الفصل الأول

وصف الحركة العلمية إجمالًا

أول ما نلاحظه أن الأمة الإسلامية في هذا العصر خطت خطوة جديدة في حياتها العقلية، وحركاتها العلمية؛ وكان هذا نتيجة لازمة لكل ما أحاط بها من بيئة طبيعية واجتماعية.

ذلك بأن تاريخ الفكر في الأمم المختلفة يكاد يسلك سبيلًا واحدة، ويتدرج في درجات معينة، كل درجة منها تسلم إلى التي تليها متى تهيأت الظروف وتوافرت العوامل، وليس سيرها من قبيل طيف الخيال أو حلم النائم، يتنقل حيثما اتفق، ولا يخضع في حركاته لقانون ولا نظام.

وقد جدَّ كثير — من الباحثين — في دراسة العقل البشري وتعرف قوانينه، وعرضوا للأمم المختلفة يرقبون ما طرأ على أفكارها من تغيُّر، ويرصدون الأسباب التي دعت إليه، ثم يقارنون بين الأمم؛ ليتبينوا كيف اتحدت الأسباب وتوحدت الخطوات فاتخذت النتائج واستخلصوا من كل ذلك قوانين عامة، وإن كان بعضها لا يزال مجال البحث واختلاف النظر.

أرادوا ببحثهم أن يُخضعوا الحياة الفكرية في الأمم لمثل ما خضعت له مواد الطبيعة، فقد استكشفوا قوانين الجاذبية والمغناطيسية وحركات الأجسام والضوء وما إلى ذلك، ورأوا أن الأعضاء ووظائفها خاضعة كذلك لقوانين طبيعية، فالعين كالمنظار في عدساتها وانكسار الأضواء عليها، والأذن تقوم في تأدية وظيفتها على خصائص الصوت وقوانينه وهكذا، وكذلك الشأن في الجماعات وما يحيط بها، فللصحراء وخصائصها أثر قوي في قبائلها، وللسهل الخصيب أثر كبير في حياة أهله — ومثل ذلك يقال في النظم الاجتماعية؛ فليس نوع الحكومات التي تحكم الشعوب إلا نتيجة طبيعية لحالة الشعب وما يحيط به، ولتاريخه وما كان فيه من أحداث — كذلك تطوُّره الفكري يمكن إخضاعه لقوانين طبيعية، وإن كان ذلك شاقًا عسيرًا؛ فهو يتطلب معرفة دقيقة بتاريخ الأمم، وما طرأ عليه من تغيرات، والتغلغل في أعماق التاريخ لمعرفة العوامل التي تعمل في تدرج الأمم واختلاف عقلياتها — أضف إلى ذلك أن هناك عاملًا قويًا في الإنسان ليس في غيره من مواد الطبيعة وهي «الإرادة الحرة»؛ فيُخيَّل إليه أنه فوق القوانين بإرادته، وأنه يستطيع أن يعمل في اللحظة الواحدة الشيء وألا يعمله، وأن يتحدى علماء الاجتماع الذين يتنبؤون بحدوث حادث بناءً على قوانينهم فيعمل غيره؛ ولكن علماء الاجتماع مع تقويمهم هذا العامل يقللون من أهمية حرية الإرادة، ويرون أنها في اختيارها الظاهر خاضعة لقوانين لا تستطيع الخروج عنها، وأن اختلاف الجو وعوامل المدنية تعمل في الإرادة والعقلية عملها في اختلاف الوجوه والألوان.

قد تختلف الأقوام بعض الاختلاف في تاريخ حياتهم العقلية تبعًا لعوامل كثيرة أهمها العوامل الاقتصادية: من قوم يعيشون على الصيد، وآخرين على زرع الأرض وهكذا، فيختلف — بناءً على ذلك — كيفية تدرجهم في الرقي، ولكن — على الرغم من ذلك — فالقوانين العامة لمراحل الرقي العقلي واحدة وإن اختلفت الجزئيات، فمن الحق أن الأمم تعيش في بيئات طبيعية مختلفة، وأن هذه البيئات قد تعجل بتقدُّم القوم في سبيل الرقي العقلي وقد تؤخر سيرهم، ولكن اتجاه الطريق واحد على كل حال — هذه البيئات المختلفة قد تلوَّن الحياة العقلية ببعض ألوان فرعية خاصة، ولكن الألوان الأصلية واحدة، ومَثَل الأطوار العقلية في الأمم مثل حياة الأفراد، فالإنسان ينشأ طفلًا يافعًا فشابًا فكهلًا فشيخًا، ويمرُّ الأفراد بهذه المراحل وإن اختلفوا — فيما بينهم — في بعض التفاصيل من ألوان وعادات وطبائع وأخلاق.

وقد اتجه بعض الباحثين المحدَثين في نشوء العقل البشري إلى ربط المظاهر العقلية وتطوُّرها بالحياة الاقتصادية، ورأوا أن تطوُّر العقل تابع للتطوُّر الاقتصادي، وأن ما يطرأ على الأمة من تغير في العادات والأخلاق والحياة العلمية والفنية والفلسفية ليس إلا نتيجة طبيعية لما طرأ عليها من تغير اقتصادي؛ مثال ذلك أن نظام رأس المال الاقتصادي نشأ عنه تقدم المخترعات من سكك حديدية وأمثالها، فكان لذلك كله أثر في الثقافة لا يقدر — وبناءً على ذلك قسُّموا العصور التي مَّر بها الإنسان إلى أقسام اقتصادية وأبانوا خصائص كل عمر من الناحية العقلية، وليس يعنينا هنا بسط هذا الرأي ومناقشته وبيان أن الحالة الاقتصادية ليست إلا عاملًا من العوامل في الثقافة وليست كل شيء.١
على كل حال — جدّ الباحثون في العصور الحديثة في استخراج قوانين طبيعية لسير العقل البشري في الأمم، وذهب بعضهم٢ إلى تطبيق رقي العقل وخطواته التي يخطوها الفرد على رقي العقل في الأمم؛ فكما أن الفرد يبدأ بحالة عقلية تناسب طفولته ثم يتدرج في الرقي تبعّا لسنِّه ونضجه كذلك الأمة، والأمم جميعًا تمرُّ بهذه الأطوار وإن اختلفت رَيْثًما وعجلة، وذكروا أن الأطوار التي تمر بها الأمم خمسة (١) عصر سرعة التصديق واعتناق الخرافات والأوهام (٢) عصر الشك والتحري (٣) عصر العقيدة والإيمان (٤) عصر العقل (٥) عصر الهرم والشيخوخة، وأن هذه العصور يُسْلِم بعضها إلى بعض، وأن الأمم في العالم تقف على درجات مختلفة من هذا السلَّم، وليس معنى هذا أن الأمة الواحدة إذا قطعت شوطًا وانتقلت إلى طور آخر كان كل أفرادها كذلك، بل إن أفراد كل أمة مختلفون فيما بينهم، كالأسرة الواحدة يختلف أفرادها في الصغر والكبر وضعف العقل ونضوجه، فإذا حكمنا على أسرة بالرقي نظرنا إلى مجموعها والأفراد البارزين فيها، وكذلك الأمة نحكم عليها بالنزعة الغالبة على مثقفيها والطبقة المفكرة فيها — ويعمل في حياة الأمم وتغيرها عقليًا جملة تغيرات؛ كامتزاج الأمة بأمة أخرى واختلاط دمائهما ونحو ذلك.

وإذا نحن أردنا أن نطبق القوانين التي وضعها هؤلاء العلماء على الفكر العربي شعرنا بصعوبة ذلك؛ لِمَا أحاط بالعرب من ظروف وأحداث قلَّ أن تحدث لغيرها من الأمم — ذلك أن هذا التطبيق يكون سهلًا نسبيًا متى كانت الأمة قد سارت سيرها الطبيعي من داخلها لا من خارجها، كالأمة اليونانية، قطعت هذه المراحل وهي هي أمة اليونان، ولكن الفكر العربي كان فكر أمة عربية مستقلة عن غيرها، ثم لم يمهلها التاريخ حتى تتدرج، أوقُلْ إنها لم تمهل التاريخ، فقد أخضعت لأمرها أمة الفرس وأمة الروم وأممًا بين ذلك كثيرة، وهذه الأمم المختلفة من فرس وروم ومصريين وأمثالهم كانت على درجات مختلفة من سلَّم الرقي العقلي، وكانت قد قطعت مراحل لم يقطعها العرب في جاهليتهم، وكانت حياتها الاجتماعية مختلفة كل الاختلاف، فحياة الفرس الاجتماعية غير حياة الروم، وهما غير حياة المصريين وهكذا، وحياتهم العقلية مختلفة تبعًا لاختلاف حياتهم الاجتماعية، وانتقل كثير من العرب من جزيرتهم إلى هذه الأصقاع؛ فسكن قوم في فارس، وقوم في مصر، وقوم في الشام، وقوم في العراق، وكانوا أولِي الأمر فيها أيام الخلفاء الراشدين والدولية الأموية، وكان المنتقلون من جزيرة العرب إلى هذه الأقاليم أكثر ممَنْ انتقل من الأقاليم المختلفة إلى جزيرة العرب، ونَشَر العرب اللغة والدين في كل هذه البلاد المفتوحة، وأصبحت الثقافة مصبوغة بالصبغة العربية، وأصبحت لغةُ العلم هي اللغة العربية — هذه الأسباب وغيرها جعلت الفكر العربي إذا جعلنا بَدْأه العصر الجاهلي لا يسير السير الطبيعي الذي ساره في الأمم المنعزلة التي لم تمتزج هذا الامتزاج — لقد كان الفكر العربي فكرًا عربيًا خالصًا (إلا قليلًا) في الجاهلية من حيث طبيعته ومن حيث لغته، أمَّا في الإسلام فنحن نسميه فكرًا عربيًا على نوع من التجوُّز، وهو في الواقع فكر أمم مختلفة اتخذت اللغة العربية أداة لتفكيرها، وهو فكر العرب وفكر الفرس وفكر الروم وفكر المصريين مُزِجَ كله مزجًا قويًا، واتخذ اللغة العربية أداته، واتخذ الإسلام أساسه — كان الفكر الفارسي والرومي قد قطع مراحل في التفكير لم يقطعها الفكر العربي في الجاهلية، فلمَّا كان الامتزاج أبت الطبيعة إلا أن تسير على قوانينها فتجعل من هذا المزيج المختلف العناصر وحدة، وإن كانت هذه الوحدة مختلفة الأجزاء معقدة التركيب، وهذا المزج كذلك يسرع في قطع المراحل التي تقطعها الأمة المنعزلة في أزمان طويلة، كما يجعل دراسة هذه الظواهر المختلفة أصعب مراسًا وأبعد منالًا.

ومع هذا كله فيمكن رصد مظاهر الانتقال فيما يأتي:
  • (١)
    يظهر أن العرب في جاهليتهم كانوا في طور سرعة التصديق وحياة الخرافات والأوهام٣ — ولابد أن يكونوا قد عاشوا هذه المعيشة قرونًا طويلة قبل الإسلام ولكن لم يصلنا إلا القليل عن جاهليتهم الأولى، وأكثر ما وصلنا كان قبل البعثة بما لا يعدو قرنين، فقد أدركهم التاريخ وهم يكادون يكونون في آخر هذا الطور؛ ومما يلاحظ أن تطُّور العرب في الجزيرة كان بطيئًا في الجاهلية بطئًا شديدًا، وخاصة سكان الصحراء؛ لضعف اتصالهم بمَنْ حولهم، فهم يعيشون عيشة تكاد تكون متشابهة — وعلى الجملة فقد فشت فيهم عبادة الأصنام، واستسقوا بها المطر، واستنصروا بها على العدوَّ، وذبحوا لها الذبائح، وامتلأت بها منازلهم، وإذا اختصموا في أمر استقسموا بالقداح عندها، وإذا أرادوا سفرًا كان آخر ما يصنعون أن يتمسحوا بها، وإذاقَدِموُا من سفر كان أول ما يصنعون إذا دخلوا منازلهم أن يتمسحوا بها، وعظَّموا الأنصاب وهي الأحجار ينصبونها ويطوفون بها وهكذا — ومُلِئتَ حياتهم بالخرافات والأوهام، فهم إذا أمسكت السماء وأصيبوا بالقحط عمدوا إلى السَّلَع والعُشَر٤ فحزموها وعقدوهما في أذناب البقر ثم أشعلوا النار فيهما تفاؤلًا بسَنَا البرق، وهم إذا مات منهم كريم عمدوا إلى ناقته فعكسوا عنقها وأداروا رأسها على مؤخرها، وتركوها في حَفِيرة ولا تُطْعَمُ ولاتُسْقىَ حتى تموت، ليُحشر عليها راكبها، فإذا لم يُفعلْ له ذلك حُشِر ماشيًا؛ وهم يعتقدون بالهامَة تخرج من رأس القتيل، وتنادي على قبره اسقوني فإني صَديَِّة حتى يؤخذ بثأره، إلى كثير من أمثال ذلك٥ — وكانت الكهانة والعرافة نظامًا من نظم حياتهم، يفزعون إلى الكُهَّان والعرَّافين في منازعاتهم وخصوماتهم، ويرون أن لهم صلة بالجن يأخذون عنهم، وقد اشتهر بينهم كهان كثيرون كان لهم مقام سامٍ بينهم — كل هذا وأمثاله كان فاشيًا بين القبائل، ونظامًا عامًا عند الطبقات المختلفة، قد خضعت حياتهم للتفاؤل والتشاؤم، وأسرعوا في تصديق ما يُروْىَ لهم وضَعُفَ تعليلهم للأحداث إلا في القليل النادر؛ مما يدل على أنهم لم يَعْدُوا هذا الطور الذي ذكرنا.
ولكن يظهر أنهم قبل الإسلام كانوا في آخر هذه المرحلة؛ فإنا نرى كثيرين قُبَيِْل البعثة قد دخلوا في طور البحث والشك، شكٌ فيما عليه قومهم من دين وخرافات وأوهام، وبحثٌ وراء الحق، مثل زيد بن عمرو بن نُفَيْل بن عبد العزَّى؛ «فقد اعتزل عبادة الأوثان وامتنع من أكل ذبائحهم، وكان يقول: يا معشر قريش أيرسل الله قَطْر السماء، وينبت بَقْل الأرض ويخلق السائمَة فترعَى فيه، وتذبحوا لغير الله».٦

ورووا أنه خرج إلى الشام يسأل اليهود والنصارى عن دينهم لعله يصل إلى ما يثلج صدره، ويذهب شكه — وكذلك «وَرَقة بن نَوْفل» ذكروا أنه كره عبادة الأوثان، وطلب الدين في الآفاق، وقرأ الكتب — وهكذا روت لنا الكتب طائفة كثيرة في هذا العصر شكّتَ وبحثت، وقالت الشعر في شكِّها، وتنديدها بالأصنام وكرهها لما عليه قومهم من عادات غير معقولة كالذي يقول:

لا دَرَّ رِجال خاب سعيهمُ
يستمطرون لدى الأزمات بالعُشرَ
أجاعل أنت بيقورا٧ مسَلَّعَة
ذَرِيعةً لك بين الله والمطر

ونحوه مما يصحُّ أن يُسمَّى طور الشك والبحث.

