الفصل الثالث
مراكز الحياة العقلية
ذكرنا في الجزء الأول من «فجر الإسلام»
١ نشأة الحركة العلمية في الأمصار المختلفة في بدء الإسلام إلى آخر العصر
الأموي، وذكرنا أن أهم مراكز الحياة العقلية في ذلك العصر كانت الحجاز (مكة
والمدينة) والعراق (البصرة والكوفة) والشام ومصر؛ وتتبعنا في إيجاز ما دار فيها من
علم وما نبغ فيها من علماء، والنواحي العلمية والفنية التي كانت تغلب على كل مصر،
وقد ظلت هذه المراكز هي المراكز العقلية بعينها في العصر العباسي، لم يزد عليها إلا
بغداد في العراق، وقد أنشأها المنصور، والأندلس وقد أصبحت باستيلاء الأمويين عليها
مركزًا هامًا من مراكز الثقافة؛ فلنستمر في وصف الحركة العلمية في هذه الأمصار،
ونرجئ الكلام في الأندلس، ففي نيتنا — إن أقدرنا الله — أن نفرد لها جزءًا خاصًا من
«ضحى الإسلام».
الحجاز:٢ ظلّتَ الحركة العلمية في مكة والمدينة في العصر العباسي
سائرة سيرها في العصر الأموي — قد كان أكثر ما عُرِفَ عن مدرستي مكة والمدينة
الحديث، والفقه مبنيًا على الكتاب والحديث، فاستمرت هذه الحركة.
ففي مكة ظل العلماء يتلقون العلم طبقة عن طبقة، فقد اشتهر من التابعين مَن علماء
مكة مُجاهد بن جبر، وعطاء بن أبي رَبَاح وغيرهما، وجاء بعدهم طبقة أخرى اشتهر منها
عمرو بن دينار، وكان ثقة ثبتًا كثير الحديث، وكان يفتي الناس بمكة فكان فقيهًا
ومحدثًا، وقد مات سنة ١٢٦ وخلفه في إفتاء الناس في مكة عبد الله ابن أبينَجِيح، وقد
مات نحو سنة ١٣٢؛ وجاء بعد هذه الطبقة طبقة أخرى، وهذه هي التي عاشت في العصر
العباسي، وأشهرهم عبد الملك بن عبد العزيز بن جُريَح، وهو رومي الأصل، كان كثير
الحديث جدّا، لَمَزه «الواقدي» فروى «أنه طلب من أبي بكرة بن أبي سَبرة أن يكتب له
أحاديث سنُن، فكتَب له ألف حديث ثم بعث بها إليه، وما قرأها عليه، ثم كان يحدَّث
بعد ذلك ويقول: حدَّثنا أبو بكر بن أبي سبرة»؛
٣ وهو من أول المؤلفين في الحديث، وعدّه بعضهم أولهم — وعلى كل حال فقد
كان عَلما من أعلام مدرسة مكة، تلقى عنه الأوْزَاعِيُّ وسفيان الثوري وسفيان بن
عُيَيْنة وكثيرون، ومات سنة ١٥٠هـ.
٤
واشتهر من الطبقة التي تليه سفيان بن عُيَيْنة، وكان من أشهر المُحدِّثين، كان
كوفي الأصل، ثم انتقل إلى مكة وبها مات سنة ١٩٨، وقد أخذ عنه الشافعي وأحمد بن حنبل
ومحمد بن إسحاق ويحيى بن أكثم القاضي وغيرهم، وفيه قال الشافعي: لولا مالك وابن
عيينة لذهب علْم الحجاز؛ وكان حديثه نحو سبعة آلاف حديث.
ومن طبقة سفيان الفُضَيْل بن عِيَاض، أحد مشاهير الزهُاَّد، وكان أصله من
أبِيوَرْد، ورحل إلى الكوفة ثم رحل إلى مكة وأقام بها، وكان يَلقَّب شيخ الحرم، وظل
بها إلى أن مات سنة ١٨٧هـ، وكان كثير الحديث وأخذ عنه كثيرون.
وأمَّا المدينة فاستمرت مدرستها كذلك، فبعد مَنْ ذكرنا في فجر الإسلام نبغ في
المدينة ربيعة الرأي، كان فقيه أهل المدينة، وكان يجلس في المسجد وحوله أشراف
المدينة يأخذون عنه، وقد أخذ عنه الليث بن سعد ويحيى بن القَطَّان، وأشهر تلاميذه
مالك بن أنس، وقد قال فيه مالك: ذهبت حلاوة الفقه منذ مات ربيعة؛ تُوفي سنة
١٣٦.
وخلفه في إمامة العلم بالمدينة مالك بن أنس، وسيأتي الكلام في مدرسته عند الكلام
في التشريع.
وقد نبغ بالمدينة في هذا العصر من العلماء في نحوٍ آخر من العلم محمد بن عمر
الواقدي شيخ المؤرخين «فكان عالمًا بالمغازي والسيرة والفتوح وباختلاف الناس في
الحديث والأحكام» وألَّف في ذلك الكتب الكثيرة — مما عُدَّ أساسًا من أسس التاريخ —
وقد استعان الرشيد به عند زيارته المدينة في تعرُّف الآثار الإسلامية بها، ومعرفة
مشاهدها، وكان اتصاله به وبالبرامكة وقتذاك سببًا في رحلته بعدُ إلى العراق.
على كل حال كانت مدرستا الحجاز في مكة والمدينة من أكثر المصادر، وخاصة فيما
يتعلق بالحديث، وما ينبني عليه من فقه، وما يتصل بذلك من أخبار وسير، وذلك طبيعي؛
لأن مكة منشأ النبي ﷺ والمدينة مُهَاجَرُه، وكلاهما، منبت الصحابة من
مهاجرين وأنصار، عاشروا النبي وحدَّثوا عنه، وحكوا ما رأوا وما سمعوا من أقوال
وأفعال، وتناقل التابعون عنهم ما سمعوا، ونقل عنهم مَنْ أتى بعدهم.
وقد كانت حركة الحج الدائمة سببًا في اتصال العالم الإسلامي بعلماء مكة والمدينة،
ينتهزون فرصته فيجتمعون بعلمائهما، يروون عنهم ويروونهم، ويرجعون إلى بلادهم يحملون
ما أخذوا وينشرون ما تلقُّوا، وتراجم المحدثين والإخباريين دليل على ذلك.
•••
أمَّا الناحية الأخرى التي اشتهر بها الحجاز في العصر الأموي، أعني الغناء
والُفكاهة — وهي التي شرحنا أسبابها في فجر الإسلام — فقد استمر كذلك في بدء العصر
العباسي، فقد ظلنا نرى الحجاز يُصْدِر مغنين إلى العراق؛ فيحدثنا صاحب الأغاني أن
أحمد بن صَدَقة كان أبوه حجازيًا مغنيًا قدم على الرشيد،
٥ وأن دَنَانير المغنية الشهيرة بالعراق كان أصلها من المدينة،
٦ وأن يحيى المكِّي أحد المغنين كان قدم مع الحجازيين الذي قدموا على
المهدي في أول خلافته،
٧ وأن ابن جامع المغني أصله قرشي من مكة،
٨ وأن يزيد حوراء كان مغنيًا من أهل المدينة، وقدم على المهدي في خلافته
فغنَّاه.
٩
ولكن يظهر لي أن ازدهار الفن في الحجاز أخذ يضعف ضعفًا بينًا في الدولة العباسية،
وأن هؤلاء الواردين على العراق في الأيام الأولى من العباسيين لم يكونوا إلا بقايا
الازدهار في العصر الأموي، وسبب ذلك أمور؛ أهمها فيما أرى:
(١) أن الحجازيين قد خرجوا على أبي جعفر المنصور مع محمد بن عبد الله ابن الحسن،
فلمَّا انهزموا وقُتل محمد بن عبد الله نكَّل المنصور بالحجازيين وشدَّد عليهم
ومنعهم المال؛ فوقع الحجازيون في الفقر، والفقر — من غير شك — يوُدِي بالفن
والفّنانين؛ ولئن كان علم الحديث الديني كان كافيًا في حمل الناس على طلب العلم
الديني مهما أصابهم من فقر وجوع: أمَّا الغناء فمظهر ترف وطرب، فالفقر يحجزه والجوع
يميته؛ جاء في الأغاني: «أن المهدي لمَّا ولي الخلافة وحج، فرَّق في قريش والأنصار
وسائر الناس أموالًا عظيمة، ووصلهم صلات سَنِيَّة، فحسنت أحوالهم بعد جهد أصاب
الناس في أيام أبيه لتسرحهم مع محمد بن عبد الله بن حسن».
١٠
وسبب آخر: وهو أن الدولة الأموية كانت عربية النزعة — كما أبَنّا — ولمَّا انحصرت
الخلافة في البيت الأموي انصرف فِتْيانُ مَنْ عداهم من القرشيين إلى اللهو والترف،
وكان الأمويين يعينونهم على ذلك بالمال ونحوه اتقاءً لشرهم، ورغبة في ألا يفكروا في
السياسة وشئونها؛ فلمَّا جاء العباسيون كان الغنى والمال والجاه للفرس، ودولتهم في
العراق، وتبع ذلك ضعف قيمة العرب وجزيرتهم، فجنُد العرب أقل عددًا من غيرهم،
وحُظْوة العرب عند الخلفاء ليست كحظوة الفرس، والمناصب الكبيرة كالوزارة وما إليها
في يد الفرس لا العرب — وهذا كله يستتبع أن المال الذي يصب في جزيرة العرب كان يقل
شيئًا فشيئًا، وأهمية العرب ونظر الخلفاء إليهم يضعف شيئًا فشيئًا، ولهذا أثر غير
قليل في الفن وضعفه وتحوُّله من الجزيرة إلى العراق، حيث المال الكثير، والترف
الوفير.
