَت، ونلاحظ أنها أكثر ما تكون في أنواع ثياب يونانية أو رومانية لم يكن يعرفها العرب، ثم عرفوها ولبسوها، وأطلقوا عليها كلماتها الأصلية؛ مثل «البرجد» Paragauda (وهو كساء غليظ مخطط)، وأبو قَلمون (وهو ثوب رومي يتلون للعيون ألوانًا)، أو أسماء أشياء عرفها العرب بعد اتصالهم بالرومان، ولم تكن من نتاج جزيرة العرب؛ كالزبرجد والزمرد والياقوت، ومقاييس أو موازين رومانية؛ كالقيراط والأوقية، أو أسماء طبية أو نباتية؛ كالبلغم، والقولنج، والبرقوق، واللوبيا، والترمس، أو كلمات نصرانية كالجاثليق، والبطريق، أو نحو ذلك.٤١ ويظهر أن أكثر هذه الكلمات تسربت إلى العرب عن طريق الشام للسبب الذي أبنا قبل.
- (٢) قصص يونانية نقلت إلى العربية، وقد نقل ابن النديم أسماء كتب للروم في الأسماء والتاريخ ترجمت إلى العربية.٤٢ وحكى الجاحظ في كتاب الحيوان، قال: «كان في اليونانيين ممرور له نوادر عجيبة، وكان يسمى ريسيموس، والحكماء يروون له أكثر من ثمانين نادرة، ما من نادر ة إلا وهي غرة، وعين من عيون النوادر؛ فمنها أنه كان كلما خرج من بيته مع الفجر إلى شاطئ الفرات (للغائط أو للطهور) ألقى في أصل باب داره وفي دورانه حجرًا؛ كي لا ينصفق الباب فيحتاج إلى معالجة فتحه، وإلى رفعه، وكان كلما رجع من حاجته لم يجد الحجر، ووجد الباب منصفقًا. فكمن في بعض الأيام ليرى هذا الباب من يصنع به ما يصنع، فبينا هو في انتظاره إذ أقبل رجل حتى تناول الحجر، فلما نحاه من مكانه انصفق الباب، فقال له: مالك ولهذا الحجر، ومالك تأخذه؟ فقال: لم أعلم أنه لك. قال: فقد علمت أنه ليس لك! وقال بعضهم: ما بال ريسيموس يعلِّم الناس الشعر ولا يقول الشعر! قال: ريسيموس كالْمِسَنّ الذي يشْحُذ ولا يقطع. ورآه رجل يأكل في السوق، فقال: أتأكل في السوق؟ فقال: إذا جاع ريسيموس في السوق أكل في السوق.»٤٣ … إلخ.
- (٣) الحكم؛ فقد ترجمت حكم نسبت لفيثاغورس، وسقراط، وأفلاطون وأرسطو، وملئت بها كتب الأدب في ذلك العصر، مثل البيان والتبيين، وعيون الأخبار. وقال ابن النديم: إن علي بن ربن النصراني نقل كتابًا في الآداب والأمثال على مذاهب الفرس والروم والعرب.٤٤ … إلخ.
والظاهر أن ولوع العرب كان بهذين النوعين «القصص والأمثال» دون غيرهما.
ونقرأ ثبت الكتب التي ترجمها أو ألفها حنين، والتي ذكرها ابن أبي أصيبعة في طبقات الأطباء؛ فنرى أنَّه تعرض لكثير من فروع العلم المختلفة، ففضلًا عن كتبه الكثيرة في الطب كانت له كتب في الفلسفة وغيرها، فله كتاب في الهواء والماء والمساكن، وكتاب في تولد الفروج، بين فيه أن تولد الفروج إنما هو من بياض البيضة، واغتذاؤه من الملح الذي فيها، ومقالة في المد والجزر، وكتاب في أفعال الشمس والقمر، وكتاب السماء والعالم، وكتاب في المنطق، وكتاب في خلق الإنسان، ومقالة في تولد النار بين الحجرين، وكتاب في أحكام الإعراب على مذهب اليونانيين، وكتاب نوادر الفلاسفة والحكماء وآداب المتعلمين، وكتاب في الفلاحة، ومقالة في قوس قزح، وكتاب تاريخ العالم والمبدأ والأنبياء والملوك والأمم والخلفاء والملوك في الإسلام، ومقدمة كتاب فرفوريوس في المنطق، وكتاب في الفِراسة، وكتاب في إدراك حقيقة الأديان.
ولو عددنا كل ما ترجمه وألفه، لخرج ذلك بنا عن القصد الذي قصدناه. ومن هذا نرى أنه هو ومدرسته نقلوا إلى العربية زبدة آثار اليونان، وتناولوها بالشرح والاختصار، وجعلوا الثقافة اليونانية في مختلف فروعها بين أعين العلماء من المسلمين والنصارى يقتبسون منها، وينتفعون بها. وكان عملهم هم وأمثالهم عزاء للمتكلمين في مذاهبهم، وفلاسفة المسلمين، الذي نبغوا في العصر الذي بعد عصرنا هذا.
ومع هذا فنجد له كتبًا كثيرة في غير الطب، فله كتب في المنطق، وفي الطبيعة والهيئة، في فلسفة أفلاطون وأرسطو. وقد أثبت البحث العلمي أن بعض الكتب التي نسبت إليه إنما هي من عمل تلاميذه ومدرسته لا من عمله.