  • (٢)
    وأعقب دور الحَيْرة هذه دور العقيدة والإيمان؛ فجاء الإسلام يدعو إلى عبادة إله واحد ليس كمثله شيء، ودخل الناس فيه أفواجًا، وقَضى على ما كان في الجاهلية من خرافات وأوهام — حارب الأصنام وحطمها، ولمَّا دخل رسول الله المسجد يوم فتح مكة ورأى الأصنام منصوبة حول الكعبة جعل يطعن بِسِيَةِ قوسه٨ في عيونها ووجوهها ويقول: جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْباطِلَ كَانَ زَهُوقًا ثم أمر بها فكُفِفت على وجهها، ثم أُخْرِجت من المسجد فحُرِقت، وبعث خَالدَ بن الوليد والطفيل بن عمرو الَّدوْسيِّ وغيرهَما لكسر بعض وتحريق بعض، وأكذَبَ الكهان ولم يعترف بهم، ونهى عن تصديقهم وعاب سجعهم ونهى عن الطيِّرة والتشاؤم وأمثالها — وعلى الجملة فقد حارب الإسلام ما كان يسود العرب من أوهام وأحل محلها دينًا شرحنا مبادئه فيما تقدَّم.

اعتنق الناس الإسلام في حماسة وقوة فملك عليهم نفوسهم وأثر في كل المناحي الاجتماعية ومنها العلم — فقد ظلَّ الدين أساس كل الحركات العلمية إلى أواخر العصر الأموي، فأساس التاريخ سيرة النبي وغزواتُهُ وفتوح المسلمين، والفقه مبني على ما ورد من قرآن وحديث، ووعظ الوعاظ وبحث العلماء دائر حول الدين من تفسير وحديث وفقه وما إلى ذلك، وما أُثِر عن ذلك العصر من دراسات دنيوية من طب وصناعة (كيمياء) فقليل نادر، وأكثر مَنْ اشتغل بها من غير المسلمين — اقتنع العلماء بالإسلام وآمنوا به إيمانًا صادقًا لا مجال للشك فيه فكان بحثهم في تفسير ما غمض من نصوصه، أو جمع ما تفرق من الحديث، أو استنباط أحكام القرآن والحديث، أو تطبيق ما ورد منهما على الحوادث الجزئية.

  • (٣)
    جاء العصر العباسي فرأينا مظهرًا آخر — رأينا العلوم الدنيوية تفيض فيضًا في المملكة الإسلامية؛ فتترجَمُ الفلسفة اليونانية بجميع فروعها من طب ومنطق وطبيعية وكيمياء ونجوم ورياضة، وتترجم الرياضة الهندية والتنجيم الهندي، ويترجم تاريخ الأمم من فرس ويونان ورومان وغيرهم، ورأينا الإلهيات اليونانية تعرض ويعرض بجانبها الديانات الأخرى من يهودية ونصرانية ومجوسية وغيرها، ورأينا أرباب الديانات يتجادلون في أديانهم ويقفون مواقف الهجوم والدفاع — كل هذا سبَّبَ حالة عقلية جديدة — فأهل الديانات الأخرى إنما يدعون إلى دينهم بالعقل والمنطق، ويُرَدّ عليهم بالعقل والمنطق، فكان طبيعيًا أن يفعل المسلمون ذلك حينما يدعونهم إلى الإسلام — قد كانت الدعوة إلى الإسلام في العصر الأول أكثر ما تعتمد على الأسلوب الفطري من لفت إلى الكون وآثاره ودلالة ذلك على موجدها أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا * وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا * وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجًا الآية. فجاء أرباب الديانات الأخرى في العصر العباسي يريدون أدلة عقلية مؤسّسة على منطق أرسطو، فيها مقدمة صغرى وكبرى، مستوفيتان للشروط، وفيها نتيجة كذلك؛ فتحولت الدعوة الدينية إلى علم الكلام، وتأثر تفسير القرآن وتفسير الحديث والتشريع بهذا الأثر الفلسفي، ورأينا العلماء يجتهدون في شرح كل ما يعرض لهم من ذلك بعلل عقلية وعبارات منطقية — وإذا كان هذا في العلوم الدينية فالأمر في العلوم الدينوية أشد وضوحًا؛ فالطب والرياضة والهيئة وغيرها اعتمدت كل الاعتماد على التجارب وأقوال العلماء وبراهين المنطق. وهذه — على العموم — ظاهرة جديدة في العصر العباسي وإن كانت نتيجة طبيعية لحياة الناس وسيرهم العقلي.

•••

ومن ناحية أخرى يرى بعض مؤرخي العلم٩ أن العلم في طوره الأول لا يكون منظمًا. يبحث في مسائل متفرقة لا ُتستَقْصىَ ولا تؤلِّف بينها وحدة، أكثر ما يَعتَمد فيها على الروايات وآراء المفكرين قبلهم، مسائل العلم مبعثرة، والعلماء أنفسهم مبعثرون، والعلم شيء واحد ليس ذا فروع، فكل ما يفكر فيه عقل الإنسان هو العلم، كالذي سُمِّي عند اليونان «فلسفة»؛ فقد شملت أبحاثها كل ما خطر بالعقل البشري. ثم يتقدم العلم، وتتسع — بعض الشيء — دائرة المعلوم، وتضيق — بعض الشيء — دائرة المجهول، وكلَّما حُلّتَ مسألة أضيفت إلى مجموع المعارف وعُلمت للناس.

وكلَّما تقدَّم العلم مال إلى الامتحان والجزم، ولم يكتفِ بالاعتماد على أقوال الرواة وآراء السابقين، حتى إذا قطع في هذا شوطًا بعيدًا دخل في طور التنظيم، وجُمعت المسائل المتعلقة بموضوع واحد في مجموعة واحدة، وكونت فرعًا مستقلًا بعض الاستقلال، ويلاحظون كذلك أن فكر الإنسان اتجه أولًا إلى الطبيعة ومظاهرها ثم انتقل إلى النظر في الإنسان ودراسته، وبعد ذلك تميزت العلوم وُنظِّمت.

فإذا نحن نظرنا في ضوء هذا إلى العرب وجدنا معلوماتهم في الجاهلية مبعثرة، نظرات في الطبيعة ونظرات في الإنسان لا تربطها رابطة، وتجارب يرويها الخلف عن السلف من غير امتحان، طب موروث وكهانة مألوفة، وقول في النجوم والأنواء والرياح سمعه جيل عن جيل، ورواية للشعر لا تعتمد على درس أو امتحان وهكذا، وكل شخص راقٍ يعرف هذه الأشياء جملة على أنها معلومات ثابتة، وأحاديثهم من هذا القبيل فيها كل شيء وليس فيها شيء دقيق منظم؛ حتى إذا جاء العصر الذي يليه من عصر الخلفاء الراشدين وإلى قبيل الدولة العباسية رأينا العلم السائد هو العلم الديني كما ذكرنا، ورأينا المسائل تُبْحَث بنظر أدق، ولكن لم نجد العلوم كذلك متميزة، فليس علم مستقل اسمه التفسير، ولا علم مستقل اسمه الفقه وهكذا، ولا العلماء كذلك؛ فابن عباس يتكلم في مجلس واحد في مسائل متنوعة في فروع متعددة وكذلك غيره، والثقافة كتلة واحدة ممتزجة من تفسير وحديث وفقه وما يلزمها من لغة وشعر، كلها تُْلَقى في درس واحد ليس ذا فروع ولا لكل فرع اسم، والذين يجمعون الحديث لا يبوَّبونه، ولا يضعون الأحاديث المتعلقة بموضوع واحد تحت باب واحد، ولم يكن تأليف بالمعنى المنظم الذي رأيناه بعدُ في العصر الذي وَليِه.

حتى استهل القرن الثاني فرأينا الاتجاه يتجه إلى تمييز العلوم بعضها عن بعض، وتم ذلك في أوائل العصر العباسي، قال الذهبي: (في سنة ١٤٣ شرع علماء الإسلام في هذا العصر في تدوين الحديث والفقه والتفسير فصنَّف ابن جُريَج بمكة، ومالكٌ الموطأ بالمدينة، والأوزاعي بالشام، وابن أبي عَروُبة وحماد بن سَلَمة وغيرهما بالبصرة، ومَعْمَر باليمن، وسفيان الثوري بالكوفة، وصنَّف ابن إسحاق المغازي، وصنَّف أبو حنيفة رحمه الله الفقه والرأي، ثم بعد يسير صنف هُشَيْم، والليث وابن لَهيعَة ثم ابن المبارك وأبو يوسف وابن وهب، وكَثُر تدوين العلم وتبويبه، ودُونّتَ كتب العربية واللغة والتاريخ وأيام الناس، وقبل هذا العصر كان الأئمة يتكلمون من حفظهم أو يروون العلم من صحف صحيحة غير مرتبة).١٠
من هذا النص ترى مصداق ما ذكرنا من أن العلم في العهد الأموي كان رواية العلماء من حفظهم أو من صحف جُمِعتَ حيثما اتفق، فالصحيفة قد يكون فيها حديث ومسألة فقهية، ومسألة نحوية، ومسألة لغوية. ومجالس العلماء كذلك. يُروْىَ عن عطاء أنه قال: «ما رأيت قط أكرم من مجلس ابن عباس أكرم فقهًا وأعظم خشية، إن أصحاب الفقه عنده، وأصحاب القرآن عنده، وأصحاب الشعر عنده، يُصدْرهم كلهم من وادٍ واسع»١١ — فلمَّا جاء العصر العباسي مُيزِّت العلوم وجُمِعتَ مسائل كل علم على حدتها، بل ووضعت المسائل المتشابهة تحت باب واحد.

كذلك نرى العلم في العصر الأموي كانت نواته القرآن والحديث، فكل مسائل العلم تقريبًا تدور حول هذه النواة؛ منهما يُسْتَنْبَط الفقه، ولأجلهما يُروْىَ الشعر، وبسببهما تبحث مسائل النحو. وعلى الجملة فالحركة العلمية كلها دينية إلا القليل؛ أمَّا في العصر العباسي فقد ظلت هذه النواة — وإن اتخذت البحوث حولها شكلًا آخر — ولكن وجدت بجانب هذه النواة نواة أخرى تجمعت حولها العلوم الدنيوية، وهي نواة الطب؛ فقد أسس النساطرة بمعاونة اليهود مدرسة للطب بجند يسابور، وأيَّدهم الخلفاء العباسيون، وقد كانت هذه المدرسة الطبية وارثة الطب اليوناني والفلسفة اليونانية في الشرق، وحول هذه الدراسة الطبية تكونت دراسة الطبيعة والكيمياء والهيئة، بل والمنطق والإلهيات، وكانت الثقافة الطبية تتطلب كل هذه الفروع، وبرنامجها يسع كل هذه الأشياء، كما نلاحظ هذا حتى في فلاسفة المسلمين أمثال الفارابي وابن سينا؛ فكلاهما طبيب فيلسوف.

من أجل هذا نرى نوعين من الدراسة في هذا العصر: دراسة دينية حول القرآن والحديث، ودراسة دنيوية حول الطب، ولكل نوع مميزات خاصة ومنهج في البحث خاص، وإن أثَّر كل منهما في الآخر وتأثر به.

وقد عبَّر ابن خلدون عن هذين النوعيين تعبيرًا صادقًا؛ إذ قال: «إن العلوم صنفان: صنف طبيعي للإنسان يهتدي إليه بفكره، وصنف نقلي يأخذه عمَنْ وضعه، والأول هي العلوم الحِكْمِية الفلسفية، وهي التي يمكن أن يقف عليها الإنسان بطبيعة فكره، ويهتدي بمداركه البشرية إلى موضوعاتها ومسائلها، وأنحاء براهينها ووجوه تعليمها، حتى يَقِفَه نظره وبحثه على الصواب من الخطأ فيها من حيث هو إنسان ذو فكر؛ والثاني هي العلوم النقلية الوضعية؛ وهي كلها مستندة إلى الخبر عن الواضع الشرعي، ولا مجال فيها للعقل إلا في إلحاق الفروع من مسائلها بالأصول».١٢
وقد لاحظ كذلك ملاحظة دقيقة وهي أن العلوم العقلية أو الطبيعية مشتركة بين الأمم؛ لأن الإنسان يهتدي إليها بطبيعة فكره «وأمَّا العلوم النقلية كلها فمختصة بالملة الإسلامية وأهلها».١٣

•••

في هذا العصر كما لاحظ الذهبي وضعت في اللغة العربية أسس كل العلوم — تقريبًا — فقلَّ أن نرى علمًا إسلاميًا نشأ بعدُ ولم يكن قد وُضِعَ في العصر العباسي، وُضِع تفسير القرآن، وجمع الحديث ووضعت علومه، ووُضِع علم النحو، وألَّف فيه سيبويه كتابه الخالد، ووضعت كتب اللغة ورسم خطتها الخليل بن أحمد كما وُضِعَ العروض، ودُوِّنت أشعار العرب في المعلقات التي دوَّنها حماد الرواية والمفضليات التي دوَّنها المفضّل الضبي، والأصمعيات التي دوَّنها الأصمعي، ووضع الجاحظ أساس الكتب الأدبية، وحذا حذوه ابن قتيبة والمبرد وغيرهما، ودُوِّن الفقه على يد الأئمة وتلاميذهم، ودون التاريخ الواقدي وابن إسحاق وأمثالهما — هذا من ناحية، ومن الناحية الأخرى تُرْجِمتَ كتب الفلسفة من منطق ورياضة وهيئة وطب غيرها، وبدأ العلماء يؤلفون فيها، فماذا جدَّ بعدَ ذلك من علوم لم تكن في هذا العصر؟ إنما جدَّ بعد ذلك توسيع هذه العلوم وزيادة جزئياتها، وإجادة تأليفها أو ضعفه، ومعالجة أنفع أو أضر.