وفي الواقع نرى أن جزيرة العرب أخذت في العصر العباسي تعود إلى بداوتها الأولى،
وتنكمش وتقل علاقتها السياسية والاجتماعية بغيرها من البلدان؛ وفي هذا ضعف
لماليتها، وقضاء على فنونها لا على علمها الديني، فرغبة الثواب من الله كفيلة
بتأييده والجد فيه، وكلمَّا زاد الفقر كان طُلاَّب العلم الديني أميل إلى الإخلاص
وأرغب في الثواب.
العراق: في الحق أن العراق في ذلك العصر كان أهم
مراكز الحياة العقلية في فروع العلم والفن، من تفسير وحديث وفقه، ومن لغة ونحو
وصرف، ومن ترجمة كتب فلسفية وجِدِّ في تفهمها والتعليق عليها، ومن مذاهب كلامية،
ومن علوم طبية ورياضية، ومن غناء وموسيقى ونقش وتصوير، ومن تأليف في كل هذه العلوم
والفنون؛ ولذلك أسباب أشرنا إليها قبل.
١١
قال المقدسي في «إقليم العراق» هذا إقليم الظرفاء، ومنبع العلماء، لطيف الماء،
عجيب الهواء، مختار الخلفاء، أخرج أبا حنيفة فقيه الفقهاء، وسُفْيَان سيد
القُرَّاء، ومنه كان أبو عبيدة والفَرَّاء، وأبو عمرو صاحب القُرَّاء، وحمزة
والكسائي وكل فقيه ومقرئ وأديب، وسريّ وحكيم وداهٍ وزاهد ونجيب، وظريف ولبيب … أليس
به البصرة التي قوبلت بالدنيا، وبغداد الممدوحة في الورى، والكوفة الجليلة
وسَامَرَّا».
١٢
وقد كان أهم مراكز العراق في العهد الأموي البصرة والكوفة، وكان التنافس بينهما
شديدًا، وفي العصر العباسي ظل هذا التنافس، ودخل في المنافسة بلد جديد في بغداد
التي أنشأها أبو جعفر المنصور — وكان التنافس العلمي بين هذه المدن الثلاث في العصر
العباسي أشد منه في العصر الأموي تبعًا لنمو الحركة العلمية، فالبصريون والكوفيون
والبغداديون في النحو، وفي الصرف، وفي اللغة، وفي الأدب، وفي الكلام، وفي غيرها؛
وكل جماعة من العلماء تتعصب لبلدها ولمذهبها العلمي — قال أبو عمرو بن العلاء
البصري لأهل الكوفة: «لكم حَذْلقة النَّبَطِ وصلَفُهم ولنا دهاء فارس
وأحلامهم».
١٣ وقد دارت مفاخرات كثيرة بين البصريين والكوفيين في العصر العباسي، ربما
كان أوفاها ما حكاه «ابن الفقيه» في كتابه «البلدان»؛ فخر جغرافي، وفخر تاريخي،
وفخر علمي، كانوا يتناظرون في حضرة الخلفاء كالمناظرة بين يدي السفاح،
١٤ وكانوا يتناظرون عند الأمراء كالمناظرة عند يزيد بن عمر بن
هبيرة،
١٥ وكانوا يتناظرون في مجالسهم الخاصة
١٦ وفي كتبهم وتآليفهم؛ لنوجز هنا أهم مفاخر كل من البلدين.
فخر الكوفيون بأن جنودهم في الحروب الأولى مع الفرس كان لهم الحظ الأوفر، حتى
كانت لهم اليد الطولى في إخراج كسرى من بلاده وإباحة ملكه، وأنهم ناصروا علي بن أبي
طالب يوم الجمل، وكان معه من الكوفيين تسعة آلاف رجل، وأن الكوفة أنجبت ممن نزل بها
من تميم محمد عُمير بن عُطَارد بن حاجب بن زرَارَة، والنعمان بن مقرّن الصحابي
الجليل، وقائد جيوش المسلمين في عهد عمر بن الخطاب، وشَبثَ بن ربِعْي التميمي، قائد
أهل البصرة مع مصعب بن الزبير لقتال المِختار إلى كثير غيرهم؛ وفخروا بأن علي بن
أبي طالب أقام بين أظهرهم، وعبد الله ابن مسعود كان مؤذنهم ومعلمهم، وشريحًا كان
قاضيهم، وأن نحوًا من سبعين صحابيًا نزلوا بينهم، وأن من علمائها وصلحائها أوَيْسًا
الْقَرَني، والربيع ابن خَيْثَم، والأسودَ بن يزيد وعلقمة، ومسروقًا، وسعيد بن
جُبَيْر، وكلهم من سادة التابعين، والحافظ الفقيه المحدِّث وأعرف الناس بالمغازي
وأيام العرب والفرائض والغريب والشعر، وهو عامر بن شَرَاحِيل الشَّعْبِي؛ وكان
بالكوفة فرسان العرب الأربعة: عَمْرو بن معديكّرِب، والعَبّاس بن مِردَاس،
وطُلَيْحة بن خُوَيْلد، وأبو مِحْجَن الثقفِي؛ وأن الكوفيين كانوا جند سعد بن أبي
وقاص يوم القادسية، وأصحاب الجمل وصِفِّين، ونهاوند؛ ومنهم الأشتر النخعي، وعروة بن
زيد الطائي، وعبد الرحمن ابن محمد بن الأشعث — وعيَّروا البصريين بأنهم قاتلوا
علياًّ يوم الجمل، وأن البصرة من العراق بمنزلة المثانة من الجسد ينتهي إليها الماء
بعد تغيُّره وفساده.
وفخر الكوفيين على البصريين أيضًا بخصب الكوفة وحسن موقعها، فهم يقولون: «الكوفة
سفلت عن الشام ووبائها، وارتفعت عن البصرة وعمقها، فهي مَرِيئة مَريعَة، بَرّيَة
بَحْرِيّة، إذا أتتنا الشَّمال هبت مسيرة شهر على مثل رضراض الكافور، وإذا هبت
الجنوب جاءتنا بريح السواد وورده وياسمينه، وخيريه وأتَرُجِّه، ماؤنا عذب،
ومُحْتَشَُّنَا خِضْب».
١٧ وقال الأحنف بن قيس (وهو بصري):
«نزل أهل الكوفة في منازل كسرى بن هُرْمُز بين الجنان الملتفة، والمياه
الغزيرة، والأنهار المطّرِدَة؛ تأتيهم ثمارهم غَضّة لم تُخْضَد ولم
تُفْسَد، ونزلنا أرضاَ هَشّاشة، في طرف فلاة وطرف ملح أجاج في سَبَخَة
نشّاشة، لا يَجِفُّ ثراها ولا ينبت مرعاها، يأتينا ما يأتينا في مثل مَرِيء
النعامة».
١٨
وفخر الكوفيون كذلك بمسجدها العظيم ومجاورتها النهر العظيم وهو الفرات.
وفخر البصريون بعظمائهم كالأحنف بن قيس (سيد تميم البصرة) والحكم بن الجَارُود
(سيد عبد القيس البصرة) ومالك بن مِسمع (سيد بكر البصرة) وقتيبة ابن مسلم (سيد قيس
البصرة) وأن ليس نظراؤهم في الكوفة مثلهم في السؤدد، وفخروا بأنس بن مالك خادم رسول
الله، وبالحسن البصري سيد التابعين، وابن سِيرِين؛ وعيَّروا الكوفيين بأنه ظهر
بينهم المختار المتنبي فتبعوه حتى أتى البصريون فقتلوه في أصحابه، وبأنهم خذلوا
الحسين بن علي حتى قُتِلَ.
وفخر البصريون بأنهم «أكثر أموالًا وأولادًا، وأطوع للسلطان، وأعرف برسول
الإسلام».
كذلك من أهم مفاخر البصريين «المِربْد»، وله أثر كبير في حياتهم العقلية، وخاصة
اللغوية — والمربد ضاحية من ضواحي البصرة، في الجهة الغربية منها مما يلي البادية،
بينه وبين البصرة نحو ثلاثة أميال، أنشأه العرب على طرف البادية سوقًا يقضون فيه
شئونهم قبل أن يدخلوا الحضر أو يخرجوا منه — وقد كان المربد في الإسلام صورة معدلة
لعكاظ في الجاهلية — كان مجتمع العرب من الأقطار يتناشدون فيه الأشعار ويبيعون
ويشترون.
وكان في عصر الخلفاء الراشدين والأمويين مركزًا سياسيًا وأدبيًا، نزلت فيه عائشة
أم المؤمنين بعد مقتل عثمان تطالب بدمه وتؤلِّب الناس على عليٍّ؛ وكان المربد
مركزًا للمهاجاة بين جرير والفرزدق والأخطل، وأنتج ذلك نوعًا من أقوى الشعر
الهجائي، كالذي نقرؤه في النقائض، وكان لكل من هؤلاء الشعراء حلقة ينشد فيها شعره،
وحوله الناس يسمعون. جاء في الأغاني: «وكان لراعي الإبل والفرزدق وجلسائهما حلقة
بأعلى المربد بالبصرة».