وإذا نحن أدركنا أنه أخذ يترجم عن اليونانية — وقد اعترضته مئات الكلمات اليونانية التي لم يُعْرف لها نظير في اللغة السريانية والعربية من مصطلحات طبية وفلسفية، وأسماء للنبات والحيوان، والهيئة وغيرها، وأنه كان مضطرًّا أن يوجد لها ألفاظًا عربية تقابلها إن أمكن، وأن يصقل الكلمات الأجنبية صقلًا عربيًّا إن لم يمكن؛ علمنا أنه اضطلع بعبء ينوء بالعصبة أولي القوة، وأدركنا قدر عَنائه، ومبلغ نجاحه.
أهم ما امتاز به حنين الترجمة من اليونانية إلى العربية والسريانية، بدأ ذلك وهو في السابعة عشرة من عمره، ولكن كانت ترجمته ضعيفة لم ترضِه َلما أن نضج، فأعاد بعدُ بعض ما تَرجم وصحح بعضًا.
اتصل أول أمره بالمأمون، وعين في بيت الحكمة الذي كان يزخر بالكتب اليونانية التي نقلت من آسيا الصغرى، ومن القسطنطينية، فأخذ حنين يترجم منها إلى السريانية أولًا، ثم إلى العربية، ثم ترجم للمعتصم والواثق والمتوكل.
ولم يكتف بما جمع في بيت الحكمة، بل رحل في نواحي العراق، وسافر إلى الشام والإسكندرية وبلاد الروم؛ يجمع الكتب النادرة، ومات سنة ٢٦٤هـ بعد أن عمر نحو سبعين عامًا، بذل فيها من الجهد العلمي ما لا يستطيع غيره أن ينهض به في مئات السنين.
أكثر ما ترجمه حنين كتب طبية، وخاصة كتب جالينوس؛ فقد ذكروا «أنه ترجم إلى السريانية من كتب جالينوس خمسة وتسعين كتابًا، وترجم إلى العربية منها تسعة وثلاثين، وأصلح ما ترجمه تلاميذه — وهي ستة — إلى السريانية، ونحوًا من سبعين إلى العربية، وأصلح معظم الخمسين كتابًا التي كان قد ترجمها من أنواع الأدب كالإلياذة، وبقية الروايات، والأشعار، والخطب اليونانية؛ سببه ما قدمنا. فهذان النوعان من النوع العالمي، قد جردا مما يلابسهما من حياة اجتماعية خاصة، وليس فيهما أسماء يونانية ثقيلة على سمع العربي ولسانه، ليس فيهما أوزان شعرية لا تسيغها العربية، ولا فيهما وصف لحياة اجتماعية بعيدة عما يألفه العربي المسلم.
وبعد؛ فقد كان تأثير اليونان واسعًا عميقًا في الفلسفة والعلوم الرياضية والطبية، ضيقًا خفيفًا في الناحية الأدبية.
فإن شئنا أن نختار من يمثل هذه الثقافة اليونانية؛ اخترنا لذلك «حنين بن إسحاق».
حنين بن إسحاق
حنين بن إسحاق، ويلقب بأبي زيد، ولد سنة ١٩٤هـ من أبٍ عربي من قبيلة عِباد التي تسكن الحيرة، وكان أبوه إسحاق نصرانيا نسطوريا، فنشأ ابنه كذلك، وكان إسحاق صيدلانيا، فأعد ابَنه لدراسة الطب. بدأ حنين يدرس على يوحنا بن ماسويه. وكان حنين يكثر السؤال على أستاذه، ويلح في الأسئلة فأحرج صدر يوحنا فطرده، وقال: «ما لأهل الحيرة والطب، عليك ببيع الفلوس في الطريق!» وكان في يوحنا عصبية لأهل جنديسابور ومدرستها، يعتقد أن العلم لا يخرج عنهم.
فذهب حنين إلى بلاد الروم، وأجاد تعلم اليونانية، ثم عاد إلى البصرة، ولازم الخليل بن أحمد يأخذ عنه العربية، ويروون أنه حمل كتاب العين المنسوب للخليل إلى بغداد.
وكان يجيد أربع لغات؛ الفارسية، واليونانية، والعربية، والسريانية.
ولنسق الآن مثلًا من ترجمته، قال في أول كتاب الأسابيع لأبقراط، وشرحه لجالينوس، الذي ترجمه حنين:
وقال في موضع ثالث: «واعلموا أن الغضب ينقاد للعقل، وإنا إذا تحركنا للغضب قدر العقل، وقوي على إمساك ذلك الغضب ولزومه، ومنه أن يفعل أفاعليه، فإن الغضب ربما هيج أفاعيل سيئة مكروهة، فيحول العقل بينه وبين أفاعيله، واعلموا أيضًا أن الشمس هي المدورة للفرقدين، وليست الفاعلة لذلك، لكنها تصعد وتنحدر فتظهر للفرقدين على نحو صعودها وانحطاطها؛ فقال لذلك هذا المرء الفاضل: إن الشمس تدبر الفرقدين، وليست المحركة لهما بالحقيقة، لكنها تظهرهما على وجه ما ذكرناه آنفًا ومعناه.
ومن هذا نستطيع أن نحكم أن عبارة «حنين» واضحة المعنى جيدة الأسلوب، وأنه إذا اضطر استعمل المصطلحات العلمية بألفاظها؛ مثل «دغماطيقيين»، و«فسيولوغيا»، و«بطلوغيا»، وأن يتبعها بشرح معناها إلى أن تؤلف الكلمة في العربية، ويتحدد مدلولها، وأنه يضع المتن بين قوسين، ويتبع ذلك مما عنده من شرح. وقد جرى على هذا النمط علماء المسلمين بعد في كتبهم.
وعلى الجملة؛ فقد كان حنين ومدرسته خير من يمثل الثقافة اليونانية، وخير من قدم إلى قراء العربية نتائج القرائح اليونانية.