•••

يصحُّ لنا بعد ذلك أن نتساءل عن العوامل التي سبَّبت هذا التطوُّر ونشأ عنها تنظيم العلوم وتدوينها — أولًا — وزيادة فروعها ووجود النواة الأخرى وهي نواة العلوم الدنيوية — ثانيًا — يرى ابن خلدون أن العلم يكثر حيث يكثر العمران؛ لأن العلم شأنه شأن الصنائع بل هو صناعة «والصنائع إنما تكثر في الأمصار، وعلى نسبة عمرانها في الكثرة والقلة والحضارة والترف تكون نسبة الصنائع في الجودة والكثرة؛ لأنه أمر زائد على المعاش، فمتى فضلت أعمال أهل العمران عن معاشهم انصرفت إلى ما وراء المعاش من التصرف في خاصية الإنسان وفي العلوم والصنائع».١٤

وعلى هذا فقد كانت الحضارة في العراق أيام العباسيين أتمَّ منها في دمشق أيام الأمويين، والمال أكثر، فكانت الصنائع أتُمّ والعلم أوفر.

على أن هناك أسبابًا أخرى في عصرنا هذا غير الأسباب العامة من كثرة العمران ونحوها.

منها: انتقال الخلفاء إلى العراق وتأسيس بغداد فيه، وقد كانت العراق أوفر حضارة، ومن قديم كانت العراق تفخر على الشام بعلومها حتى في العهد الأموي كما سيأتي.١٥

ومنها: أن الدولة العباسية أصبحت الغلبة فيها للفرس وغيرهم، ولم تعد الأمور كلها بيد العرب كما كان في العهد الأموي؛ فأمسك هؤلاء بزمام شئون الدولة ومنها العلم، وقد كان الفرس قد قطعوا المراحل الأولى للعلم وكادوا يصلون إلى آخرها، وكذلك شأن النساطرة وأمثالهم، فلمَّا أُعطوا الحرية اللازمة للعلم نهضوا به وقادوا حركته على مثل المنهج الذي كانوا يسيرون عليه في أممهم قبل الإسلام.

ومنها: أن مرور أكثر من قرن على ظهور الإسلام وانتشاره، وفتوح البلدان وحكمها بيد العرب مكَّن من ظهور جيل من أبناء الفرس والروم وغيرهما، نشأ في بلاد إسلامية وأصبح مسلمًا إمَّا باعتناق الدين أو بالمرْبَى، وصار يجيد العربية كأهلها، وجمع إلى ذلك ثقافته بلغة آبائه، فأنشأ باللغة العربية ما كان يكتبه آباؤه باللغة الفارسية أو اليونانية، ودُوِّن في العلوم العربية على النحو الذي كانت تُدَّون به العلوم من في اللغات الأخرى.

ومنها: أن الحياة الاجتماعية بالعراق واختلافها عن الحياة الاجتماعية في الشام جعلت الحاجة ماسة لنوع من العلوم كان لابد منه، فدجلة والفرات تلجئ حتما إلى نظام في الريَّ غير الذي في الشام وجزيرة العرب، وهذا يلجئ حتمًا إلى النظر في الخراج نظرًا جديدًا كان له من غير شك أثر في كتاب الخراج لأبي يوسف، واختلاف الحياة في البصرة والكوفة جعل هناك خلافًا طبيعيًا بين مدرستي البصرة والكوفة في النحو واللغة والأدب وغيرها.

ومنها: أن هناك عوامل شخصية أثَّرت في العلم لو لم تحدث لأخَّرت سير العلم بعض الزمن، كالذي كان من أبي جعفر المنصور؛ فضعف معدته جعله يهتم كثيرًا بالطب ويستدعي الأطباء على اختلاف مللهم ونحلهم ويصغي إليهم ويشجعهم على البحث في الطب والتأليف فيه، فكان هذا نواة للعلوم العقلية، ومثل ذلك اعتقاده في التنجيم، أي أن هناك ارتباطًا بين حركات النجوم وأحداث الأرض؛ فاهتم بذلك وبنى عليه بعض أعماله كتخطيط مدينة بغداد، واختياره الوقت الملائم وهكذا.

ومنها — وهو فوق ذلك كله — أن الأمة الإسلامية كانت قد مرّتَ بطور المسائل الجزئية المبعثرة، فكان لزامًا أن يسلمها ذلك إلى الطور الآخر؛ طور التنظيم وتدوين العلوم وتميزها — ولكن يجب أن نلاحظ هنا أن العلوم التي انتقلت هذا الانتقال إنما هي العلوم النقلية من علوم دينية ولغوية وأدبية؛ أمَّا العلوم العقلية من طب ومنطق ورياضة ونحوها فقد بدأت في الأمة الإسلامية منظمة؛ لأن الأدوار الأولى — أدوار الأبحاث الجزئية — كانت قد قْطِعتَ من أزمان بعيدة في أممها كاليونان والهند والفرس، وكانت قد وصلت إلى مرحلة التنظيم والتدوين والتبويب، فلمَّا نُقِلت في العصر العباسي إلى اللغة العربية نُقِلتَ بهيئتها الكاملة، ولم تحتج إلى أن تمر بالمراحل الطبيعية من جديد، ولعل المؤلفين بعد في العلوم النقلية لمَّا رأوا العلوم العقلية منظمة هذا النظام اقتبسوا منه في علومهم، وأدخلوا عليها ما استحسنوا من النظم.

•••

وقد كان لكل من العلوم النقلية والعقلية منهج في البحث والتأليف خاص، فأمَّا منهج البحث والتأليف في العلوم النقلية فاعتماد على الرواية وصحة السند، فالمؤلفون في التفسير في ذلك العصر يعتمدون على نقل ما رُوِي من تفسير الآيات عن الصحابة والتابعين، فإن زادوا شيئًا فترجيح أحد هذه الأقوال — وكذلك الشأن في الحديث، أهم ما يشغل المحِّدث جمع الأحاديث وامتحان أسانيدها لمعرفة جيدها من رديئها وهكذا، ومثل ذلك يقال في علم اللغة والأدب؛ إذ هما تأثرا بالعلوم الدينية، ونمط الرواية فيهما نمط الرواية في الحديث، فاللغوي يروي ما سمع من أعرابي أو عالم، وكثيرًا ما يذكر السند كما يذكره المحدِّث مثل الذي نرى في كتاب الأغاني.

وأمَّا العلوم العقلية كالطبيعة والرياضة والطب فأكثر ما تعتمد على معقولية الحقائق وامتحانها إمَّا من طريق المنطق وإمَّا من طريق تجربة الحقائق وامتحانها عمليًا، فإذا ُذكِرتَ حقيقة فقلما يعنون بقائلها، ولكنهم يعنون بوضعها تحت قواعد المنطق، وهل من قوانينه ما يؤيدها أو ما ينقضها، وكذلك قد يمتحنونها عمليًا ليرقبوا نتيجتها؛ فيحكموا عليها بالخطأ أو الصواب.

وهناك علوم أخذت بشبه من المنهجين كالفقه بعد العصر الأول؛ فكثير من الفقهاء لم يعتمد على المنهج الأول من الاستدلال بآية أو حديث فقط، بل استعمل الدليل المنطقي في تأييد مذهبه والرد على خصومه، ومن ذلك النحو بعد عصره الأول كذلك؛ فأصبحت المسألة لا يُحتَّج فيها بالسماع من الأعراب فحسب بل بالبرهان العقلي أيضًا.

وهذا الاختلاف بين المنهجين طبيعي؛ ففي المسائل الدينية وشبهها متى ثبت النص عن الشارع فلا مجال للعقل، وفي العلوم العقلية مجال العقل واسع المدى لا يحدّه إلا البرهان على الخطأ أو الصواب — ولنسق مثلًا لكل من المنهجين، مثال المنهج الأول: قال تعالى: وَلَهَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ والأَرْضِ وَمَنْ عِنْدهُ لايَسْتَكْبِِروُنَ عَنْ عِِبَادتَهِ ولا يَسْتَحْسِروُنَ … لا يستنكفون عن عباداتهم إياه ولا يُعْيون من طول خدمتهم له.. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل، حدثني عليّ، قال حدثنا عبد الله، قال حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس (رضى الله عنه) قوله: وَلاَ يَسْتَحْسِروُن. لا يرجعون — حدثنا بشر، قال حدثنا يزيد، قال حدثنا سعيد عن قتادة قوله لا يستحسرون، قال لا يُعيون. حدثني يونس، قال أخبرنا ابن وهب، قال قال ابن زيد في قوله َ لايَسْتَكْبِِروُنَ عَنْ عِِبَادتَهِ ولا يَسْتَحْسِروُنَ، قال: لا يستحسرون لا يمّلون ذلك الاستحسار، قال ولا يفترون ولا يسأمون هذا كله معناه واحد والكلام مختلف، وهو من قولهم بعير حسير إذا أعيا وقام، ومنه قول علقمة بن عَبَدة:

بها جِيَفُ الحَسْرَى فأمَّا عِظَامُهَا
فبِيضٌ وأمَّا جِْلدُها فصلِيبُ١٦
ومثال المنهج الثاني: «واعلم أن هذه المعلومات التي تُسمَّى أوائل في العقول إنما تحصل في نفوس العقلاء باستقراء الأمور المحسوسة شيئًا بعد شيء، وتصفحها جزءًا بعد جزء، وتأمّلها شخصًا بعد شخص، فإذا وجدوا منها أشخاصًا كثيرة يشملها صفة واحدة حصلت في نفوسهم — بهذا الاعتبار — أن كل ما كان من جنس ذلك الشخص ومن جنس ذلك الجزء هذا حكمه، وإن لم يكونوا يشاهدون جميع أجزاء ذلك الجنس وأشخاص ذلك النوع، مثال ذلك أن الصبي إذا ترعرع واستوى وأخذ يتأمل أشخاص الحيوانات واحدًا بعد واحد فيجدها كلها تحس وتتحرك فيعلم أن كل ما كان من جنسها هذا حكمه، وكذلك إذا تأمل كل جزء من المال — أيّ إن كان — وجده رطبًا سيّالًا، وكل جزء من النار فوجده حارًا محرقًا، وكل جزء من الأحجار فوجده صلبًا يابسًا، علم عند ذلك أن كل ما كان من ذلك الجنس فهذا حكمه، فبمثل هذا الاعتبار تحصل المعلومات في أوائل العقول بطريق الحواس متفاوتة».١٧

وكان لكل منهج أثر كبير في أصحابه من حيث الأخلاق العلمية والصفات العقلية، فالأولون قصروا اتجاههم على التحقق من صحة النقل، ولم يحكِّموا كثيرًا مقياس العقل، وكرهوا أن يصغوا إلى نقد الناقد يحكِّم المنطق في علمهم، والآخرون أطلقوا لعقلهم العنان، ولم يشاءوا أن يقتصروا في ذلك على دائرة أبحاثهم — وظلوا في أمن وطُمَأنينة ما استعملوا منهجهم في الطب والرياضة والمنطق، ولكنهم يقتنعوا بذلك، بل حاولوا أن يطبقوه على علم الكلام والفقه والنحو بل واللغة، فكان صدام عنيف بين الطائفتين، ورمى الأخلاق الآخرين بالزندقة والإلحاد، كما رمى الآخيرون الأولين بالجمود والتزمت؛ وكان أظهر مَنْ يمثل الأولين علماء الحديث، ومَنْ يمثل الأخيرين علماء الكلام، وكان من وراء ذلك كله صراع بلغ حد سفك الدماء أحيانًا كما سنعرض له بعد.

ولم يكن هذا الصراع عنيفًا قويًا في العصر الأموي، وأهم سبب في ذلك أن العلم كله في عهد الأمويين كان في يد رجال الدين تقريبًا، وهم يكادون يكونون من عقلية واحدة أو متشابهة، فلمَّا كان العصر العباسي اتسع مدى العلوم الأخرى التي تكوَّنت حول الطب، وهي العلوم العقلية، وذلك جعل العلم ينفذ إلى بيئات أخرى، بعضها غير ديني كالأطباء والرياضيين، وبعضها لها لون خفيف من الدين كطبقة الكُتَّاب، وبعضها شاءوا أن يضعوا أيديهم على الثقافات المختلفة دينية وغير دينية، ويمزجوا بينها ويوفقوا بين ما تناقض منها كعلماء الكلام، فكان من ذلك عقليات غير متشاكلة سببت النزاع والجدل، ولكن في الوقت عينه وسَّعت مجال العلم وأوصلته إلى مناطق لم يصل إليها قبل.

•••

على كل حال، في أقل من خمسين عامًا من آخر الدولة الأموية إلى صدر الدولة العباسية كانت أغلب العلوم قد دُوَّنت ونُظِّمت، سواءً في ذلك العلوم النقلية من علوم القرآن والحديث والفقه وأصوله، وعلوم اللغة والأدب على اختلافها، والعلوم العقلية من علوم الرياضة والمنطق والفلسفة والكلام.

وكان نشاط المسلمين في ذلك يسترعي الأنظار ويستخرج العجب، وليس هناك من نشاط يشبه إلا نشاط العرب في فتوح البلدان — وقد نظم العلماء أنفسهم فِرَقا كفرق الجيش، كل فرقة تغزو الجهل أو الفوضى في ناحيتها حتى تخضعها لنظامها، ففرقة للغة، وفرقة للحديث، وفرقة للنحو، وفرقة للكلام، وفرقة للرياضيات وهكذا، وهم يتسابقون في الغزو والانتصار وتدوين العلم وتنظيمه، تسابق قبائل العرب في الفتوح والغزوات، كل قبيلة تودُّ أن تكون السابقة في الميدان؛ ووُجِد في ساحة الميدان العلمي قواد بارزون يتنافسون في الابتكار، فإذا فاز أبو حنيفة بوضع الفقه ثارت حماسة الخليل بن أحمد فيضع العروض ويرسم المنهج لمعجم اللغة، بل ويريد بعقله الجبار أن يضع «نوعًا من الحساب تمضي به الجارية إلى البيّاع فلا يمكنه ظلمها»؛١٨ وهكذا في سائر الفروع — وقد ظل المسلمون طول حياتهم العلمية يعيشون على هذه الثروة التي وضعت في هذا العصر، ليس لهم في الغالب من أثر إلا الإيجاز حينًا والإطناب حينًا، وجمع متفرق وتفريق مجتمع، أمَّا الابتكار فقليل نادر.

•••

ساعد على هذه الحركة العلمية الواسعة، أو قل نتج عن هذه الحركة والميل إلى تدوين العلم ونقله من المشافهة إلى الكتابة اتساع صناعة الورق.