١٩
واستمر المربد في العصر العباسي، ولكنه كان يؤدي غرضًا آخر غير الذي كان يؤديه في
العهد الأموي؛ ذلك أن العصبية القبلية ضعفت في العصر العباسي بمهاجمة الفرس للعرب،
وأحسَّ العرب بما هم فيه جميعًا من خطر من حيث هم أمة لا فرق بين عدنانيهم
وقحطانيهم، ولكنهم لم يستطيعوا المقاومة؛ فقوي نفوذ الفرس وغلبوا العرب على أمرهم،
وبدأ الناس في المدن كالبصرة يحيون حياة اجتماعية هي أقرب إلى حياة الفرس منها إلى
حياة العرب، وانصرف الخلفاء والأمراء عن مثل النزاع الذي كان يتنازعه جرير والفرزدق
والأخطل، وظهرت العلوم تزاحم الأدب والشعر، وفشا اللحن بين الموالي الذين دخلوا في
الإسلام، وفسدوا حتى على العرب الخالصة لغتهم، فتحوِّل المربد يؤدي غرضًا يتفق وهذه
الحياة الجديدة.
أصبح المربد غرضًا يقصده الشعراء لا يتهاجَوْا، ولكن ليأخذوا عن أعراب المربد
الملكة الشعرية، يحتذونهم ويسيرون على منوالهم، فيخرج إلى المربد بشار وأبو نواس
وأمثالهما، ويخرج إلى المربد اللغويون يأخذون عن أهله ويدوِّنون ما يسمعون؛ رَوَى
القالي في الأمالي عن الأصمعي قال: «جئت إلى أبي عمرو بن العلاء فقال لي: من أين
أقبلت يا أصمعي؟ قلت: جئت من المربد؛ قال: هات ما معك، فقرأت عليه ما كتبت في
ألواحي، فمَّرت به ستة أحرف لم يعرفها، فخرج يعدو في الدرجة وقال: «شمرت في الغريب»
أي غلبتني».
٢٠
والنحويون يخرجون إلى المربد يسمعون من أهله ما يصحح قواعدهم ويؤيد مذاهبهم، فقد
اشتد الخلف بين مدرسة البصرة ومدرسة الكوفة في النحو وتعصَّب كلٌ لمذهبه، وكان أهم
مدد لمدرسة البصرة هو المربد؛ وفي تراجم النحاة نجد كثيرًا منهم كان يذهب إلى
المربد يأخذ عن أهله، ويخرج الأدباء إلى المربد يأخذون الأدب، من جمل بليغة وشعر
رصين وأمثال حكم، مما خلفه عرب البادية وتوارثوه عن آبائهم، كما فعل الجاحظ؛ يقول
ياقوت: إن الجاحظ أخذ النحو عن الأخفش، وأخذ الكلام عن النظَّام، وتلقَّف الفصاحة
من العرب شفاهًا بالمربد.
٢١
ثم جاءت بغداد ففخرت على البصرة والكوفة معًا، قالوا: «إنها وسط الدنيا وسرة
الأرض، والمدينة العظمى التي ليس لها نظير في مشارق الأرض ومغاربها، سعة وكبرًا
وعمارة، سكنها أصناف الناس، وانتقلوا إليها من جميع البلدان.. وهي مدينة بني هاشم،
ودار ملكهم ومحل سلطانهم، وباعتدال هوائها وعذوبة مائها حسنت أخلاق أهلها، ونضرت
وجوههم، وأنفتقت أذهانهم، حتى فَضَلُوا الناس في العلم والفهم والأدب والنظير
والتمييز … فليس عالم أعلم من عالمهم ولا أروى من راويتهم، ولا أجدل من متكلمهم،
ولا أعرب من نحوييهم، ولا أصح من قارئهم، ولا أمهر من متطببهم، ولا أحذق من مغنيهم،
ولا ألطف من صانعهم»،
٢٢ وقد كثر علماؤها والراحلون إليها حتى ألَّف الخطيب البغدادي كتابه
«تاريخ بغداد» ضمَّنه من تراجم علمائها وزُهَّادها وأدبائها نحو من ٧٨٣١ ترجمة،
ويقول الجاحظ في بغداد على لسان بعض الجند: «إن الدنيا كلها معلقة بها وصائرة إلى
معناها … وجميع الدنيا تبع لها، وكذلك أهلها لأهلها، وُفّتاكها لفتاكها، وخلاعها
لخلاعها، ورؤساؤها لرؤسائها، وصلحاؤها لصلحائها».
٢٣
•••
ومن هذا كله نلمح ظاهرة جديدة، وهي العصبية للقطر ثم للبلد، فالعراقيون يتعصبون
للعراق على الحجاز، والحجازيون يتعصبون للحجاز على العراق؛ ثم في القطر الواحد
يتعصب الكوفيون للكوفة على البصرة، والبصريون للبصرة على الكوفة، والبغداديون
لبغداد على البصرة والكوفة وغيرهما ونحو ذلك، ونرى أن هذا النوع من العصبية أخذ
يقوى ويزداد في العصر العباسي، ويحل محل العصبية القَبَليّة التي كانت عماد العيشة
العربية، والظاهر أنهم تأثروا في ذلك بالفرس؛ لأنا نعلم من تاريخهم أنهم قليلو
العناية بالعصبية القبلية، شديدو العناية بالعصبية البلدية، كما نقلنا ذلك قبل؛ فقد
كان الخراساني يتعصب لخراسان، والسجستاني لسجستان، والدينوري لدِيَنَور وهكذا.
وغلبت هذا النزعة في العصر العباسي حتى على العرب؛ لضعف شأنهم وغلبة الفرس عليهم من
الناحية الاجتماعية — وقد رأينا أنَّ أثر ذلك انتقل إلى العلم؛ فالفقه العراقي يقف
أمام الفقه الحجازي، ولكلٍّ متعصبون، ولكلٍّ لون، ومدرسة البصرة في النحو تناهض
مدرسة الكوفة فيه، ولكل متعصبون؛ ثم تظهر في النحو مدرسة بغدادية، لها طابعها
الخاص، ولها لونها، ولها متعصبوها؛ ويظهر نزاع بين رجال الاعتزال البصريين ورجال
الاعتزال البغداديين، ولكلٍّ مذهب في الجوهر الفرد ونحوه، ولكلٍّ أنصار؛ وهكذا في
فروع العلم المختلفة، مما سنعرض له في إيضاح عند الكلام في العلوم تفصيلًا إن شاء
الله.
وهذه العصبية حملت على وضع الأخبار في مزايا البلاد وعيوبها، وأُثِرت الأقوال
المتناقضة بعضها يذم المصر وبعضها يمدحه، وبعض هذه الأخبار صحيح وبعضها مكذوب،
وبعضها يتناول الأخلاق، وبعضها يتناول العلم، وبعضها وُضِع على سبيل الحقيقة،
وبعضها على سبيل الرواية والتمثيل — وهذه الأقوال بعضها وُضِعَ على أثر ما كان بين
الشاميين والعراقيين من قتال، فقد انحاز الشاميون إلى معاوية، والعراقيون إلى عليّ؛
فتراموا بالأقوال كما تراموا بالسهام، وبعضها قيل على أثر النزاع العلمي بين
الشاميين والعراقيين وغيرهم، ولنسق لك بعض أمثلة على ذلك:
فمن ذلك ما روي عن عليّ أنه قال لأهل العراق: «والله لوددت أن أصرفكم صرف الدينار
بالدراهم، عشرة منكم برجل من أهل الشام»، وذلك لِماَ رأى من اجتماع الشاميين على
معاوية واختلاف العراقيين على عليٍّ. ومثل ما قيل: «إذا كان علم الرجل حجازيًا،
وخلقه عراقيًا، وطاعته شامية فناهيك به فإنه قد كمل» وقالوا: «إن الله خلق أربعة
أشياء وأردفها أربعة، خَلَقَ الجدب وأردفه الزهد وأسكنه الحجاز؛ وخلق العفة وأردفها
الغفلة وأسكنها اليمن؛ وخلق الريف وأردفه الطاعون وأسكنه الشام؛ وخلق الفجور وأردفه
الدرهم وأسكنه العراق» وروى الجاحظ: «قال الدِّين أسكن الحرمين، قالت الأمانة وأنا
معك؛ وقال الغِنى واليسار أسكن مصر، قال الذل وأنا معك؛ وقال السخاء أسكن الشام،
قالت الشجاعة وأنا معك؛ وقال العقل أسكن العراق، قالت المروءة وأنا معك؛ وقالت
التجارة أسكن الخوزستان وأصبهان، قالت النذالة وأنا معك؛ وقال الجفاء أسكن المغرب،
قال الجهل وأنا معك؛ وقال الفقر أسكن اليمن، قالت القناعة وأنا معك».
ومن الناحية العلمية قالوا: «مَنْ أراد المناسك فعليه بأهل مكة، ومَنْ أراد
مواقيت الصلاة فعليه بأهل المدينة، ومَنْ أراد السِّيَر فعليه بأهل الشام، ومَنْ
أراد شيئًا لا يعرف حقه من باطله فعليه بأهل العراق». وقيل لمحِّدث: أي الحديث أصح؟
قال حديث أهل الحجاز. قيل ثم مَنْ؟ قال: حديث أهل البصرة. قيل ثم مَنْ؟ قال: أهل
الكوفة. قيل ثم مَنْ؟ فنفض يده — وتنابزوا فُعيَّر أهل المدينة بالسماع والقيان،
وأهل مكة بالمتعة، وأهل العراق بالنبيذ، وأهل الشام بالطُّلا،
٢٤ إلى كثير من أمثال هذا؛ وكلها تدل على أمرين:
مصر:٢٥ كانت في مصر حركة دينية واسعة النطاق، مركزها جامع عمرو
بالفسطاط، وكانت نواة هذه الحركة الصحابة الذين جاءوا لفتح مصر وبعده استوطنوا، وقد
أفردهم بعضهم بالتأليف كما فعل محمد بن الربيع الجيزي، فقد ألَّف كتابًا فيمَنْ دخل
مصر من الصحابة، عدَّ فيه مائة ونيفًا وأربعين صحابيًا، وأورد فيه أحاديثهم، وقد
عقَّب عليه بعضهم فاستدركوا ما فاته منهم؛
٢٦ ومن أشهر هؤلاء الصحابة أبو ذر والزبير بن العوام وسعد بن أبي وقَّاص؛
وكان هؤلاء الصحابة يحملون الحديث عن رسول الله
ﷺ منهم مَنْ يحمل الحديث
الواحد، ومنهم مَنْ، يحمل الحديثين، ومنهم مَنْ يحمل أكثر — وبعض الأحاديث لم تكن
تُعرف إلا عنهم، كالذي رُوِي «أن جابر بن عبد الله الأنصاري سمع وهو بالمدينة أن
عُقبة بن عامر الجُهَنِّي
٢٧ عنده حديث في القِصَاص، فخرج إلى السوق فاشترى بعيرًا ثم شدَّ عليه
رحله، وسار شهرًا حتى وصل إلى مصر، ولقي حامل الحديث، فقال له: ما الذي جاء بك؟
قال: حديث تُحدِّث به عن رسول الله في القصاص لم يبقَ أحد يحدِّث به عن رسول الله
غيرك، أردت أن أسمعه منك قبل أن تموت أو أموت». وقد تلقَّى عن هؤلاء الصحابة
حديَثهم كثير من التابعين؛ وهكذا تكَّونت مدرسة أول أساتذتها الصحابة، فأخذ عنهم
التابعون، وأخذ عن التابعين تابعوهم؛ وقد عُدَّ هؤلاء الصحابة مصريين لنزولهم في
مصر واستيطانها، ولذلك يُلقِّبهم المحدِّثون بالمصريين؛ وقد أُخَِذت أحاديث هؤلاء
المصريين من الصحابة والتابعين، ووردت في كتب الحديث الستة المشهورة. وهذه المدرسة
بدأت ساذجة بسيطة، يسمع أحدهم الحديث فيحفظه أو يكتبه، ثم نمت بالتدريج فتخصص قوم
للعلم يتدارسونه، ويدرسون القرآن ويدرسون الحديث ويستنبطون منهما الأحكام — ونبغ من
هذه المدرسة المصرية جماعة كبيرة من العلماء المجتهدين، من أولهم وأشهرهم سُلَيْم
بن عِْتر التُّجيبي، كان من التابعين «وهو أول،مَنْ قصَّ بمصر سنة ٣٩هـ، وولاه
معاوية القضاء سنة ٤٠ فأقام قاضيًا عشرين سنة، وهو أول مَنْ أسجل بمصر سجلًا في
المواريث؛ مات بدمياط سنة ٧٥»،
٢٨ وكان يقال له: «عالم مصر وقاضيها».
٢٩ تولى الَقصَص فكان يعظ الناس ويذكِّرهم، وتولَّى القضاء فكان له أحكام
مأثورة،
٣٠ كما كان له أثر في تنظيم القضاء من حيث التسجيل كما رأيت؛ وعلى الجملة
فقد كان من شخصيات مصر البارزة في أيامها الإسلامية الأولى، شهد فتح مصر، واستخلف
على خراج مصر في عهد عثمان، وولي القضاء لمعاوية؛ فكان فيه كفايتان؛ كفاية علمية في
قصصه وأحكامه، وكفاية إدارية في تنظيم الخراج والقضاء.
كذلك كان من مشهوري مدرسة مصر عبد الرحمن بن حُجَيْرة أبو عبد الله الخَوْلاني،
ولي القضاء لعبد العزيز بن مروان، وجُمِعَ إليه القضاء والقصص وبيت المال، وأُثِرتَ
عنه أحكام كثيرة في مسائل مُشْكِلَة،
٣١ وقد ولي القضاء اثنتي عشرة سنة، وتوفي سنة ٨٣هـ؛ وقد روى له مسلم في
صحيحه ووثَّقه النَّسَائي.
وجاء مصر نافع مولى ابن عمر وحامل علمه وفقيه الحجاز وشيخ مالك، أرسله عمر بن عبد
العزيز إلى مصر يعلمهم السنن فأقام فيهم مدة.
٣٢
ومن الشخصيات القوية في تاريخ مصر العلمي يزيد بن أبي حبيب الأزدي بالولاء، كان
عالم مصر في عصره قال فيه الليث بن سعد: يزيد عالمنا وسيدنا؛ وهو أحد ثلاثة عهد
إليهم عمر بن عبد العزيز بالفتيا في مصر، جمع ناحيتين كبيرتين من نواحي العلم:
إحداهما الناحية التاريخية، فيُروْىَ عنه الكثير في فتوح مصر وفتنها وحروبها؛
والثانية الناحية الفقهية، فكان واسع العلم في الحلال والحرام، حتى قيل فيه: «إنه
أول من أظهر العلم بمصر والمسائل في الحلال والحرام؛ وقبل ذلك كانوا يتحدثون في
الترغيب والملاحم والفتن».
٣٣ ففي هذا النص دليل على أنه لوَّن مدرسة مصر بلون جديد هو لون التشريع،
وكان قبل ذلك لها لون القصص والوعظ، وهو الذي عبَّروا عنه بالترغيب، ولون التاريخ،
وهو الذي عبَّروا عنه بالملاحم والفتن — وواضح أنه لم يخلق هذا اللون خلقًا، وإنما
قوّاه وأزهاه، توفي سنة ١٢٨، وله الفضل في تكوين رجلين عظيمين في تاريخ مصر العلمي:
أحدهما عبد الله بن لَهيعَة، والآخر الليث بن سعد، وهما من أعلام المدرسة المصرية
في العصر العباسي.
فأمَّا ابن لَهِيعَة فعربي حضرمي (من حضرموت)، كان كثير الحديث، كثير الأخبار،
كثير الرواية، متشيعًا، لم يثق به بعض المحدِّثين؛ وقد ولي قضاء مصر نحو عشر سنين
لأبي جعفر المنصور من سنة ١٥٥ لسنة ١٦٤. وقد رُوِي عنه الكثير من أخبار مصر وفتحها
وأحداثها ورجالها؛ قال الذهبي: «كان ابن لهيعة من الكتَّابين للحديث والجمّاعين
للعلم والرحالين فيه؛ ولقد حدثني «شَكَّر» أخبرنا يوسف بن مسلم عن بشر بن المنذر
قال: كان ابن لهيعة يكنى أبا خَرِيطَة، وذاك أنه كانت له خريطة مُعلَّقة في عنقه،
فكان يدور بمصر، فكلَّما قدم قوم كان يدور عليهم، فكان إذا رأى شيخًا سأله: مَنْ
لقيت؟ وعمَن ْ كتبت؟»؛
٣٤ توفي سنة١٧٤.
وأمَّا الليث بن سعد فأصله من أصبهان بفارس، نزح أهله إلى مصر، وهو مولى
لَْفهم؛
٣٥ وقد وُلِدَ في قرية مصرية سنة ٩٤ اسمها قلقشندة (من قرى القليوبية)،
وتعلَّم على شيوخ مصر، أشهرهم يزيد بن أبي حبيب، ثم رحل إلى الحجاز وسمع شيوخها،
أمثال عطاء بن أبي رباح، ونافع مولى ابن عمر، وهشام بن عروة، ثم رحل إلى العراق
وسمع من علمائه — وكان غنيًا سريًا سخيًا، كانت له أملاك واسعة في الجيزة، قيل إن
دخله في العام كان خمسة آلاف دينار، وكان كثير الصِّلات للعلماء وذوي الحاجات، يرحل
من الإسكندرية في ثلاث سفائن: سفينة فيها مطبخه، وسفينة فيها عياله، وسفينة فيها
أضيافه؛ يصل المحدَّثين والفقهاء، فُيهدِي إلى مالك بالحجاز المرة بعد المرة، ويقول
لمالك مرة في آخر كتابه: «ولا تترك الكتابَ إليَّ بخبرك وحالك وحال ولدك وأهلك،
وحاجة إن كانت لك أو لأحد يوصل لك، فإني أُسَرَُ بذلك — كتبت إليك ونحن صالحون
معافون والحمد لله، نسأل الله أن يرزقنا وإياكم شكر ما أولانا وتمام ما أنعم به
علينا، والسلام عليك ورحمة الله».
٣٦ وكتب إليه مالك مرة أن عليه دينًا، فبعث له بخمسمائة دينار. واحترقت
دار ابن لهيعة مرة فوصله بألف دينار — وهكذا كان كثير العطاء حتى ليروون أنه قال:
(ما وجبت عليَّ زكاة قط منذ بلغت) مع كثرة دخله كما رأيت.
وناحيته العلمية كناحيته المالية غزيرة فياضة، قال يحيى بن بكير: ما رأيت فيمن
رأيت مثل الليث، وما رأيت أكمل منه، كان فقيه البلد، عربي اللسان، يحسن القرآن
والنحو، والحديث والشعر والمذاكرة؛ إلى أن عدَّ خمس عشرة خصلة.
٣٧ والمحدِّثون يثقون بحديثه كل الثقة، روت عنه كل الكتب الستة الصحيحة؛
وقال فيه أحمد بن حنبل:
«ما في هؤلاء المصريين أثبت من الليث … ما أصح حديثه».