ذلك أن العرب في جاهليتهم كانوا أميين — كما علمنا — قلَّ بينهم الكاتب القارئ، وكانوا قبل الإسلام وفي صدره يكتبون على الرَّق، وهو جلد يرقق ويكتب عليه، ومنه قوله تعالى: وَالطُّورِ * وَكِتَابٍ مَّسْطُورٍ * فِي رَقٍّ مَّنشُورٍ وكانوا يكتبون في اللِّخاف، وهي حجارة بيض رقاق، وفي عُسب النخل، وهي الجريد الذي لا خوص عليه، وفي عظم أكتاف الإبل والغنم، وكانوا يكتبون القرآن في هذه اللخاف والعُسب، فعن زيد بن ثابت أنه قال في جمعه القرآن: «فجلعت أتتبع القرآن من العسب واللخاف»، وفي حديث الزُّهْري: «ُقبِضَ رسول الله والقرآن في العُسب»، وربما كتب النبي بعض مكاتباته في الأدَم.١٩

واستعملت عند العرب كلمة القرطاس، وهو ورق يُتَّخَذُ من بَرْدِيّ مصر، قال في اللسان: «القرطاس معروف يتخذ من بَرْدِي يكون بمصر» — وفي صبح الأعشى القرطاس كاغَدٌ يتخذ من بردي مصر — وقد ورد في القرآن استعماله مفردًا وجمعًاوَلو نَزْلَنا عليك كِتَابا فِي قِرطَاسٍ ووتَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ وقد فسَّرها قتَادة كما في تفسير الطبري بالصحيفة، ولم يبينها؛ والعرب قديمًا عرفوا القرطاس، وأكثروا من تشبيه آثار الديار بالكِتَاب بعد ما مضى الزمان عليه، قال المُرَّار بن سعيد الفَقْعسّي:

عَفتَ المَنازِلُ غير مِثْلِ الأنُْقُسِ
بعد الزمان عرْفتَه بالَْقَرْطَس٢٠
وعرفوا كذلك «المُهْرَق»، وفسَّره في «اللسان» بأنه ثوب حرير أبيض يسقى الصمغ ويصقل، ثم يكتب فيه، معرَّب عن الفارسية،٢١ قال الأعشى:
سلا دار لَيلى هل تُبِينُ فتَنْطقُ
وأّنى تَرُدُّ القول بيضاءُ سَمْلََقُ٢٢
وأنّى ترد القولَ دارٌ كأنها
لِطول بِلاهَا والتقادمِ مُهْرَقُ

وعلى كل حال فهذه العسب واللخاف والرق والمهرق لا تساعد على انتشار العلم؛ لقلتها وعدم صلاحيتها وغلاء ثمن بعضها، فهي لا تصلح لشعب يريد أن يتعلم ويدوِّن العلم، خصوصًا وطبقة العلماء طبقة فقيرة غالبًا.

فلماَّ فتح العرب مصر كثر استخدامهم لورق الَبرْدي ونشروه في أنحاء المملكة الإسلامية،٢٣ وقد اشتهرت مصر بهذه الصناعة من عهد قدماء المصريين، واستمرت مصانع الورق على عملها بعد فتح العرب لها، وكان الوليد بن يستعمله في شئونه الخاصة، وكان عبد الملك (٨٦–٩٦) الخلفاء يفضلونه على غيره من أنواع الورق؛ لأنه لا يمكن محو ما فيه من غير أن يُعرَف؛ وأكثر المصانع كانت في الوجه البحري لكثرة ما فيه من نبات البردي، وكانوا يصنعونه أنواعًا: منه ما نعم وغلا، ومنه ما خشن ورخص، ويصنعونه أدراجًا يلف كل دَرْجٍ منها، وقد حدَّث الكْندي (صاحب كتاب ولاة مصر وقضاتها) عن درج طويل يقرب من خمسة عشر مترًا، وكان يباع الدَّرج حول سنة ١٨٤هـ من النوع الجيد بدينار ونصف دينار، وهو ثمن غالٍ خصوصًا إذا لاحظنا أن هذا القدر يدفع إيجارًا لفدان صالح للزراعة مدة عام، وقد أصدر عمر بن عبد العزيز أمره بالاقتصاد في استعمال الورق؛٢٤ وشكا أبو نواس حاجته إلى الورق فقال:
أريد قطعةَ قرطاس فتُعْجزني
وجُلُّ صحَبي القراطيس
لَحَاهُمُ الله عن وُدٍّ ومعرفةٍ
إن المَيَاسِير منهم كالمفَاليس
وكان من أهم مراكز الورق المصنوع من البردي مدينة بورة٢٥ — وهي مدينة على ساحل البحر قرب دمياط.

وكان في مصر بجانب البَردْي نوع من القماش يكتب عليه، وكانت مصانعه في أبو صير وسمّنود؛ وبدار الكتب المصرية حجج كتبت على هذا القماش.

واسُتعمِل البردي في العراق، ووَجِدَ درب في بغداد سُمِّي «درب القراطيس»، ووجدنا بعض الأشخاص ينتسبون إليه مثل إسماعيل القراطيسي؛ وقد كانت الصين معروفة كذلك من قديم بصناعة الورق، وعُرِفَ عند المسلمين الورق الصيني، وكانوا يصنعونه من الحشيش والكلأ، وفي سنة ١٣٤هـ غزا خالد بن إبراهيم أهل «كَشّ» من أرض الصين «وأخذ منهم من الأواني الصينية المنقوشة المذهبة ما لم يُرَ مثلها ومن السروج ومتاع الصين كله من الديباج والطُّرف شيئًا كثيرًا، فحُمِلَ إلى أبي مسلم (الخراساني) وهو بسمرقند»،٢٦ وقد أخذ أسارى من الصين ووضعوا في سمرقند فبدءوا يصنعون الورق الصيني فيها — وانتشرت في الدولة العباسية أنواع من الورق، الورق الفرعوني (نسبة إلى فرعون مصر)، والورق السليماني (نسبة إلى سليمان بن راشد عامل الخراج على خراسان لهارُون الرشيد)، والورق الجعفري (نسبة لجعفر البرمكي)، والورق الطَّلحي (نسبة لطلحة بن طاهر)، والورق الطاهري (نسبة إلى طاهر بن الحسن) — وانتشرت مصانع الورق في سمرقند، وفي دار الخزِّ ببغداد وفي تِهَامة واليمن ومصر، وفي دمشق وطرابلس وحماة ومَنْبِج وفي المغرب والأندلس — وصنعوا في القرن الثاني من الهجرة الورق من الخِرَق، وذاع استعماله، وفاق غيره من أنواع الورق.٢٧
ويقول صبح الأعشى: «أجمع رأي الصحابة (رضى الله عنهم) على كتابة القرآن في الرَّقْ لطول بقائه أو لأنه الموجود عندهم حينئذ، وبقي الناس على ذلك إلى أن ولِيَ الرشيد الخلافة، وقد كثر الورق وفشا عمله بين الناس، فأمر ألا يكتب الناس إلا في الكاغَد؛ لأن الجلود ونحوها تقبل المحو والإعادة فتقبل التزوير، بخلاف الورق فإنه متى مُحِي منه فسد، وإن كُشِط ظهر كشطه؛ وانتشرت الكتابة في الورق إلى سائر الأقطار، وتعاطاها مَنْ قَرُب ومَنْ بعد، واستمر الناس على ذلك إلى الآن».٢٨

وقد وصلت إلينا مجموعة من الورق والرق والحجارة على اختلاف أنواعها، حُفظت في دار الكتب المصرية وغيرها من دور العلم، وجدّ الباحثون من المستشرقين في دراستها، مِن دارسٍ للخط العربي وتطوره، ومُؤرخ يقارن بين ما فيها وما في كتب التاريخ، ومستنتج ما تدل عليه من ظواهر اجتماعية واقتصادية، وكيماوي يحلل ليعلم ممَّ تكونت وكيف صُنعت إلخ.

والذي يهمنا الآن أن نقول: إن اقتران نشاط مصانع الورق وكثرتها ورخص أثمانها — بحركة العلم وتدوينه في العصر العباسي — كان أمرًا لابد منه في وصول العلم إلى النحو الذي وصل إليه، وما كان يصل إلى ذلك القدر من الرقي لو ظلت أدوات الكتابة على حالتها الأولى من السذاجة أو الغلاء، بل إن الأدب أيضًا مدين لهذه الصناعة، فقد كثر الكُتَّاب وخلَّفوا لنا آثارًا قيمة واستعملوا الورق في كتابة الرسائل الرسمية، ورسائل الاعتذار والحب وما إلى ذلك، مما لم يكن يكون لولا الورق — ولو كان في العصر الجاهلي أو صدر الإسلام ورق دُوّنت فيه الأحداث الجاهلية والإسلامية لكان شأن المؤرخين في ذلك غير شأنهم اليوم.

وقد نتج عن هذا الورق وتدوين العلوم فيه وجود الكتب وخزائنها، وأصبحت المكاتب منذ العصر العباسي الأول مصدرًا عظيمًا للثقافة.

ولا يفوتنا أن نذكر هنا أن كان من جرَّاء كثرة الورق والكتابة فيه، والكتب المؤلفة نشوء صناعة «الوِرَاقَة»، وهي صناعة كان يقوم أصحابها بنسخ الكتب وتصحيحها وتجليدها، ونحو ذلك مما يتعلق بالكتب؛ وقد انتشر في هذا العصر دكاكين الورَّاقين، وكانت مصدرًا من مصادر انتشار الثقافة؛ فإنهم ينسخون الكتب ويصححونها ويجلدونها ويبيعونها للناس فتنتشر في الأقطار المختلفة، وكان المتعلمون يذهبون إلى دكاكين الورَّاقين يطالعون فيها الكتب، «حدَّث أبو هفان قال: لم أرَ قط ولا سمعت مَنْ أحب الكتب والعلوم أكثر من الجاحظ، فإنه لم يقع بيده كتاب قط إلا استوفى قراءته كائنًا ما كان، حتى إنه كان يكتري دكاكين الورَّاقين ويبيت فيها للنظر».٢٩ وقد ذكر اليعقوبي أنه كان في عصره (توفي سنة ٢٧٨هـ) أكثر من مائة ورّاق في بغداد — وكان من هؤلاء الورَّاقين علماء مجيدون، منهم بعد عصرنا ابن النديم صاحب الفهرست، ثم ياقوت الحموي صاحب معجم البلدان، ومعجم الأدباء.

ويسلمنا هذا البحث — بحث تكوّن العلوم في العصر العباسي — إلى بحث آخر، وهو هل للدولة العباسية أثر في تلوين العلوم كلها أو بعضها لونًا خاصًا ولم يكن يتلون به لو نشأ في دولة غيرها؟ هل لو كان العلم دُوَّن في العهد الأموي أو في الأندلس أو في دولة شيعية كان يتخذ شكلًا آخر؟ وهل كان العلماء الذين دوَّنوا العلوم متأثرين بأنهم تحت ولاية العباسيين وسلطانهم، أو كانوا مستقلين تمام الاستقلال؟ إلى نحو ذلك من الأسئلة التي تدور حول نقطة واحدة.

والذي يظهر لي أن العلم تأثر بالدولة العباسية تأثرًا كبيرًا، بعض هذا الأثر واضح ينكشف بأقل بحث، وبعضه غامض عميق لا ينجلي إلا بطول النظر وإعمال الفكر؛ ذلك أن الدولة العباسية كان موقفها — وقت تدوين العلوم — موقف الذي يهدم دولة كانت قوية عظيمة هي دولة الأمويين، استمرت في الحكم نحو مائة عام، وكان من رجالها عظماء، كمعاوية عبد الملك بن مروان وهشام، شيدَّوا الملك وأسسوه على دعائم ثابتة، وتغلغلت سلطتهم في مناحي الحياة، فجاء العباسيون يهدمون هذا البناء من أساسه، ويقيمون دولة جديدة على نظام خاص غير الذي عرفه الأمويون.

وكان أمام العباسيين شيعة يرون أن آل العباس اغتصبوا الخلافة منهم، وأن أحق الناس بالخلافة آل أبي طالب لا آل العباس.

وكان هناك مذاهب كالخوارج والمرجئة وما إليهما، هي مذاهب دينية في الظاهر ولكنها كثيرا ما تتعرض للسياسة، ولها رأي قد يخالف رأي الدولة وقد يوافقها؛ كل هذا — من غير شك — كان يصطدم بالعمل أحيانًا اصطدامًا عنيفًا، ويخلق مشاكل في نهاية التعقيد، تقف أمام العلماء يحاولون حلها، وليس كل العلماء في أي وقت وفي أية أمة بالذين يتنزهون جميعًا عن الغرض دائمًا، ولا يغرهم المال والجاه أبدًا، فكان من بين العلماء مَنْ استمسك بالحق وخالف تعاليم الدولة وميولها، وتعرَّض للعذاب، ومنهم مَنْ شايعها وأخذ يؤيد بعلمه وجهة نظرها، فأغدقت عليه مالها، وكذلك الشأن في الأدب، لقد كان أحب الشعراء للرشيد مروان بن أبي حفصة؛ لأنه كان يصل مدح الرشيد بالتعريض بالشيعة من مثل قوله:

خَلوا الطريقَ لمعشرٍ عاداتُهم
حطْمُ المناكب كلَّ يوم زحام
ارْضوا بما قسم الإله لكم به
ودعوا وراثة كل أصيدَ حام
أنَّى يكونُ وليس ذاكَ بكائن
لبنى البناتِ وراثة الأعمام؟
ويقول الأغاني في ترجمة منصور النَّمَرِي إنه أراد أن يتصل بالرشيد «وعرف مذهبه في الشعر وإرادته أن يصل مدحه إياه بنفي الإمامة عن ولد علي بن أبي طالب والطعن عليهم، وعَلِمَ مغزاه في ذلك مما كان يبلغه من تقديم مروان بن أبي حفصة وتفضيله إياه على الشعراء في الجوائز؛ فسلك مذهب مروان في ذلك ونحا نحوه، ولم يصرح بالهجاء والسب كما كان يفعل مروان، ولكنه حام ولم يقع، وأومأ ولم يحقق؛ لأنه كان يتشيع، وكان مروان شديد العداوة لآل أبي طالب، وكان ينطق عن نية قوية يقصد بها طلب الدنيا فلا يُبْقِي ولا يذر».٣٠

وهكذا كان أقرب الشعراء إلى نفوس الخلفاء مَنْ عرف ما في نفوسهم. وأكثر من مدحهم ونال من عدوهم؛ فالشعراء العلويُّون موضع نقمة العباسيين واضطهادهم وتشريدهم.