وقدرته الفقهية قدرة فائقة، فهو يُقْرَنُ بمالك، بل يقول الشافعي: «الليث أفقه من
مالك، إلا أن أصحابه لم يقوموا به. وفي رواية ضيَّعه قومه، وفي أخرى ضيَّعه
أصحابه». وفي الواقع لو تعصَّب المصريون لمَنْ نبغ منهم لاحتفظوا بمذهبه، ولكانوا
أتباعه، ولكن «زامر الحي لا يطرب» و» أزهد في عالم أهله»؛ وكان مما أعان على ذلك
أنه لم يدوِّن مذهبه في كتب، ولم يرزق بأصحاب كما كان أبو يوسف ومحمد لأبي حنيفة،
والبُوَيْطِي والمُزَنِيّ والربيع للشافعي؛ فضاع مذهبه. وقد بقي لنا من آثاره رسالة
صغيرة، بعث بها إلى مالك يناقشه فيها في رأيه في العمل بإجماع أهل المدينة، ويناقشه
في بعض آرائه مناقشة بديعة قوية هادئة، فيقول له: «ومن ذلك أنك تذكر أن النبي
ﷺ لم يعطِ الزبير بن العوام إلا لفرس واحد، والناس كلهم يحدّثون أنه أعطاه
أربعة أسهم لفرسين، ومنعه الفرس الثالث، والأمة كلهم على هذا الحديث: أهل الشام
وأهل مصر وأهل العراق وأهل أفريقية، لا يختلف فيه اثنان، فلم يكن ينبغي لك — وإن
كنت سمعته من رجل مرضِي — أن تخالف الأمة أجمعين».
طلبه المنصور للقضاء فأبى وقال: «إني أضعف من ذلك، إني رجل من الموالي؛ قال
المنصور: ما بك ضعف معي، إلا ضعف بدنك، أتريد قوة أقوى مني؟ فأمَّا إذا أبيت فدلني
على رجل». ولم يعذبه المنصور على إبائه كما فعل بمالك وأبي حنيفة — وهذا يؤيد ما
نرى من أن تعذيبهما لم يكن لامتناعهما عن القضاء فحسب، بل لاتهامهما بالعلوية،
واستنتاج المنصور من إبائهما أنهما لا يريان معاونة دولته — كما سيأتي — ولم يرَ
ذلك في الليث.
وكان له المنزلة الكبرى عند الأمراء يستشيرونه في مهام الأمور. قال في النجوم
الزاهرة: «كان الليث كبير الديار المصرية ورئيسها، وأمير مَنْ بها في عصره، بحيث إن
القاضي والنائب من تحت إمرته ومشورته، وكان الشافعي يتأسف على فوات
لُقِيَّه».
٣٨ وقد كتب بعض مَنْ غاظه ذلك إلى المنصور:
أمير المؤمنين تلاَف مصرا
فإن أميرها ليث بن سعد
ولمَّا حضرت الوفاة أمير مصر الوليد بن رفاعة قال في وصيته: «أسندت وصيتي لعبد
الرحمن بن خالد بن مسافر وإلى الليث بن سعد، وليس لعبد الرحمن أن يفتات على الليث
فإن له نصحًا ورأيًا».
ويؤثر عنه أنه لقي هارون الرشيد في العراق فسأله الرشيد: «ما صلاح بلادكم؟ قال:
يا أمير المؤمنين، صلاح بلادنا إجراء النيل، وصلاح أميرها، ومِنْ رأس العين يأتي
الكدر، فإذا صفا رأس العين صفت العين».
٣٩
وقال أشهب بن عبد العزيز: «كان لليث أربع مجالس كل يوم: مجلس لحوائج السلطان
(يريد ما يستشيره فيه الأمير من أمور الدولة)، ومجلس لأصحاب الحديث، ومجلس لأصحاب
المسائل (يريد الفتوى في الحلال والحرام)، ومجلس لحوائج الناس». وله فضل كبير على
تاريخ مصر، فتروى عنه الأخبار الكثيرة في فتح مصر ورجالها وشئونها. وعلى الجملة
فكان رجل مصر في علمه ونبله وفضله؛ مات سنة ١٧٥، فقال مِنْ شهد جنازته: «رأيت الناس
كلهم عليهم الحزن، يعزيِّ بعضهم بعضًا، فقلت لأبي: يا أبت كأن كل واحد من هؤلاء
صاحب الجنازة! فقال لي: يا بني كان عالمًا كريمًا، حسن العقل، كثير الأفضل؛ يا
بُنَّي لا ترى مثله أبدًا».
•••
ولمَّا تكوَّن مذهب أبي حنيفة ومالك، وانحاز كل فريق إلى مذهب، انقسم العلماء في
مصر؛ وتولى القضاء بها إسماعيل بن اليسع الكندي سنة ١٦٤. وكان أول قاضٍ بمصر قضى
بمذهب أبي حنيفة، فلم يرضَ عنه أهل مصر ومنهم الليث، سيما أنه كان يرى رأي أبي
حنيفة في بطلان الوقف، وكان الليث يرى صحة الأوقاف، فكتب الليث إلى المهدي
فعزله.
٤٠ واعتنق بعض العلماء في مصر مذهب أبي حنيفة، ثم ظهر عبد الله بن وهب،
وكان قد رحل إلى مالك في المدينة وصحبة حتى مات مالك، وعاد إلى مصر فنشر فقه مالك،
وتبعه كثيرون على هذا المذهب، مثل عبد الرحمن بن القاسم وأشهب بن عبد العزيز، وقد
انتهت إليهما رياسة الفقه على مذهب مالك في مصر؛ وكان بين هؤلاء المالكية والحنفية
خصام ونزاع في التشريع ومسائل الفقه، حتى جاء الشافعي وأقام في مصر نحو خمس سنوات
يحرر مذهبه ويمليه على تلاميذه المصريين كالبويطي والمزني والربيع المرادي؛ وكوَّن
له حلقة علمية نشيطة كان من نتاجها كتاب الأم، ومختصر المزني، ومختصر البويطي، ومال
إليه كثير من المصريين لعربيته وقرشيته، وفصاحته وقوة حجته؛ ونشر هو وتلاميذه مذهبه
على الرغم من عداء بعض المالكيين له ولهم. ولكن ظل في مصر فقهاء حنفية ومالكية
بجانب الشافعية، فاشتدت الخصومة بين بعضهم وبعض، وقد أدّتَ الخصومة أحيانًا إلى
الشر وإلى الإيقاع، كما فعل محمد ابن أبي الليث قاضي مصر من سنة ٢٢٦ إلى سنة ٢٣٠؛
فقد كان حنفيًا وانتهز محنة خلق القرآن، فأوقع بأصحاب مالك والشافعي، ومنع فقهاءهم
من الجلوس في المسجد.
٤١ وقال شاعر مصر إذ ذاك الحسين بن عبد السلام الجمل يخاطبه:
ولِّيتَ حكم المسلمين فلم تكن
بَرِمَ اللقاء ولا بفظ أزور
ولقد بجستَ العلم في طلابه
وفجرت منه ينابعًا لم تُفْجَرِ
فحميْتَ قول أبي حنيفة بالهدى
ومحمد واليوسفي الأذكر
وحَطَمتَ قول الشافعي وصحبه
ومقالهُ ابن عُلَيَّة لم تُصْحَر
والمالكيةُ بعد ذكرٍ شائعٍ
أخملتها فكأنها لم تُذكر
إلخ
وأحيانًا كانت هذه الخصومة سببًا من أسباب رقي الفقه، كما سيأتي تفصيل ذلك عند
الكلام في التشريع إن شاء الله.
وعلى الجملة كانت في مصر حركة كبيرة دينية، تدرس القرآن والحديث والفقه
والقراءات، وتعني بالقَصَص وما يتضمن من ترغيب وترهيب، وكان مركزها مسجد عمرو
بالفسطاط. ونرى أن بعض المصريين الصميمين ممَنْ دخلوا في الإسلام تأثر بهذه الحركة
تأثرًا كبيرًا؛ فنرى عثمان بن سعيد المصري المعروف بوَرْش من أصلٍ قبطي، وهو مولى
آل الزبير بن العوام، اشتهر بإحدى القراءات المنسوبة إليه؛ «وانتهت إليه رياسة
الإقراء بالديار المصرية في زمانه، وكان ماهرًا في العربية؛ مات بمصر سنة
١٩٧»
٤٢ ونرى بعده ذا النون المصري الأخميمي النوبي الأصل، وهو أحد رءوس
الصوفية ومؤسسها في الديار المصرية — كما سيأتي — توفي سنة ٢٤٥ وقد قارب
التسعين.
ولا يفوتنا أن نذكر أن هذه الحركة الدينية كانت تشتمل — فيما تشتمل عليه — على
كثير من تاريخ مصر وأخبارها؛ لأن تاريخ مصر كغيره من التاريخ الإسلامي، بدأ في شكل
حديث، كما أن الذي بدأ به هم المحدَّثون؛ فإذا قرأنا في خطط المقريزي أو النجوم
الزاهرة أو الكندي في ولاة مصر وقضاتها رأينا كثيرًا من أخبار مصر رواها يزيد بن
أبي حبيب وابن لهيعة والليث بن سعد وغيرهم من المحدِّثين المصريين، وكانت الأخبار
عن مصر جزءًا من حديثهم؛ ثم كانت الخطوة الثانية وهي تجريد الأخبار المتعلقة بمصر
وإفرادها بالتأليف، كما فعل عبد الرحمن بن عبد الله بن الحكم في كتاب فتوح مصر،
وكما فعل محمد بن الربيع الجيزي في ذكر مَنْ دخل مصر من الصحابة؛ واقتفى غيرهما
أثرهما.
وكان من أعلام مصر في التاريخ والنحو والأنساب أبو محمد بن عبد الملك بن هشام،
صاحب السيرة المنسوبة إليه، والتي لخَّصها من سيرة ابن إسحق، وهو من أصل يمني، نشأ
في البصرة، وَقدِمَ مصر، وأقام بها إلى أن تُوفيِّ سنة ٢١٣هـ. وقد تأثر كتابه
«السيرة» بمصر، فنراه يروي أحيانًا عن علمائها فيقول: «حدثنا عبد الله بن وهب، عن
عبد الله بن لهيعة، عن عمر مولى غفرة، أن رسول الله
ﷺ قال: الله الله في أهل
الذمة أهل المدرة السواد السُّحْم الجِعَاد فإن لهم نسبًا وصهرًا. قال عمر مولى
غفرة: نسبهم أن أم إسماعيل منهم، وصهرهم أن رسول الله
ﷺ تسرَّر فيهم؛ قال
ابن لهيعة: أم إسماعيل هاجر من «أم العرب» قرية كانت التي أمام الفَرَما من مصر،
وأم إبراهيم مارية سُريِّة النبي
ﷺ أهداها له المقوقس من حَفْن من كورة
أَنْصِباَ» إلخ.