وليست كل العلوم بمثابة واحدة في الاتصال بالسياسة وشئون الدولة والتأثر بها، فهناك — مثلًا — علوم الرياضة والطب والمنطق والطبيعة؛ فهي علوم مستقلة لا نعلم لها اتصالًا بالسياسة وتصرفاتها، ولكن بجانب ذلك نرى التاريخ — مثلًا — من أشد العلوم اتصالًا بالسياسة، وكذلك كان في العصر العباسي كثيرًا مايُتَّخَذُ وسيلة من وسائل الدعوة، وكان بعض المؤرخين يتقربون إلى الخلفاء بروايتهم ما يرضيهم.

روى الطبري عن محمد بن عمر عن حفص قال: «كان هشام الكلبي صديقًا لي، فكنا نتلاقى فنتحدث ونتناشد، فكنت أراه في حالة رثة، وفي أخلاق،٣١ وعلى بغلة هزيلة، والضر فيه بيّنْ على بغلته، فما راعني إلا وقد لقيني يومًا على بغلة شقراء من بغال الخلافة، وسرج ولجام من سروج الخلافة ولُجُمها، في ثياب جياد ورائحة طيبة، فأظهرت السرور، ثم قلت له: أرى نعمة ظاهرة! قال لي نعم أخبرك عنها فاكتم، بينا أنا في منزلي منذ أيام بين الظهر والعصر إذ أتاني رسول المهدي فسرت إليه، ودخلت عليه وهو جالس خالٍ، ليس عنده أحد، وبين يديه كتاب، فقال: ادنُ يا هشام، فدنوت فجلست بين يديه فقال خذ هذا الكتاب فاقرأه ولا يمنعك ما فيه — مما تستفظعه — أن تقرأه؛ قال فنظرت في الكتاب، فلمَّا قرأت بعضه استفظعته فألقيته من يدي ولعنت كاتبه؛ فقال لي قد قلت لك إن استفظعته فلا تلقه، اقرأه بحقي عليك حتى تأتي على آخره، قال فقرأته فإذا كتاب قد ثلبه فيه كاتبه ثلبًا عجيبًا لم يبقِ له فيه شيئًا، فقلت يا أمير المؤمنين مَنّ هذا الملعون الكذاب؟ قال هذا صاحب الأندلس، قال قلت فالثلب والله يا أمير المؤمنين فيه وفي آبائه وفي أمهاته، قال ثم اندرَأْت أذكر مثالبهم؛ قال فسُرَّ بذلك، وقال أقسمت عليك لَمَا أمللتَ مثالبَهم كلَّها على كاتب؛ قال ودعا بكاتب من كُتَّاب السر، فأمره فجلس ناحية وأمرني فصرت إليه، فصدَّر الكاتب من المهدي جوابًا، وأمللت عليه مثالبهم فأكثرت، فلم أبقِ شيئًا حتى فرغت من الكتاب ثم عرضته عليه فأظهر السرور، ثم لم أبرح حتى أمر بالكتاب فخُتم، وجعل في خريطة، ودُفع إلى صاحب البريد، وأمر بتعجيله إلى الأندلس؛ قال ثم دعا بمنديل فيه عشرة أثواب من جياد الثياب، وعشرة آلاف درهم، وهذه البغلة بسرجها ولجامها، فأعطاني ذلك وقال لَي اكتم ما سمعت».٣٢

وقد كان من أهم ما حارب به العباسيون الأمويين التأثير في المؤرخين حتى يصبغوا لون الأمويين بلون قاتم مظلم، ولون العباسيين بلون زاهر ناضر.

لقد وضع الخلفاء الأولون من بني العباس وآلِهِم البرنامج للمؤرخين في الطعن في بني أمية؛ فسار المؤرخون على منهاجهم، وتوسعوا في تكميل خططهم، فقد صعد أبو العباس المنبر وخطب الناس فكان مما قاله: «ثم وثب بنو حرب ومروان فابتُّزوها وتداولها بينهم، فجاروا فيها، واستأثروا بها، وظلموا أهلها، فأملى الله لهم حينًا حتى آسفوه، فلمَّا آسفوه انتقم منهم بأيدينا، ورَدَّ علينا حقنا».

وصعد داود بن عليَّ فقام دونه فكان مما قال: «تبًا تبًا لبني حرب بن أمية وبني مروان، آثروا في مدتهم وعصرهم العاجلةَ على الآجلة، والدارَ الفانية على الدار الباقية، فرَكِبوا الآثام، وظلموا الأنام، وانتهكوا المحارم، وغَشُوا الجرائم، وجاروا في سيرتهم في العباد، وسنتهم في البلاد، التي بها استلذوا تسربُلَ الأوزار، وتجْلبتَ الآضار، ومَرحوا في أعِنَّة المعاصي، وركضوا في ميادين الغَيّ، جهلًا باستدراج الله، وأمنًا لمكر الله، فأتاهم بأس الله بياتًا وهم نائمون، وأصبحوا أحاديث، وَمُزِّقوا كلَّ مُمَزَّق، فبُعدًا للقوم الظالمين».٣٣ هذا إجمال فصَّله المؤرخون، بالحق أحيانًا وبالباطل أحيانًا، ومن الباطل أن يغضوا عن ذكر محاسن بني أمية، ويقتصروا على مساويهم، ومن الباطل أن يختلقوا اختلاقًا، وإلا أفتصدق ما قيل عن الوليد بن يزيد بن عبد الملك من أنه «أراد الحج ليشرب فوق ظهر الكعبة؟»٣٤ أو تصدقُ ما روي عنه من أنه استفتح فألًا في المصحف فخرج:

وَاستَفْتَحُوا وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ فألقاه ورماه بسهام وقال:

ُتهدّدني بجبارٍ عنيدٍ
نعمْ أنا ذاكَ جبارٌ عنيدُ
إذا ما جئتَ ربّك يوم بَعْث
فقل يا ربَّ خَرَّقني الوليدُ

ذلك قول لا يسيغه العقل من خليفة المسلمين مهما بلغ من فسقه وفجوره؛ ولذلك قال الذهبي: «لم يصح عن الوليد كفر ولا زندقة بل اشتهر بالخمر والتلوُّط».

ومن ذلك ما يروون أن هشام بن عبد الملك دعا حمادًا فسأله عن بيت ومَنْ قاله وفي أية قصيدة فأجابه، فأمر هشامٌ جواريهَ أن يسقِينَ حمادًا، فما زِْلن يسقينه حتى ذهب عقله إلخ. ويعلّق صاحب الأغاني على هذا الخبر بأن هشامًا لم يكن يشرب ولا يسقي أحدًا بحضرته مُسكرًا، وكان ينكر ذلك ويعيبه ويعاقب عليه».٣٥

وقال أبو عبيدة: دخل أبو عمر بن العَلاء على سليمان بن عليِّ — وهو عم السفاح — فسأله عن شيء فصَدَقه، فلم يعجبه ما قاله، فوجِدَ أبو عمرو في نفسه وخرج وهو يقول:

أنِفْتُ من الذل عند الملوكْ
وإن أكرموني وإن قرَّبوا
إذا ماصَدَقْتُهُمو خِفْتُهُمْ
ويرضَوْن مني بأَن يُكذَبوا٣٦
وفي سنة إحدى عشرة [ومائتين] أمر المأمون بأن ينادَى «بَرِئت الذمة ممن ذَكر معاوية بخير»٣٧ إلى كثير من مثل ذلك.
ومن ناحية أخرى تقرَّب المؤرخون بذكر محامد بني العباس، وإعلاء شأنهم، وعاقبوا مَنْ تعرض لذكرهم بسوء؛ من ذلك ما رُوِي عن الْهَيْثمَ بن عَدِيّ الراوية الإْخباري «وكان يتعرض لمعرفة أصول الناس ونقل أخبارهم، فأورد معايبهم وأظهرها … ونُقِل عنه أنه ذَكر العباس بن عبد المطلب بشيء؛ فحُبِسَ لذلك عدة سنين»٣٨ فوضعت الأساطير حول العباس، وعبد الله بن العباس، وغيرهما من آل العباس؛ من مثل ما يُروى أن عمر بن الخطاب استسقى بالعباس عام الرمَادَة لمَّا اشتد القحط، فسقاهم الله تعالى به، وأخصبت الأرض، فقال عمر هذا والله الوسيلة إلى الله والمكان منه — ولمَّا سقى الناس طفقوا يتمسحون بالعباس ويقولون هنيئًا لك ساقِيَ الحرمين؛٣٩ ومن مثل أن عبد الله بن عبّاس لمَّا مات والناس في جنازته جاء طائر أبيض يقال له الغُرْنُوق فدخل في النعش فلم يُر بعدُ.. إلخ.٤٠

وتصوير بعض المؤرخين له بأنه سياسي محنَّك قدير كان يرسم الخطط لعلي بن أبي طالب، مع أن أكبر مزية له في الواقع هي سعة علمه، إلى غير ذلك.

وقد جدَّ علماء السوء في وضع الأحاديث لتأييد هذا النظر، وهو الحطُّ من شأن الأمويين، وإعلاء شأن العباسيين، وملئت الكتب بها، مثل أن رجلًا قام إلى الحسن بن عليِّ بعد ما بايع معاوية فقال سوَّدتَ وجوه المؤمنين، فقال لا تؤنِّبني فإن النبي رأى بني أمية على منبره فساءه ذلك فنزلت:إِنَّا أَعْطَيْنَاك الْكَوَثَر ونزلت «إنا أنزلناه في ليلة القدر، وما أدراك ما ليلة القدر، ليلة القدر خير من ألف شهر، يملكها بعدك بنو أمية يا محمد»٤١ — واستغلوا قوله تعالى:وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الّتَي أَرَيْنَاكَ إِلاَّ فِْتَنةً لِّلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُوَنَةَ فِي اْلُقرآنِ فرووا الآثار الكثيرة، عن سهل بن سعد وسعيد بن المسيب، وعن يَعْلى بن مُرَّة، أن المراد بالشجرة الملعونة بنو أمية ورويت في ذلك الأحاديث الكثيرة مثل قوله : «رأيت بني أمية على منابر الأرض وسيملكونكم فتجدونهم أرباب سوء». وعن عائشة أنها قالت لمروان بن الحكم: سمعت رسول الله يقول لأبيك وجدِّك إنكم الشجرة الملعونة في القرآن إلخ إلخ.٤٢
وفي مقابل ذلك الأحاديثُ في التبشير ببني العباس مثل ما رُوِي عن أبي هريرة قال قال رسول الله للعباس: «فيكم النبوة والمملكة». وعن ثَوْبان قال قال رسول الله: «رأيت بني مروان يتعاورون على منبري فساءني ذلك، ورأيت بني العباس يتعاورون على منبري فسرني ذلك». وعن ابن عباس أن النبي قال للعباس: «إذا سكن بنوك السَّوَاد ولبسوا السَّوَاد، وكانت شيعتهم أهلَ خراسان، لم يزل الأمر فيهم حتى يدفعوه إلى عيسى بن مريم».٤٣ وعن أبي سعيد الخدري قال سمعت رسول الله يقول: «مِنَّا القائم ومنا المنصور، ومنا السفاح، ومنا المهدي، فأمَّا القائم فتأتيه الخلافة ولم يُهْرِقْ فيها مِحْجَمة دم، وأمَّا المنصور فلا تُرَد له راية، وأمَّا السفاح فهو يسفح المال والدم، وأمَّا المهدي فيملؤها عدلًا كما مُلِئتَ ظلمًا».٤٤ وسيأتي تتمة ذلك عند الكلام في الحديث.
ووقف الشيعة موقفًا مناقضًا لهذا؛ فهم يكرهون الأمويين والعباسيين معًا، بل ربما كانت كراهيتهم للعباسيين أشد؛ لِمَا أصاب الأئمة العلويين والعلماء والأدباء الذين شايعوهم من الأذى على يد أبي جعفر المنصور ومن بعده، فرأى طائفة منهم أن يقفوا في التاريخ موقف المتحزب المتعصب، فهاجموا العباسيين كما هاجموا الأمويين من قبل، وأخذوا يكِّبرون مساويهم بل ويختلقون عليهم، كما ترى أحيانًا في تاريخ اليعقوبي أولًا، وابن طباطبا آخرًا وغيرهما — وإلى ذلك رووا الروايات الكثيرة في فضل عليِّ وآل عليِّ،٤٥ ورفعوا من شأن الأئمة إلى ما يقرب من التقديس — وكان الأولى لهم أن يقتصروا على فضائلهم الثابتة — وأضافوا أساطير حول آيات من القرآن الكريم، كما فعلوا عند قوله تعالى:وَيُطْعِِمُونَ الطَّعَام عَلَى حُبِّهِ مِسْكِِينًا وَيتَيمًا وأَسِيرًا. فقد رووا عن ابن عباس (والرواية هنا ابن عباس لها مغزاها)، أن الحسن والحسين مرضا فعادهما جدهما محمد ومعه أبو بكر وعمر، وعادهما مَنْ عادهما من الصحابة، فقالوا لعلي: لو نذرت على ولديك، فنذر عليٌّ وفاطمة وفِضّة (جارية لهما) إن برآ مما بهما أن يصوما ثلاثة أيام شكرًا، فألبس الله الغلامين العافية، وليس عند آل محمد قليل ولا كثير، فانطلق عليٌّ (رضى الله عنه) إلى شمعون اليهودي الخيبري، فاستقرض منه ثلاثة أصوع من شعير، فجاء بها، فقامت فاطمة رضي الله عنها إلى صاع فطحنته وخبزت منه خمسة أقراص على عددهم، وصلى علي مع النبي المغرب، ثم أتى المنزل فوضع الطعام بين يديه، فوقف بالباب سائل فقير، السلام عليكم يا أهل بيت محمد، أنا مسكين من مساكين المسلمين، أطعموني أطعمكم الله من موائد الجنة، فآثروه وباتوا لم يذوقوا شيئًا إلا الماء، وأصبحوا صيامًا، وفي الثاني وقف يتيم، ففعلوا به ما فعلوا أولًا، وفي اليوم الثالث وقف أسير، ففعلوا كذلك، فلمَّا أصبحوا بعد ثلاثة أيام أخذ عليٌّ الحسن والحسين فرآهم رسول الله يرتعشون كالفراخ من شدة الجوع، فقال يا أبا الحسن ما أشد ما يسوءني مما أرى بكم، فهبط جبريل ونزلت فيهم سورة «هل أتى»، وذكر الترمذي وابن الجوزي «أن الخبر موضوع ومفتعل وآثار الوضع ظاهرة عليها لفظًا ومعنى»٤٦ إلى كثير من أمثال ذلك.

وهكذا ضاعت معالم الحق بين العصبية العباسية والعصبية العلوية، وصعب على المؤرخ الصادق النزيه أن يصل إلى الحقيقة.

•••

والفقه تأثر أيضًا بالدولة العباسية في بعض مسائله؛ لأنه مصدر التشريع، والتشريع قد يمس شئون الدولة من قرْب أو بُعد، قد يمسها في الصميم من أمرها، وقد يمسها في عَرَض من أعراضها، وكبار الفقهاء قد يقفون في هذه المسائل موقفًا لا يرعون فيه إلا الحق فيكونون عرضة لغضب الخلفاء وانتقامهم؛ كالذي يحدثنا به الطبري «أن مالك بن أنس اسُتْفتى في الخروج مع محمد بن عبد الله بن الحسن، وقيل له إن في أعناقنا بيعة لأبي جعفر، فقال: «إنما بايعتم مكرَهين، وليس على كل مُكْرَهٍ يمين»، فأسرع الناس إلى محمد ولزم مالك بيته».٤٧ وكان هذا سببًا في اضطهاده، ورووا أنه سُعِي به إلى جعفر بن سليمان عم أبي جعفر المنصور، وقالوا له إنه لا يرى إيمان بيعتكم هذه بشيء، فغضب جعفر ودعا به وجرده وضربه بالسياط ومدت يده حتى انخلعت كتفه، وارتكب منه أمرًا عظيمًا».٤٨
وقال ابن الجوزي في حوادث سنة ١٤٧هـ: «وفيها ضُرِب مالك بن أنس سبعين سوطًا لأجل فتوى لم توافق غرض السلطان». فهذه مسالة في الصميم من أمر الدولة، وهي صحة البيعة للعباسيين إذا كان المبايع مكرَهًا — ومثلها ما رُوِي عن أبي حنيفة ومحمد بن إسحق صاحب المغَازي، ذلك أن محمد بن إسحق كان يكره أبا حنيفة ويحسده، فوشى به إلى أبي جعفر المنصور، وقال إنه يخالف جدك ابن العباس استثناء المنفصل [لأنّ أبا حنيفة كان يقول: إذا صدر القول باتاًّ في المجلس فلا يلحقه الاستثناء إذا حصل بعد، وكان ابن عباس يقول إنه يلحقه بعد سنة] فغضب أبو جعفر وقال لأبي حنيفة: أتخالفه؟ فقال لِكلام ابن عباس تأويل صحيح، وقد قال : مَنْ حلف على يمين واستَثَنى فلا حنث عليه، والاستثناء لا يكون إلا موصولًا؛ وهؤلاء لا يرون خلافتك ويقولون إنهم بايعوك كرهًا وتَقِيَّة؛ فلهم الاستثناء متى شاءوا، ويخرجون به من بيعتك. فغضب المنصور على ابن إسحق.٤٩ فنرى من هذه القصة — إن صحت — أن مِن الخلفاء العباسيين مَنْ كان يعز عليهم أن يروا فقيهًا يؤديه اجتهاده إلى مخالفة ابن عباس في آرائه — ولكن لا نستطيع أن نقول إن الفقهاء جميعهم كانوا بمكان من التمسك بالحق يتحملون في سبيله أشد أنواع الأذى — وقد تَعرِض للخليفة نفسه مسائل شخصية يحتاج فيها إلى مخرج فقهي، ويصوّر بعض المؤرخين أبا يوسف صورة الذي يحتال الحيل الشرعية ليجد الرشيد فتوى توافق هواه.٥٠ ولكنا سنبحث ذلك عند الكلام في التشريع — كما تعرض للدولة مآزق يحتاج فيها إلى رأي يُسَكِّن الراي العام ويلطِّف من حدته، كالذي رَوَى الماوردي في الأحكام السلطانية «أنه رفُع إلى أبي يوسف القاضي مسلمٌ قتل كافرًا فحكَمَ عليه بالقَوَد، فأتاه رجل برقعة فألقاها إليه، فإذا فيها مكتوب:
يا قاتل المسلمِ بالكافر
جُرْتَ وما العادلُ كالجائرِ
يا مَنْ ببغدَاد وأطْرافِها
مِنْ علماء الناس أو شاعر
استرْجعوا وابكوا على دينكم
واصْطَبرُوا فالأجر للصابر
جَارَ على الدين أبو يوسف
بقتله المؤمنَ بالكافر
فدخل أبو يوسف على الرشيد وأخبره الخبر، وأقرأه الرقعة، فقال له الرشيد: تداركْ هذا الأمر بحيلة لئلا تكون فتنة؛ فخرج أبو يوسف وطلب أصحاب الدم ببينةٍ على صحة الذمة وثبوتها، فلم يأتوا بها؛ فأسقَطَ القودَ».٥١

وربما كان ذلك وأمثاله سببًا في التوسُّع في الحيل الشرعية، ووضع الكتب فيها وخاصة في مذهب الحنفية، فهم أول مَنْ أفردها بالتأليف — فيما أعلم — وسيأتي بحث هذا فيما بعد.

•••

وفي النحو واللغة تدخل العباسيون أيضًا، فقد كان النزاع فيهما شديدًا بين البصريين والكوفيين، فأخذ العباسيون جانب الكوفيين ينصرونهم على البصريين. جاء في كتاب النوادر: «انتقل العلم إلى بغداد قريبًا، وغَلَب أهل الكوفة على بغداد، وخدموا الملوك فقرَّبوهم، فأُرغِب الناس في الروايات الشاذة، وتفاخروا بالنوادر»،٥٢ وإنما قال الروايات الشاذة لأن هذا كان أغلب على الكوفيين. جاء في المزهر: «والشعر بالكوفة أكثر وأجمع منه بالبصرة، ولكن أكثره مصنوع ومنسوب على مَنْ لم يقله»٥٣ ومن أجل هذا نرى الكوفيين أقرب إلى قصور الخلفاء من البصريين، فالمفَضّل الضبِّي مُعلِّم المهدي كوفي، والكسائي مُعلِّم الأمين كوفي، والسبب في هذا قرب الكوفة من بغداد وبُعْدُ البصرة — من جهة، وميل الكوفيين في الجملة سياسيًا إلى دولة بني العباس، وانصراف البصريين عنها من جهة أخرى — ولعل هذا هو السبب في تعصب العباسيين وشيعتهم للكسائي الكوفي على سيبويه البصرى في المناظرة التي جرت بينهما في المسألة المشهورة: «كنت أظن أن العقرب أشد لسعة من الزنبور فإذا هو إياها»؛ فقد كان الكسائي يجيز فإذا هو هي وإذا هو إياها، وسيبويه لا يجيز إلا فإذا هو هي، وكانت المناظرة في مجلس يحيى بن خالد البرمكي، وعنده ولداه جعفر والفضل، وكان المتناظران زعيمي بلديهما الكوفة والبصرة، وقد حُكم للكسائي على سيبويه فكان حكمًا للكوفة على البصرة، وكان إذلالًا للبصريين؛ ولذلك لم يستطع سيبويه أن يعود إلى البصرة بعد الحكم، وإصبع السياسة في المسألة لقد لعبت دورها فيما أظن.

•••

والأدب اتجه أكثر إلى مشايعة رغبات القصر، يذم الشعراء مَنْ ذمهم الخلفاء، ويمدحون مَنْ رضوا عنه، فإذا خرج محمد بن عبد الله على المنصور، قال ابن هَرْمَة:

غلبتَ على الخلافة مَنْ تمَنَّى
ومَنّاه المُضِلُّ بها الضلول
فأهلك نفسَه سفهًا وجبنًا
ولم يُقْسَم له منها فتيل
دعَوا إبليس إذ كذبوا وجاروا
فلم يُصرِخْهُم المُغْوِي الخَذُولُ
وما الناس احتَبْوك بها ولكن
حباك بذلك الملكُ الجليلُ
تُراثُ محمدٍ لكم وكنتم
أصولَ الحق إذ نُفِيَ الأصولُ

وإذا رضى المعتصم عن الأْفشِين، فقصائد أبي تمام تترى في مدحه، وإذا غضب عليه وصلبه، فقصائد أبي تمام أيضًا تقال في ذمه وكفره؛ ويرضى الرشيد عن البرامكة فهم معدن الفضل، ويقتلهم فهم أهل الزندقة والشرك، وهكذا وقف الأدب أو أكثره يخدم الشهوات والأغراض، وقديمًا هجا الفرزدق الحجاج بعد أن مدحه فقيل له: كيف تهجوه وقد مدحته؟ فقال: «نكون مع الواحد منهم ما كان الله معه، فإذا تخلى عنه انقلبنا عليه»، ولو قال: «نكون معه ما كانت الدنيا معه» لكان أصدق.

•••

هذا قليل من كثير في هذا الباب، ومن الطبيعي أن هذه الأمور وأمثالها تجري في الخفاء، ولا يعلم الناس من أمرها إلا فلتاتٍ قليلة، وألاعيب السياسة دائمًا تجري من وراء سُتُر كثيفة، ولا يعلم الأكثرون إلا المظاهر، وهي قليلة الدلالة على البواطن.

على أن من الحق أن نقرر أن هناك من العلماء مَنْ كان لا يشايع إلا الحق، كما كان من العلماء مَنْ يشايع السياسة، شأن الناس في كل عصر، ولعل خير ما يمثلهما معًا ما حدث في أمر يحيى بن عبد الله بن حسن بن حسن بن علي بن أبي طالب فقد خرج على الرشيد بالدَّيْلم، واشتدت شوكته وقَوِيَ أمره، ونزع إليه الناس من الأمصار والكوَر، ثم دعاه الرشيد إلى الصلح فأجاب، وكتب الرشيد أمانًا ليحيى وأشهد عليه الفقهاء والقضاة وجِلَّة بني هاشم ومشايخهم، وجاء يحيى إلى بغداد فأكرمه الرشيد أولًا ثم تدخل بينهما رجال السوء، فأراد الرشيد أن ينقض الأمان، فدعا بيحيى ودعا ببعض الفقهاء «منهم أبو البَخْتَرِي القاضي، ومنهم محمد ابن الحسن صاحب أبي حنيفة، وأحضر الأمان الذي كان أعطاه يحيى، فقال لمحمد ابن الحسن ما تقول في هذا الأمان أصحيح هو؟ قال هو صحيح، فحاجَّه في ذلك الرشيد، فقال له محمد بن الحسن ما تصنع بالأمان؟ لو كان محاربًا ثم وَلّي كان آمنًا، فاحتملها الرشيد على محمد بن الحسن، ثم سأل أبا البختري أن ينظر في الأمان، فقال أبو البختري هذا منتقض من وجهِ كذا وكذا، فقال الرشيد أنت قاضي القضاة، وأنت أعلم بذلك، فمزَّق الأمان وتَفل فيه أبو البختري».٥٤ ونرى من المؤرخين مَنْ تحروا الصدق جهد طاقتهم، ودونوه كما اعتقدوا، ونقدوا فيه بعض أعمال العباسيين على الرغم من أنه أُلِّف تحت سلطانهم.

كما أن من الحق أن نذكر أن العباسيين، وإن تدخلوا في تلوين بعض العلوم ببعض الألوان وكان هذا سيئة من سيئاتهم فلهم محمدة أخرى في تشجيع العلم وتدوينه والمكافأة عليه واستحثاث الهمم لخدمته.

•••

ولنبحث بعدُ مسالة لها صلة وثيقة بهذا الموضوع وهي «حرية الرأي» في هذا العصر، وإلى أي حد كانت.

وإن الباحث في هذا الأمر يرى مظاهر تبدو متناقضة؛ فيرى مظاهر كثيرة تدل على تمتع الناس بقدر من حرية الرأي كبير، ومظاهر أخرى تدل على عكس ذلك. فمثلًا نرى من ناحيةٍ أن بعض الشعراء استطاع أن يجهر في صراحة بذم الخلفاء، ولا يكتفي بالتلميح؛ فقد رُوي أن سُلَيمْ بن يزيدَ العَدَوِيِّ، وهو من أصحاب واصل بن عطاء قال في زمن أبي جعفر المنصور:

حتى متى لا نرى عدلًا نُسَرُّ به
ولاَ نَرى لولاة الحق أعوانًا
مستمسكين بحق قائمين به
إذا تلوّن أهل الجَوْر ألواَنا
يا للرِّجالِ لداء لا دواء له
وقائد ذي عَمىً يقتاد عميانًا
وَدِعْبِل الْخُزَاعي قد أكثر من القول في هذا الباب؛ فيقول فيه صاحب الأغاني: «إنه هَجَّاء خبيث اللسان لم يَسْلَم منه أحد من الخلفاء، ولا من وزرائهم، ولا أولادهم، ولا ذو نباهة أحسن إليه أو لم يحسن، ولا أُفْلِتَ منه كبيرٌ أحد».٥٥

وكان شيعيًا مشهورًا بالميل لعلي بن أبي طالب وذريته، وقد قال فيهم قصيدته المشهورة «مدارسُ آيات خَلتْ مِن تِلاوَةٍ»؛ وقد هجا المعتصم، فكان مما قال فيه:

بَكى لشتات الدين مكتئبٌ صَبُّ
وفاض بفرطِ الدمع من عينه غَربُ
وقام إمامٌ لم يكن ذا هديةٍ
فليس له دينٌ وليس له لُبٌّ
وما كانت الأنباء تَأْتي بمثله
يُملَّكُ يومًا أو تدِينُ له الُعْربُ
لقد ضاع مْلُك الناسِ إذ سَاس ملكَهُمْ
وصيف وَأَشْنَاسٌ وقد عظم الكربُ
وهجا قبله المأمون، فقيل له إن دعبلًا قد هجاك، فقال: «وأي عجب في ذلك، هو يهجو أبا عَبَّاد ولا يهجوني أنا؟ ومن أقدم على جنون أبي عباد أقدم على حلمي». وترجمته مملوءة بالهجاء للخلفاء والوزراء والأمراء وغيرهم، ثم هو يقول: «أنا أحمل خشبتي على كتفي منذ خمسين سنة لست أجد أحدًا يصلبني عليها».٥٦

ونرى رجلًا أعمى من أهل بغداد اسمه علي بن أبي طالب يقول لمَّا أراد الأمين أن يأخذ البيعة لابنه وهو طفل:

أضاع الخلافة غِشُّ الوزير
وفعلُ الإمام ورأْيُ المشير
وما ذاك إلا طريقُ غرور
وشر المسالك طُرْقُ الغرور
فِعالُ الخليفة أعجوبة
وأعجب منه فعال الوزير
وأعجب من ذا وذا أننا
نبايع للطفل فينا الصغير٥٧

ويقول أحمد بن أبي نعيم في أبيات فاحشة:

لا أحسب الْجَوْرَ ينقضي وعلى الأمـ
ـة والٍ من آل عباس٥٨

إلى كثير من أمثال هذا الشعر، ولو كان الخلفاء يعاقِبون أشد العقوبة ولو بالظنة على مثل هذا لما كثر هذه الكثرة.