٤٣
فهو في هذا وأمثاله يروي عن علماء مصر أمثال عبد الله بن وهب، وابن لهيعة. وفي
الواقع كانت هذه الحركة العلمية الدينية تكاد تكون منحصرة في الفسطاط والإسكندرية.
يقول المقريزي: «إن الديار المصرية لمَّا افتتحها المسلمون كانت خاصة بالقبط
والروم، ومشحونة بهم، ونزل الصحابة (رضى الله عنهم) من أرض مصر في وضع الفسطاط —
الذي يعرف الآن بمدينة مصر — وبالإسكندرية، وتركوا سائر قرى مصر بأيدي القبط، ولم
يسكن أحد من المسلمين بالقرى، وإنما كانت رابطة تخرج إلى الصعيد، حتى إذا جاء أوان
الربيع انتشر الأتباع في القرى لرعي الدواب ومعهم طوائف من السادات … ولم ينتشر
(المسلمون) بالنواحي إلا بعد عصر الصحابة والتابعين … ولم يؤسسوا في القرى والنواحي
مساجد … فلمَّا أوقع المأمون بالقبط بعد ثورتهم (سنة ٢١٦) غلب المسلمون على أماكنهم
من القرى»
٤٤ إلخ … فيصح أن نستنتج من هذا أن الحركة العلمية الدينية كانت بطبيعة
الحال في الفسطاط ثم الإسكندرية وحدهما تقريبًا إلى عهد المأمون.
•••
وكان بجانب هذه الحركة الدينية حركة أخرى أدبية عربية، لا بأس أن نلم بها
إلمامًا، وإن خرجت عن دائرتنا التي رسمناها، عمادها هؤلاء العرب الذين جاءوا مصر
عند الفتح وبعدها، وأُثِرتَ عنهم أقوال بليغة، من مثل كلمات عمرو بن العاص وكتبه
وخطبه، وخطب عتبة بن أبي سفيان وغيرهما؛ وكان إذا جاء الربيع تفرَّق العرب في
البلدان، فيذهب آل عمرو بن العاص وآل عبد الله بن سعد إلى منوف ووسيم، وكانت هذيل
تذهب إلى ببا وبوصير، وتذهب عَدْوان إلى بوصير، وكانت «فَهْمٌ» تذهب إلى إْترِيب
وعين شمس ومنوف إلخ؛
٤٥ وكان هؤلاء ينشرون لغتهم حيث أقاموا مدة ربيعهم — أضف إلى ذلك أن
الثقافة الدينية كانت تحمل في ثناياها ثقافة لغوية وأدبية، فالقرآن والحديث يحملان
إلى ناحيتهما الدينية ناحية أخرى لغوية بلاغية؛ كما أن وجود مصر تحت حكم العرب جعل
كثيرًا من مشهوري الشعراء يفدون على مصر، خصوصًا في عهد عبد العزيز بن مروان، فقد
وفد عليه جميلُ بُثَيْنَة الشاعر العذري المشهور ومات بمصر، وكذلك كُثَيِّر عزّة
ونُصْيب، وعبد الله بن قيسِ الرُّقَيّات، وأَيْمَن بن خُرَيْم؛ وجاء مصر في العهد
العباسي أبو نواس وفد على ابن الخصيب، ثم أبو تمام وقد نشأ بمصر يَسْقي الماء في
جامع عمرو، ويجالس الأدباء ويأخذ عنهم حتى قال الشعر فأجاد.
وقد كان لهؤلاء وأمثالهم أثر في وجود الشعر في مصر، ولكنا لا نجد شاعرًا مصريًا
ممتازًا، وما رُوِي لنا من الشعر المصري في العهد الأموي والعصر العباسي الأول
أبيات قصيرة في هجو الولاة أو القضاة أو نحوهم، وأغلب قائليها من قبائل عربية
استوطنت مصر — وقد اشتهر منهم في العصر العباسي سعيد بن عُفير، وهو عربي الأصل، له
شعر قوي عليه مسحة عربية خالصة، روى الكندي في كتابه الولاة والقضاة بعض شعره؛
ومنهم المُعَلَّي الطائي كان في مصر مدة هارون الرشيد
٤٦ وله الشعر المشهور:
لولا بُنَيّاتٌ كزُغْبِ القَطَا
جُمِعَنَ مِنْ بعض إلى بعض
لكانَ لي مُضْطَرَبٌ وَاسِعٌ
في الأرضِ ذاتِ الطولِ والعرضِ
وإّنما أولادُنا بَيْنَنَا
أكبادُنَا تَمْشِي على الأرض
إن هَبّتِ الريحُ على بَعضِهِم
أشَْفَقتَ الْعَيْنُ من الغَمْضِ
٤٧
واشتهر في هذا العصر وبعده الحسين بن عبد السلام الجمل، وقد كان تلميذًا للشافعي،
وأدرك الدولة الطولونية؛ ومات سنة ٢٥٨.
ولم يزهر الشعر المصري إلا بعد استقلالها في العهد الطولوني.
إلى جانب هذا كله كانت هناك ناحية علمية هي امتداد مدرسة الإسكندرية قبل الفتح،
هي حركة لاهوتية طبية فلسفية معًا، كانت تعني اللغة السريانية ويجيدها العلماء
قراءة وكتابة كإخوانهم في الشام والعراق.
وقد بقيت هذه الحركة مدة العهد الأموي — كما سبق — واستمرت إلى العهد العباسي،
فيحدثنا ابن أبي أصيبعة عن «بليطيان» أنه كان طبيبًا مشهورًا بالديار المصرية
عالمًا بشريعة النصارى الملكية، وكان بطريرك الإسكندرية، عاش في مصر أيام المنصور
والرشيد، وقد دعاه الرشيد إلى بغداد لمعالجة جارية له مصرية فشفيت، وقد وهب الرشيد
له مالًا كثيرًا، وكتب له منشورًا برد الكنائس التي أخذها اليعقوبية إليه، ومات سنة
١٨٦
٤٨ وقد أزهرت هذه الحركة في العهد الطولوني أيضًا، كما سيأتي إن شاء
الله.
وإذ كانت الحركة الإسلامية مقتصرة في الأغلب على مصر والإسكندرية كما أسلفنا،
كانت ثقافة الشعب في القرى والبلدان على النمط القبطي قبل الفتح، حتى إذا أخمدت
ثورة القبط وانتشر المسلمون في البلاد وتغلغلوا فيها عقب سنة ٢١٦هـ حملوا معهم
ثقافتهم الدينية واللسانية ونشروها في أنحاء القطر.
ثقافة دينية مختلفة الأنواع، وثقافة لسانية من نثر وشعر، وثقافة فلسفية لاهوتية
طبية مما خلَّفته الإسكندرية؛ كل ذلك كان في مصر في ذلك العصر.
الشام: كذلك كان في الشام حركة علمية دينية
تتدارس القرآن وتروي الحديث، وتستنبط منهما الأحكام، وكانت نواتها العلماء من
الصحابة الذين دخلوا الشام عند الفتح وبعدها ومركزها مسجد دمشق. ومن أشهرهم مُعاذ
بن جبل الأنصاري الخزرجي، وكان من أعلم الصحابة بالحلال والحرام، كان قاضيًا على
الجند في اليمن يعلِّم الناس القرآن وشرائع الإسلام، ثم ذهب إلى الشام في خلافة عمر
ومات في طاعون عَمَواس. عن أبي مسلم الخولاني قال: دخلت مسجد حمص فإذا فيه نحو من
ثلاثين كهلًا من أصحاب النبي
ﷺ، وإذا فيهم شاب أكحل العينين براق الثنايا
ساكت لا يتكلم، فإذا امترى القومُ في شيء أقبلوا عليه فسألوه؛ فقلت لجليس لي مَنْ
هذا؟ قال معاذ بن جبل.
٤٩
ومثل أبي الدرداء الأنصاري الخزرجي أيضًا، وكان يُقْرَنُ بمعاذ بن جبل في العلم
«كان عبد الله بن عمر يقول حدَّثونا عن العاقلين. قيل مَنْ هما؟ قال معاذ وأبو
الدرداء»؛ وقد ولاَّه معاوية قضاء دمشق في خلافة عمر بن الخطاب، وقد مات في خلافة
عثمان — كان يقسم القُرَّاء عشرة عشرة، ويجعل على كل عشرة رئيسًا، فإذا انفتل من
صلاة الغداة قرأ جزءًا من القرآن وأصحابه (هم هؤلاء الرؤساء) محدقون به يسمعون
ألفاظه، فإذا فرغ من قراءته جلس كل رجل منهم موضعه وأقرأ العشرة الذين عُهد بهم
إليه — وهو الذي سنَّ الحلقات يُقرأ فيها
٥٠ — ومثل تميم الداري كان نصرانيًا وقدم المدينة فأسلم. قال أبو نعيم:
«كان راهب أهل عصره وعابد أهل فلسطين؛ وهو أول مَنْ أسرج السراج في
المسجد»؛
٥١ وهو كذلك أول مَنْ قصَّ. ويظهر أن ثقافته النصرانية قبل الإسلام كانت
ثقافة واسعة، حتى عُدَّ ممَنْ ينطبق عليهم قوله تعالى:
وَمَنْ
عِنْدهُ عِلْمُ الْكِتَابِ وهذه جعلته بعد الإسلام يحدَّث بروايات وقصص
عن الجساسة والدجال وإبليس وملك الموت والجنة والنار
٥٢ إلخ؛ وكان له أثر كبير من هذه الناحية في علم الشام بل في علم المسلمين
عامة. وقد صحب النبي
ﷺ وغزا معه «ولم يزل بالمدينة حتى تحوَّل إلى الشام بعد
قتل عثمان بن عفان».
هذا إلى كثير غيرهم من علماء الصحابة نزلوا الشام وحدَّثوا به عن رسول الله،
وعلَّموا الناس الأخبار وأحكام الحلال والحرام.
وجاءت بعدهم طبقة من التابعين أخذت عنهم علمهم، وزادت فيه باجتهادهم وفتاواهم،
مثل عبد الرحمن بن غَنْم الأشعري، «وقد بعثه عمر بن الخطاب إلى الشام يفقَّه الناس،
وكان قد لقي معاذ بن جبل وروى عنه».
٥٣ وقد تفقَّه عليه كثير من التابعين بالشام.
ومثل أبي إدريس الخَوْلاني، وقد أخذ كذلك عن معاوية وغيره من الصحابة، وكان قاضي
أهل دمشق وقاصَّهم.
ومثل كعب الأحبار، وكان يهوديًا فأسلم، ثم خرج إلى الشام وسكن حمص، وملأ الشام
وغيرها من البلدان الإسلامية برواياته وقصصه المستمدة من الأخبار اليهودية، كما فعل
تميم الداري في الأخبار النصرانية.
وجاءت بعد هؤلاء طبقة أخرى من أشهرهم مكحول الدمشقي، ورجاء ابن حَيْوَة؛ فأمَّا
مكحول فأصله من السِْند ذهب إلى مصر وأخذ علمها، وإلى المدينة كذلك، وإلى الكوفة،
وكان بلسانه لكنة سندية يُبْدِل بعض الحروف بغيرها فيُبْدِل الحاء هاء مثلًا؛ وقد
اشتهر بالعلم والفتيا، وعُدَّ إمام أهل الشام في عصره كما عُدَّ سعيد بن المسيب
إمام أهل المدينة، والشعبي الكوفة، والحسن البصري البصرة؛ وقد رُوِي عنه أنه كان
يتكلم في القدر، ومن ثَمَّ ضعَّفه المحدَّثون في حديثه وروايته.
وأمَّا رجاء بن حَيْوَة فكان رجل الشام علمًا ونبلًا وعقلًا — كان مكحول إذا
سُئِلَ عن مسألة بحضرته قال سلوا شيخنا وسيدنا، يعني رجاء، وكان صديق عمر بن عبد
العزيز وعونه في مسلكه.
ومن هذه الطبقة عمر بن العزيز، وكانت له ناحية علمية قوية، فكان فقيهًا مجتهدًا
عالمًا بالسنة، يرجع إليه قضاة الأمصار في مشاكلها، ويحضُّ علماء السنن على جمع
الحديث ونشره وتعليمه.
ثم تركَّز علم الشام في الأوْزَاعِيّ، كما تركَّز علم الحجاز في مالك، والعراق في
أبي حنيفة، ومصر في الليث.
الأوزاعي: هو عبد الرحمن بن عمرو، والأوزاع بطن
من هَمْدان فهو عربي
٥٤ يمني، وُلِدَ سنة ٨٨ ببعلبك — كما يقول ابن خلكان — وذهب إلى اليمامة
وسمع من شيوخها، ورحل إلى مكة وأخذ العلم عن عطاء بن أبي رَبَاح، وابن شهاب
الزُّهري، ورحل إلى البصرة وسمع من شيوخها، ثم نزل دمشق، ثم بيروت؛ ومات بها سنة
١٥٧.
وللأوزاعي نواحٍ قوية في شخصيته، منها صلاحه وتقواه، وتمسُّكه بالحق أمام الخلفاء
والأمراء، وجهره بالنصيحة لهم، وقد ُروِيتَ له أخبار كثيرة في وعظ أبي جعفر المنصور
وغيره — فيروون أنه لمَّا دخل عبد الله بن عليّ السفاح الذي أجلى بني أمية عن
الشام، وأزال الله دولتهم على يديه، طلب الأوزاعيَّ فتغيَّب عنه ثلاثة أيام، ثم حضر
بين يديه … فقال له: يا أوزاعي ما ترى فيما صنعنا من إزالة أولئك الظلمة عن البلاد
والعباد، أجهادٌ هو؟ قال الأوزاعي: سمعت يحيى بن سعيد الأنصاري يقول، سمعت عمر بن
الخطاب يقول، سمعت رسول الله
ﷺ يقول: «إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ
ما نوى»؛ الحديث. فنكت بالخيزرانة ثم قال: يا أوزاعي ما تقول في دماء بني أمية؟
فقال الأوزاعي: قال رسول الله: «لا يحلُّ دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: النفس
بالنفس، والثيب الزاني، والتارك لدينه المفارق للجماعة»؛ فنكت بالخيزرانة أشد من
ذلك ثم قال: ما تقول في أموالهم؟ فقال الأوزاعي: إن كانت في أيديهم حرامًا فهي حرام
عليك أيضًا، وإن كانت لهم حلالًا فلا تحل لك إلا بطريق شرعي
٥٥ — وقد اجتمع بالمنصور بالشام ووعظه، فلمَّا أراد الأوزاعي الانصراف
استأذن المنصورَ ألا يلبس السواد (وهو لباس الدولة)، فأذن له، ثم دس له مّنْ يسأله
لِمَ كره السواد؟ فقال الأوزاعي: «لأني لم أرَ مُحرِمًا أحرم فيه، ولا ميتًا كُفِّن
فيه، ولا عروسًا جليت فيه؛ فلهذا أكرهه».
٥٦ وقد رُوِيتَ له مواقف في الوعظ في عيون الأخبار، والعقد الفريد.
وخرج قوم من أهل الذمة بجبل لُبْنان فشكوا عاملهم على الخراج، فقاتلهم صالح بن
علي بن عبد الله بن عباس، وأجلى قومًا منهم عن لبنان، فاحتج على ذلك الأوزاعي، وكتب
إلى صالح كتابًا شديدًا جاء فيه: «فكيف تُؤْخذ عامةٌ بذنوبِ خاصة حتى يُخْرَجوا من
ديارهم وأموالهم، وحُكمْ الله تعالى أن لا تزر وازرة وِزْرَ أخرى، وهو أحق ما وِقُف
عنده واقتدِي به؛ وأحق الوصايا أن تُحْفَظَ وصية رسول الله
ﷺ فإنه قال:
«مَنْ ظلم معاهدًا وكلَّفه فوق طاقته فأنا حَجِيجُه».
٥٧
كذلك عرف بالفصاحة في القول، والقوة في الكتابة، رووا أن كتبه «كانت ترد على
المنصور فينظر فيها ويتأملها، ويتعجب من فصاحتها وعلوَّ عباراتها»، وقالوا: «ما
سُمِعت منه كلمة قط إلا احتاج مستمعها إلى إثباتها».
وأخيرًا ناحيته العلمية في الحديث والفقه وما إليها، فله مذهب في الفقه كمذهب
مالك وأبي حنيفة، ويُعدُّ أميل إلى مدرسة الحديث منه إلى مدرسة الرأي، فقدنُقِلتَ
عنه أقوال في ذم أهل العراق ورأيهم؛
٥٨ ومن أقواله المأثورة التي تمثِّله: «العلم ما جاء عن أصحاب محمد
ﷺ، وما لم يجيء عنهم فليس بعلم»؛ «اصبر على السُّنَّة، وقف حيث وقف القوم،
وقل ما قالوا، وكفَّ عما كفوا، وليسعك ما وسعهم». وقال أبو حاتم: «الأوزاعي ثقة
متَّبع لِمَا سمع» وكان يكره الكلام في
القَدَر وصفات الله وما إلى ذلك، ويَعدُّه ابتداعًا؛ وكان يُعدُّ من أول المؤلفين
في الحديث كمالك في المدينة؛ ورُوِيتَ عنه آراء فقهية، كقوله: إن الماء إذا لاقته
نجاسة فلم يتغير لم يتنجس قلَّ أو كثر، وإن أسفل الخف والحذاء إذا أصابته نجاسة
فدلكها في الأرض حتى زالت عنه النجاسة أجزأه ذلك ويتاح الصلاة فيه إلخ.
وقد عمل أهل الشام بمذهبه حينًا، وانتشر بالأندلس لرحلة الشاميين المعتنقين مذهبه
إلى الأندلس، ثم حلَّ محلَّ الأوزاعي مذهب الشافعي في الشام، ومذهب مالك في
الأندلس.
وعلى الجملة فقد كان الأوزاعي علَم الشام علمًا وصلاحًا؛ سُئِلَ أمية بن زيد أين
الأوزعي من مكحول الدمشقي؟ قال: هو عندنا أرفع من مكحول «إنه قد جمع العبادة والعلم
والقول الحق».
وكانت هذه الحركة الدينية في الشام مثلها في مصر، تحمل بين ثناياها كثيرًا من
فتوح الشام وتاريخه وأحداثه، حتى لقد شُهِرَ الشاميون بمعرفتهم للسِّير؛ وقد روى
الشافعي في الأم كتاب سِير الأوزاعي،
٥٩ وهو يتضمن شرح النظام الحربي للمسلمين؛ وكانت هذه الأحاديث في الفتوح
وما إليها نواة كتب تاريخ الشام كما هو الشأن في تاريخ مصر.