ويحدثنا «طيفور» في كتابه «تاريخ بغداد» أن بِشْرَ بن الوليد قال للمأمون: إن بِشَرًا الْمَريسيّ يعرِِّض بك ويُزري عليك، قال فما أصنع به؟ ثم دس إليه رجلًا فحضر مجلسه وتسمّع ما يقول، فأتاه الرجل، فقال: سمعته يقول حين أراد القيام، وفرغ من الكلام بعد حمد الله والثناء عليه: اللهم العن الظلمة وأبناء الظلمة من آل مروان، ومَنْ سخطْتَ عليه ممن آثر هواه على كتابك وسنة نبيك اللهم وصاحب البرذون، الأشهب فالعنه، فقال المأمون أنا صاحب البرذون الأشهب وسكت عليها؛ فلمَّا دخل عليه بشر قال له بعد أن سأله: يا أبا عبد الرحمن، متى عهدك بلعن صاحب الأشهب، فطأطأ بشر رأسه ثم لم يعد بعد ذلك لذكره والتعرُّض له.٥٩
وقال عبد الرحمن بن زياد: كنت أطلب العلم مع أبي جعفر المنصور قبل الخلافة، فلمَّا ولي الخلافة وفدتُ إليه، فقال: كيف سلطاني من سلطان بني أمية؟ قلت: ما رأيت في سلطانهم من الجور شيئًا إلا رأيته في سلطانك، فقال (المنصور): إنا لا نجد الأعوان، قلت: قال عمر بن عبد العزيز: إن السلطان بمنزلة السوق يُجْلَب إليها ما يَنْفق فيها، فإن كان بَرًّا أتوه ببرهم، وإن كان فاجرًا أتوه بفجورهم. فأطرق.٦٠
وكذلك قال له عمرو بن عُبَيد، فقد قال المنصور: «إنه ما عُمل وراء بابك بشيء من كتاب الله، ولا سنة نبيه، قال أبو جعفر: فما أصنع؟ قد قلت تلك خاتمي في يدك فتعال وأصحابَك فاكفني، قال عمرو ادْعني بعدْلك، تسخُ أنُفسنا بعونك، ببابك ألف مظلمة، اردد منها شيئًا نعلم أنك صادق».٦١
وقال رجل للمنصور: «إن الله استرعاك المسلمين وأموالهم فأغفلْتَ أمورِهم، وجعلت بينك وبينهم حجَابًا من الحصى والآجُرّ وأبوابًا من الحديد، وحَجَبة معهم السلاح، ثم سجنتَ نفسك فيها عنهم، وبعثت عمالك في جباية الأموال وجمعِهَا، وقويتهم بالرجال والسلاح والكُرَاع، وأمرت بألا يدخل عليك من الناس إلا فلان وفلان، نفر سميتهم، ولم تأمر بإيصال المظلوم، ولا الملهوف، ولا الجائع العاري، ولا الضعيف الفقير، ولا أحدٌ إلاَّ وله في هذا المال حق؟ فلمَّا رآك هؤلاء النفر — الذين استخلصتهم لنفسك، وآثرْتهم على رعيتك، وأمرتهم ألا يحجبوا عنك — تَجْبي الأموال وتجمعها ولا تقسمها، قالوا هذا قد خان الله فما بالنا لا نخونه، وقد سجن لنا نفسه، فأتَمَروُا ألا يصل إليك من علم أخبار الناس شيء إلا ما أرادوا، ولا يخرج لك عامل فيخالف أمرهم إلا قصَبُوه٦٢ عندك ونفوه حتى تسقط منزلته ويصغر قدره — فلمَّا انتشر ذلك عنك وعنهم، وأعظمهم الناس وهابوهم، ثم فعل ذلك ذوو القدرة والثروة من رعيتك لينالوا به ظلم من دونهم؛ فامتلأت بلاد الله بالطمع بَغْياٍ وفسادًا، وصار هؤلاء القوم شركاءك في سلطانك وأنت غافل، فإن جاء متظلم حيل بينه وبين دخول مدينتك، فإن أراد رفْعَ قصته إليك عند ظهورك وجدك قد نهيت عن ذلك، وأوقفت للناس رجلًا ينظر في مظالمهم، فإن جاء ذلك الرجل فبلغ بطانتَك خبره سألوا صاحب المظالم ألا يرفع مظلمته إليك، فإن المتظلم منه له بهم حرمة، فأجابهم خوفًا منهم — فلا يزال المظلوم يختلف إليه ويلوذ به ويشكو ويستغيث وهو يدفعه ويعتَلّ عليه؛ فإذا أُجهد وأُخرج وظهرْت صرخ بين يديك، فضُرب ضربًا مبرحًا، ليكون نكالًا لغيره، وأنت تنظر فلا تنكر؛ فما بقاء الإسلام على هذا!».٦٣

فهذه الأخبار وأمثالها تدل على قدر كبير من حرية الرأي، وخاصة إذا لاحظنا أن أكثر هؤلاء الذين جهروا بهذه الآراء لم يمسهم سوء، أو مسهم طائف من سوء.

هذا من الناحية السياسة، وكذلك نرى هذا المظهر في الناحية العلمية؛ فالدولة العباسية مع تأثيرها بعض الأثر في التاريخ وغيره — كما أشرنا — لم ترغم المؤرخين على أن يقولوا — دائمًا — ما تحب، بل استطاع كثير منهم أن يتحرروا من تأثيرها، وأن يبدوا آراءهم في صراحة. فهذا «ابن جرير الطبري» يروي كتابه عن مؤرخين عاشوا في هذا العصر، ويروي آراء وأخبارًا لا تُرضي الخلفاء العباسيين، ولا ذريتهم الذين كانوا في الحكم وقت أن دُونت هذه الحوادث؛ فقد ذكروا السفاح وسفكه للدماء، وعابوا على المنصور شحَّه وقتله كثيرًا من الناس ظلمًا، وذكروا الأبيات المقذعة التي قيل إن بشارًا هجا بها المهديّ، ووصفوا مجالس لهوهم، ومَنْ كان منهم يشرب الخمر ومَنْ لا يشرب، ومَنْ كان يفرط في سماع الغناء ومَنْ لا يفرط، وتركوا لنا صورة لكل خليفة، إن لم تكن صحيحة الصحة كلها، فهي قريبة من الصحة، فلم يقلبوا الحقائق وإن لطفوها أحيانًا، وهذا — بلا شك — ما كان يكون لولا تمتع بقدر كبير من حرية الرأي.

ثم نستعرض كتابًا، كمقالات الإسلاميين لأبي حسن الأشعري، أو الملل والنحل للشهرستاني، أو الفرْق بين الفِرق للبغدادي؛ فنرى مذاهب وأقوالًا في الإلهيات ونحوها يستغرب القارئ من عرضها، ويعجب كيف كان قائلوها يجرءون على قولها ثم لا يتعرض لهم أحد، وكيف كانوا في منتهى الحرية في أخذ الأقوال عن فلاسفة اليونان ومزجها بالإسلام، وكيف كانوا — وخاصة المعتزلة — يعرضون لأحداث التاريخ في صدر الإسلام، ويحللون أفعال الصحابة، وينقدونهم نقدًا صريحًا، ويبينون خطأهم من صوابهم، ويعارضون المعارضون بمثل قولهم، إلى غير ذلك مما سنبينه في الكلام على الفرق الدينية. ثم كان الفقهاء ينقد بعضهم بعضًا في حرية تامة، فابن أبي ليلى ينقد أبا حنيفة بكل ما يستطيع من قوة، وتلاميذ أبي حنيفة يردّون عليه كذلك، والنزاع بين تلاميذ أبي حنيفة والشافعي ومالك وغيرهم على أشده، هو في حدود العقل أحيانًا، وخارج حدوده أحيانًا، ثم لا يتعرض لهم أحد بسوء، وإنما يدفعون الحجة بالحجة والتهويش بالتهويش — أليس هذا منظرًا بديعيًا من مناظر حرية الرأي قد نستطيع أن نقول فيه إننا الآن لا نستطيع أن نجرؤ على ما كانوا يجرءون عليه، ولا نتمتع بمثل ما تمتعوا به.

ولكن الحق أن القائل إذا اقتصر على هذا الجانب من التاريخ في هذا العصر لم يكن مصيبًا، وكان قد نظر إلى المسالة من جانب واحد، فهناك جانب آخر لو قصر الناظر نظره عليه لصرح بأن حرية الرأي في ذلك العصر لم يكن لها وجود. فمن الناحية السياسية نطالع تاريخ الوزراء فقلَّ أن نرى وزيرًا في العصر العباسي مات حتَف أنفِه، فأول وزير لأول خليفة عباسي أبو سلَمَة الخَلاّل، وقد أوعز السفاح إلى أبي مسلم الخراساني بقتله ففعل، واستوزر أبو جعفر المنصور أبا أيوب سليمان المورياني ثم قتله، وقتل أقاربه واستصفى أموالهم، وفي ذلك يقول ابن حبيبات الشاعر الكوفي:

قد وجدناك تحسُد من أعطتَه
طوعًا أزِمَّة التدبيرِ
فإذا ما رأوا له النهيَ والأمـْ
ـر أتَوْه من بأسهم بنكير
شرِبَ الكأس بعد حفصٍ سليما
نُ ودارت عليه كفُّ المديرِ
ونجا خالدُ بن برمكَ منها
إذ دَعوه من بعدها بالأميرِ
أسوأ العالمين حالا لديهم
مَنْ تسَمَّى بكاتبٍ أو وزيرِ٦٤

والمهدي استوزر يعقوب بن داود ثم ما زال السعاة يسعون به حتى نكبه المهدي وجعله في المطبق، ونكبة الرشيد للبرامكة معروفة مشهورة، واستوزر المأمون الفضل بن سهل ثم أوعز بقتله وهكذا.

وبلغ الحال من تعرُّض الوزراء في ذلك العصر وبعده للقتل ما ذكره التنوخي المتوفى في سنة ٣٧٤ في كتابه «نِشْوَار المحاضرة» عن ابن عياش أنه «رأى في شارع الخلد قردًا مُعَلَّمًا يجتمع الناس عليه فيقول له القَرّاد: تشتهي أن تكون بزازًا؟ فيقول نعم ويومئ برأسه، فيقول تشتهي أن تكون عطارًا؟ فيقول نعم برأسه، فيعدد الصنائع عليه فيومئ برأسه — فيقول له في آخرها تشتهي تكون وزيرًا؟ فيومئ برأسه — لا — ويصيح ويعدو من بين يدي القَرَّاد فيضحك الناس».٦٥
ولقد عين المنصور لابنه جعفر كاتبا يُسمَّى الفُضَيْل بن عمران، وكان رجلًا عفيفًا دينًا فدُسَّ له عند المنصور لأسباب سياسية بأنه يعبث بجعفر، فأمر المنصور بقتله من غير سؤال، ثم تبين للمنصور كذب المبلِّغ، فبعث رسولًا يقف القتل، فقدم الرسول وقد قتل فقال جعفر بن المنصور لسُويد: ما يقول أمير المؤمنين في قتل رجل عفيف ديّن مسلم بلا جرم ولا جناية؟ فقال سويد: هو أمير المؤمنين يفعل ما يشاء وهو أعلم بما يصنع، فنهره جعفر وقال: أكلمك بكلام الخاصة وتكلمني بكلام العامة، خذوا برجله بألقوه في دجلة، فقال سويد أكلمك، فقال دعوه، فقال سويد: هل يُسأل أبوك عن فضيل؟ لقد قتل المنصور عمه عبد الله، وقتل عبد الله ابن الحسين وغيره من أولاد رسول الله ظلمًا، وقتل أهل الدنيا ممن لا يحصى ولا يعد، إنه قبل أن تسأل عن فضيل يكون جِرْذَانة إلخ».٦٦

ومن الناحية العلمية والدينية نرى خلفاء بني العباس قد أهانوا كثيرًا من العلماء وعذبوهم؛ فأبو حنيفة ومالك يُضربان ويحبسان؛ لأنهما لا يريدان أن يتوليا القضاء، أو لرأيهما في البيعة؛ وسفيان الثوري يتنقل في البلاد مختفيًا، لأنهم أرادوه على قضاء الكوفة فأبى؛ ثم هذه الإدارة التي تُنشأ للبحث عن الزنادقة وعقوبتهم، والإفراط في قتل المتهمين، ومنهم — بلا شك — مَنْ قتل ظلمًا وعدوانًا، وكان الداعي إلى قتله أسبابًا سياسية، فنفذوا أغراضهم تحت ستار الزندقة استمالة للجمهور، كما فعلوا في ابن المقفع — وقد تقدم ذكره — وكما فعلوا في صالح بن عبد القُدُّوس، فقد كان مولى من موالي الأزد، وكان واعظًا في البصرة ثم في دمشق — وكان يقول الشعر لا في مدح خليفة أو أمير، وإنما يقوله في الحكمة والموعظة، مثل قوله:

ما بين ما تحمَد فيه وما
يدعو إليك الذمَّ إلا القليل

وقوله:

كل آت لا شك آت، وذو الجهـ
ـل معنًّى. والهمُّ والحزنُ فَضْلُ

ومن شعره وكأنه طُبّق عليه:

أيها اللائمي على نكد الدهـ
ـر لكلٍّ من البلاء نصيبُ
قد يُلاَم البريءُ من غير ذنبٍ
وتغطّى من المسيء الذنوبُ
وتحُولُ الأحوال بالمرءِ والدهـْ
ـرُ له في صُرُوفِهِ تقليبُ٦٧

وقد روى الخطيب البغدادي أن المهدي اتهمه بالزندقة فأمر بحمله إليه فأُحضر بين يديه، فلمَّا خاطبه أعجب بغزارة علمه وأدبه وبراعته وحسن نباهته وكثرة حكمته، فأمر بتخلية سبيله؛ فلمَّا وّلى رده وقال ألستَ القائل:

ما يبلغ الأعداء من جاهل
ما يبلغ الجاهل من نفسهِ
والشيخ لا يترك أخلاَقه
حتى يُوَاَرىَ في َثرىَ رمسِه
إذا ارعوي عاد إلى جهله
كَذِي الضّنَى عاد إلى نكْسهِ
فإنّ مَنْ أدّبتَه في الصِّبا
كالعود يُسْقَى الماءَ في غَرسهِ
حتى تراه مُورِقًا ناضرًا
بعد الذي أبصرت من يُبْسِه

قال بلى يا أمير المؤمنين، قال فأنت لا تترك أخلاقك، ونحن نحكم فيك بحكمك في نفسك؛ ثم أمر به فُقتِلَ وصُلِبَ على الجسر — وهذا الخبر إن صح لم يدل على شيء يصح أن يؤاخذ عليه، فضلًا عن أن يقتل به، ويعجبني ما قال أحدهم أنه رآه في المنام، فوجده ضاحكًا مستبشرًا. فسأله كيف نجوت؟ قال وردت على رب لا تخفى عليه خافية، فاستقبلني برحمته وقال قد علمت براءتك مما كنت تُرْمَى به — فإن هذه الرؤيا انعكاس لعقيدة الحالم في صحوه، وأخشى أن يكون جرى على لسانه في وعظه قول به مساس للنظام في وقته، أو نقد لتصرف من تصرفات الخلفاء، فرموه بالزندقة — وإن فشو الاتهام بالزندقة في ذلك العصر دليل على عبودية الرأي لا على حريته — ثم هذا المأمون على أنه أكثر الخلفاء العباسيين تسامحًا، وأوسعهم صدرًا، وقف موقفًا غريبًا، إذ حمل الناس حملًا على القول بخلق القرآن، وعذب بعضًا وقتل بعضًا، واشتد في ذلك شدة تستخرج العجب، وبخاصة صدورها من مثله وهو الفيلسوف الواسع الفكر البعيد النظر — وعلى العموم كان المعتزلة يُضطهدون يوم كانت السلطة في يد أعدائهم، وكانوا يَضْطهدون يوم كانت السلطة لهم، وكلا الحالين يُخْجِل مَنْ يقول بحرية الرأي في ذلك العصر.