وظهر الكلام في القدر وصفات الله ونحو ذلك الشام، كما ظهر في البصرة، وكان زعيم
هذا القول في الشام غَيْلان الدمشقي، فكان يقول بحرية الإرادة، وأن القدر لا يلجئ
الإنسان إلى العمل؛ وقد أوجد بقوله حركة في الشام في هذا الموضوع، جعلت عمر بن عبد
العزيز يدعوه ويناقشه، وأسلمت هذه الحركة إلى الاعتزال، واعتنقه بعض الخلفاء
الأمويين الأخيرين، ثم كان منه ما سنبينه في الكلام على المعتزلة في العصر العباسي
إن شاء الله.
وعلى الجملة فقد كانت الحركة الدينية وما إليها في الشام قوية واسعة. قال أبو
عمرو الكلبي: «كان عند كل عمود من أعمدة جامع دمشق شيخ وعليه الناس يكتبون العلم».
وقال الأوزاعي: «كانت الخلفاء بالشام، فإذا كانت الحادثة سألوا علماء أهل الشام
وأهل المدينة، وكانت أحاديث العراق لا تجاوزُ جُدُر بيوتهم».
٦٠
•••
وإلى هذه الحركة الدينية حركة أخرى أدبية نوتها أيضًا العرب الذي نزلوا الشام،
وهذه الحركة من نثر وشعر كانت في الشام أقوى منها في مصر، فبينا نحن نتلمس الشعراء
في مصر في العهد الأموي التماسًا، فقلَّ أن نجد إلا مَنْ وفد على الأمراء من شعراء
جزيرة العرب والشام؛ إذ نجد الشعراء في الشام كثيرًا عددهم، غزيرًا قولهم — وهذا
يرجع إلى أسباب: أهمها أن الشام أقرب إلى جزيرة العرب من مصر فقصده كثيرًا حتى في
جاهليتهم، ونزلوا أطراف الشام وسكنوها، ووفد نوابغ الشعراء كالأعشى وحسان على
الغساسنة في الشام، وقالوا فيهم الشعر الكثير، فالعرب عرفوا الشام في الجاهلية أكثر
مما عرفوا مصر، والشاميون عرفوا العرب أكثر مما عرفهم المصريون — فلمَّا جاء العهد
الأموي كانت دمشق حاضرة الدولة الإسلامية، وكان الخلفاء الأمويون والأمراء الأمويون
عربا خلَّصًا في دمهم وفي ذوقهم، أحب شيء إليهم أن يتسامروا بأحاديث العرب وأيامهم
وأخبارهم، وأن يسمعوا الشعر من شعرائهم وممَنْ وفد عليهم، ثم كانت بالشام الأحزاب
السياسية وشعراؤها، كل ينصر حزبه بالشعر — كل هذا جعل الزعامة الشعرية في العصر
الأموي للشاميين أصلًا أو موطنًا أو وفادة، فالشام ساحة جرير والفرزدق والأخطل
ومسكين الدارمي والأحوص والراعي والراجز العجلي إلخ.
حتى إذا جاء العصر العباسي تحوَّلت زعامة الشعر من الشام إلى العراق تبعًا لتحول
الحاضرة من دمشق إلى بغداد، فكان بشار زعيمُ المحدَثين، ومسلم بن الوليد، وأبو
العتاهية، ومروان بن أبي حفصة، وأبو نواس، وغيرهم عراقيين لا يدانيهم في شعرهم في
عصرهم شامي ولا مصري؛ لأن الشعر العربي في القالب الذي صُبَّ فيه من مديح ونحوه
إنما يزهر حول القصور، ويتزعم حيث المال الوفير، والعطاء الكثير، ولم يكن للعراق في
هذا الباب نظير.
ولكن يقول الثعالبي في يتيمة الدهر: «لم يزل شعراء عرب الشام وما يقاربها أشعر من
شعراء عرب العراق وما يجاورها، في الجاهلية والإسلام، والكلام يطول في ذكر
المتقدِّمين منهم، فأمَّا المحدَثون فخذ إليك منهم العتَابيِ ومنصور النَّمَري،
والأشجع السُّلمِي، ومحمد بن زرعة الدمشقي، وربيعة الرَّقيِّ، على أن الطائيَّيْن
(أبي تمام والبحتري) اللذين انتهت إليهما الرياسة في هذه الصناعة كفاية، وهما هما..
والسبب في تبريز القوم قديمًا وحديثًا على مَنْ سواهم في الشعر قربهم من خطط العرب،
ولا سيما أهل الحجاز، وبُعْدُهم عن بلاد العجم، وسلامة ألسنتهم من الفساد العارض
لألسنة أهل العراق بمجاورة الفرس والنبط، ومداخلتهم إياهم».
٦١ وكل ما ذكر صحيح إلا في زعامة الشام للشعر في العصر العباسي، فقد دفعته
إليه العصبية الشامية؛ فأين مَنْ ذكرهم من شعراء الشام، ممَنْ ذكرناهم من شعراء
العراق؟ أين منصور النمري من بشار وأين محمد بن زرعة الدمشقي من أبي نواس؟ إنما
الحق ما قال بشار:
يَسْقُطُ الطَّيْرُ حيث يُلتَقطُ الحَبّ وتُغْشَى
مَنَازِلُ الكُرَماء
وما أكثر الحَبّ — كان — في العراق على عهد العباسيين، وما أقله —
كان — في الشام.
وليس السبب في رُقيِّ الشعر مقصورًا على القرب من الحجاز والبعد عن العجم، فلم
يكن لبشار الفارسي ولأبي نواس نصف الفارسي نظير في الحجازيين من حيث الشاعرية
وتوليد المعاني وغزارتها، إنما سبب النبوغ في الشاعرية أمور؛ منها الاستعداد
الطبيعي والخيال الشعري، نعم منها اللسان وطريقة الأداء، وهذا يأتي بالتعلُّم
والمران، وهو إن تيسر وسهل بالقرب من الحجاز فليس يصعب أن يكون بالعراق وقريب منهم
البادية، كما أن الشعر وخاصة هذا النمط الغربي يكثر ويغزر حيث الباعث، وهو إنما كان
متوافرًا في العراق.
كذلك الشأن في النثر الفني نشأ بالشام حول القصور وحول الدواوين، وكان زعيم ذلك
عبد الحميد الكاتب، كاتب مروان بن محمد؛ فقد سلك في الكتابة نمطًا جديدًا، أسهب فيه
واسترسل؛ ولكن الزعامة في النثر انتقلت إلى العراق، كما انتقل الشعر وكما انتقلت
الحاضرة والدواوين، فتصدَّر للرياسة فيه عبد الله ابن المقفع، وعمرو بن مسعدة،
والجاحظ وأمثالهم، وكلهم عراقي.
•••
ثم كانت حركة لاهوتية طبية فلسفية، وهي بقايا ما خلَّفه اليونان والرومان من علم
في هذه البلاد، وتولى رياسة هذا النوع من العلم النصارى السريانيون، وأحلُّوا اللغة
السريانية محل اللغة اليونانية واللاتينية، وأنشأوا لذلك المدارس في حلب وقنسرين
وغيرهما
٦٢ واتصلوا بالخلفاء في دمشق من عهد معاوية بن أبي سفيان، وقد عَّد بن أبي
أصيبعة كثيرًا من أطبائهم وفلاسفتهم، ونبغ منهم مترجمون في العصر العباسي، ومن
أشهرهم قسطاس لوقا البعلبكي، وعبد المسيح بن عبد الله الحمصي.
هذا إلى ما كان بالشام من مدارس فقهية لتعليم القانون الروماني، أشهرها مدرسة
بيروت، تخرَّج فيها كثير من أهل الشام، وعلَّمت الناس طريقة التقاضي ونوع الأحكام،
وكلها ذابت في المملكة الإسلامية بعد الفتح، وعرضت عاداتها وتقاليدها على
الإسلام،قْبِلَ منها ماقْبِلَ، ورُفِضَ ما رُفِضَ.
•••
وعلى الجملة كان النزاع بين الشام والعراق قديمًا، اشتد أيام عليَ ومعاوية، لمَّا
انحاز الشاميون إلى معاوية، والعراقيون إلى عليّ؛ فلمَّا غلب معاوية غلبت الشام،
وأخضعت العراق لحكمها، وظل كذلك الحال في عهد الأمويين، يرسلون إلى العراق أمثال
الحجاج ينكِّل بهم ويسومهم الخسف، وكانت غلبة العلم والفن في الشام تابعة لغلبة
السياسة، على الأمويين، أي غلبت العراق الشام، فأخذ العراقيون بثأرهم من الشاميين،
ونكَّلوا بهم تنكيلًا شديدًا، واتهموهم بالميل السياسي عنهم أحيانًا، وبالزندقة
أحيانًا كما فعلوا بصالح بن عبد القدوس وأمثاله، وكما فعل المهدي «بلغه وهو في حلب
ذاهبًا إلى غزو الروم أن في تلك الناحية زنادقة، فجمعهم وقتلهم وقطع
كتبهم»؛
٦٣ وارتكنوا على ذلك لقتلهم وتشريدهم، وطبيعي أن يتبع ذلك ضعف العلم
والفن، وكذلك كان، فلم تعد للشام في العصر العباسي منزلتها العلمية والفنية الأولى،
فمَنْ نبغ من الشاميين بعد ففي العلم الديني الذي قد يُحْمَلُ عليه الزهد — وإن نبغ
في غير العلم الديني كشعر وكتابة وطب وفلسفة، خرج من الشام إلى العراق يعرض علمه
وفنه ونبوغه على العراق، فإنه الوسيلة الوحيدة للظهور.
•••
ولنشرع الآن في شرح الحالة العلمية تفصيلًا.