وبعد، فهل يمكن التوفيق بين هذين العرضين؟ وهل يمكن استخلاص قواعد ثابتة يؤرَّخ بها الرأي في العصر العباسي، وُتعِين على وضع حدود فاصلة بين الحرية والعبودية؟

أظن أنه يمكننا من هذه الظواهر المتناقضة أن نستنتج المبادئ الآتية:
  • (الأول): أن الخلفاء العباسيين الأولين وبخاصة المنصور، وضعوا أسسًا للدولة أهمها
    • (١) تعظيم الخلافة في نفوس الناس، فأبو جعفر المنصور رأى كثرة الخارجين على الدولة فلم يسمح أن تحدث أحدًا نفسه بالخروج عليها، وقتل في هذا الأمر بالظنة، وخير ما يمثل هذا الجانب ما روي أن عبد الصمد بن علي قال للمنصور: «لقد هجمتَ بالعقوبة حتى كأنك لم تسمع بالعفو، قال المنصور: لأن بني مروان لم تَبْل رممهم، وآل أبي طالب لم تَغْمَد سيوفهم، ونحن بين قوم قد رأونا أمس سوقة واليوم خلفاء فليست تتمهد هيبتنا في صدورهم إلا بنسيان العفو واستعمال العقوبة».٦٨
    • (٢) مما يتصل بهذا أنه صبغ الخلافة صبغة دينية، وأقام الخليفة مقام الحامي للدين، الذائد عن حياضه؛ فالسلطان ظل الله في أرضه، ومنه تُتَلقى كل سلطة ونرى هذا واضحًا في الدولة العباسية أكثر منه في الدولة الأموية؛ فلا نرى مثلًا في الدولة الأموية قاضيًا اتصل دينيًا وسياسيًا بالخليفة كما اتصل أبو يوسف بالرشيد فاصطبغ الخليفة العباسي صبغة روحية، وكان من مظاهر ذلك ما أحاطوه بالبيعة من مظاهر قدسية؛ ومن ثمَّ لمَّا ضعفت سلطتهم وغلبهم الأمراء والولاة على أمرهم ظل في نفوس الناس لهم الحرمة الدينية.

من أجل هذا المبدأ، نرى أن الخلفاء لم يكونوا يسمحون بسبب من الأسباب ضعف شأن الملك أو يؤدي إلى ذلك، ومن كلام المنصور: «الملوك تحتمل كل شيء إلا ثلاث خلال: إفشاء السر، والتعرُّض للحرم، والقدح في الملك». فهم إن سمحوا بحرية الرأي في كل شيء فليسوا يسمحون بها في هذا الباب، وإذا مسَ العلم هذه الناحية فالعقوبة شديدة؛ ومن رأيي أن أبا حنيفة ومالكًا والثوري لم يعاقَبوا للسبب الذي يذكر عادة، وهو عدم رغبتهم في تولي القضاء، ولكن لأن امتناعهم مظهر من مظاهر عدم تعاونهم مع الدولة القائمة، والجمهور يرى أن هؤلاء إذا امتنعوا فلأن الدولة ظالمة لا تحكم بالعدل، ولأن امتناعهم قد يدل على رغبتهم الخفية في نصرة أعداء العباسيين كالعلويين — ومن هذا الباب توسيع أمر الزندقة وإنشاء الإدارة الخاصة بها، فهم — وقد أخذوا على عاتقهم حماية الدين وصبغوا الخلافة صبغة دينية، وربطوا الأمرين بعضهما ببعض — قد رأوا التشدد في هذا الأمر كالتشدد في سابقه، وكان أكبر ما يضطهدون قومًا من أتباع ماني، يعتنقون الإسلام ظاهرًا، ويعملون على هدمه باطنًا — وطبيعي أن هذا الباب إذا فتح لا يقف عند حد، ويؤخذ فيه البريء بذنب المجرم — فإذا لم يتصل العلم بشيء من هذين فالعلماء أحرار فيما يقولون.

  • (الثاني): أن حرية الرأي وقدرها كانت متصلة اتصالًا كبيرًا بمزاج الخليفة؛ فمثلًا — كان المنصور ضيق الصدر سياسيًا واسع الصدر علميًا، يأخذ بالظَّنة في كل ما يتعلق بالملك، ويحاسِب أشد المحاسبة حتى ما توهمه في النية والضمير، ويجزي على ذلك بالقتل السريع، لا يرحم خارجًا عليه، بل ولا مَنْ توسم فيه خروجًا، ولا مَنْ حاول أن ينتزع منه سلطة، ولو كان هو مانحها — أمَّا في العلوم فرحب الصدر، يتسع صدره للمعتزلة وتعاليمهم، فيقرب إليه أحد زعمائهم عمرو بن عبيد، وعمرو هو الذي يفر منه، ويشجع المنجمين والأطباء، وكل ما أتوا به من ضروب الفلسفة، والمهدي كان شديد الحس فيما يتعلق بالزندقة، مغرمًا بالعقوبة عليها، والبحث عنها حتى في أعماق الصدور؛ كان يشعر أن فيها خطرًا على الدولة من حيث تعاليمها، فاشتراكية «مزدك» وفلسفة «ماني» تجمعت في زنادقة عصره، وأحس أنها تَحُل قوى الشعب إذا انتشرت، ونظر إليهم بنظره إلى مَنْ يحل الأخلاق ويفسد المجتمع، ويهدم السلطة، فعاقب وأسرف في العقوبة، واتهم وبالغ في الاتهام، أمَّا فيما عدا ذلك من ضروب الآراء، ومختلف العلوم فكان سمحًا سهلًا، والرشيد في تشجيعه للحركات الأدبية والعلمية لا يُبارَى، وإن أُخِذَ عليه أنه كان يكره الاعتزال وقد يعاقب عليه — وليس يساويه في ذلك إلا المأمون بل قد يفوقه، فقد كان له من الذوق العلمي والأدبي والعقل الفلسفي، ورحابة الصدر في الجدل والمناظرة والإصغاء إلى مختلف الآراء ما شجع الحركات العلمية والأدبية والفنية أكبر تشجيع، ولا يؤخذ عليه في ذلك إلا موقف الغريب — الذي يتنافى وما عرف عنه من حرية الرأي — في محنة خلق القرآن، وسنعرض لها بعدُ.

على كل حال من الحق أن نقول إن عصرنا الذي نؤرخه — على الرغم من كل مظاهر الاستبداد التي ألممنا بها — كان عصرًا مجيدًا في تاريخ الإسلام من حيث حرية الرأي العلمية إلى حد كبير؛ فلمَّا تولى المتوكل اضطهد المعتزلة وشرَّدهم كل مشرَّد، وأزال سلطانهم، وانتقم منهم بأكثر مما فعلوا أيام المأمون، وعزلهم من الوظائف الحكومية، وقبض على القاضي أحمد بن أبي دُوَاد وكان نصير المعتزلة، وسجنه؛ وانتصر للسنية في قوة وعنف، وكما اضطهد المعتزلة — وهم قادة حرية الرأي — اضطهد غير المسلمين من نصارى ويهود، وعزلهم كذلك من الوظائف، ووضع لهم تعاليم في منتهى الشدة يجب أن يتبعوها — وبذلك قبع المتكلمون الذين كان على رأسهم المعتزلة، وقبع الفلاسفة وكان على رأسهم النساطرة وأمثالهم، وانتصر رجال الحديث، وغَلب المنهج الذي يمثله المحدثَّون، وهو المنهج النقلي الذي سبقت الإشارة إليه — وعلى الجملة فقد كانت خلافة المتوكل خاتمة لعصر حافل بالآراء والمبادئ، وفاتحة لعصر آخر قُيِّدت فيه الآراء والأفكار إلى حد بعيد، ومُنِحتَ فيه السلطة للمحافظين من الفقهاء والمحدّثين، كما سيأتي بيانه إن شاء الله.

١  F. Muller-Layer. The History of Social Development.
٢  J. W. Draper.History of the intellectual Development of Europe.
٣  انظر فجر الإسلام ص ٤٦ وما بعدها.
٤  السلع والعشر شجرتان.
٥  انظر مجموعة من ذلك في الجزء الثاني من بلوغ الأرب من ٣١٦–٤٠٨، والجزء الثالث من ٢–٨٦.
٦  الأغاني ١٥/٣.
٧  البيقور: البقر.
٨  سية القوس ما عُطِف من طرفيها.
٩  انظر Haye’s Introduction to the Study of Sociology.
١٠  تاريخ الخلفاء للسيوطي ص ١٠١ طبع مصر.
١١  الإصابة ٩٣/٤.
١٢  مقدمة ٣٦٣.
١٣  مقدمة ص ٣٦٤.
١٤  مقدمة ٣٦٢.
١٥  انظر الأغاني ١٧١/٩ وانظر ضحى الإسلام ١٧٢/١.
١٦  تفسير الطبري ٩/١٧ والحسرى جمع حاسر وحسير وحاسرة، وهي الدابة التي أعيت وكلت.
١٧  إخوان الصفا ١٣٨/١.
١٨  ابن خلكان ٢٤٥/١.
١٩  انظر صبح الأعشى ٤٧٥/٢.
٢٠  الأفقس جمع فقس وهو المداد، والقرطس القرطاس. يقول: لم يبق من المنازل إلا مثل المداد على القرطاس بعد مضي الزمان.
٢١  اللسان ٢٤٧/١١.
٢٢  السملق: المستوية الملساء.
٢٣  وقد ذكر البلاذري في فتوح البلدان أن القراطيس كانت تدخل بلاد الروم من أرض مصر، ويأتي العرب من قبل الروم الدنانير، وكانت الأقباط تذكر المسيح في رءوس الطوامير وتضع الصليب (الطومار سدس درج)، فأمر عبد الملك أن يكتب في رءوس الطوامير قل هو الله أحد بدل المسيح، فكتب إليه ملك، الروم في ذلك وهدده أن يوضع في الدنانير تعريض للنبي فكان من أثر ذلك ضرب عبد الملك الدنانير — ص ٢٤٩ طبع مصر.
٢٤  انظر في هذه المحاضرات القيمة للدكتور أدولف جروهمان.
٢٥  تاريخ اليعقوبي ص ١٢٥، ١٢٧ ؛ وليهما ينسب السمك البوري.
٢٦  ابن الأثير ١٨٣/٥.
٢٧  انظر دائرة المعارف الإسلامية في مادة كاغد وقرطاس ومحاضرات جروهمان.
٢٨  صبح الأعشى ٤٧٥/٢ وما بعدها.
٢٩  معجم الأدباء ٥٦/٦.
٣٠  أغاني ١٧/١٢.
٣١  يقال ثوب أخلاق وثياب أخلاق إذا كانت بالية.
٣٢  طبري ١٣/١٠.
٣٣  الطبري ١٢٦/٩ وما بعدها.
٣٤  تاريخ الخلفاء ٩٧.
٣٥  أغاني ١٦٧/٥.
٣٦  ابن خلكان ٥٥١/١.
٣٧  تاريخ الخلفاء ١٢١.
٣٨  ابن خلكان ٣٠٢/٢.
٣٩  أسد الغابة ١١١/٣.
٤٠  الإصابة ٩٤/٤.
٤١  تاريخ الخلفاء ٦.
٤٢  انظر تفسير الطبري في سورة الإسراء، وانظر الألوسي ٥٤٦/٤.
٤٣  تاريخ الخلفاء ٦ و٧.
٤٤  تاريخ الخلفاء ١٠١.
٤٥  انظر فجر الإسلام ص ١٧٥ طبعة ثانية.
٤٦  روح المعاني للألوسي ٢٤٧/٩.
٤٧  تاريخ الطبري ٢٠٦/٩ طبع مصر.
٤٨  ابن خلكان ٦٢٦/١.
٤٩  مناقب أبي حنيفة للكردري ١٨٤/١.
٥٠  انظر هذه الصورة فيما روى السيوطي في تاريخ الخلفاء ص ١١٤.
٥١  الأحكام السلطانية ص ٢١٩.
٥٢  النوادر ٢٠٨/٢.
٥٣  مزهر ٢٠٦/٢.
٥٤  الطبري ٥٧/١٠.
٥٥  أغاني ٢٩/١٨.
٥٦  انظر ترجمته في الأغاني ٢٩/١٨ وما بعدها.
٥٧  مسعودي ٢٣٦/٢.
٥٨  محاضرات الأدباء ١٢٥/١.
٥٩  طيفور ص ٩٦.
٦٠  تاريخ الخلفاء ١٠٥.
٦١  عيون الأخبار ٣٣٧/٢.
٦٢  عابوه.
٦٣  عيون الأخبار ٣٣٥/٢.
٦٤  الفخري.
٦٥  نشوار المحاضرة ١١٤/١.
٦٦  الحكاية بطولها في تاريخ الطبري ٣١٧/٩.
٦٧  روِي له كثير من شعره في الجزء السادس من تاريخ ابن عساكر.
٦٨  تاريخ الخلفاء ١٠٤.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